ركن التفسير
101 - (وإذا ضربتم) سافرتم (في الأرض فليس عليكم جناح) في (أن تقصروا من الصلاة) بأن تردوها من أربع إلى اثنتين (إن خفتم أن يفتنكم) أي ينالكم بمكروه (الذين كفروا) بيان للواقع ، وبينت السنة أن المراد بالسفر الطويل وهو أربعة برد وهي مرحلتان ويؤخذ من قوله {فليس عليكم جناح} أنه رخصة لا واجب وعليه الشافعي (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) بيني العداوة
يقول تعالى "وإذا ضربتم في الأرض" أي سافرتم في البلاد كما قال تعالى "علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله" الآية وقوله"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك فمن قائل لابد أن يكون سفر طاعة من جهاد أو حج أو عمرة أو طلب علم أو زيارة أو غير ذلك كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ويحيى عن مالك في رواية عنه نحوه لظاهر قوله "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ومن قائل لا يشترط سفر القربة بل لابد أن يكون مباحا لقوله "فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم" الآية كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصيا بسفره وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: جاء رجل فقال يا رسول الله إنى رجل تاجر أختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين فهذا مرسل. ومن قائل يكفى مطلق السفر سواء كان مباحا أو محظورا حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور وأما قوله تعالى "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام أو في سرية خاصة. وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثه فلا مفهوم له كقوله تعالى"ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا" وكقوله تعالى "وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم" الآية. وقال الإمام أحمد حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن جريج عن أبي عمار عن عبدالله بن رابية عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت له قوله "ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" وقد أمن الناس فقال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صداقته ". وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي عمار به. وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال على بن المديني هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ورجاله معروفون. وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو نعيم حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء قال سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان فقلت أين قوله"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" ونحن آمنون فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن مردويه حدثنا عبدالله بن محمد بن عيسى حدثنا علي بن محمد بن سعيد حدثنا منجاب حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك قال: سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال: هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها. وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون حدثنا ابن عون عن ابن سيرين عن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين. وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عبدالأعلى عن خالد الحذاء عن عبدالله بن عون به. قال أبو عمر بن عبدالبر وهكذا رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن محمد بن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قلت وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن هشيم عن منصور عن زاذان عن محمد بن سيرين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين ثم قال الترمذي صحيح وقال البخاري حدثنا أبو معمر حدثنا عبدالوارث حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال سمعت أنسا يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت: أقمتم بمكة شيئا قال: أقمنا بها عشرا. وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي به وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين. ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن ابن أبي إسحاق السبيعي عنه به ولفظ البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أنبأنا أبو إسحاق سمعت حارثة بن وهب قال: صلى الله عليه وسلم بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين. وقال البخاري حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عبيد الله أخبرني نافع عن عبدالله بن عمر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان صدرا من إمارته ثم أتمها وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به وقال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا عبدالواحد عن الأعمش حدثنا إبراهيم سمعت عبدالرحمن بن يزيد يقول: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري عن الأعمش به وأخرجه مسلم من طرق عنه منها عن قتيبة كما تقدم. فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء إن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبدالله بن يوسف التنيسي ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية لأن ما هو الأصل لا يقال فيه فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أصرح من ذلك دلاله على هذا ما رواه الإمام أحمد حدثنا وكيع وسفيان وعبدالرحمن عم زبيد اليامي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه قال: صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به وهذا إسناد على شرط مسلم وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره وهو الصواب إن شاء الله وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا إنه لم يسمع منه وعلى هذا أيضا فقال فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن الثقة عن عمر فذكره وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن عبدالرحمن عن كعب بن عجرة عن عمر فالله أعلم. وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبدالله اليشكري زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبدالله بن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر. ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه فهذا ثابت بن ابن عباس رضي الله عنهما ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال إن فرض صلاة الحضر أربع كما قاله ابن عباس والله أعلم لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ولهذا قال إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا الآية ولهذا قال بعدها وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية فبين المقصود من القصر ههنا وذكر صفته وكيفيته ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة - إلى قوله - إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا" وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" قال: ذاك عند القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه وقال أسباط عن السدي في قوله "وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم" الآية أن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة يوم" كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر بأربع ركعات بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم. روى ذلك ابن أبى حاتم ورواه ابن جرير عن مجاهد والسدي وعن جابر وابن عمر واختار ذلك أيضا فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك وهو الصواب. وقال ابن جرير حدثني محمد بن عبدالله بن عبدالحكم حدثنا ابن أبي فديك حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن أمية بن عبدالله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبدالله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر فقال عبدالله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به فقد سمي صلاة الخوف مقصورة وحمل الآية عليها لا على قصر صلاة المسافر وأقره ابن عمر على ذلك واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا. حدثنا أحمد بن الوليد القرشي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك الحنفي قال سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان تمام غير قصر إنما القصر في صلاة المخافة فقلت وما صلاة المخافة ؟ فقال: يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء وهؤلاء إلى مكان هؤلاء فيصلى بهم ركعة فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة.
﴿وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكم عَدُوًّا مُبِينًا﴾ ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهم فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكم ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهم ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكم وأمْتِعَتِكم فَيَمِيلُونَ عَلَيْكم مَيْلَةً واحِدَةً ولا جُناحَ عَلَيْكم إنْ كانَ بِكم أذًى مِن مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكم وخُذُوا حِذْرَكم إنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا﴾ . انْتِقالٌ إلى تَشْرِيعٍ آخَرَ بِمُناسَبَةِ ذِكْرِ السَّفَرِ لِلْخُرُوجِ مِن سُلْطَةِ الكُفْرِ، عَلى عادَةِ القُرْآنِ في تَفْنِينِ أغْراضِهِ، والتِماسِ مُناسَباتِها. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها. والضَّرْبُ في الأرْضِ: السَّفَرُ. وإذا مُضَمَّنَةٌ مَعْنى الشَّرْطِ كَما هو غالِبُ اسْتِعْمالِها، فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الفاءُ عَلى الفِعْلِ الَّذِي هو كَجَوابِ الشَّرْطِ. وإذا مَنصُوبَةٌ بِفِعْلِ الجَوابِ. وقَصْرُ الصَّلاةِ: النَّقْصُ مِنها، وقَدْ عُلِمَ أنَّ أجْزاءَ الصَّلاةِ هي الرَّكَعاتُ بِسَجَداتِها وقِراءاتِها، فَلا جَرَمَ أنْ يُعْلَمَ أنَّ القَصْرَ مِنَ الصَّلاةِ هو نَقْصُ الرَّكَعاتِ. وقَدْ بَيَّنَهُ فِعْلُ (p-١٨٣)النَّبِيءِ ﷺ إذْ صَيَّرَ الصَّلاةَ ذاتَ الأرْبَعِ الرَّكَعاتِ ذاتَ رَكْعَتَيْنِ. وأجْمَلَتِ الآيَةُ فَلَمْ تُعَيِّنِ الصَّلَواتِ الَّتِي يَعْتَرِيها القَصْرُ، فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِأنَّها الظُّهْرُ والعَصْرُ والعِشاءُ. ولَمْ تَقْصُرِ الصُّبْحَ لِأنَّها تَصِيرُ رَكْعَةً واحِدَةً فَتَكُونُ غَيْرَ صَلاةٍ، ولَمْ تَقْصُرِ المَغْرِبَ لِئَلّا تَصِيرَ شَفْعًا فَإنَّها وِتْرُ النَّهارِ، ولِئَلّا تَصِيرَ رَكْعَةً واحِدَةً كَما قُلْنا في الصُّبْحِ. وهَذِهِ الآيَةُ أشارَتْ إلى قَصْرِ الصَّلاةِ الرُّباعِيَّةِ في السَّفَرِ، ويَظْهَرُ مِن أُسْلُوبِها أنَّها نَزَلَتْ في ذَلِكَ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ قَصْرَ الصَّلاةِ في السَّفَرِ شُرِعَ في سَنَةِ أرْبَعٍ مِنَ الهِجْرَةِ وهو الأصَحُّ، وقِيلَ: في رَبِيعٍ الآخِرِ مِن سَنَةِ اثْنَتَيْنِ، وقِيلَ: بَعْدَ الهِجْرَةِ بِأرْبَعِينَ يَوْمًا. وقَدْ رَوى أهْلُ الصَّحِيحِ قَوْلَ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: فُرِضَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ وزِيدَتْ صَلاةُ الحَضَرِ، وهو حَدِيثٌ بَيِّنٌ واضِحٌ. ومَحْمَلُ الآيَةِ عَلى مُقْتَضاهُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا فَرَضَ الصَّلاةَ رَكْعَتَيْنِ فَتَقَرَّرَتْ كَذَلِكَ فَلَمّا صارَتِ الظُّهْرُ والعَصْرُ والعِشاءُ أرْبَعًا نُسِخَ ما كانَ مِن عَدَدِها. وكانَ ذَلِكَ في مَبْدَأِ الهِجْرَةِ، وإذْ قَدْ كانَ أمْرُ النّاسِ مُقامًا عَلى حالَةِ الحَضَرِ وهي الغالِبُ عَلَيْهِمْ، بَطَلَ إيقاعُ الصَّلَواتِ المَذْكُوراتِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمّا غَزَوْا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهم فَأذِنَهم أنْ يُصَلُّوا تِلْكَ الصَّلَواتِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ قالَ تَعالى فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ وقالَ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ وإنَّما قالَتْ عائِشَةُ أُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ حَيْثُ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَنِ الحالَةِ الأُولى، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَمْ يُصَلُّوها تامَّةً في السَّفَرِ بَعْدَ الهِجْرَةِ، فَلا تَعارُضَ بَيْنَ قَوْلِها وبَيْنَ الآيَةِ. وقَوْلُهُ ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ شَرْطٌ دَلَّ عَلى تَخْصِيصِ الإذْنِ بِالقَصْرِ بِحالِ الخَوْفِ مِن تَمَكُّنِ المُشْرِكِينَ مِنهم وإبْطالِهِمْ عَلَيْهِمْ صَلاتَهم، وأنَّ اللَّهَ أذِنَ في القَصْرِ لِتَقَعَ الصَّلاةُ عَنِ اطْمِئْنانٍ. فالآيَةُ هَذِهِ خاصَّةٌ بِقَصْرِ الصَّلاةِ عِنْدَ الخَوْفِ، وهو القَصْرُ الَّذِي لَهُ هَيْئَةٌ خاصَّةٌ في صَلاةِ الجَماعَةِ، وهَذا رَأْيُ مالِكٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ما أخْرَجَهُ في المُوَطَّأِ: «أنَّ رَجُلًا مِن آلِ خالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ سَألَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ إنّا نَجِدُ صَلاةَ الخَوْفِ وصَلاةَ الحَضَرِ في القُرْآنِ ولا نَجِدُ صَلاةَ السَّفَرِ، فَقالَ ابْنُ عُمَرَ يا ابْنَ أخِي إنَّ اللَّهَ بَعَثَ إلَيْنا مُحَمَّدًا ولا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإنَّما نَفْعَلُ كَما رَأيْناهُ يَفْعَلُ» . يَعْنِي أنَّ ابْنَ عُمَرَ أقَرَّ السّائِلَ وأشْعَرَهُ بِأنَّ صَلاةَ السَّفَرِ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وكَذَلِكَ كانَتْ تَرى عائِشَةُ وسَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ خاصَّةٌ بِالخَوْفِ، فَكانا يُكْمِلانِ الصَّلاةَ في السَّفَرِ. وهَذا (p-١٨٤)التَّأْوِيلُ هو البَيِّنُ في مَحْمَلِ هَذِهِ الآيَةِ، فَيَكُونُ ثُبُوتُ القَصْرِ في السَّفَرِ بِدُونِ الخَوْفِ وقَصْرُ الصَّلاةِ في الحَضَرِ عِنْدَ الخَوْفِ ثابِتَيْنِ بِالسُّنَّةِ، وأحَدُهُما أسْبَقُ مِنَ الآخَرِ، كَما قالَ ابْنُ عُمَرَ. وعَنْ يَعْلى بْنِ أُمَيَّةَ أنَّهُ قالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ إنْ خِفْتُمْ وقَدْ أمِنَ النّاسُ. فَقالَ: عَجِبْتُ مِمّا عَجِبْتَ مِنهُ فَسَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِها عَلَيْكم فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» . ولا شَكَّ أنَّ مَحْمَلَ هَذا الخَبَرِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ أقَرَّ عُمَرَ عَلى فَهْمِهِ تَخْصِيصَ هَذِهِ الآيَةِ بِالقَصْرِ لِأجْلِ الخَوْفِ، فَكانَ القَصْرُ لِأجْلِ الخَوْفِ رُخْصَةً لِدَفْعِ المَشَقَّةِ. وقَوْلُهُ: لَهُ ”صَدَقَةٌ“ إلَخْ، مَعْناهُ أنَّ القَصْرَ في السَّفَرِ لِغَيْرِ الخَوْفِ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ، أيْ تَخْفِيفٌ، وهو دُونَ الرُّخْصَةِ فَلا تَرُدُّوا رُخْصَتَهُ. فَلا حاجَةَ إلى ما تَمَحَّلُوا بِهِ في تَأْوِيلِ القَيْدِ الَّذِي في قَوْلِهِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وتَقْتَصِرُ الآيَةُ عَلى صَلاةِ الخَوْفِ، ويَسْتَغْنِي القائِلُونَ بِوُجُوبِ القَصْرِ في السَّفَرِ مِثْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وأبِي حَنِيفَةَ، ومُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ، وإسْماعِيلَ بْنِ إسْحاقَ مِنَ المالِكِيَّةِ؛ والقائِلُونَ بِتَأْكِيدِ سُنَّةِ القَصْرِ مِثْلُ مالِكِ بْنِ أنَسٍ وعامَّةِ أصْحابِهِ، عَنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ بِما لا يُلائِمُ إطْلاقَ مِثْلِ هَذا اللَّفْظِ. ويَكُونُ قَوْلُهُ ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ إعادَةً لِتَشْرِيعِ رُخْصَةِ القَصْرِ في السَّفَرِ لِقَصْدِ التَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ الآياتِ. أمّا قَصْرُ الصَّلاةِ في السَّفَرِ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الفِعْلِيَّةُ، واتَّبَعَهُ جُمْهُورُ الصَّحابَةِ إلّا عائِشَةَ وسَعْدَ بْنَ أبِي وقّاصٍ، حَتّى بالَغَ مَن قالَ بِوُجُوبِهِ مِن أجْلِ حَدِيثِ عائِشَةَ في المُوَطَّأِ والصَّحِيحَيْنِ لِدَلالَتِهِ عَلى أنَّ صَلاةَ السَّفَرِ بَقِيَتْ عَلى فَرْضِها، فَلَوْ صَلّاها رُباعِيَّةً لَكانَتْ زِيادَةً في الصَّلاةِ. ولِقَوْلِ عُمَرَ فِيما رَواهُ النَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ: صَلاةُ السَّفَرِ رَكْعَتانِ تَمامٌ غَيْرُ قَصْرٍ. وإنَّما قالَ مالِكٌ بِأنَّهُ سُنَّةٌ لِأنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ في صَلاةِ السَّفَرِ إلّا القَصْرُ، وكَذَلِكَ الخُلَفاءُ مِن بَعْدِهِ. وإنَّما أتَمَّ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ الصَّلاةَ في الحَجِّ خَشْيَةَ أنْ يَتَوَهَّمَ الأعْرابُ أنَّ الصَّلَواتِ كُلَّها رَكْعَتانِ. غَيْرَ أنَّ مالِكًا لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ مِن أجْلِ قَوْلِهِ تَعالى فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ لِمُنافاتِهِ لِصِيَغِ الوُجُوبِ. ولَقَدْ أجادَ مَحامِلَ الأدِلَّةِ. وأُخْبِرَ عَنِ الكافِرِينَ وهو جَمْعٌ بِقَوْلِهِ عَدُوًّا وهو مُفْرَدٌ. وقَدْ قَدَّمْنا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ [النساء: ٩٢] . (p-١٨٥)وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ هَذِهِ صِفَةُ صَلاةِ الخَوْفِ في الجَماعَةِ لِقَوْلِهِ ﴿فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ . واتَّفَقَ العُلَماءُ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ شَرَعَتْ صَلاةَ الخَوْفِ. وأكْثَرُ الآثارِ تَدُلُّ عَلى أنَّ مَشْرُوعِيَّتَها كانَتْ في غَزْوَةِ ذاتِ الرِّقاعِ بِمَوْضِعٍ يُقالُ لَهُ: نَخْلَةُ بَيْنَ عُسْفانَ وضَجْنانَ مِن نَجْدٍ، حِينَ لَقُوا جُمُوعَ غَطَفانَ: مُحارِبٌ وأنْمارُ وثَعْلَبَةُ. وكانَتْ بَيْنَ سَنَةِ سِتٍّ وسَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وأنَّ أوَّلَ صَلاةٍ صُلِّيَتْ بِها هي صَلاةُ العَصْرِ. وأنَّ سَبَبَها أنَّ المُشْرِكِينَ لَمّا رَأوْا حِرْصَ المُسْلِمِينَ عَلى الصَّلاةِ قالُوا: هَذِهِ الصَّلاةُ فُرْصَةٌ لَنا لَوْ أغَرْنا عَلَيْهِمْ لَأصَبْناهم عَلى غِرَّةٍ، فَأنْبَأ اللَّهُ بِذَلِكَ نَبِيئَهُ ﷺ ونَزَلَتِ الآيَةُ. غَيْرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى صَدَّرَ حُكْمَ الصَّلاةِ بِقَوْلِهِ وإذا كُنْتَ فِيهِمْ فاقْتَضى بِبادِئِ الرَّأْيِ أنَّ صَلاةَ الخَوْفِ لا تَقَعُ عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ إلّا إذا كانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهي خُصُوصِيَّةٌ لِإقامَتِهِ. وبِهَذا قالَ إسْماعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، وأبُو يُوسُفَ صاحِبُ أبِي حَنِيفَةَ في أحَدِ أقْوالِهِ، وعَلَّلُوا الخُصُوصِيَّةَ بِأنَّها لِحِرْصِ النّاسِ عَلى فَضْلِ الجَماعَةِ مَعَ الرَّسُولِ، بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنَ الأيِمَّةِ، فَيُمْكِنُ أنْ تَأْتَمَّ كُلُّ طائِفَةٍ بِإمامٍ. وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ: لِمُخالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحابَةِ، ولِأنَّ مَقْصِدَ شَرْعِ الجَماعَةِ هو اجْتِماعُ المُسْلِمِينَ في المَوْطِنِ الواحِدِ، فَيُؤْخَذُ بِهَذا المَقْصِدِ بِقَدْرِ الإمْكانِ. عَلى أنَّ أبا يُوسُفَ لا يَرى دَلالَةَ مَفْهُومِ المُخالَفَةِ فَلا تَدُلُّ الآيَةُ عَلى الِاخْتِصاصِ بِإمامَةِ الرَّسُولِ، ولِذَلِكَ جَزَمَ جُمْهُورُ العُلَماءِ بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ شَرَعَتْ صَلاةَ الخَوْفِ لِلْمُسْلِمِينَ أبَدًا. ومَحْمَلُ هَذا الشَّرْطِ عِنْدَهم جارٍ عَلى غالِبِ أحْوالِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِن مُلازَمَةِ النَّبِيءِ ﷺ لِغَزَواتِهِمْ وسَراياهم إلّا لِلضَّرُورَةِ، كَما في الحَدِيثِ «لَوْلا أنَّ قَوْمًا لا يَتَخَلَّفُونَ بَعْدِي ولا أجِدُ ما أحْمِلُهم عَلَيْهِ ما تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ سارَتْ في سَبِيلِ اللَّهِ» . فَلَيْسَ المُرادُ الِاحْتِرازَ عَنْ كَوْنِ غَيْرِهِ فِيهِمْ ولَكِنَّ التَّنْوِيهَ بِكَوْنِ النَّبِيءِ فِيهِمْ. وإذْ قَدْ كانَ الأُمَراءُ قائِمِينَ مَقامَهُ في الغَزَواتِ فالَّذِي رَخَّصَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ يُرَخِّصُهُ لَهم مَعَ أُمَرائِهِ، وهَذا كَقَوْلِهِ خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً. وفِي نَظْمِ الآيَةِ إيجازٌ بَدِيعٌ فَإنَّهُ لَمّا قالَ ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ عُلِمَ أنَّ ثَمَّةَ طائِفَةً أُخْرى، فالضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ لِلطّائِفَةِ بِاعْتِبارِ أفْرادِها، وكَذَلِكَ ضَمِيرُ قَوْلِهِ ﴿فَإذا سَجَدُوا﴾ لِلطّائِفَةِ الَّتِي مَعَ النَّبِيءِ، لِأنَّ المَعِيَّةَ مَعِيَّةُ الصَّلاةِ، وقَدْ قالَ (p-١٨٦)فَإذا سَجَدُوا. وضَمِيرُ قَوْلِهِ فَلْيَكُونُوا لِلطّائِفَةِ الأُخْرى المَفْهُومَةِ مِنَ المُقابَلَةِ، لِظُهُورِ أنَّ الجَوابَ وهو فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكم مُتَعَيِّنٌ لِفِعْلِ الطّائِفَةِ المُواجِهَةِ العَدُوِّ. وقَوْلُهُ ﴿ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى﴾ هَذِهِ هي المُقابِلَةُ لِقَوْلِهِ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ. وقَدْ أجْمَلَتِ الآيَةُ ما تَصْنَعُهُ كُلُّ طائِفَةٍ في بَقِيَّةِ الصَّلاةِ، ولَكِنَّها أشارَتْ إلى أنَّ صَلاةَ النَّبِيءِ ﷺ واحِدَةٌ لِأنَّهُ قالَ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ. فَجَعَلَهم تابِعِينَ لِصَلاتِهِ، وذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأنَّ صَلاتَهُ واحِدَةٌ، ولَوْ كانَ يُصَلِّي بِكُلِّ طائِفَةٍ صَلاةً مُسْتَقِلَّةً لَقالَ تَعالى فَلْتُصَلِّ بِهِمْ. وبِهَذا يَبْطُلُ قَوْلُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: «بِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى رَكْعَتَيْنِ بِكُلِّ طائِفَةٍ»، لِأنَّهُ يَصِيرُ مُتِمًّا لِلصَّلاةِ غَيْرَ مُقَصِّرٍ، أوْ يَكُونُ صَلّى بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ الصَّلاةَ المَفْرُوضَةَ وبِالطّائِفَةِ الثّانِيَةِ صَلاةً: نافِلَةً لَهُ، فَرِيضَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، إلّا أنْ يَلْتَزِمَ الحَسَنُ ذَلِكَ، ويَرى جَوازَ ائْتِمامِ المُفْتَرِضِ بِالمُتَنَفِّلِ. ويَظْهَرُ أنَّ ذَلِكَ الِائْتِمامَ لا يَصِحُّ، وإنْ لَمْ يَكُنْ في السُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلى بُطْلانِهِ. وذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَماءِ إلى أنَّ الإمامَ يُصَلِّي بِكُلِّ طائِفَةٍ رَكْعَةً، وإنَّما اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ تَقْسِيمِ الصَّلاةِ: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُومِينَ. والقَوْلُ الفَصْلُ في ذَلِكَ هو ما رَواهُ مالِكٌ في المُوَطَّأِ، «عَنْ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ: أنَّهُ صَلّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذاتِ الرِّقاعِ، فَصَفَّتْ طائِفَةٌ مَعَهُ وطائِفَةٌ وِجاهَ العَدُوِّ، فَصَلّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ قامَ، وأتَمُّوا رَكْعَةً لِأنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَوَقَفُوا وِجاهَ العَدُوِّ، وجاءَتِ الطّائِفَةُ الأُخْرى فَصَلّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَوُا الرَّكْعَةَ الَّتِي فاتَتْهم وسَلَّمُوا» . وهَذِهِ الصِّفَةُ أوْفَقُ بِلَفْظِ الآيَةِ. والرِّواياتُ غَيْرُ هَذِهِ كَثِيرَةٌ. والطّائِفَةُ: الجَماعَةُ مِنَ النّاسِ ذاتُ الكَثْرَةِ. والحَقُّ أنَّها لا تُطْلَقُ عَلى الواحِدِ والِاثْنَيْنِ، وإنْ قالَ بِذَلِكَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ. وقَدْ تَزِيدُ عَلى الألِفِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا. وأصْلُها مَنقُولَةٌ مِن طائِفَةِ الشَّيْءِ وهي الجُزْءُ مِنهُ. وقَوْلُهُ ﴿ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهُمْ﴾ اسْتُعْمِلَ الأخْذُ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ: لِأنَّ أخْذَ الحَذَرِ مَجازٌ، إذْ حَقِيقَةُ الأخْذِ التَّناوُلُ، وهو مُجازٌ في التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ والثَّباتِ عَلَيْهِ. وأخْذُ الأسْلِحَةِ حَقِيقَةٌ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ والإيمانَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [الحشر: ٩]، (p-١٨٧)فَإنَّ تَبَوُّأ الإيمانِ الدُّخُولُ فِيهِ والِاتِّصافُ بِهِ بَعْدَ الخُرُوجِ مِنَ الكُفْرِ. وجاءَ بِصِيغَةِ الأمْرِ دُونَ أنْ يَقُولَ: ولا جُناحَ عَلَيْكم أنْ تَأْخُذُوا أسْلِحَتَكم، لِأنَّ أخْذَ السِّلاحِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ. وقَوْلُهُ ﴿ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلَخْ، وُدُّهم هَذا مَعْرُوفٌ إذْ هو شَأْنُ كُلِّ مُحارِبٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ المَعْنى المَعْرُوفُ هو المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ، إنَّما المَقْصُودُ أنَّهم ودُّوا وُدًّا مُسْتَقْرَبًا عِنْدَهم، لِظَنِّهِمْ أنَّ اشْتِغالَ المُسْلِمِينَ بِأُمُورِ دِينِهِمْ يُباعِدُ بَيْنَهم وبَيْنَ مَصالِحِ دُنْياهم جَهْلًا مِنَ المُشْرِكِينَ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَطَمِعُوا أنْ تُلْهِيَهُمُ الصَّلاةُ عَنِ الِاسْتِعْدادِ لِأعْدائِهِمْ، فَنَبَّهَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ إلى ذَلِكَ كَيْلا يَكُونُوا عِنْدَ ظَنِّ المُشْرِكِينَ، ولِيُعَوِّدَهم بِالأخْذِ بِالحَزْمِ في كُلِّ الأُمُورِ، ولِيُرِيَهم أنَّ صَلاحَ الدِّينِ والدُّنْيا صِنْوانٌ. والأسْلِحَةُ جَمْعُ سِلاحٍ، وهو اسْمُ جِنْسٍ لِآلَةِ الحَرْبِ كُلِّها مِنَ الحَدِيدِ، وهي السَّيْفُ والرُّمْحُ والنِّبْلُ والحَرْبَةُ، ولَيْسَ الدِّرْعُ ولا الخُوذَةُ ولا التُّرْسُ بِسِلاحٍ. وهو يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، والتَّذْكِيرُ أفْصَحُ، ولِذَلِكَ جَمَعُوهُ عَلى أسْلِحَةٍ وهو مِن زِناتِ جَمْعِ المُذَكَّرِ. والأمْتِعَةُ جَمْعُ مَتاعٍ وهو كُلُّ ما يُنْتَفَعُ بِهِ مِن عُرُوضٍ وأثاثٍ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ ما لَهُ عَوْنٌ في الحَرْبِ كالسُّرُوجِ ولَأْمَةِ الحَرْبِ كالدُّرُوعِ والخُوذاتِ. فَيَمِيلُونَ مُفَرَّعٌ عَنْ قَوْلِهِ لَوْ تَغْفُلُونَ إلَخْ، وهو مَحَلُّ الوُدِّ، أيْ ودُّوا غَفْلَتَكم لِيَمِيلُوا عَلَيْكم. والمَيْلُ: العُدُولُ عَنِ الوَسَطِ إلى الطَّرَفِ، ويُطْلَقُ عَلى العُدُولِ عَنْ شَيْءٍ كانَ مَعَهُ إلى شَيْءٍ آخَرَ، كَما هُنا، أيْ فَيَعْدِلُونَ عَنْ مُعَسْكَرِهِمْ إلى جَيْشِكم. ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مِنَ المَيْلِ هُنا الكَرَّ والشَّدَّ، عُدِّيَ بِـ (عَلى)، أيْ فَيَشُدُّونَ عَلَيْكم في حالِ غَفْلَتِكم. وانْتَصَبَ مَيْلَةً عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ لِبَيانِ العَدَدِ، أيْ شِدَّةً مُفْرَدَةً. واسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ المَرَّةِ هُنا كِنايَةً عَنِ القُوَّةِ والشِّدَّةِ، وذَلِكَ أنَّ الفِعْلَ الشَّدِيدَ القَوِيَّ يَأْتِي بِالغَرَضِ مِنهُ سَرِيعًا دُونَ مُعاوَدَةِ عِلاجٍ، فَلا يَتَكَرَّرُ الفِعْلُ لِتَحْصِيلِ الغَرَضِ، وأكَّدَ مَعْنى المَرَّةِ المُسْتَفادَ مِن صِيغَةِ فَعْلَةٍ بِقَوْلِهِ واحِدَةً تَنْبِيهًا عَلى قَصْدِ مَعْنى الكِنايَةِ لِئَلّا يَتَوَهَّمَ أنَّ المَصْدَرَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ فَيَمِيلُونَ. (p-١٨٨)وقَوْلُهُ ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم إنْ كانَ بِكم أذًى مِن مَطَرٍ﴾ إلَخْ. رُخْصَةٌ لَهم في وضْعِ الأسْلِحَةِ عِنْدَ المَشَقَّةِ، وقَدْ صارَ ما هو أكْمَلُ في أداءِ الصَّلاةِ رُخْصَةً هُنا، لِأنَّ الأُمُورَ بِمَقاصِدِها وما يَحْصُلُ عَنْها مِنَ المَصالِحِ والمَفاسِدِ، ولِذَلِكَ قَيَّدَ الرُّخْصَةَ مَعَ أخْذِ الحَذَرِ. وسَبَبُ الرُّخْصَةِ أنَّ في المَطَرِ شاغِلًا لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِما، وأمّا المَرَضُ فَمُوجِبٌ لِلرُّخْصَةِ لِخُصُوصِ المَرِيضِ. وقَوْلُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا﴾ تَذْيِيلٌ لِتَشْجِيعِ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّهُ لَمّا كَرَّرَ الأمْرَ بِأخْذِ السِّلاحِ والحَذَرِ، خِيفَ أنْ تَثُورَ في نُفُوسِ المُسْلِمِينَ مَخافَةٌ مِنَ العَدُوِّ مِن شِدَّةِ التَّحْذِيرِ مِنهُ، فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ أعَدَّ لَهم عَذابًا مُهِينًا، وهو عَذابُ الهَزِيمَةِ والقَتْلِ والأسْرِ، كالَّذِي في قَوْلِهِ ﴿قاتِلُوهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأيْدِيكُمْ﴾ [التوبة: ١٤]، فَلَيْسَ الأمْرُ بِأخْذِ الحَذَرِ والسِّلاحِ إلّا لِتَحْقِيقِ أسْبابِ ما أعَدَّ اللَّهُ لَهم، لِأنَّ اللَّهَ إذا أرادَ أمْرًا هَيَّأ أسْبابَهُ. وفِيهِ تَعْلِيمُ المُسْلِمِينَ أنْ يَطْلُبُوا المُسَبَّباتِ مِن أسْبابِها، أيْ إنْ أخَذْتُمْ حِذْرَكم أمِنتُمْ مِن عَدُوِّكم.