ركن التفسير
38 - (فإن استكبروا) عن السجود لله وحده (فالذين عند ربك) الملائكة (يسبحون) يصلون (له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) لا يملون
"فإن استكبروا" أي عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره "فالذين عند ربك" يعني الملائكة "يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون" كقوله عز وجل "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين" وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سفيان يعني ابن وكيع حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الليل ولا النهار ولا الشمس ولا القمر ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم وعذابا لقوم".
﴿فَإنِ اسْتَكْبَرُوا فالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وهم لا يَسْأمُونَ﴾ . الفاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلى نَهْيِهِمْ عَنِ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ والقَمَرِ وأمْرِهِمْ بِالسُّجُودِ لِلَّهِ وحْدَهُ، أيْ فَإنِ اسْتَكْبَرُوا أنْ يَتْبَعُوكَ وصَمَّمُوا عَلى السُّجُودِ لِلشَّمْسِ والقَمَرِ، أوْ فَإنِ اسْتَكْبَرُوا عَنِ الِاعْتِرافِ بِدَلالَةِ اللَّيْلِ والنَّهارِ والشَّمْسِ والقَمَرِ عَلى تَفَرُّدِ اللَّهِ (p-٣٠١)بِالإلَهِيَّةِ فَيَعُمُّ ضَمِيرُ اسْتَكْبَرُوا جَمِيعَ المُشْرِكِينَ فاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبادَتِهِمْ إيّاهُ. والِاسْتِكْبارُ: قُوَّةُ التَّكَبُّرِ، فالسِّينُ والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ وأصِلُ السِّينِ والتّاءِ المُسْتَعْمَلَيْنِ لِلْمُبالَغَةِ هُما السِّينُ والتّاءُ لِلْحُسْبانِ، أيْ عَدُّوا أنْفُسَهم ذَوِي كِبْرٍ شَدِيدٍ مِن فَرْطِ تَكَبُّرِهِمْ. وجُمْلَةُ ﴿فالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ دَلِيلُ جَوابِ الشَّرْطِ. والتَّقْدِيرُ: فَإنْ تَكَبَّرُوا عَنِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَهو غَنِيٌّ عَنْ سُجُودِهِمْ، لِأنَّ لَهُ عَبِيدًا أفْضَلَ مِنهم لا يَفْتُرُونَ عَنِ التَّسْبِيحِ لَهُ بِإقْبالٍ دُونَ سَآمَةٍ. والمُرادُ بِالتَّسْبِيحِ: كُلُّ ما يَدُلُّ عَلى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ بِإثْباتِ أضْدادِ ما لا يَلِيقُ بِهِ أوْ نَفْيِ ما لا يَلِيقُ، وذَلِكَ بِالأقْوالِ قالَ تَعالى ﴿والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: ٥]، أوْ بِالأعْمالِ قالَ ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ والمَلائِكَةُ وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: ٤٩] وذَلِكَ ما يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ ﴿وهم لا يَسْأمُونَ﴾ مِن كَوْنِ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ قَوْلًا وعَمَلًا ولَيْسَ مُجَرَّدَ اعْتِقادٍ. والعِنْدِيَّةُ في قَوْلِهِ عِنْدَ رَبِّكَ عِنْدِيَّةُ تَشْرِيفٍ وكَرامَةٍ كَقَوْلِهِ في سُورَةِ الأعْرافِ ﴿إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ويُسَبِّحُونَهُ ولَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦]، وهَؤُلاءِ المَلائِكَةُ هُمُ العامِرُونَ لِلْعَوالِمِ العُلْيا الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ مُشَرَّفَةً بِأنَّها لا يَقَعُ فِيها إلّا الفَضِيلَةُ فَكانَتْ بِذَلِكَ أشَدَّ اخْتِصاصًا بِهِ تَعالى مِن أماكِنَ غَيْرِها قَصْدًا لِتَشْرِيفِها. والسَّآمَةُ: الضَّجَرُ والمَلَلُ مِنَ الإعْياءِ. وذِكْرُ اللَّيْلِ والنَّهارِ هُنا لِقَصْدِ اسْتِيعابِ الزَّمانِ، أيْ يُسَبِّحُونَ لَهُ الزَّمانَ كُلَّهُ. وجُمْلَةُ ﴿وهم لا يَسْأمُونَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ وهو أوْقَعُ مِن مَحْمِلِ العَطْفِ؛ لِأنَّ كَوْنَ الإخْبارِ عَنْهم مُقَيَّدًا بِهَذِهِ الحالِ أشَدَّ في إظْهارِ عَجِيبِ حالِهِمْ إذْ شَأْنُ العَمَلِ الدّائِمِ أنْ يَسْلَمَ مِنهُ عامِلُهُ.