ركن التفسير
23 - (وذلكم) مبتدأ (ظنكم) بدل منه (الذي ظننتم بربكم) نعت والخبر (أرداكم) أهلككم (فأصبحتم من الخاسرين)
قال معمر: وتلا الحسن "وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم" ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تعالى أنا مع عبدي عند ظنه بي وأنا معه إذا دعاني" ثم افتر الحسن ينظر في هذا فقال: ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساء العمل ثم قال: قال الله تبارك وتعالى "وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم - إلى قوله - وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم" الآية. وقال الإمام أحمد حدثنا النضر بن إسماعيل القاص وهو أبو المغيرة حدثنا ابن أبي ليلى عن ابن الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله فقال الله تعالى "وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين".
﴿وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم سَمْعُكم ولا أبْصارُكم ولا جُلُودُكم ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿وذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكم فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ . قَلَّ مَن تَصَدّى مِنَ المُفَسِّرِينَ لِبَيانِ اتِّصالِ هَذِهِ الآياتِ الثَّلاثِ بِما قَبْلَها، ومَن تَصَدّى مِنهم لِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِما فِيهِ مَقْنَعٌ، وأوْلى كَلامٍ في ذَلِكَ كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ ولَكِنَّهُ وجِيزٌ وغَيْرُ مُحَرَّرٍ وهو وبَعْضُ المُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِها فَزادُوا بِذَلِكَ إشْكالًا وما أبانُوا انْفِصالًا. ولْنَبْدَأْ بِما يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الكَلامِ، ثُمَّ نَأْتِي عَلى ما رُوِيَ في سَبَبِ نُزُولِها بِما لا يُفْضِي إلى الِانْفِصامِ. فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ بِتَمامِها مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ وهو خَلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ، إلَخْ فَتَكُونَ مَشْمُولَةً لِلِاعْتِراضِ مُتَّصِلَةً بِالَّتِي قَبْلَها عَلى كِلا التَّأْوِيلَيْنِ السّابِقَيْنِ في الَّتِي قَبْلَها. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً عَنْها: إمّا مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ”﴿ويَوْمَ نَحْشُرُ أعْداءَ اللَّهِ إلى النّارِ﴾ [فصلت: ١٩]“ الآياتِ، وإمّا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ تِلْكَ الجُمْلَةِ وجُمْلَةِ ﴿فَإنْ يَصْبِرُوا فالنّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [فصلت: ٢٤]، وتَكُونَ الواوُ اعْتِراضِيَّةً، ومُناسَبَةُ الِاعْتِراضِ ما جَرى مِن ذِكْرِ شَهادَةِ سَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ وجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ. فَيَكُونُ الخِطابُ لِجَمِيعِ المُشْرِكِينَ الأحْياءِ في الدُّنْيا، أوْ لِلْمُشْرِكِينَ في يَوْمِ القِيامَةِ. وعَلى هَذِهِ الوُجُوهِ فالمَعْنى: ما كُنْتُمْ في الدُّنْيا تُخْفُونَ شِرْكَكم وتُسْتَرُونَ مِنهُ بَلْ كُنْتُمْ تَجْهَرُونَ بِهِ وتَفْخَرُونَ بِاتِّباعِهِ فَماذا لَوْمُكم عَلى جَوارِحِكم وأجْسادِكم أنْ شَهِدَتْ عَلَيْكم بِذَلِكَ فَإنَّهُ كانَ أمْرًا مَشْهُورًا فالِاسْتِتارُ مُسْتَعْمَلٌ في الإخْبارِ مَجازًا (p-٢٧٠)لِأنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِتارِ إخْفاءُ الذَّواتِ والَّذِي شَهِدَتْ بِهِ جَوارِحُهم هو اعْتِقادُ الشِّرْكِ والأقْوالِ الدّاعِيَةِ إلَيْهِ. وحَرْفُ ما نَفْيٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ إلَخْ، ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ يَتَعَدّى بِهِ فِعْلُ (تَسْتَتِرُونَ) إلى (أنْ يَشْهَدَ) وهو مَحْذُوفٌ عَلى الطَّرِيقَةِ المَشْهُورَةِ في حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ مَعَ أنَّ، وتَقْدِيرُهُ: بِحَسَبِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ وهو هُنا يُقَدَّرُ حَرْفُ مِن، أيْ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ مِن شَهادَةِ سَمْعِكم وأبْصارِكم وجُلُودِكم، أيْ ما كُنْتُمْ تُسْتَرُونَ مِن تِلْكَ الشُّهُودِ، وما كُنْتُمْ تَتَّقُونَ شَهادَتَها، إذْ لا تَحْسَبُونَ أنَّ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ ضائِرٌ إذْ أنْتُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ يَوْمِ الحِسابِ. فَأمّا ما ورَدَ في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ فَهو حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وجامِعِ التِّرْمِذِيِّ بِأسانِيدَ يَزِيدُ بَعْضُها عَلى بَعْضِ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأسْتارِ الكَعْبَةِ فَجاءَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ قُرَشِيّانِ وثَقَفِيٍّ أوْ ثَقَفِيّانِ وقُرَشِيٌّ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ فَتَكَلَّمُوا بِكَلامٍ لَمْ أفْهَمْهُ، فَقالَ أحَدُهم: أتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ ما نَقُولُ، فَقالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إنْ جَهَرْنا ولا يَسْمَعُ إنْ أخْفَيْنا، وقالَ الآخَرُ: إنْ كانَ يَسْمَعُ إذا جَهَرْنا فَهو يَسْمَعُ إذا أخْفَيْنا، قالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ ﷺ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ﴿وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم سَمْعُكم ولا أبْصارُكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ . وهَذا بِظاهِرِهِ يَقْتَضِي أنَّ المُخاطَبَ بِهِ نَفَرٌ مُعَيَّنٌ في قَضِيَّةٍ خاصَّةٍ مَعَ الصَّلاحِيَةِ لِشُمُولِ مَن عَسى أنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنهم مِثْلُ هَذا العَمَلِ لِلتَّساوِي في التَّفْكِيرِ. ويُجْعَلُ مَوْقِعُها بَيْنَ الآياتِ الَّتِي قَبْلَها وبَعْدَها غَرِيبًا، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ نُزُولُها صادَفَ الوَقْتَ المُوالِيَ لِنُزُولِ الَّتِي قَبْلَها، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ نَزَلَتْ في وقْتٍ آخَرَ وأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أمَرَ بِوَضْعِها في مَوْضِعِها هَذا لِمُناسَبَةِ ما في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها مِن شَهادَةِ سَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ. (p-٢٧١)ومَعَ هَذا فَهي آيَةٌ مَكِّيَّةٌ إذْ لَمْ يَخْتَلِفِ المُفَسِّرُونَ في أنَّ السُّورَةَ كُلَّها مَكِّيَّةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فالآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، ويُشْبِهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ الآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِها عِنْدَ إخْبارِ عَبْدِ اللَّهِ إيّاهُ اهـ. وفي كَلامِهِ الأوَّلِ مُخالَفَةٌ لِما جَزَمَ بِهِ هو وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ السُّورَةَ كُلَّها مَكِّيَّةٌ، وكَيْفَ يَصِحُّ كَلامُهُ ذَلِكَ وقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أنَّ النَّفَرَ الثَّلاثَةَ هم: عَبْدُ يالِيلَ الثَّقَفِيُّ، وصَفْوانُ، ورَبِيعَةُ ابْنا أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَأمّا عَبْدُ يالِيلَ فَأسْلَمَ ولَهُ صُحْبَةٌ عِنْدَ ابْنِ إسْحاقَ وجَماعَةٍ، وكَذَلِكَ صَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وأمّا رَبِيعَةُ بْنُ أُمَيَّةَ فَلا يُعْرَفُ لَهُ إسْلامٌ فَلا يُلاقِي ذَلِكَ أنْ تَكُونَ الآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. وأحْسَنُ ما في كَلامِ ابْنِ عَطِيَّةَ طَرَفُهُ الثّانِي وهو أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قَرَأ الآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِها فَإنَّ ذَلِكَ يُئَوِّلُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ، ويُبَيِّنُ وجْهَ قِراءَةِ النَّبِيءِ ﷺ إيّاها عِنْدَما أخْبَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: بِأنَّهُ قَرَأها تَحْقِيقًا لِمِثالٍ مِن صُوَرِ مَعْنى الآيَةِ، وهو أنَّ مِثْلَ هَذا النَّفَرِ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ سَمْعُهم وأبْصارُهم وجُلُودُهم، وذَلِكَ قاضٍ بِأنَّ هَؤُلاءِ النَّفَرَ كانُوا مُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، والآيَةُ تَحِقُّ عَلى مَن ماتَ مِنهم كافِرًا مِثْلَ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. وعَلى بَعْضِ احْتِمالاتِ هَذا التَّفْسِيرِ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ، أيْ تَسْتَتِرُونَ بِأعْمالِكم عَنْ سَمْعِكم وأبْصارِكم وجُلُودِكم، وذَلِكَ تَوْبِيخٌ كِنايَةً عَنْ أنَّهم ما كانُوا يَرَوْنَ ما هم عَلَيْهِ قَبِيحًا حَتّى يَسْتَتِرُوا مِنهُ. وعَلى بَعْضِ الِاحْتِمالاتِ فِيما ذُكِرَ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ، ولا يَعُوزُكَ تَوْزِيعُ أصْنافِ هَذِهِ الِاحْتِمالاتِ بَعْضِها مَعَ بَعْضٍ في كُلِّ تَقْدِيرٍ تَفْرِضُهُ. وحاصِلُ مَعْنى الآيَةِ عَلى جَمِيعِ الِاحْتِمالاتِ: أنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأعْمالِكم ونِيّاتِكم لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنها إنْ جَهَرْتُمْ أوْ سَتَرْتُمْ ولَيْسَ اللَّهُ بِحاجَةٍ إلى شَهادَةِ جِوارِحِكم عَلَيْكم وما أوْقَعَكم في هَذا الضُّرِّ إلّا سُوءُ ظَنِّكم بِجَلالِ اللَّهِ. وذَلِكم ظَنُّكُمُ الإشارَةُ إلى الظَّنِّ المَأْخُوذِ مِن فِعْلِ ﴿ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ﴾، ويُسْتَفادُ مِنَ الإشارَةِ إلَيْهِ تَمْيِيزُهُ أكْمَلَ تَمْيِيزٍ وتَشْهِيرُ شَناعَتِهِ لِلنِّداءِ عَلى ضَلالِهِمْ. (p-٢٧٢)وأتْبَعَ اسْمَ الإشارَةِ بِالبَدَلِ بِقَوْلِهِ ظَنُّكم لِزِيادَةِ بَيانِهِ لِيَتَمَكَّنَ ما يَعْقُبُهُ مِنَ الخَبَرِ، والخَبَرُ هو فِعْلُ (أرْداكم) وما تَفَرَّعَ عَلَيْهِ. والَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم صِفَةٌ لِـ (ظَنُّكم)، والإتْيانُ بِالمَوْصُولِ لِما في الصِّلَةِ مِنَ الإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخَبَرِ وهو أرْداكم وما تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، أيْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم ظَنًّا باطِلًا. والعُدُولُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ العَلَمِ إلى بِرَبِّكم لِلتَّنْبِيهِ عَلى ضَلالِ ظَنِّهِمْ، إذْ ظَنُّوا خَفاءَ بَعْضِ أعْمالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِ مَعَ أنَّهُ رَبُّهم وخَلَقَهم فَكَيْفَ يَخْلُقُهم وتَخْفى عَنْهُ أعْمالُهم، وهو يُشِيرُ إلى قَوْلِهِ ﴿ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وهو اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤]، فَفي وصْفِ بِرَبِّكم إيماءٌ إلى هَذا المَعْنى. والإرْادَءُ: الإهْلاكُ، يُقالُ: رَدِيَ كَرَضِيَ، إذا هَلَكَ، أيْ ماتَ، والإرْداءُ مُسْتَعارٌ لِلْإيقاعِ في سُوءِ الحالَةِ بِحَيْثُ أصارَهم مِثْلَ الأمْواتِ فَإنَّ ذَلِكَ أقْصى ما هو مُتَعارَفٌ بَيْنَ النّاسِ في سُوءِ الحالَةِ، وفي الإتْيانِ بِالمُسْنَدِ فِعْلًا إفادَةُ قَصْرٍ، أيْ ما أرْداكم إلّا ظَنُّكم ذَلِكَ، وهو قَصْرٌ إضافِيٌّ، أيْ لَمْ تُرْدِكم شَهادَةُ جَوارِحِكم حَتّى تَلُومُوها بَلْ أرْداكم ظَنُّكم أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ أعْمالَكم فَلَمْ تَحْذَرُوا عِقابَهُ. وقَوْلُهُ ﴿فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ تَمْثِيلٌ لِحالِهِمْ إذْ يَحْسَبُونَ أنَّهم وصَلُوا إلى مَعْرِفَةِ ما يَحِقُّ أنْ يَعْرِفُوهُ مِن شُئُونِ اللَّهِ ووَثِقُوا مِن تَحْصِيلِ سَعادَتِهِمْ، وهم ما عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فَعامَلُوا اللَّهَ بِما لا يَرْضاهُ فاسْتَحَقُّوا العَذابَ مِن حَيْثُ ظَنُّوا النَّجاةَ، فَشَبَّهَ حالَهَمْ بِحالِ التّاجِرِ الَّذِي اسْتَعَدَّ لِلرِّبْحِ فَوَقَعَ في الخَسارَةِ. والمَعْنى: أنَّهُ نُعِيَ عَلَيْهِمْ سُوءُ اسْتِدْلالِهِمْ وفَسادُ قِياسِهِمْ في الأُمُورِ الإلَهِيَّةِ، وقِياسِهِمُ الغائِبَ عَلى الشّاهِدِ، تِلْكَ الأُصُولُ الَّتِي اسْتَدْرَجَتْهم في الضَّلالَةِ فَأحالُوا رِسالَةَ البَشَرِ عَنِ اللَّهِ ونَفَوُا البَعْثَ، ثُمَّ أثْبَتُوا شُرَكاءَ لِلَّهِ في الإلَهِيَّةِ، وتَفَرَّعَ لَهم مِن ذَلِكَ كُلِّهِ قَطْعُ نَظَرِهِمْ عَمّا وراءَ الحَياةِ الدُّنْيا وأمْنُهم مِنَ التَّبِعاتِ في الحَياةِ الدُّنْيا، فَذَلِكَ جِماعُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكم فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ . (p-٢٧٣)واعْلَمْ أنَّ أسْبابَ الضَّلالِ في العَقائِدِ كُلِّها إنَّما تَأْتِي عَلى النّاسِ مِن فَسادِ التَّأمُّلِ وسُرْعَةِ الإيقانِ وعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّلائِلِ الصّائِبَةِ والدَّلائِلِ المُشابِهَةِ وكُلُّ ذَلِكَ يُفْضِي إلى الوَهْمِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِالظَّنِّ السَّيِّئِ، أوِ الباطِلِ. وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ مِثْلَهُ في المُنافِقِينَ وأنَّ ظَنَّهم هو ظَنُّ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، فَقالَ ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: ١٥٤]، فَلْيَحْذَرِ المُؤْمِنُونَ مِنَ الوُقُوعِ في مِثْلِ هَذِهِ الأوْهامِ فَيَبُوءُوا بِبَعْضِ ما نُعِيَ عَلى عَبَدَةِ الأصْنامِ. وقَدْ قالَ النَّبِيءُ ﷺ «إيّاكم والظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ» يُرِيدُ الظَّنَّ الَّذِي لا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وأصْبَحْتُمْ بِمَعْنى: صِرْتُمْ، لِأنَّ أصْبَحَ يَكْثُرُ أنْ تَأْتِيَ بِمَعْنى: صارَ.