ركن التفسير
31 - (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) نحفظكم فيها (وفي الآخرة) أي نكون معكم فيها حتى تدخلوا الجنة (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون) تطلبون
قوله تبارك وتعالى "نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة" أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور ونؤمنكم يوم البعث والنشور ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم "ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم" أي في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به العيون "ولكم فيها ما تدعون" أي مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم.
﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ ﴿نَحْنُ أوْلِياؤُكم في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ ولَكم فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكم ولَكم فِيها ما تَدَّعُونَ﴾ ﴿نُزُلًا مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ . بَعْدَ اسْتِيفاءِ الكَلامِ عَلى ما أصابَ الأُمَمَ الماضِيَةَ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ مِن عَذابِ الدُّنْيا وما أُعِدَّ لَهم مِن عَذابِ الآخِرَةِ مِمّا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا ﷺ (p-٢٨٢)بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ، ثُمَّ أُنْذِرُوا بِالتَّصْرِيحِ بِما سَيَحِلُّ بِهِمْ في الآخِرَةِ، ووَصْفِ بَعْضِ أهْوالِهِ، تَشَوَّفَ السّامِعُ إلى مَعْرِفَةِ حَظِّ المُؤْمِنِينَ ووَصْفِ حالِهِمْ فَجاءَ قَوْلُهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ﴾ إلَخْ، بَيانًا لِلْمُتَرَقِّبِ وبُشْرى لِلْمُتَطَلِّبِ، فالجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ ناشِئٌ عَمّا تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ ”﴿ويَوْمَ يُحْشَرُ أعْداءُ اللَّهِ إلى النّارِ﴾ [فصلت: ١٩]“ إلى قَوْلِهِ ﴿مِنَ الأسْفَلِينَ﴾ [فصلت: ٢٩] . وافْتِتاحُ الجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ مَنظُورٌ فِيهِ إلى إنْكارِ المُشْرِكِينَ ذَلِكَ، فَفي تَوْكِيدِ الخَبَرِ زِيادَةُ قَمْعٍ لَهم. ومَعْنى ﴿قالُوا رَبُّنا اللَّهُ﴾ أنَّهم صَدَعُوا بِذَلِكَ ولَمْ يَخْشَوْا أحَدًا بِإعْلانِهِمُ التَّوْحِيدَ، فَقَوْلُهم تَصْرِيحٌ بِما في اعْتِقادِهِمْ لِأنَّ المُرادَ بِهِمْ قالُوا ذَلِكَ عَنِ اعْتِقادٍ، فَإنَّ الأصْلَ في الكَلامِ الصِّدْقُ وهو مُطابَقَةُ الخَبَرِ الواقِعِ، وما في الوُجُودِ الخارِجِيِّ. وقَوْلُهُ ﴿رَبُّنا اللَّهُ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ بِتَعْرِيفِ المُسْنَدِ إلَيْهِ والمُسْنَدِ، أيْ لا رَبَّ لَنا إلّا اللَّهُ، وذَلِكَ جامِعٌ لِأصْلِ الِاعْتِقادِ الحَقِّ لِأنَّ الإقْرارَ بِالتَّوْحِيدِ يُزِيلُ المانِعَ مِن تَصْدِيقِ الرَّسُولِ ﷺ فِيما جاءَ بِهِ إذْ لَمْ يَصُدَّ المُشْرِكِينَ عَنِ الإيمانِ بِما جاءَ بِهِ النَّبِيءُ ﷺ إلّا أنَّهُ أمَرَهم بِنَبْذِ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، ولِأنَّ التَّكْذِيبَ بِالبَعْثِ تَلَقَّوْهُ مِن دُعاةِ الشِّرْكِ. والِاسْتِقامَةُ حَقِيقَتُها: عَدَمُ الِاعْوِجاجِ والمَيْلِ، والسِّينُ والتّاءُ فِيها لِلْمُبالَغَةِ في التَّقَوُّمِ، فَحَقِيقَةُ اسْتَقامَ: اسْتَقَلَّ غَيْرَ مائِلٍ ولا مُنْحَنٍ. وتُطْلَقُ الِاسْتِقامَةُ بِوَجْهِ الِاسْتِعارَةِ عَلى ما يَجْمَعُ مَعْنى حُسْنِ العَمَلِ والسِّيرَةِ عَلى الحَقِّ والصِّدْقِ قالَ تَعالى ﴿فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ واسْتَغْفِرُوهُ﴾ [فصلت: ٦] وقالَ ﴿فاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ﴾ [هود: ١١٢]، ويُقالُ: اسْتَقامَتِ البِلادُ لِلْمَلِكِ، أيْ أطاعَتْ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَما اسْتَقامُوا لَكم فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة: ٧] . فَـ (اسْتَقامُوا) هُنا يَشْمَلُ مَعْنى الوَفاءِ بِما كُلِّفُوا بِهِ وأوَّلُ ما يَشْمَلُ مِن ذَلِكَ أنْ يَثْبُتُوا عَلى أصْلِ التَّوْحِيدِ، أيْ لا يُغَيِّرُوا ولا يَرْجِعُوا عَنْهُ. ومِن مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ ما رُوِيَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سُفْيانَ الثَّقَفِيِّ قالَ (p-٢٨٣)قُلْتُ «يا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْألُ عَنْهُ أحَدًا غَيْرَكَ. قالَ: قُلْ آمَنتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» . وعَنْ أبِي بَكْرٍ ﴿ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾: لَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا. وعَنْ عُمَرَ: اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لِطاعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يَرُوغُوا رَوَغانَ الثَّعالِبِ. وقالَ عُثْمانُ: ثُمَّ أخْلَصُوا العَمَلَ لِلَّهِ. وعَنْ عَلِيٍّ ثُمَّ أدَّوُا الفَرائِضَ. فَقَدْ تَوَلّى تَفْسِيرَ هَذِهِ الآيَةِ الخُلَفاءُ الأرْبَعَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - . وكُلُّ هَذِهِ الأقْوالِ تَرْجِعُ إلى مَعْنى الِاسْتِقامَةِ في الإيمانِ وآثارِهِ، وعِنايَةُ هَؤُلاءِ الأرْبَعَةِ أقْطابِ الإسْلامِ بِبَيانِ الِاسْتِقامَةِ مُشِيرٌ إلى أهَمِّيَّتِها في الدِّينِ. وتَعْرِيفُ المُسْنَدِ إلَيْهِ بِالمَوْصُولِيَّةِ دُونَ أنْ يُقالَ: إنَّ المُؤْمِنِينَ ونَحْوَهُ لِما في الصِّلَةِ مِنَ الإيمانِ إلى أنَّها سَبَبُ ثُبُوتِ المُسْنَدِ لِلْمُسْنَدِ إلَيْهِ فَيُفِيدُ أنَّ تَنَزُّلَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الكَرامَةِ مُسَبَّبٌ عَلى قَوْلِهِمْ ﴿رَبُّنا اللَّهُ﴾ واسْتِقامَتِهِمْ فَإنَّ الِاعْتِقادَ الحَقَّ والإقْبالَ عَلى العَمَلِ الصّالِحِ هُما سَبَبُ الفَوْزِ. وثُمَّ لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ؛ لِأنَّ الِاسْتِقامَةَ زائِدَةٌ في المَرْتَبَةِ عَلى الإقْرارِ بِالتَّوْحِيدِ لِأنَّها تَشْمَلُهُ وتَشْمَلُ الثَّباتَ عَلَيْهِ والعَمَلَ بِما يَسْتَدْعِيهِ، ولِأنَّ الِاسْتِقامَةَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ قَوْلَهم ﴿رَبُّنا اللَّهُ﴾ كانَ قَوْلًا مُنْبَعِثًا عَنِ اعْتِقادِ الضَّمِيرِ والمَعْرِفَةِ الحَقِيقَيَّةِ. وجَمَعَ قَوْلُهُ ﴿قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾ أصْلَيِ الكَمالِ الإسْلامِيِّ، فَقَوْلُهُ ﴿قالُوا رَبُّنا اللَّهُ﴾ مُشِيرٌ إلى الكَمالِ النَّفْسانِيِّ وهو مَعْرِفَةُ الحَقِّ لِلِاهْتِداءِ بِهِ، ومَعْرِفَةُ الخَيْرِ لِأجْلِ العَمَلِ بِهِ، فالكَمالُ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ وعَمَلٌ صالِحٌ، فَمَعْرِفَةُ اللَّهِ بِالإلَهِيَّةِ هي أساسُ العِلْمِ اليَقِينِيِّ. وأشارَ قَوْلُهُ (اسْتَقامُوا) إلى أساسِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ وهو الِاسْتِقامَةُ عَلى الحَقِّ، أيْ أنْ يَكُونَ وسَطًا غَيْرَ مائِلٍ إلى طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ قالَ تَعالى ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] وقالَ ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] عَلى أنَّ كَمالَ الِاعْتِقادِ راجِعٌ إلى الِاسْتِقامَةِ، فالِاعْتِقادُ الحَقُّ أنْ لا يَتَوَغَّلَ في جانِبِ النَّفْيِ إلى حَيْثُ يَنْتَهِي إلى التَّعْطِيلِ، ولا يَتَوَغَّلَ في جانِبِ الإثْباتِ إلى حَيْثُ يَنْتَهِي إلى التَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ بَلْ يَمْشِي عَلى الخَطِّ المُسْتَقِيمِ الفاصِلِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ والتَّعْطِيلِ، (p-٢٨٤)ويَسْتَمِرُّ كَذَلِكَ فاصِلًا بَيْنَ الجَبْرِيِّ والقَدَرِيِّ، وبَيْنَ الرَّجاءِ والقُنُوطِ، وفي الأعْمالِ بَيْنَ الغُلُوِّ والتَّفْرِيطِ. وتَنَزُّلُ المَلائِكَةِ عَلى المُؤْمِنِينَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في وقْتِ الحَشْرِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمُ ﴿الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، وكَما يَقْتَضِيهِ كَلامُهم لَهم لِأنَّ ظاهِرَ الخَطّابِ أنَّهُ حَقِيقَةٌ، فَذَلِكَ مُقابِلُ قَوْلِهِ ”﴿ويَوْمَ يُحْشَرُ أعْداءُ اللَّهِ إلى النّارِ فَهم يُوزَعُونَ﴾ [فصلت: ١٩]“، فَأُولَئِكَ تُلاقِيهِمُ المَلائِكَةُ بِالوَزْعِ، والمُؤْمِنُونَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ بِالأمْنِ. وذِكْرُ التَّنَزُّلِ هُنا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ المُؤْمِنِينَ أنَّ المَلائِكَةَ يَنْزِلُونَ مِن عُلْوِيّاتِهِمْ لِأجْلِهِمْ فَأمّا أعْداءُ اللَّهِ فَهم يَجِدُونَ المَلائِكَةَ حُضَّرًا في المَحْشَرِ يَزَعُونَهم ولَيْسُوا يَتَنَزَّلُونَ لِأجْلِهِمْ، فَثَبَتَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهَذا كَرامَةٌ كَكَرامَةِ الأنْبِياءِ والمُرْسَلِينَ إذْ يُنَزِّلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةَ. والمَعْنى: أنَّهُ يَتَنَزَّلُ عَلى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَلَكانِ هُما الحافِظانِ اللَّذانِ كانا يَكْتُبانِ أعْمالَهُ في الدُّنْيا. ولِتَضَمُّنِ (تَتَنَزَّلُ) مَعْنى القَوْلِ ورَدَتْ بَعْدَهُ أنِ التَّفْسِيرِيَّةُ. والتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ لا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَنَزُّلُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا، وهو تَنَزُّلٌ خَفِيٌّ يُعْرَفُ بِحُصُولِ آثارِهِ في نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ ويَكُونَ الخِطابُ بِـ ﴿ألّا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا﴾ بِمَعْنى إلْقائِهِمْ في رُوعِهِمْ عَكْسَ وسْوَسَةِ الشَّياطِينِ القُرَناءِ بِالتَّزْيِينِ، أيْ يُلْقُونَ في أنْفُسِ المُؤْمِنِينَ ما يَصْرِفُهم عَنِ الخَوْفِ والحُزْنِ ويُذَكِّرُهم بِالجَنَّةِ فَتَحِلُّ فِيهِمُ السَّكِينَةُ فَتَنْشَرِحُ صُدُورُهم بِالثِّقَةِ بِحُلُولِها، ويُلْقُونَ في نُفُوسِهِمْ نَبْذَ وِلايَةِ مَن لَيْسُوا مِن حِزْبِ اللَّهِ، فَذَلِكَ مُقابِلُ قَوْلِهِ ﴿وقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ﴾ [فصلت: ٢٥] الآيَةَ، فَإنَّهُ تَقْيِيضٌ في الدُّنْيا. وهَذا يَقْتَضِي أنَّ المُؤْمِنِينَ الكامِلِينَ لا يَخافُونَ غَيْرَ اللَّهِ، ولا يَحْزَنُونَ عَلى ما يُصِيبُهم، ويُوقِنُونَ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، وهم فَرِحُونَ بِما يَتَرَقَّبُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ. وعَلى هَذا المَعْنى فَقَوْلُهُ الَّتِي كُنْتُمْ تُعْتَبَرُ ”كانَ“ فِيهِ مَزِيدَةً لِلتَّأْكِيدِ، ويَكُونُ المُضارِعُ في تُوعَدُونَ عَلى أصْلِ اسْتِعْمالِهِ لِلْحالِ والِاسْتِقْبالِ، ويَكُونُ قَوْلُهم ﴿نَحْنُ أوْلِياؤُكم في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ تَأْيِيدًا لَهم في الدُّنْيا ووَعْدًا بِنَفْعِهِمْ في الآخِرَةِ. (p-٢٨٥)ولا ناهِيَةٌ، والمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الخَوْفِ: النَّهْيُ عَنْ سَبَبِهِ، وهو تَوَقُّعُ الضُّرِّ، أيْ لا تَحْسَبُوا أنَّ اللَّهَ مُعاقِبُكم، فالنَّهْيُ كِنايَةٌ عَنِ التَّأْمِينِ مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى لِأنَّهم إذا تَحَقَّقُوا الأمْنَ زالَ خَوْفُهم، وهَذا تَطْمِينٌ مِنَ المَلائِكَةِ لِأنْفُسِ المُؤْمِنِينَ. والخَوْفُ: غَمٌّ في النَّفْسِ يَنْشَأُ عَنْ ظَنِّ حُصُولِ مَكْرُوهٍ شَدِيدٍ. والحُزْنُ: غَمٌّ في النَّفْسِ يَنْشَأُ عَنْ وُقُوعِ مَكْرُوهٍ بِفَواتِ نَفْعٍ أوْ حُصُولِ ضُرٍّ. وألْحَقُوا بِتَأْمِينِهِمْ بِشارَتَهم، لِأنَّ وقْعَ النَّعِيمِ في النَّفْسِ مَوْقِعَ المَسَرَّةِ إذا لَمْ يُخالِطْهُ تَوَقُّعُ المَكْرُوهِ. ووَصْفُ الجَنَّةِ بِـ ﴿الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ تَذْكِيرٌ لَهم بِأعْمالِهِمُ الَّتِي وُعِدُوا عَلَيْها بِالجَنَّةِ، وتَعْجِيلٌ لَهم بِمَسَرَّةِ الفَوْزِ بِرِضى اللَّهِ، وتَحْقِيقُ وعْدِهِ، أيِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَها في الدُّنْيا. وفِي ذِكْرِ فِعْلِ الكَوْنِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهم مُتَأصِّلُونَ في الوَعْدِ بِالجَنَّةِ وذَلِكَ مِن سابِقِ إيمانِهِمْ وأعْمالِهِمْ. وفِي التَّعْبِيرِ بِالمُضارِعِ في تُوعَدُونَ إفادَةُ أنَّهم قَدْ تَكَرَّرَ وعْدُهم بِها، وذَلِكَ بِتَكَرُّرِ الأعْمالِ المَوْعُودِ لِأجْلِها وبِتَكَرُّرِ الوَعْدِ في مَواقِعِ التَّذْكِيرِ والتَّبْشِيرِ. وقَوْلُ المَلائِكَةِ ﴿نَحْنُ أوْلِياؤُكم في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ تَعْرِيفٌ بِأنْفُسِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ تَأْنِيسًا لَهم. فَإنَّ العِلْمَ بِأنَّ المُتَلَقِّيَ صاحِبٌ قَدِيمٌ يَزِيدُ نَفْسَ القادِمِ انْشِراحًا وأُنْسًا ويُزِيلُ عَنْهُ دَهْشَةَ القُدُومِ، يُخَفِّفُ عَنْهُ مِن حِشْمَةِ الضِّيافَةِ، ويُزِيلُ عَنْهُ وحْشَةَ الِاغْتِرابِ، أيْ نَحْنُ الَّذِي كُنّا في صُحْبَتِكم في الدُّنْيا، إذْ كانُوا يَكْتُبُونَ حَسَناتِهِمْ ويَشْهَدُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِصَلاتِهِمْ كَما في حَدِيثِ «يَتَعاقَبُونَ فِيكم مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ ومَلائِكَةٌ بِالنَّهارِ فَيَسْألُهم رَبُّهم وهو أعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبادِي ؟ فَيَقُولُونَ: أتَيْناهم وهم يُصَلُّونَ وتَرَكْناهم وهم يُصَلُّونَ»، وقَدْ حَفِظُوا العَهْدَ فَكانُوا أوْلِياءَ المُؤْمِنِينَ في الآخِرَةِ، وقَدْ جِيءَ بِهَذا القَوْلِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ صِفاتِ الجَنَّةِ (p-٢٨٦)لِيَتَحَقَّقَ المُؤْمِنُونَ أنَّ بِشارَتَهم بِالجَنَّةِ بِشارَةُ مُحِبٍّ يَفْرَحُ لِحَبِيبِهِ بِالخَيْرِ ويَسْعى لِيَزِيدَهُ. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ ﴿فِي الحَياةِ الدُّنْيا﴾ إشارَةٌ إلى مُقابَلَةِ قَوْلِهِ في المُشْرِكِينَ ﴿وقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ﴾ [فصلت: ٢٥] فَكَما قَيَّضَ لِلْكَفّارِ قُرَناءَ في الدُّنْيا قَيَّضَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَلائِكَةً بِالثَّناءِ عَلى المُؤْمِنِينَ. وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ هَذا الصِّنْفَ مِنَ المَلائِكَةِ خاصٌّ بِرُفْقَةِ المُؤْمِنِينَ ووَلائِهِمْ ولا حَظَّ لِلْكافِرِينَ فِيهِمْ، فَإنْ كانَ الحَفَظَةُ مِن خَصائِصِ المُؤْمِنِينَ كَما نَقَلَهُ ابْنُ ناجِي في شَرْحِ الرِّسالَةِ فَمَعْنى وِلايَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ظاهِرٌ، وإنْ كانَ الحَفَظَةُ مُوَكَّلِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ كَما مَشى عَلَيْهِ الجُمْهُورُ وهو ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿كَلّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وإنَّ عَلَيْكم لَحافِظِينَ كِرامًا كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ﴾ [الإنفطار: ٩] فَهَذا صِنْفٌ مِنَ المَلائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِحِفْظِ المُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا، وهم غَيْرُ الحَفَظَةِ، وقَدْ يَكُونُ هَذا الصِّنْفُ مِنَ المَلائِكَةِ هو المُسَمّى بِالمُعَقِّباتِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: ١١] حَسْبَ ما تَقَدَّمَ في سُورَةِ الرَّعْدِ. وقَدْ دَلَّتْ عِدَّةُ آثارٍ مُتَفاوِتَةٍ في القَبُولِ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ الَّذِينَ لَهم عَلاقَةٌ بِالنّاسِ عُمُومًا أوْ بِالمُؤْمِنِينَ خاصَّةً أصْنافٌ كَثِيرَةٌ. وعَنْ عُثْمانَ «أنَّهُ سَألَ النَّبِيءَ ﷺ: كَمْ مِن مَلَكٍ عَلى الإنْسانِ، فَذَكَرَ لَهُ عِشْرِينَ مَلَكًا»، ولَعَلَّ وصْفَ المَلائِكَةِ المُتَنَزِّلِينَ بِأنَّهم أوْلِياءُ يَقْتَضِي أنَّ عَمَلَهم مَعَ المُؤْمِنِ عَمَلُ صَلاحٍ وتَأْيِيدٍ مِثْلَ إلْهامِ الطّاعاتِ ومُحارَبَةِ الشَّياطِينِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وبِذَلِكَ تَتِمُّ مُقابَلَةُ تَنَزُّلِهِمْ عَلى المُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ تَقْيِيضِ القُرَناءِ لِلْكافِرِينَ، وهَذا أحْسَنُ. وجُمْلَةُ ﴿ولَكم فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ وما بَيْنَهُما جُمْلَةٌ كَما بَيَّنْتُهُ آنِفًا. ومَعْنى ﴿ما تَدَّعُونَ﴾: ما تَتَمَنَّوْنَ. يُقالُ: ادَّعى، أيْ تَمَنّى، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَهم ما يَدَّعُونَ﴾ [يس: ٥٧] في سُورَةِ يس. (p-٢٨٧)والمَعْنى: لَكم فِيها ما تَشْتَهُونَهُ مِمّا يَقَعُ تَحْتَ الحِسِّ وما تَتَمَنَّوْنَهُ في نُفُوسِكم مِن كُلِّ ما يَخْطُرُ بِالبالِ مِمّا يَجُولُ في الخَيالِ، فَما يَدَّعُونَ غَيْرَ ما تَشْتَهِيهِ أنْفُسُهم. ولِهَذِهِ المُغايَرَةِ أُعِيدَ لَكم لِيُؤْذِنَ بِاسْتِقْلالِ هَذا الوَعْدِ عَنْ سابِقِهِ، فَلا يُتَوَهَّمُ أنَّ العَطْفَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ أوْ عَطْفٌ عامٌّ عَلى خاصٍّ. والنُّزُلُ بِضَمِّ النُّونِ وضَمِّ الزّايِ: ما يُهَيَّأُ لِلضَّيْفِ مِنَ القِرى، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ النُّزُولِ؛ لِأنَّهُ كَرامَةُ النَّزِيلِ، وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِما يُعْطُونَهُ مِنَ الرَّغائِبِ سَواءٌ كانَتْ رِزْقًا أمْ غَيْرَهُ. ووَجْهُ الشَّبَهِ سُرْعَةُ إحْضارِهِ كَأنَّهُ مُهَيَّأٌ مِن قَبْلُ أنْ يَشْتَهُوهُ أوْ يَتَمَنَّوْهُ. ومِن ﴿غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ صِفَةُ نُزُلًا، ومِنِ ابْتِدائِيَّةٌ. وانْتَصَبَ نُزُلًا عَلى الحالِ مِن ﴿ما تَشْتَهِي أنْفُسُكُمْ﴾، وما تَدَّعُونَ حالَ كَوْنِهِ كالنُّزُلِ المُهَيَّأِ لِلضَّيْفِ، أيْ تُعْطَوْنَهُ كَما يُعْطى النُّزُلُ لِلضَّيْفِ. وأُوثِرَتْ صِفَتا الغَفُورِ الرَّحِيمِ، هُنا لِلْإشارَةِ إلى أنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهم أوْ لِأكْثَرِهِمُ اللَّمَمَ وما تابُوا مِنهُ، وأنَّهُ رَحِيمٌ بِهِمْ لِأنَّهم كانُوا يُحِبُّونَهُ ويَخافُونَهُ ويُناصِرُونَ دِينَهُ.