ركن التفسير
39 - (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة) يابسة لا نبات فيها (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت) تحركت (وربت) انتفخت وعلت (إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير)
"ومن آياته" أي على قدرته على إعادة الموتى "أنك ترى الأرض خاشعة" أى هامدة لا نبات فيها بل هى ميتة "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" أي أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار "إن الذي أحياها لمحيى الموتى إنه على كل شيء قدير".
(p-٣٠٢)﴿ومِن آياتِهِ أنَّكَ تَرى الأرْضَ خاشِعَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ﴾ . عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ومِن آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ﴾ [فصلت: ٣٧]، وهَذا اسْتِدْلالٌ بِهَذا الصُّنْعِ العَظِيمِ عَلى أنَّهُ تَعالى مُنْفَرِدٌ بِفِعْلِهِ فَهو دَلِيلُ إلَهِيَّتِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأنَّ مَن يَفْعَلُ ما لا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ هو الإلَهُ الحَقُّ وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أنْ يَتَعَدَّدَ لِكَوْنِ مَن لا يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ ناقِصَ القُدْرَةِ، والنَّقْصُ يُنافِي الإلَهِيَّةَ كَما قالَ ﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧] . والخِطابُ في قَوْلِهِ أنَّكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَصْلُحَ لِكُلِّ سامِعٍ. والخُشُوعُ: التَّذَلُّلُ، وهو مُسْتَعارٌ لِحالِ الأرْضِ إذا كانَتْ مُقْحِطَةً لا نَباتَ عَلَيْها لِأنَّ حالَها في تِلْكَ الخَصاصَةِ كَحالِ المُتَذَلِّلِ، وهَذا مِن تَشْبِيهِ المَحْسُوسِ بِالمَعْقُولِ بِاعْتِبارِ ما يَتَخَيَّلُهُ النّاسُ مِن مُشابَهَةِ اخْتِلافِ حالَيِ القُحُولَةِ والخِصْبِ بِحالَيِ التَّذَلُّلِ والِازْدِهاءِ. والِاهْتِزازُ حَقِيقَتُهُ: مُطاوَعَةُ هَزِّهِ، إذا حَرَّكَهُ بَعْدَ سُكُونِهِ فَتَحَرَّكَ. وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِرُبُوِّ وجْهِ الأرْضِ بِالنَّباتِ، شُبِّهَ حالُ إنْباتِها وارْتِفاعِها بِالماءِ والنَّباتِ بَعْدَ أنْ كانَتْ مُنْخَفِضَةً خامِدَةً بِالِاهْتِزازِ. ويُؤْخَذُ مِن مَجْمُوعِ ذَلِكَ أنَّ هَذا التَّرْكِيبَ تَمْثِيلٌ، شُبِّهَ حالُ قُحُولَةِ الأرْضِ ثُمَّ إنْزالِ الماءِ عَلَيْها وانْقِلابِها مِنَ الجُدُوبَةِ إلى الخِصْبِ والإنْباتِ البَهِيجِ بِحالِ شَخْصٍ كانَ كاسِفَ البالِ رَثَّ اللِّباسِ فَأصابَهُ شَيْءٌ مِنَ الغِنى فَلَبِسَ الزِّينَةَ واخْتالَ في مِشْيَتِهِ زَهْوًا، ولِذا يُقالُ: هَزَّ عِطْفَيْهِ، إذا اخْتالَ في مِشْيَتِهِ. وفِي قَوْلِهِ (خاشِعَةً واهْتَزَّتْ) مَكْنِيَّةٌ بِأنْ شُبِّهَتْ بِشَخْصٍ كانَ ذَلِيلًا ثُمَّ صارَ مُهْتَزًّا لِعِطْفَيْهِ، ورَمَزَ إلى المُشَبَّهِ بِهِما بِذِكْرِ رَدِيفَيْهِما. فَهَذا مِن أحْسَنِ التَّمْثِيلِ وهو الَّذِي يَقْبَلُ تَفْرِيقَ أجْزائِهِ في أجْزاءِ التَّشْبِيهِ. وعُطِفَ ورَبَتْ عَلى اهْتَزَّتْ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الِاهْتِزازِ هو ظُهُورُ النَّباتِ عَلَيْها وتَحَرُّكُهُ. والمَقْصُودُ بِالرُّبُوِّ: انْتِفاخُها بِالماءِ واعْتِلاؤُها. (p-٣٠٣)وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ ”ورَبَأتْ“ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ المُوَحَّدَةِ مِن ”رَبَأ“ بِالهَمْزِ، إذا ارْتَفَعَ. * * * ﴿إنَّ الَّذِي أحْياها لَمُحْيِي المَوْتى إنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ . إدْماجٌ لِإثْباتِ البَعْثِ في أثْناءِ الِاسْتِدْلالِ عَلى تَفَرُّدِهِ تَعالى بِالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ، ووُقُوعِهِ عَلى عادَةِ القُرْآنِ في التَّفَنُّنِ وانْتِهازِ فُرَصِ الهُدى إلى الحَقِّ. والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ والمُناسَبَةُ مُشابَهَةُ الإحْياءَيْنِ، وحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِمُراعاةِ إنْكارِ المُخاطَبِينَ إحْياءَ المَوْتى. وتَعْرِيفُ المُسْنَدِ إلَيْهِ بِالمَوْصُولِيَّةِ لِما في المَوْصُولِ مِن تَعْلِيلِ الخَبَرِ، وشُبِّهَ إمْدادُ الأرْضِ بِماءِ المَطَرِ الَّذِي هو سَبَبُ انْبِثاقِ البُزُورِ الَّتِي في باطِنِها الَّتِي تَصِيرُ نَباتًا بِإحْياءِ المَيِّتِ، فَأطْلَقَ عَلى ذَلِكَ أحْياها عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ التَّبَعِيَّةِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ مِن ذَلِكَ إلى جَعْلِ ذَلِكَ الَّذِي سُمِّيَ إحْياءً؛ لِأنَّهُ شَبِيهُ الإحْياءِ دَلِيلًا عَلى إمْكانِ إحْياءِ المَوْتى بِطَرِيقَةِ قِياسِ الشَّبَهِ، وهو المُسَمّى في المَنطِقِ قِياسَ التَّمْثِيلِ، وهو يُفِيدُ تَقْرِيبَ المَقِيسِ بِالمَقِيسِ عَلَيْهِ، ولَيْسَ الِاسْتِدْلالُ بِالشَّبَهِ والتَّمْثِيلِ بِحُجَّةٍ قَطْعِيَّةٍ، بَلْ هو إقْناعِيٌّ ولَكِنَّهُ هُنا يَصِيرُ حُجَّةً لِأنَّ المَقِيسَ عَلَيْهِ وإنْ كانَ أضْعَفَ مِنَ المَقِيسِ إذِ المُشَبَّهُ لا يَبْلُغُ قُوَّةَ المُشَبَّهِ بِهِ، فالمُشَبَّهُ بِهِ حَيْثُ كانَ لا يَقْدِرُ عَلى فِعْلِهِ إلّا الخالِقُ الَّذِي اتَّصَفَ بِالقُدْرَةِ التّامَّةِ لِذاتِهِ فَقَدْ تَساوى فِيهِ قَوِيُّهُ وضَعِيفُهُ، وهم كانُوا يُحِيلُونَ إحْياءَ الأمْواتِ اسْتِنادًا لِلِاسْتِبْعادِ العادِيِّ، فَلَمّا نُظِّرَ إحْياءُ الأمْواتِ بِإحْياءِ الأرْضِ المُشَبَّهِ تَمَّ الدَّلِيلُ الإقْناعِيُّ المُناسِبُ لِشُبْهَتِهِمُ الإقْناعِيَّةِ. وقَدْ أشارَ إلى هَذا تَذْيِيلُهُ بِقَوْلِهِ إنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.