ركن التفسير
4 - (بشيرا) صفة قرآنا (ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) سماع قبول
"بشيرا ونذيرا" أي تارة يبشر المؤمنين وتارة ينذر الكافرين "فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون" أي أكثر قريش فهم لا يفهمون منه شيئا مع بيانه ووضوحه.
﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿بَشِيرًا ونَذِيرًا فَأعْرَضَ أكْثَرُهم فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ . افْتُتِحَ الكَلامُ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ لِما في التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ. والوَجْهُ أنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ مُبْتَدَأٌ سَوَّغَ الِابْتِداءَ بِهِ ما في التَّنْكِيرِ مِن مَعْنى التَّعْظِيمِ فَكانَتْ بِذَلِكَ كالمَوْصُوفَةِ وقَوْلُهُ ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ خَبَرٌ عَنْهُ. وقَوْلُهُ (﴿كِتابٌ﴾) بَدَلٌ مِن (﴿تَنْزِيلٌ﴾) فَحَصَلَ مِنَ المَعْنى: أنَّ التَّنْزِيلَ مِنَ اللَّهِ كِتابٌ، وأنَّ صِفَتَهُ فُصِّلَتْ آياتُهُ، مَوْسُومًا بِكَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، فَحَصَلَ مِن هَذا الأُسْلُوبِ أنَّ القُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُفَصَّلًا عَرَبِيًّا. (p-٢٣٠)ولَكَ أنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْمُبْتَدَأِ وتَجْعَلَ قَوْلَهُ (كِتابٌ) خَبَرَ المُبْتَدَأِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ هو أُسْلُوبٌ فَخْمٌ وقَدْ مَضى مِثْلُهُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] ﴿كِتابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [الأعراف: ٢] . والمُرادُ: أنَّهُ مُنَزَّلٌ، فالمَصْدَرُ بِمَعْنى المَفْعُولِ كَقَوْلِهِ ﴿وإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٢] ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ [الشعراء: ١٩٣] وهو مُبالَغَةٌ في كَوْنِهِ فَعَلَ اللَّهُ تَنْزِيلَهُ، تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ مُوحًى بِهِ ولَيْسَ مَنقُولًا مِن صُحُفِ الأوَّلِينَ. وتَنْكِيرُ (﴿تَنْزِيلٌ﴾) (وكِتابٌ) لِإفادَةِ التَّعْظِيمِ. والكِتابُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ حُرُوفٍ دالَّةٍ عَلى ألْفاظٍ مُفِيدَةٍ وسُمِّيَ القُرْآنُ كِتابًا لِأنَّ اللَّهَ أوْحى بِألْفاظِهِ وأمَرَ رَسُولَهُ ﷺ بِأنْ يَكْتُبَ ما أُوحِيَ إلَيْهِ، ولِذَلِكَ اتَّخَذَ الرَّسُولُ ﷺ كُتّابًا يَكْتُبُونَ لَهُ كُلَّ ما يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ. وإيثارُ الصِّفَتَيْنِ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ عَلى غَيْرِهِما مِنَ الصِّفاتِ العَلِيَّةِ لِلْإيماءِ إلى أنَّ هَذا التَّنْزِيلَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعِبادِهِ لِيُخْرِجَهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَقَدْ جاءَكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكم وهُدًى ورَحْمَةٌ﴾ [الأنعام: ١٥٧] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] وقَوْلِهِ ﴿أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: ٥١] . والجَمْعُ بَيْنَ صِفَتَيِ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ لِلْإيماءِ إلى أنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ ذاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعالى، وأنَّ مُتَعَلِّقَها مُنْتَشِرٌ في المَخْلُوقاتِ كَما تَقَدَّمَ في أوَّلِ سُورَةِ الفاتِحَةِ والبَسْمَلَةِ. وفِي ذَلِكَ إيماءٌ إلى اسْتِحْماقِ الَّذِينَ أعْرَضُوا عَنِ الِاهْتِداءِ بِهَذا الكِتابِ بِأنَّهم أعْرَضُوا عَنْ رَحْمَةٍ، وأنَّ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ هم أهْلُ المَرْحَمَةِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: ٤٤] . ومَعْنى ﴿فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾ بُيِّنَتْ، والتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ والإخْلاءُ مِنَ الِالتِباسِ. (p-٢٣١)والمُرادُ: أنَّ آياتِ القُرْآنِ واضِحَةُ الأغْراضِ لا تَلْتَبِسُ إلّا عَلى مُكابِرٍ في دَلالَةِ كُلِّ آيَةٍ عَلى المَقْصُودِ مِنها، وفي مَواقِعِها وتَمْيِيزِ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ في المَعْنى بِاخْتِلافِ فُنُونِ المَعانِي الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْها، وقَدْ تَقَدَّمَ في طالِعَةِ سُورَةِ هُودٍ. ومِن كَمالِ تَفْصِيلِهِ أنَّهُ كانَ بِلُغَةٍ كَثِيرَةِ المَعانِي، واسِعَةِ الأفْنانِ، فَصِيحَةِ الألْفاظِ، فَكانَتْ سالِمَةً مِنَ التِباسِ الدَّلالَةِ، وانْغِلاقِ الألْفاظِ، مَعَ وفْرَةِ المَعانِي غَيْرِ المُتَنافِيَةِ في قِلَّةِ التَّراكِيبِ، فَكانَ وصْفُهُ بِأنَّهُ عَرَبِيٌّ مِن مُكَمِّلاتِ الإخْبارِ عَنْهُ بِالتَّفْصِيلِ. وقَدْ تَكَرَّرَ التَّنْوِيهُ بِالقُرْآنِ مِن هَذِهِ الجِهَةِ كَقَوْلِهِ ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥] ولِهَذا فُرِّعَ عَلَيْهِ ذَمُّ الَّذِينَ أعْرَضُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِ هُنا ﴿فَأعْرَضَ أكْثَرُهم فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ وقَوْلُهُ هُنالِكَ ﴿كَذَلِكَ سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٠٠] ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّى يَرَوْا العَذابَ الألِيمَ﴾ [الشعراء: ٢٠١] . والقُرْآنُ: الكَلامُ المَقْرُوءُ المَتْلُوُّ. وكَوْنُهُ قُرْآنًا مِن صِفاتِ كَمالِهِ، وهو أنَّهُ سَهْلُ الحِفْظِ، سَهْلُ التِّلاوَةِ، كَما قالَ تَعالى ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر: ١٧] ولِذَلِكَ كانَ شَأْنُ الرَّسُولِ ﷺ حِفْظَ القُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وكانَ شَأْنُ المُسْلِمِينَ الِاقْتِداءَ بِهِ في ذَلِكَ عَلى حَسَبِ الهِمَمِ والمُكْناتِ، وكانَ النَّبِيءُ ﷺ يُشِيرُ إلى تَفْضِيلِ المُؤْمِنِينَ بِما عِنْدَهم مِنَ القُرْآنِ. وكانَ يَوْمُ أُحُدٍ يُقَدِّمُ في لَحْدِ شُهَدائِهِ مَن كانَ أكْثَرَهم أخْذًا لِلْقُرْآنِ تَنْبِيهًا عَلى فَضْلِ حِفْظِ القُرْآنِ زِيادَةً عَلى فَضْلِ تِلْكَ الشَّهادَةِ. وانْتَصَبَ قُرْآنًا عَلى النَّعْتِ المَقْطُوعِ لِلِاخْتِصاصِ بِالمَدْحِ وإلّا لَكانَ مَرْفُوعًا عَلى أنَّهُ خَبَرٌ ثالِثٌ أوْ صِفَةٌ لِلْخَبَرِ الثّانِي، فَقَوْلُهُ قُرْآنًا مَقْصُودٌ بِالذِّكْرِ لِلْإشارَةِ إلى هَذِهِ الخُصُوصِيَّةِ الَّتِي اخْتُصَّ بِها مِن بَيْنِ سائِرِ الكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، ولَوْلا ذَلِكَ لَقالَ: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ عَرَبِيٌّ كَما قالَ في سُورَةِ الشُّعَراءِ ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥] . ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ مَنصُوبًا عَلى الحالِ. وقَوْلُهُ ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ صِفَةٌ لِـ (قُرْآنًا) ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، أيْ كائِنًا لِقَوْمٍ (p-٢٣٢)يَعْلَمُونَ بِاعْتِبارِ ما أفادَهُ قَوْلُهُ ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ مِن مَعْنى وُضُوحِ الدَّلالَةِ وسُطُوعِ الحُجَّةِ، أوْ يَتَعَلَّقُ ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ بِقَوْلِهِ تَنْزِيلٌ أوْ بِقَوْلِهِ ﴿فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾ عَلى مَعْنى فَوائِدِ تَنْزِيلِهِ وتَفْصِيلِهِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَكَأنَّهُ لَمْ يُنْزَلْ إلّا لَهم، أيْ فَلا بِدْعَ إذا أعْرَضَ عَنْ فَهْمِهِ المُعانِدُونَ فَإنَّهم قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ١٠١] وقَوْلُهُ ﴿وما يَعْقِلُها إلّا العالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٣] وقَوْلُهُ ﴿إنّا أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: ٢] وقَوْلُهُ ﴿بَلْ هو آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩] . والبَشِيرُ: اسْمٌ لِلْمُبَشِّرِ وهو المُخْبِرُ بِخَبَرٍ يَسُرُّ المُخْبَرَ. والنَّذِيرُ: المُخْبِرُ بِأمْرٍ مُخَوِّفٍ، شَبَّهَ القُرْآنَ بِالبَشِيرِ فِيما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الآياتِ المُبَشِّرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الصّالِحِينَ، وبِالنَّذِيرِ فِيما فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لِلْكافِرِينَ وأهْلِ المَعاصِي، فالكَلامُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. ولَيْسَ (﴿بَشِيرًا﴾) أوْ (نَذِيرًا) اسْمَيْ فاعِلٍ لِأنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: مُبَشِّرًا ومُنْذِرًا. والجَمْعُ بَيْنَ بَشِيرًا ونَذِيرًا مِن قَبِيلِ مُحَسِّنِ الطِّباقِ. والجَمْعُ بَيْنَ (﴿بَشِيرًا﴾) عَلى أنَّهُ حالٌ ثانِيَةٌ مِن كِتابٍ أوْ صِفَةٌ لِـ (﴿قُرْآنًا﴾)، وصِفَةُ الحالِ في مَعْنى الحالِ، فالأوْلى كَوْنُهُ حالًا ثانِيَةً. وجِيءَ بِقَوْلِهِ نَذِيرًا مَعْطُوفًا بِالواوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى اخْتِلافِ مَوْقِعِ كُلٍّ مِنَ الحالَيْنِ فَهو بَشِيرٌ لِقَوْمٍ وهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، ونَذِيرٌ لِآخَرِينَ وهُمُ المُعْرِضُونَ عَنْهُ، ولَيْسَ هو جامِعًا بَيْنَ البِشارَةِ والنِّذارَةِ لِطائِفَةٍ واحِدَةٍ فالواوُ هُنا كالواوِ في قَوْلِهِ ﴿ثَيِّباتٍ وأبْكارًا﴾ [التحريم: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ﴾ [التحريم: ٥] . وتَفْرِيعُ ﴿فَأعْرَضَ أكْثَرُهُمْ﴾ عَلى ما ذُكِرَ مِن صِفاتِ القُرْآنِ. وضَمِيرُ أكْثَرُهم عائِدٌ إلى مَعْلُومٍ مِنَ المَقامِ وهُمُ المُشْرِكُونَ كَما هي عادَةُ القُرْآنِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ. والمَعْنى: فَأعْرَضَ أكْثَرُ هَؤُلاءِ عَمّا في القُرْآنِ مِنَ الهُدى فَلَمْ يَهْتَدُوا، ومِنَ البِشارَةِ فَلَمْ يُعْنَوْا بِها، ومِنَ النِّذارَةِ فَلَمْ يَحْذَرُوها، فَكانُوا في أشَدِّ الحَماقَةِ، إذْ لَمْ (p-٢٣٣)يُعْنَوْا بِخَيْرٍ، ولا حَذِرُوا الشَّرَّ، فَلَمْ يَأْخُذُوا بِالحِيطَةِ لِأنْفُسِهِمْ ولَيْسَ عائِدًا لِـ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ لِأنَّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ لا يُعْرِضُ أحَدٌ مِنهم. والفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ لِلتَّفْرِيعِ عَلى الإعْراضِ، أيْ فَهم لا يُلْقُونَ أسْماعَهم لِلْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ تَدَبُّرِهِ، وهَذا إجْمالٌ لِإعْراضِهِمْ. وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ في ﴿فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ دُونَ أنْ يَقُولَ: فَلا يَسْمَعُونَ لِإفادَةِ تَقَوِّي الحُكْمِ وتَأْكِيدِهِ.