ركن التفسير
25 - (وقيضنا) سببنا (لهم قرناء) من الشياطين (فزينوا لهم ما بين أيديهم) من أمر الدنيا واتباع الشهوات (وما خلفهم) من أمر الآخرة بقولهم لا بعث ولا حساب (وحق عليهم القول) بالعذاب وهو لأملأن جهنم الآية (في) جملة (أمم قد خلت) هلكت (من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين)
يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته وهو الحكيم في أفعاله بما قيض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن "فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم" أي حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين كما قال تعالى "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون". وقوله تعالى "وحق عليهم القول" أي كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ممن فعل كفعلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين أي استووا هم في الخسار والدمار.
﴿وقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهم ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم وحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ﴾ . عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ ”﴿ويَوْمَ نَحْشُرُ أعْداءَ اللَّهِ﴾ [فصلت: ١٩]“، وذَلِكَ أنَّهُ حُكِيَ قَوْلُهُمُ المُقْتَضِي إعْراضَهم عَنِ التَّدَبُّرِ في دَعْوَةِ الإيمانِ ثُمَّ ذُكِرَ كُفْرُهم بِخالِقِ الأكْوانِ بِقَوْلِهِ ”﴿قُلْ أيِنَّكم لَتَكْفُرُونِ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ٩]“ . ثُمَّ ذُكِرَ مَصِيرُهم في الآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: ”﴿ويَوْمَ نَحْشُرُ أعْداءَ اللَّهِ﴾ [فصلت: ١٩]“، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ سَبَبِ ضَلالِهِمُ الَّذِي نَشَأتْ عَنْهُ أحْوالُهم بِقَوْلِهِ وقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ، وتَخَلَّلَ بَيْنَ ما هُنالِكَ وما هُنا أفانِينُ مِنَ المَواعِظِ والدَّلائِلِ والمِنَنِ والتَّعالِيمِ والقَوارِعِ والإيقاظِ. وقَيَّضَ: أتاحَ وهَيَّأ شَيْئًا لِلْعَمَلِ في شَيْءٍ. والقُرَناءُ جَمْعُ: قَرِينٍ، وهو الصّاحِبُ المُلازِمُ، والقُرَناءُ هُنا: هُمُ المُلازِمُونَ لَهم في الضَّلالَةِ: إمّا في الظّاهِرِ مِثْلَ دُعاةِ الكُفْرِ وأيمَّتِهِ، وإمّا في باطِنِ النُّفُوسِ مِثْلَ شَياطِينِ الوَسْواسِ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ فِيهِمْ ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ ويَأْتِي في سُورَةِ الزُّخْرُفِ. ومَعْنى تَقْيِيضِهِمْ لَهم: تَقْدِيرُهم لَهم، أيْ خَلْقُ المُناسَباتِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَلَيْها (p-٢٧٥)تَقارُنُ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ لِتَناسُبِ أفْكارِ الدُّعاةِ والقابِلِينَ كَما يَقُولُ الحُكَماءُ اسْتِفادَةُ القابِلِ مِنَ المَبْدَأِ تَتَوَقَّفُ عَلى المُناسَبَةِ بَيْنَهُما. فالتَّقْيِيضُ بِمَعْنى التَّقْدِيرِ عِبارَةٌ جامِعَةٌ لِمُخْتَلِفِ المُؤَثِّراتِ والتَّجَمُّعاتِ الَّتِي تُوجِبُ التَّآلُفَ والتَّحابَّ بَيْنَ الجَماعاتِ، ولِمُخْتَلِفِ الطَّبائِعِ المُكَوَّنَةِ في نُفُوسِ بَعْضِ النّاسِ فَيَقْتَضِي بَعْضُها جاذِبِيَّةَ الشَّياطِينِ إلَيْها وحُدُوثَ الخَواطِرِ السَّيِّئَةِ فِيها. ولِلْإحاطَةِ بِهَذا المَقْصُودِ أُوثِرَ التَّعْبِيرُ هُنا بِـ قَيَّضْنا دُونَ غَيْرِهِ مِن نَحْوِهِ: بَعَثْنا، وأرْسَلْنا. والتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وهو يُشْعِرُ بِأنَّ المُزَيَّنَ غَيْرُ حَسَنٍ في ذاتِهِ. وما بَيْنَ أيْدِيهِمْ يُسْتَعارُ لِلْأُمُورِ المُشاهَدَةِ، وما خَلْفَهم يُسْتَعارُ لِلْأُمُورِ المُغَيَّبَةِ. والمُرادُ بِـ (﴿ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾) أُمُورُ الدُّنْيا، أيْ زَيَّنُوا لَهم ما يَعْمَلُونَهُ في الدُّنْيا مِنَ الفَسادِ مِثْلَ عِبادَةِ الأصْنامِ، وقَتْلِ النَّفْسِ بِلا حَقٍّ، وأكْلِ الأمْوالِ، والعُدُولِ عَلى النّاسِ بِاليَدِ واللِّسانِ، والمَيْسِرِ، وارْتِكابِ الفَواحِشِ، والوَأْدِ. فَعَوَّدُوهم بِاسْتِحْسانِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِما فِيهِ مِن مُوافَقَةِ الشَّهَواتِ والرَّغَباتِ العارِضَةِ القَصِيرَةِ المَدى، وصَرَفُوهم عَنِ النَّظَرِ فِيما يُحِيطُ بِأفْعالِهِمْ تِلْكَ مِنَ المَفاسِدِ الذّاتِيَّةِ الدّائِمَةِ. والمُرادُ بِـ (ما خَلْفَهم) الأُمُورُ المُغَيَّبَةُ عَنِ الحِسِّ مِن صِفاتِ اللَّهِ، وأُمُورِ الآخِرَةِ مِنَ البَعْثِ والجَزاءِ مِثْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ ونِسْبَةِ الوَلَدِ إلَيْهِ، وظَنِّهِمْ أنَّهُ يَخْفى عَلَيْهِ مَسْتُورُ أعْمالِهِمْ، وإحالَتِهِمْ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وإحالَتِهِمُ البَعْثَ والجَزاءَ. ومَعْنى تَزْيِينِهِمْ هَذا لَهم تَلْقِينُهم تِلْكَ العَقائِدَ بِالأدِلَّةِ السُّفُسْطائِيَّةِ مِثْلَ قِياسِ الغائِبِ عَلى الشّاهِدِ، ونَفْيِ الحَقائِقِ الَّتِي لا تَدْخُلُ تَحْتَ المُدْرَكاتِ الحِسِّيَّةِ كَقَوْلِهِمْ ”(﴿أاْذا كُنّا تُرابًا وعِظامًا إنّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [الواقعة: ٤٧] ﴿أوَآباؤُنا الأوَّلُونَ﴾ [الواقعة: ٤٨])“ . وحَقَّ عَلَيْهِمْ أيْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ القَوْلُ وهو وعِيدُ اللَّهِ إيّاهم بِالنّارِ عَلى الكُفْرِ، فالتَّعْرِيفُ في القَوْلِ لِلْعَهْدِ. وفي هَذا العَهْدِ إجْمالٌ؛ لِأنَّهُ وإنْ كانَ قَدْ ورَدَ في القُرْآنِ ما يُعْهَدُ مِنهُ هَذا القَوْلُ مِثْلَ قَوْلِهِ ﴿أفَمَن حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذابِ﴾ [الزمر: ١٩] وقَوْلِهِ ﴿فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إنّا لَذائِقُونَ﴾ [الصافات: ٣١]، فَإنَّهُ يُمْكِنُ أنْ لا تَكُونَ الآياتُ المَذْكُورَةُ قَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الآيَةَ. (p-٢٧٦)وقَوْلُهُ في أُمَمٍ حالٌ مِن ضَمِيرِ عَلَيْهِمْ، أيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ حالَةَ كَوْنِهِمْ في أُمَمٍ أمْثالِهِمْ قَدْ سَبَقُوهم. والظَّرْفِيَّةُ هُنا مَجازِيَّةٌ، وهي بِمَعْنى التَّبْعِيضِ، أيْ هم مِن أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ. ومِثْلُ هَذا الِاسْتِعْمالِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ أُذَيْنَةَ: ؎إنْ تَكُ عَنْ أحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأْفُو كًا فَفي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا أيْ فَأنْتَ مِن جُمْلَةِ آخَرِينَ قَدْ صُرِفُوا عَنْ أحْسَنِ الصَّنِيعَةِ. ومِن في قَوْلِهِ (﴿مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾) بَيانِيَّةٌ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَيانًا لِـ أُمَمٍ، أيْ مِن أُمَمٍ مِنَ البَشَرِ ومِنَ الشَّياطِينِ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ فالحَقُّ والحَقَّ أقُولُ﴾ [ص: ٨٤] ﴿لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنهم أجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٥]، وقَوْلِهِ ﴿قالَ ادْخُلُوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكم مِنَ الجِنِّ والإنْسِ في النّارِ﴾ [الأعراف: ٣٨] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَيانًا لِـ (قُرَناءَ) أيْ مُلازِمِينَ لَهم مُلازَمَةً خَفِيَّةً وهي مُلازَمَةُ الشَّياطِينِ لَهم بِالوَسْوَسَةِ ومُلازَمَةُ أيِمَّةِ الكُفْرِ لَهم بِالتَّشْرِيعِ لَهم ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ بَيانًا لِلْقَوْلِ مِثْلَ نَظِيرَتِها ﴿فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إنّا لَذائِقُونَ﴾ [الصافات: ٣١] في سُورَةِ الصّافّاتِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عَنْ جُمْلَةِ ﴿وحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في أُمَمٍ﴾ والمَعْنَيانِ مُتَقارِبانِ.