ركن التفسير
20 - (ومناة الثالثة) للتين قبلها (الأخرى) صفة ذم للثالثة وهي أصنام من حجارة كان المشركون يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله ومفعول أفرأيتم الأول اللات وما عطف عليه والثاني محذوف والمعنى أخبروه ألهذه الأصنام قدرة على شيء ما فتعبدوها دون الله القادر على ما تقدم ذكره ولما زعموا أيضا أن الملائكة بنات الله مع كراهتهم البنات نزلت
وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة وروى البخاري عن عائشة نحوه وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها وطواغيت أخر تعظيمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها اشهر من غيرها. قال ابن إسحاق في السيرة وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما تهدي للكعبة وتطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليه لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم قلت بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك وقال النسائي أخبرنا علي بن المنذر أخبرنا ابن فضيل حدثنا الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال "ارجع فإنك لم تصنع شيئا" فرجع خالد فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الحيل وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها خالد فإذا امرأة عريانه ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فغمسها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال "تلك العزى" قال ابن إسحاق وكانت اللات لثقيف بالطائف وكان سدنتها وحجابها بنى معتب "قلت" وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها وجعلا مكانها مسجدا بالطائف قال ابن إسحاق وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها ويقال علي بن أبي طالب قال وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة "قلت" وكان يقال لها الكعبة اليمانية وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبدالله البجلي فهدمه قال وكانت قيس لطي ومن يليها بجبل طي بين سلمى وأجا قال ابن هشام فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه واصطفى منه سيفين الرسوب والمخزم فنفله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما سيفا علي قال ابن إسحاق وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له ريام وذكر أنه كان به كلب أسود وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت: قال ابن إسحاق وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب ابن سعد حين هدمها في الإسلام ولقد شددت على رضاء شدة تركتها قفرا بقاع أسمحا قال ابن هشام يقال إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة وهو القائل ولقد سئمت من الحياة وطولها وعمرت من عدد السنين مئينا مائة حدتها بعدها مائتان لي وعمرت من عدد الشهور سنينا هل ما بقي إلا كما قد فاتنا يوم يمر وليلة تحدونا قال ابن إسحاق وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة بين الخورنق والسدير وبارق والبيت ذو الكعبات في سنداد ولهذا قال تعالى "أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى".
﴿أفَرَأيْتُمُ اللّاتَ والعُزّى﴾ ﴿ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ ﴿تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزى﴾ ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [النجم: ٢٣] . لَمّا جَرى في صِفَةِ الوَحْيِ ومُشاهَدَةِ رَسُولِ ﷺ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ وما دَلَّ عَلى شُئُونٍ جَلِيلَةٍ مِن عَظَمَةِ اللَّهِ تَعالى وشَرَفِ رَسُولِهِ ﷺ وشَرَفِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ إذْ وُصِفَ بِصِفاتِ الكَمالِ ومَنازِلِ العِزَّةِ كَما وُصِفَ النَّبِيءُ ﷺ بِالعُرُوجِ في المَنازِلِ العُلْيا، كانَ ذَلِكَ مِمّا يُثِيرُ مُوازَنَةَ هَذِهِ الأحْوالِ الرَّفِيعَةِ بِحالِ أعْظَمِ آلِهَتِهِمُ الثَّلاثِ في زَعْمِهِمْ وهي: اللّاتُ، والعُزّى، ومَناةُ؛ الَّتِي هي أحْجارٌ مَقَرُّها الأرْضُ لا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا ولا يُعَرَجُ بِها إلى رِفْعَةٍ. فَكانَ هَذا التَّضادُّ جامِعًا خَيالِيًّا يَقْتَضِي تَعْقِيبَ ذِكْرِ تِلْكَ الأحْوالِ بِذِكْرِ أحْوالِ هاتِهِ. فانْتَقَلَ الكَلامُ مِن غَرَضِ إثْباتِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ مُوحًى إلَيْهِ بِالقُرْآنِ، إلى إبْطالِ عِبادَةِ الأصْنامِ، ومَناطُ الإبْطالِ قَوْلُهُ ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [النجم: ٢٣] . فالفاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهامِ وما بَعْدَهُ عَلى جُمْلَةِ ﴿أفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى﴾ [النجم: ١٢] المُفَرَّعَةِ عَلى جُمْلَةِ ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى﴾ [النجم: ١١] . والرُّؤْيَةُ في ”أفَرَأيْتُمْ“ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةٌ تَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ فَلا تَطْلَبُ مَفْعُولًا ثانِيًا ويَكُونُ الِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرِيًّا تَهَكُّمِيًّا، أيْ: كَيْفَ تَرَوْنَ اللّاتَ (p-١٠٣)والعُزّى ومَناةَ بِالنِّسْبَةِ لِما وُصِفَ في عَظَمَةِ اللَّهِ تَعالى وشَرَفِ مَلائِكَتِهِ وشَرَفَ رَسُولِهِ ﷺ، وهَذا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وإبْطالٌ لِإلَهِيَّةِ تِلْكَ الأصْنامِ بِطَرِيقِ الفَحْوى، ودَلِيلُهُ العِيانُ. وأكْثَرُ اسْتِعْمالِ أرَأيْتَ أنْ تَكُونَ لِلرُّؤْيَةِ البَصَرِيَّةِ عَلى ما اخْتارَهُ رَضِيُّ الدِّينِ. وتَكُونُ جُمْلَةُ ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ﴾ إلَخِ اسْتِئْنافًا وارْتِقاءً في الرَّدِّ أوْ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿أفَرَأيْتُمُ اللّاتَ والعُزّى﴾؛ لِأنَّ مَضْمُونَها مِمّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَزاعِمُهم، كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّ اللّاتَ والعُزّى ومَناةَ بِناتُ اللَّهِ كَما حَكى عَنْهُمُابْنُ عَطِيَّةَ وصاحِبُ الكَشّافِ وسِياقُ الآياتِ يَقْتَضِيهِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الرُّؤْيا عِلْمِيَّةً، أيْ: أزَعَمْتُمُ اللّاتَ والعُزّى ومَناةَ، فَحُذِفَ المَفْعُولُ الثّانِي اخْتِصارًا لِدِلالَةِ قَوْلِهِ ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: أزْعَمْتُمُوهُنَّ بَناتِ اللَّهِ، أتَجْعَلُونَ لَهُ الأُنْثى وأنْتُمْ تَبْتَغُونَ الأبْناءَ الذُّكُورَ، وتَكُونُ جُمْلَةُ ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ﴾ إلَخْ بَيانًا لِلْإنْكارِ وارْتِقاءً في إبْطالِ مَزاعِمِهِمْ، أيْ: أتَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَناتِ خاصَّةً وتَغْتَبِطُونَ لِأنْفُسِكم بِالبَنِينَ الذُّكُورِ. وجَعَلَ صاحِبُ الكَشْفِ قَوْلَهُ ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ سادًّا مَسَدَّ المَفْعُولِ الثّانِي أرَأيْتُمْ. وأيْضًا لِما كانَ فِيما جَرى مِن صِفَةِ الوَحْيِ ومَنازِلِ الزُّلْفى الَّتِي حَظِيَ بِها النَّبِيءُ ﷺ وعَظَمَةُ جِبْرِيلَ إشْعارٌ بِسِعَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وعَظِيمِ مَلَكُوتِهِ مِمّا يُسَجِّلُ عَلى المُشْرِكِينَ في زَعْمِهِمْ شُرَكاءَ لِلَّهِ أصْنامًا مِثْلَ اللّاتِ والعُزّى ومَناةَ فَسادَ زَعْمِهِمْ وسَفاهَةَ رَأْيِهِمْ، أُعْقِبَ ذِكْرُ دَلائِلِ العَظَمَةِ الإلَهِيَّةِ بِإبْطالِ إلَهِيَّةِ أصْنامِهِمْ بِأنَّها أقَلُّ مِن مَرْتَبَةِ الإلَهِيَّةِ إذْ تِلْكَ أوْهامٌ لا حَقائِقَ لَها ولَكِنِ اخْتَرَعَتْها مُخَيِّلاتُ أهْلِ الشِّرْكِ ووَضَعُوا لَها أسْماءَ ما لَها حَقائِقُ فَفَرَّعَ ﴿أفَرَأيْتُمُ اللّاتَ والعُزّى﴾ إلَخْ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرِيًّا إنْكارِيًّا، والرُّؤْيا عِلْمِيَّةً والمَفْعُولُ الثّانِي هو قَوْلُهُ ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها﴾ [النجم: ٢٣] . وتَكُونُ جُمْلَةُ ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ إلَخْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ المَفْعُولَيْنِ لِلِارْتِقاءِ في الإنْكارِ، أيْ: وزَعَمْتُوهُنَّ بَناتٍ لِلَّهِ أوْ وزَعَمْتُمُ المَلائِكَةَ بَناتٍ لِلَّهِ. (p-١٠٤)وهَذِهِ الوُجُوهُ غَيْرُ مُتَنافِيَةٍ فَنَحْمِلُها عَلى أنَّ جَمِيعَها مَقْصُودٌ في هَذا المَقامِ. ولَكَ أنْ تَجْعَلَ فِعْلَ ”أرَأيْتُمْ“ (عَلى اعْتِبارِ الرُّؤْيَةِ عِلْمِيَّةً) مُعَلَّقًا عَنِ العَمَلِ لِوُقُوعِ إنْ النّافِيَةَ بَعْدَهُ في قَوْلِهِ ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها﴾ [النجم: ٢٣] وتَجْعَلُ جُمْلَةَ ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ إلى قَوْلِهِ ”﴿ضِيزى﴾“ اعْتِراضًا. واللّاتُ: صَنَمٌ كانَ لِثَقِيفٍ بِالطّائِفِ، وكانَتْ قُرَيْشٌ وجُمْهُورُ العَرَبِ يَعْبُدُونَهُ، ولَهُ شُهْرَةٌ عِنْدَ قُرَيْشٍ، وهو صَخْرَةٌ مُرَبَّعَةٌ بَنَوْا عَلَيْها بِناءً. وقالَ الفَخْرُ: كانَ عَلى صُورَةِ إنْسانٍ، وكانَ في مَوْضِعِ مَنارَةِ مَسْجِدِ الطّائِفِ اليُسْرى كَذا قالَ القُرْطُبِيُّ فَلَعَلَّ المَسْجِدَ كانَتْ لَهُ مَنارَتانِ. والألِفُ واللّامُ في أوَّلِ اللّاتِ زائِدَتانِ. و”ألْ“ الدّاخِلَةُ عَلَيْهِ زائِدَةٌ ولَعَلَّ ذَلِكَ؛ لِأنَّ أصْلَهُ: لاتٌ، بِمَعْنى مَعْبُودٍ، فَلَمّا أرادُوا جَعْلَهُ عَلَمًا عَلى مَعْبُودٍ خاصٍّ أدْخَلُوا عَلَيْهِ لامَ تَعْرِيفِ العَهْدِ كَما في اللَّهِ، فَإنَّ أصْلَهُ إلَهٌ. ويُوقَفُ عَلَيْهِ بِسِكُونِ تائِهِ في الفُصْحى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (اللّاتَ) بِتَخْفِيفِ المُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةِ. وقَرَأ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتَشْدِيدِ التّاءِ وذَلِكَ لُغَةٌ في هَذا الِاسْمِ؛ لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ العَرَبِ يَقُولُونَ: أصْلُ صَخْرَتِهِ مَوْضِعٌ كانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ رَجُلٌ في الجاهِلِيَّةِ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحاجِّ فَلَمّا ماتَ اتَّخَذُوا مَكانَهُ مَعْبَدًا. والعُزّى: فُعْلى مِنَ العِزِّ: اسْمُ صَنَمِ حَجَرٍ أبْيَضَ عَلَيْهِ بِناءٌ وقالَ الفَخْرُ: كانَ عَلى صُورَةِ نَباتٍ ولَعَلَّهُ يَعْنِي: أنَّ الصَّخْرَةَ فِيها صُورَةُ شَجَرٍ، وكانَ بِبَطْنِ نَخْلَةٍ فَوْقَ ذاتِ عِرْقٍ وكانَ جُمْهُورُ العَرَبِ يَعْبُدُونَها وخاصَّةً قُرَيْشًا وقَدْ قالَ أبُو سُفْيانَ يَوْمَ أُحُدٍ يُخاطِبُ المُسْلِمِينَ لَنا العُزّى ولا عُزّى لَكم. وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الفاتِحَةِ أنَّ العَرَبَ كانُوا إذْ شَرَعُوا في عَمَلٍ قالُوا: بِاسْمِ اللّاتِ بِاسْمِ العُزّى. وأمّا مَناةُ فَعَلَمٌ مُرْتَجَلٌ، وهو مُؤَنَّثٌ فَحَقُّهُ أنْ يُكْتَبَ بِهاءِ تَأْنِيثِ في آخِرِهِ ويُوقَفُ عَلَيْهِ بِالهاءِ، ويَكُونُ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ، وفِيهِ لُغَةٌ بِالتّاءِ الأصْلِيَّةِ في آخِرِهِ (p-١٠٥)فَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِالتّاءِ ويَكُونُ مَصْرُوفًا؛ لِأنَّ تاءَ لاتٍ مِثْلُ باءِ بابٍ، وأصْلُهُ: مَنَواةُ بِالتَّحْرِيكِ وقَدْ يُمَدُّ فَيُقالُ: مَناءَةُ وهو مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ. وقِياسُ الوَقْفِ عَلَيْهِ أنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ بِالهاءِ، وبَعْضُهم يَقِفُ عَلَيْهِ بِالتّاءِ تَبَعًا لِخَطِّ المُصْحَفِ، وكانَ صَخْرَةً وقَدْ عَبَدَهُ جُمْهُورُ العَرَبِ وكانَ مَوْضِعُهُ في المُشَلَّلِ حَذْوَ قُدَيْدٍ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ، وكانَ الأوْسُ والخَزْرَجُ يَطُوفُونَ حَوْلَهُ في الحَجِّ عِوَضًا عَنِ الصَّفا والمَرْوَةِ فَلَمّا حَجَّ المُسْلِمُونَ وسَعَوْا بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَحَرَّجَ الأنْصارُ مِنَ السَّعْيِ لِأنَّهم كانُوا يَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ فَنَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ [البقرة: ١٥٨] كَما تَقَدَّمَ عَنْ حَدِيثِ عائِشَةَ في المُوَطَّإ في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”ومَناةَ“ بِتاءٍ بَعْدَ الألِفِ وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الألِفِ عَلى إحْدى اللُّغَتَيْنِ. والجُمْهُورُ يَقِفُونَ عَلَيْهِ بِالتّاءِ تَبَعًا لِرَسْمِ المُصْحَفِ فَتَكُونُ التّاءُ حَرْفًا مِنَ الكَلِمَةِ غَيْرَ عَلامَةِ تَأْنِيثٍ فَهي مِثْلُ تاءِ اللّاتِ ويَجْعَلُونَ رَسْمَها في المُصْحَفِ عَلى غَيْرِ قِياسٍ. ووَصْفُها بِالثّالِثَةِ؛ لِأنَّها ثالِثَةٌ في الذِّكْرِ وهو صِفَةٌ كاشِفَةٌ، ووَصْفُها بِالأُخْرى أيْضًا صِفَةٌ كاشِفَةٌ؛ لِأنَّ كَوْنَها ثالِثَةً في الذِّكْرِ غَيْرِ المَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَها مَعْلُومٌ لِلسّامِعِ، فالحاصِلُ مِنَ الصِّفَتَيْنِ تَأْكِيدُ ذِكْرِها؛ لِأنَّ اللّاتَ والعُزّى عِنْدَ قُرَيْشٍ وعِنْدَ جُمْهُورِ العَرَبِ أشْهَرُ مِن مَناةَ لِبُعْدِ مَكانِ مَناةَ عَنْ بِلادِهِمْ ولِأنَّ تَرْتِيبَ مَواقِعِ بُيُوتِ هَذِهِ الأصْنامِ كَذَلِكَ، فاللّاتُ في أعْلى تِهامَةَ بِالطّائِفِ، والعُزّى في وسْطِها بِنَخْلَةٍ بَيْنَ مَكَّةَ والطّائِفِ، ومَناةُ بِالمُشَلَّلِ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ فَهي ثالِثَةُ البِقاعِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كانَتْ مَناةُ أعْظَمَ هَذِهِ الأوْثانِ قَدْرًا وأكْثَرَها عِبادَةً ولِذَلِكَ قالَ تَعالى ﴿الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ فَأكَّدَها بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ. والأحْسَنُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ جَرى عَلى أُسْلُوبِ العَرَبِ إذا أخْبَرُوا عَنْ مُتَعَدِّدٍ وكانَ فِيهِ مَن يَظُنُّ أنَّهُ غَيْرُ داخِلٍ في الخَبَرِ لِعِظَمَةٍ أوْ تَباعُدٍ عَنِ التَّلَبُّسِ بِمِثْلِ ما تَلَبَّسَ بِهِ نُظَراؤُهُ أنْ يَخْتِمُوا الخَبَرَ فَيَقُولُوا: وفُلانٌ هو الآخَرُ، ووَجْهُهُ هُنا أنَّ عُبّادَ مَناةَ كَثِيرُونَ في قَبائِلِ العَرَبِ فَنَبَّهَ عَلى أنَّ كَثْرَةَ عَبَدَتِها لا يَزِيدُها قُوَّةً عَلى بَقِيَّةِ الأصْنامِ في مَقامِ إبْطالِ إلَهِيَّتِها وكُلُّ ذَلِكَ جارٍ مَجْرى التَّهَكُّمِ والتَّسْفِيهِ. (p-١٠٦)وجُمْلَةُ ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ ارْتِقاءٌ في الإبْطالِ والتَّهَكُّمِ والتَّسْفِيهِ كَما تَقَدَّمَ، وهي مُجاراةٌ لِاعْتِقادِهِمُ أنَّ تِلْكَ الأصْنامَ الثَّلاثَةَ بَناتُ اللَّهِ وأنَّ المَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ، أيْ: أجَعَلْتُمْ لِلَّهِ بَناتٍ خاصَّةً وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ لَكم أوْلادًا ذُكُورًا وإناثًا وأنَّكم تُفَضِّلُونَ الذُّكُورَ وتَكْرَهُونَ الإناثَ وقَدْ خَصَصْتُمُ اللَّهَ بِالإناثِ دُونَ الذُّكُورِ واللَّهُ أوْلى بِالفَضْلِ والكَمالِ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَكانَ في هَذا زِيادَةُ تَشْنِيعٍ لِكُفْرِهِمْ إذْ كانَ كُفْرًا وسَخافَةَ عَقْلٍ. وكَوْنُ العُزّى ومَناةَ عِنْدَهُمُ انْثَتَيْنِ ظاهِرٌ مِن صِيغَةِ اسْمَيْهِما، وأمّا اللّاتُ فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اعْتِبارِ التّاءِ في الِاسْمِ عَلامَةَ تَأْثِيثٍ أوْ أصْلًا مِنَ الكَلِمَةِ فَهم كانُوا يَتَوَهَّمُونَ اللّاتَ أُنْثى، ولِذَلِكَ قالَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ امْصُصْ أوِ اعْضُضْ بَظْرَ اللّاتِ. وتَقْدِيمُ المَجْرُورَيْنِ في ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ لِلِاهْتِمامِ بِالِاخْتِصاصِ الَّذِي أفادَهُ اللّامُ اهْتِمامًا في مَقامِ التَّهَكُّمِ والتَّسْفِيهِ عَلى أنَّ في تَقْدِيمِ (ولَهُ الأُنْثى) إفادَةَ الِاخْتِصاصِ، أيْ: دُونَ الذَّكَرِ. وجُمْلَةُ ﴿تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزى﴾ تَعْلِيلٌ لِلْإنْكارِ والتَّهَكُّمِ المُفادُ مِنَ الِاسْتِفْهامِ في ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾، أيْ: قَدْ جُرْتُمْ في القِسْمَةِ وما عَدَلْتُمْ فَأنْتُمْ أحِقّاءُ بِالإنْكارِ. والإشارَةُ بِ ”تِلْكَ“ إلى المَذْكُورِ بِاعْتِبارِ الإخْبارِ عَنْهُ بِلَفْظِ ”قِسْمَةٌ“ فَإنَّهُ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ. و”إذَنْ“ حَرْفُ جَوابٍ أُرِيدَ بِهِ جَوابُ الِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ، أيْ: يَتَرَتَّبُ عَلى ما زَعَمْتُمْ أنَّ ذَلِكَ قِسْمَةٌ ضِيزى، أيْ: قَسَمْتُمْ قِسْمَةً جائِرَةً. وضِيزى: وزْنُهُ فُعْلى بِضَمِ الفاءِ مِن ضازَهُ حَقَّهُ، إذا نَقَصَهُ، وأصْلُ عَيْنِ ضازَ هَمْزَةٌ، يُقالُ: ضَأزَهُ حَقَّهُ كَمَنَعَهُ ثُمَّ كَثُرَ في كَلامِهِمْ تَخْفِيفُ الهَمْزَةِ فَقالُوا: ضازَهُ بِالألِفِ. ويَجُوزُ في مُضارِعِهِ أنْ يَكُونَ يائِيَّ العَيْنِ أوْ واوِيَّها قالَ الكِسائِيُّ: يَجُوزُ ضازَ يَضِيزُ، وضازَ يَضُوزُ. وكَأنَّهُ يُرِيدُ أنَّ لَكَ الخِيارَ في المَهْمُوزِ العَيْنِ إذا خُفِّفَ (p-١٠٧)أنْ تُلْحِقَهُ بِالواوِ أوِ الياءِ، لَكِنَّ الأكْثَرَ في كَلامِهِمُ اعْتِبارُ العَيْنِ ياءً فَقالُوا: ضازَهُ حَقَّهُ ضَيْزًا ولَمْ يَقُولُوا ضَوْزًا؛ لِأنَّ الضَّوْزَ لَوْكُ التَّمْرِ في الفَمِ، فَأرادُوا التَّفْرِقَةَ بَيْنَ المَصْدَرَيْنِ، وهَذا مِن مَحاسِنِ الِاسْتِعْمالِ. وعَنِ المُؤَرِّجِ السَّدُوسِيِّ كَرِهُوا ضَمَّ الضّادِ في ضُوزى فَقالُوا: ضِيزى. كَأنَّهُ يُرِيدُ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّ الضّادِ، أيْ: في أوَّلِ الكَلِمَةِ مَعَ أنَّ لَهم مَندُوحَةً عَنْهُ بِالزِّنَةِ الأُخْرى. ووَزْنُ ضِيزى: فُعْلى اسْمُ تَفْصِيلٍ مِثْلَ كُبْرى وطُوبى أيْ: شَدِيدَةُ الضَّيْزِ فَلَمّا وقَعَتِ الياءُ السّاكِنَةُ بَعْدَ الضَّمَّةِ حَرَّكُوهُ بِالكَسْرِ مُحافَظَةً عَلى الياءِ لِئَلّا يَقْلِبُوها واوًا فَتَصِيرَ ضُوزى وهو ما كَرِهُوهُ كَما قالَ المُؤَرِّجُ. وهَذا كَما فَعَلُوا في بِيضٍ جَمْعُ أبْيَضَ ولَوِ اعْتَبَرُوهُ تَفْضِيلًا مِن ضازَ يَضُوزُ لَقالُوا: ضَوْزى ولَكِنَّهم أهْمَلُوهُ. وقِيلَ: وزْنُ ضِيزى فِعْلى بِكَسْرِ الفاءِ عَلى أنَّهُ اسْمٌ، مِثْلُ دِفْلى وشِعْرى، ويُبَعِّدُ هَذا أنَّهُ مُشْتَقٌّ فَهو بِالوَصْفِيَّةِ أجْدَرُ. قالَ سِيبَوَيْهِ: لا يُوجَدُ فِعْلى بِكَسْرِ الفاءِ في الصِّفاتِ، أوْ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ، مِثْلُ ذِكْرى وعَلى الوَجْهَيْنِ كَسْرَتُهُ أصْلِيَّةٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ضِيزَيْ بِياءٍ ساكِنَةٍ بَعْدَ الضّادِ، وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ ساكِنَةٍ بَعْدَ الضّادِ مُراعاةً لِأصْلِ الفِعْلِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا. وهَذا وسْمٌ لَهم بِالجَوْرِ زِيادَةٌ عَلى الكُفْرِ؛ لِأنَّ التَّفْكِيرَ في الجَوْرِ كَفِعْلِهِ فَإنَّ تَخَيُّلاتِ الإنْسانِ ومُعْتَقَداتِهِ عُنْوانٌ عَلى أفْكارِهِ وتَصَرُّفاتِهِ. وجُمْلَةُ ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها﴾ [النجم: ٢٣] اسْتِئْنافٌ يَكُرُّ بِالإبْطالِ عَلى مُعْتَقَدِهِمْ مِن أصْلِهِ بَعْدَ إبْطالِهِ بِما هو مِن لَوازِمِهِ عَلى مُجاراتِهِمْ فِيهِ لِإظْهارِ اخْتِلالِ مُعْتَقَدِهِمْ وفي هَذِهِ الجُمْلَةِ احْتِراسٌ لِئَلّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ إنْكارَ نِسْبَتِهِمُ البَناتِ لِلَّهِ أنَّهُ إنْكارٌ لِتَخْصِيصِهِمُ اللَّهَ بِالبَناتِ وأنَّ لَهُ أوْلادًا ذُكُورًا وإناثًا أوْ أنَّ مَصَبَّ الإنْكارِ عَلى زَعْمِهِمْ أنَّها بَناتٌ ولَيْسَتْ بِبَناتٍ فَيَكُونُ كالإنْكارِ عَلَيْهِمْ في زَعْمِهِمُ المَلائِكَةَ بَناتٍ. والضَّمِيرُ هي عائِدٌ إلى اللّاتِ والعُزّى ومَناةَ. وماصَدَقَ الضَّمِيرِ الذّاتُ والحَقِيقَةُ، أيْ: لَيْسَتْ هَذِهِ الأصْنامُ إلّا أسْماءً لا مُسَمَّياتِ لَها ولا حَقائِقَ ثابِتَةً وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أسْماءً سَمَّيْتُمُوها﴾ [يوسف: ٤٠] . والقَصْرُ إضافِيٌّ، أيْ: هي أسْماءٌ لا حَقائِقُ عاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ كَما تَزْعُمُونَ، ولَيْسَ (p-١٠٨)القَصْرُ حَقِيقِيًّا؛ لِأنَّ لِهاتِهِ الأصْنامِ مُسَمَّياتٌ وهي الحِجارَةُ أوِ البُيُوتُ الَّتِي يَقْصِدُونَها بِالعِبادَةِ ويَجْعَلُونَ لَها سَدَنَةً. وجُمْلَةُ ﴿ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [النجم: ٢٣] تَعْلِيلٌ لِمَعْنى القَصْرِ بِطَرِيقَةِ الِاكْتِفاءِ؛ لِأنَّ كَوْنَها لا حَقائِقَ لَها في عالَمِ الشَّهادَةِ أمْرٌ مَحْسُوسٌ إذْ لَيْسَتْ إلّا حِجارَةً. وأمّا كَوْنُها لا حَقائِقَ لَها مِن عالَمِ الغَيْبِ فَلِأنَّ عالَمَ الغَيْبِ لا طَرِيقَ إلى إثْباتِ ما يَحْتَوِيهِ إلّا بِإعْلامٍ مِن عالَمِ الغَيْبِ سُبْحانَهُ، أوْ بِدَلِيلِ العَقْلِ كَدَلالَةِ العالَمِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ وبَعْضِ صِفاتِهِ، واللَّهُ لَمْ يُخْبِرْ أحَدًا مِن رُسُلِهِ بِأنَّ لِلْأصْنامِ أرْواحًا أوْ مَلائِكَةً، مِثْلَ ما أخْبَرَ عَنْ حَقائِقِ المَلائِكَةِ والجِنِّ والشَّياطِينِ. والسُّلْطانُ: الحُجَّةُ، وإنْزالُها مِنَ اللَّهِ: الإخْبارُ بِها، وهَذا كِنايَةٌ عَنِ انْتِفاءِ أنْ تَكُونَ عَلَيْها حُجَّةٌ؛ لِأنَّ وُجُودَ الحُجَّةِ يَسْتَلْزِمُ ظُهُورَها، فَنَفْيُ إنْزالِ الحُجَّةِ بِها مِن بابِ: ؎عَلى لاحِبٍ لا يُهْتَدى بِمَنارِهِ، أيْ: لا مَنارَ لَهُ فَيُهْتَدى بِهِ. وعَبَّرَ عَنِ الإخْبارِ المُوحى بِهِ بِفِعْلِ ”أنْزَلَ“؛ لِأنَّهُ إخْبارٌ يَرِدُ مِنَ العالَمِ العُلْوِيِّ فَشُبِّهَ بِإدْلاءِ جِسْمٍ مِن أعْلى إلى أسْفَلَ. وكَذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ إقامَةِ دَلائِلِ الوُجُودِ بِالإنْزالِ؛ لِأنَّ النَّظَرَ الفِكْرِيَّ مِن خَلْقِ اللَّهِ فَشُبِّهَ بِالإنْزالِ كَقَوْلِهِ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: ٤]، فاسْتِعْمالُ ﴿ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [النجم: ٢٣] مِنِ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في مَعْنَيَيْهِ المَجازِيَّيْنِ. وفي مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وما لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ﴾ [الحج: ٧١] في سُورَةِ الحَجِّ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ يُوسُفَ قَوْلُهُ ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إلّا أسْماءً سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [يوسف: ٤٠] . وأكَّدَ نَفْيَ إنْزالِ السُّلْطانِ بِحَرْفِ مِن الزّائِدَةِ لِتَوْكِيدِ نَفْيِ الجِنْسِ.