ركن التفسير
3 - (ذلك) إضلال الأعمال وتكفير السيئات (بأن) بسبب أن (الذين كفروا اتبعوا الباطل) الشيطان (وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق) القرآن (من ربهم كذلك) مثل ذلك البيان (يضرب الله للناس أمثالهم) يبين أحوالهم أي فالكافر يحبط عمله والمؤمن يغفر ذلله
"ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل" أي إنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الأبرار وأصلحنا شؤونهم لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل أي اختاروا الباطل على الحق "وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم" أي يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه في معادهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
﴿ذَلِكَ بِأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وأنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَبِّهِمْ﴾ هَذا تَبْيِينٌ لِلسَّبَبِ الأصِيلِ في إضْلالِ أعْمالِ الكافِرِينَ وإصْلاحِ بالِ المُؤْمِنِينَ. والإتْيانُ بِاسْمِ الإشارَةِ لِتَمْيِيزِ المُشارِ إلَيْهِ أكْمَلُ تَمْيِيزٍ تَنْوِيهًا بِهِ. وقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الإشارَةُ أرْبَعَ مَرّاتٍ في هَذِهِ الآياتِ المُتَتابِعَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْناهُ. والإشارَةُ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الخَبَرَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ، وهَمّا ﴿أضَلَّ أعْمالَهُمْ﴾ [محمد: ١]، ﴿كَفَّرَ عَنْهم سَيِّئاتِهِمْ وأصْلَحَ بالَهُمْ﴾ [محمد: ٢]، مَعَ اعْتِبارِ عِلَّتَيِ الخَبَرَيْنِ المُسْتَفادَتَيْنِ مِنِ اسْمِي المَوْصُولِ والصِّلَتَيْنِ وما عُطِفَ عَلى كِلْتَيْهِما. واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ، وقَوْلُهُ ﴿بِأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ﴾ إلَخْ خَبَرُهُ، والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ ومَجْرُورُها في مَوْضِعِ الخَبَرِ عَنِ اسْمِ الإشارَةِ، أيْ ذَلِكَ كائِنٌ بِسَبَبِ اتِّباعِ الكافِرِينَ الباطِلَ واتِّباعِ المُؤْمِنِينَ الحَقَّ، ولَمّا كانَ ذَلِكَ جامِعًا لِلْخَبَرَيْنِ المُتَقَدِّمِينَ كانَ الخَبَرُ عَنْهُ مُتَعَلِّقًا بِالخَبَرَيْنِ وسَبَبًا لَهُما. وفِي هَذا مُحَسِّنُ الجَمْعِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ ويُسَمُّونَهُ - كَعَكْسِهِ - التَّفْسِيرَ لِأنَّ في الجَمْعِ تَفْسِيرًا لِلْمَعْنى الَّذِي تَشْتَرِكُ فِيهِ الأشْياءُ المُتَفَرِّقَةُ تَقَدَّمَ أوْ تَأخَّرَ. وشاهِدُهُ قَوْلُ حَسّانَ مِن أُسْلُوبِ هَذِهِ الآيَةِ: ؎قَوْمٌ إذا حارَبُوا ضَرُّوا عَـدُوَّهُـمْ أوْ حاوَلُوا النَّفْعَ في أشْياعِهِمْ نَفَعُوا ؎سَجِيَّةٌ تِلْكَ فِيهِـمْ غَـيْرُ مُـحْـدَثَةٍ ∗∗∗ إنِ الخَلائِقَ فاعْلَمْ شَرُّها الـبِـدَعُ قالَ في الكَشّافِ: وهَذا الكَلامُ يُسَمِّيهِ عُلَماءُ البَيانِ التَّفْسِيرَ، يُرِيدُ أنَّهُ مِنَ المُحَسِّناتِ البَدِيعِيَّةِ. ونُقِلَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّهُ أنْشَدَ لِنَفْسِهِ لَمّا فَسَّرَ لِطَلَبَتِهِ هَذِهِ الآيَةَ، فَقُيِّدَ عَنْهُ في الحَواشِي قَوْلَهُ:(p-٧٧) ؎بِهِ فُجِعَ الفُرْسانُ فَوْقَ خُيُولِـهِـمْ ∗∗∗ كَما فُجِعَتْ تَحْتَ السُّتُورِ العَواتِقُ ؎تَساقَطَ مِن أيْدِيهِمُ البِيضُ حَـيْرَةً ∗∗∗ وزُعْزِعَ عَنْ أجِيادِهِنَّ المَخانِـقُ وفِي هَذِهِ الآيَةِ مُحَسِّنُ الطِّباقِ مَرَّتَيْنِ بَيْنَ ”الَّذِينَ كَفَرُوا“ و”الَّذِينَ آمَنُوا“ وبَيْنَ ”الحَقِّ“ و”الباطِلِ“ . وفي بَيْتَيِ الزَّمَخْشَرِيِّ مُحَسِّنُ الطِّباقِ مَرَّةٌ واحِدَةٌ بَيْنَ ”فَوْقَ“ و”تَحْتَ“ . واتِّباعُ الباطِلِ واتِّباعُ الحَقِّ تَمْثِيلِيّانِ لِهَيْئَتَيِ العَمَلِ بِما يَأْمُرُ بِهِ أيِمَّةُ الشِّرْكِ أوْلِياءَهم وما يَدْعُو إلَيْهِ القُرْآنُ، أيْ عَمِلُوا بِالباطِلِ وعَمِلَ الآخَرُونَ بِالحَقِّ. ووَصْفُ الحَقِّ بِأنَّهُ مِن رَبِّهِمْ تَنْوِيهٌ بِهِ وتَشْرِيفٌ لَهم. * * * ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أمْثالَهُمْ﴾ تَذْيِيلٌ لِما قَبْلَهُ، أيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّبْيِينِ لِلْحالَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ الأحْوالَ لِلنّاسِ بَيانًا واضِحًا. والمَعْنى: قَدْ بَيَّنّا لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الكافِرِينَ والمُؤْمِنِينَ حالَهُ تَفْصِيلًا وإجْمالًا، وما تُفْضِي إلَيْهِ مِنَ اسْتِحْقاقِ المُعامَلَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ خَفاءٌ في كُنْهِ الحالَيْنِ، ومِثْلَ ذَلِكَ البَيانِ يُمَثِّلُ اللَّهُ لِلنّاسِ كَيْلا تَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ الأسْبابُ والمُسَبِّباتُ. ومَعْنى ”يَضْرِبُ“: يُلْقِي. وهَذا إلْقاءُ تَبْيِينٍ بِقَرِينَةِ السِّياقِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما﴾ [البقرة: ٢٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والأمْثالُ: جَمْعُ مَثَلٍ بِالتَّحْرِيكِ وهو الحالُ الَّتِي تُمَثِّلُ صاحِبَها، أيْ تَشْهَرُهُ لِلنّاسِ وتُعَرِّفُهم بِهِ فَلا يُلْتَبَسُ بِنَظائِرِهِ. واللّامُ لِلْأجَلِ، والمُرادُ بِالنّاسِ جَمِيعُ النّاسِ. وضَمِيرُ ”أمْثالَهم“ لِلنّاسِ. والمَعْنى: كَهَذا التَّبْيِينِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنّاسِ أحْوالَهم فَلا يَبْقَوْا في غَفْلَةٍ عَنْ شُئُونِ أنْفُسِهِمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ تَحَقُّقِ كُنْهِهِمْ بِحِجابِ التَّعَوُّدِ لِئَلّا يَخْتَلِطَ الخَبِيثُ بِالطَّيِّبِ، ولِكَيْ يَكُونُوا عَلى بَصِيرَةٍ في شُئُونِهِمْ، وفي هَذا إيماءٌ إلى وُجُوبِ التَّوَسُّمِ لِتَمْيِيزِ المُنافِقِينَ عَنِ المُسْلِمِينَ حَقًّا، فَإنَّ مِن مَقاصِدَ السُّورَةِ التَّحْذِيرَ مِنَ المُنافِقِينَ.