ركن التفسير
39 - (وأن) أنه (ليس للإنسان إلا ما سعى) من خير فليس له من سعى غيره للخير شيء
أي كما لا يحمل عليه وزر غيره كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه ومن وهذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولو كان خيرا لسبقونا إليه وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما. وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية من بعده أو علم ينتفع به" فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله كما جاء في الحديث "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه وقد قال تعالى "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" الآية والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله وثبت في الصحيح "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا".
﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ . عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ألّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَيَصِحُّ أنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلى المَجْرُورِ بِالباءِ فَتَكُونَ (أنْ) مُخَفِّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلى ألّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَتَكُونَ ”أنْ“ تَفْسِيرِيَّةً، وعَلى كِلا الِاحْتِمالَيْنِ تَكُونُ ”أنْ“ تَأْكِيدًا لِنَظِيرَتِها في المَعْطُوفِ عَلَيْها. وتَعْرِيفُ الإنْسانِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، ووُقُوعُهُ في سِياقِ النَّفْيِ يُفِيدُ العُمُومَ، والمَعْنى: لا يَخْتَصُّ بِهِ إلّا ما سَعاهُ. والسَّعْيُ: العَمَلُ والِاكْتِسابُ، وأصْلُ السَّعْيِ: المَشْيُ، فَأُطْلِقَ عَلى العَمَلِ مَجازًا مُرْسَلًا أوْ كِنايَةً. والمُرادُ هُنا عَمَلُ الخَيْرِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ لامِ الِاخْتِصاصِ وبِأنْ جُعِلَ مُقابِلًا لِقَوْلِهِ ﴿ألّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [النجم: ٣٨] . والمَعْنى: لا تَحْصُلُ لِأحَدٍ فائِدَةُ عَمَلٍ إلّا ما عَمِلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلا يَكُونُ لَهُ عَمَلُ غَيْرِهِ، ولامُ الِاخْتِصاصِ يُرَجِّحُ أنَّ المُرادَ ما سَعاهُ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ، وبِذَلِكَ يَكُونُ ذِكْرُ هَذا تَتْمِيمًا لِمَعْنى ﴿ألّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [النجم: ٣٨]، احْتِراسًا مِن أنْ يَخْطُرَ بِالبالِ أنَّ المَدْفُوعَ عَنْ غَيْرِ فاعِلِهِ هو الوِزْرُ، وأنَّ الخَيْرَ يَنالُ غَيْرَ فاعِلِهِ. ومَعْنى الآيَةِ مَحْكِيٌّ في القُرْآنِ عَنْ إبْراهِيمَ في قَوْلِهِ عَنْهُ ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩] . وهَذِهِ الآيَةُ حِكايَةٌ عَنْ شَرْعَيْ إبْراهِيمَ ومُوسى، وإذْ قَدْ تَقَرَّرَ أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لَنا ما لَمْ يَرِدْ ناسِخٌ، تَدُلُّ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ عَمَلَ أحَدٍ لا يُجْزِئُ عَنْ أحَدٍ (p-١٣٣)فَرْضًا أوْ نَفْلًا عَلى العَيْنِ، وأمّا تَحَمُّلُ أحَدٌ حَمالَةً لِفِعْلٍ فَعَلَهُ غَيْرُهُ مِثْلِ دِياتِ القَتْلِ الخَطَإ فَذَلِكَ مِنَ المُؤاساةِ المَفْرُوضَةِ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ ومَحْمَلِها: فَعَنْ عِكْرِمَةَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ حِكايَةٌ عَنْ شَرِيعَةٍ سابِقَةٍ فَلا تَلْزَمُ في شَرِيعَتِنا يُرِيدُ أنَّ شَرِيعَةَ الإسْلامِ نَسَخَتْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَبُولُ عَمَلِ أحَدٍ عَنْ غَيْرِهِ مِن خَصائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ. وعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ أنَّهُ تَأوَّلَ الإنْسانَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ بِالإنْسانِ الكافِرِ، وأمّا المُؤْمِنُ فَلَهُ سَعْيُهُ وما يَسْعى لَهُ غَيْرُهُ. ومِنَ العُلَماءِ مَن تَأوَّلَ الآيَةَ عَلى أنَّها نَفَتْ أنْ تَكُونَ لِلْإنْسانِ فائِدَةُ ما عَمِلَهُ غَيْرُهُ، إذا لَمْ يَجْعَلِ السّاعِي عَمَلَهُ لِغَيْرِهِ. وكَأنَّ هَذا يَنْحُو إلى أنَّ اسْتِعْمالَ ”سَعى“ في الآيَةِ مِنِ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ العَقْلِيَّيْنِ. ونَقَلَ ابْنُ الفَرَسِ: أنَّ مِنَ العُلَماءِ مَن حَمَلَ الآيَةَ عَلى ظاهِرِها وأنَّهُ لا يَنْتَفِعُ أحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ، ويُؤْخَذُ مِن كَلامِ ابْنِ الفَرَسِ أنَّ مِمَّنْ قالَ بِذَلِكَ الشّافِعِيَّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ بِصِحَّةِ الإجارَةِ عَلى الحَجِّ. واعْلَمْ أنَّ أدِلَّةَ لِحاقِ ثَوابِ بَعْضِ الأعْمالِ إلى غَيْرِ مَن عَمِلَها ثابِتَةٌ عَلى الجُمْلَةِ وإنَّما تَتَرَدَّدُ الأنْظارُ في التَّفْصِيلِ أوِ التَّعْمِيمِ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى ”والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهم ذُرِّيَّتُهم بِإيمانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ وما ألَتْناهم مِن عَمَلِهِمْ مِن شَيْءٍ“، وقَدْ بَيَّناهُ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ. وقالَ تَعالى ﴿ادْخُلُوا الجَنَّةَ أنْتُمْ وأزْواجُكم تُحْبَرُونَ﴾ [الزخرف: ٧٠]، فَجَعَلَ أزْواجَ الصّالِحِينَ المُؤْمِناتِ وأزْواجَ الصّالِحاتِ المُؤْمِنِينَ يَتَمَتَّعُونَ في الجَنَّةِ مَعَ أنَّ التَّفاوُتَ بَيْنَ الأزْواجِ في الأعْمالِ ضَرُورِيٌّ وقَدْ بَيَّناهُ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «إذا ماتَ الإنْسانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلّا مِن ثَلاثَةٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ ولَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وهو عامٌّ في كُلِّ ما يَعْمَلُهُ الإنْسانُ، ومِعْيارُ عُمُومِهِ الِاسْتِثْناءُ فالِاسْتِثْناءُ دَلِيلٌ عَنْ أنَّ المُسْتَثْنَياتِ الثَّلاثَةَ هي مِن عَمَلِ الإنْسانِ. وقالَ عِياضٌ في الإكْمالِ هَذِهِ الأشْياءُ لَمّا كانَ هو سَبَبَها فَهي (p-١٣٤)مِنِ اكْتِسابِهِ. قُلْتُ: وذَلِكَ في الصَّدَقَةِ الجارِيَةِ وفي العِلْمِ الَّذِي بَثُّهُ ظاهِرٌ، وأمّا في دُعاءِ الوَلَدِ الصّالِحِ لِأحَدِ أبَوَيْهِ فَقالَ النَّوَوِيُّ؛ لِأنَّ الوَلَدَ مِن كَسْبِهِ. قالَ الأُبِّيُّ: الحَدِيثُ ”ولَدُ الرَّجُلِ مِن كَسْبِهِ“ فاسْتِثْناءُ هَذِهِ الثَّلاثَةِ مُتَّصِلٌ. وثَبَتَتْ أخْبارٌ صِحاحٌ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ تَدُلُّ عَلى أنَّ عَمَلَ أحَدٍ عَنْ آخَرَ يُجْزِي عَنِ المَنُوبِ عَنْهُ، فَفي المُوَطَّإ حَدِيثُ الفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ «أنَّ امْرَأةً مِن خَثْعَمَ سَألَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلى عِبادِهِ في الحَجِّ أدْرَكْتُ أبِي شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ عَلى الرّاحِلَةِ أفَيُجْزِئُ أنْ أحُجَّ عَنْهُ ؟ قالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهُ» . وفي قَوْلِها: لا يَثْبُتُ عَلى الرّاحِلَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ حَجَّها عَنْهُ كانَ نافِلَةً. وفِي كِتابِ أبِي داوُدَ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ «أنَّ امْرَأةً أتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: إنَّ أُمِّي ماتَتْ وعَلَيْها صَوْمُ شَهْرٍ أفَيُجْزِئُ أوْ يَقْضِي عَنْها أنْ أصُومَ عَنْها ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَتْ: وإنَّها لَمْ تَحُجَّ أفَيُجْزِئُ أوْ يَقْضِي أنْ أحُجَّ عَنْها ؟ قالَ: نَعَمْ» . وفِيهِ أيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ أفَيَنْفَعُها إنْ تَصَدَّقْتُ عَنْها ؟ قالَ: نَعَمْ» . وفِي «حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العاصِ وقَدْ أعْتَقَ أخُوهُ هِشامٌ عَنْ أبِيهِمُ العاصِ بْنِ وائِلٍ عَبِيدًا فَسَألَ عَمْرٌو رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ أنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِ أخِيهِ فَقالَ لَهُ لَوْ كانَ أبُوكَ مُسْلِمًا فَأعْتَقْتُمْ عَنْهُ أوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ» . ورُوِيَ أنَّ عائِشَةَ أعْتَقَتْ عَنْ أخِيها عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَ مَوْتِهِ رِقابًا واعْتَكَفَتْ عَنْهُ. وفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرٍ وابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُما أفْتَيا امْرَأةً جَعَلَتْ أُمُّها عَلى نَفْسِها صَلاةً بِمَسْجِدِ قُباءَ ولَمْ تَفِ بِنَذْرِها أنْ تُصَلِّيَ عَنْها بِمَسْجِدِ قُباءَ. «وأمَرَ النَّبِيءُ ﷺ سَعْدَ بْنَ عُبادَةَ أنْ يَقْضِيَ نَذْرًا نَذَرَتْهُ أُمُّهُ، قِيلَ كانَ عِتْقًا، وقِيلَ صَدَقَةً، وقِيلَ نَذْرًا مُطْلَقًا» . (p-١٣٥)وقَدْ كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ وما ثَبَتَ مِنَ الأخْبارِ مَجالًا لِأنْظارِ الفُقَهاءِ في الجَمْعِ بَيْنِهُما والأخْذِ بِظاهِرِ الآيَةِ وفي الِاقْتِصارِ عَلى نَوْعِ ما ورَدَ فِيهِ الإذْنُ مِنَ النَّبِيءِ ﷺ أوِ القِياسِ عَلَيْهِ. ومِمّا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ أنْ تَعْلَمَ أنَّ التَّكالِيفَ الواجِبَةَ عَلى العَيْنِ فَرْضًا أوْ سُنَّةً مُرَتَّبَةَ المَقْصِدِ مِن مُطالَبَةِ المُكَلَّفِ بِها ما يَحْصُلُ بِسَبَبِها مِن تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ لِيَكُونَ جُزْءًا صالِحًا فَإذا قامَ بِها غَيْرُهُ عَنْهُ فاتَ المَقْصُودُ مِن مُخاطَبَةِ أعْيانِ المُسْلِمِينَ بِها، وكَذا اجْتِنابُ المَنهِيّاتِ لا تُتَصَوَّرُ فِيها النِّيابَةُ؛ لِأنَّ الكَفَّ لا يَقْبَلُ التَّكَرُّرَ فَهَذا النَّوْعُ لَيْسَ لِلْإنْسانِ فِيهِ إلّا ما سَعى ولا تُجْزِئُ فِيهِ نِيابَةُ غَيْرِهِ عَنْهُ في أدائِها فَأمّا الإيمانُ فَأمْرُهُ بَيِّنٌ؛ لِأنَّ ماهِيَّةَ الإيمانِ لا يُتَصَوَّرُ فِيها التَّعَدُّدُ بِحَيْثُ يُؤْمِنُ أحَدٌ عَنْ نَفْسِهِ ويُؤْمِنُ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ إذا اعْتَقَدَ اعْتِقادًا جازِمًا فَقَدْ صارَ ذَلِكَ إيمانَهُ. قالَ ابْنُ الفَرَسِ في أحْكامِ القُرْآنِ: أجْمَعُوا عَلى أنَّهُ لا يُؤْمِنُ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ. وأمّا ما عَدا الإيمانَ مِن شَرائِعِ الإسْلامِ الواجِبَةِ، فَأمّا ما هو مِنها مِن عَمَلِ الأبْدانِ فَلَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى مِنهُ ولا يُجْزِئُ عَنْهُ سَعْيُ غَيْرِهِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الأُمُورِ العَيْنِيَّةِ المُطالَبِ بِها المَرْءُ بِنَفْسِهِ هو ما فِيها مِن تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وارْتِياضِها عَلى الخَيْرِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا. ومِثْلُ ذَلِكَ الرَّواتِبُ مِنَ النَّوافِلِ والقُرُباتِ حَتّى يَصْلُحَ الإنْسانُ ويَرْتاضَ عَلى مُراقَبَةِ رَبِّهِ بِقَلْبِهِ وعَمَلِهِ والخُضُوعِ لَهُ تَعالى لِيَصْلُحَ بِصَلاحِ الأفْرادِ صَلاحُ مَجْمُوعِ الأُمَّةِ، والنِّيابَةُ تُفِيتُ هَذا المَعْنى. فَما كانَ مِن أفْعالِ الخَيْرِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِالطَّلَبِ كالقُرَبِ النّافِلَةِ فَإنَّ فِيهِ مَقْصِدَيْنِ: مَقْصِدٌ مُلْحَقٌ بِالمَقْصِدِ الَّذِي في الأعْمالِ المُعَيَّنَةِ بِالطَّلَبِ، ومَقْصِدُ تَكْثِيرِ الخَيْرِ في جَماعَةِ المُسْلِمِينَ بِالأعْمالِ والأقْوالِ الصّالِحَةِ وهَذا الِاعْتِبارُ الثّانِي لا تُفِيتُهُ النِّيابَةُ. والتَّفْرِقَةُ بَيْنَ ما كانَ مِن عَمَلِ الإنْسانِ بِبَدَنِهِ وما كانَ مِن عَمَلِهِ بِمالِهِ لا أراهُ فَرْقًا مُؤَثِّرًا في هَذا البابِ، فالوَجْهُ اطِّرادُ القَوْلِ في كِلا النَّوْعَيْنِ بِقُبُولِ النِّيابَةِ أوْ بِعَدَمِ قَبُولِها: مِن صَدَقاتٍ وصِيامٍ ونَوافِلِ الصَّلَواتِ وتَجْهِيزِ الغُزاةِ لِلْجِهادِ غَيْرِ المُتَعَيِّنِ عَلى المُسْلِمِ المُجَهِّزِ بِكَسْرِ الهاءِ ولا عَلى المُجَهَّزِ بِفَتْحِ الهاءِ، والكَلِماتِ (p-١٣٦)الصّالِحَةِ في قِراءَةِ القُرْآنِ وتَسْبِيحٍ وتَحْمِيدٍ ونَحْوِهِما وصَلاةٍ عَلى النَّبِيءِ ﷺ وبِهَذا يَكُونُ تَحْرِيرُ مَحَلِّ ما ذَكَرَهُ ابْنُ الفَرَسِ مِنَ الخِلافِ في نَقْلِ عَمِلِ أحَدٍ إلى غَيْرِهِ. قالَ النَّوَوِيُّ الدُّعاءُ يَصِلُ ثَوابُهُ إلى المَيِّتِ وكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وهُما مُجْمَعٌ عَلَيْهِما. وكَذَلِكَ قَضاءُ الدَّيْنِ اهـ. وحَكى ابْنُ الفَرَسِ مِثْلَ ذَلِكَ، والخِلافُ بَيْنَ عُلَماءِ الإسْلامِ فِيما عَدا ذَلِكَ. وقالَ مالِكٌ: يُتَطَوَّعُ عَنِ المَيِّتِ فَيُتَصَدَّقُ عَنْهُ أوْ يُعْتَقُ عَنْهُ أوْ يُهْدى عَنْهُ، وأمّا مَن كانَ مِنَ القُرَبِ الواجِبَةِ مُرَكَّبًا مِن عَمِلِ البَدَنِ وإنْفاقِ المالِ مِثْلَ الحَجِّ والعُمْرَةِ والجِهادِ فَقالَ الباجِيُّ: حَكى القاضِي عَبْدُ الوَهّابِ عَنِ المَذْهَبِ أنَّها تَصِحُّ النِّيابَةُ فِيها وقالَ ابْنُ القَصّارِ: لا تَصِحُّ النِّيابَةُ فِيها. وهو المُشْتَهِرُ مِن قَوْلِ مالِكٍ، ومَبْنى اخْتِلافِهِما أنَّ مالِكًا كَرِهَ أنْ يَحُجَّ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ إلّا أنَّهُ إنْ أوْصى بِذَلِكَ نَفَذَتْ وصِيَّتُهُ ولا تُسْقِطُ الفَرْضَ. ورَجَّحَ الباجِيُّ القَوْلَ بِصِحَّةِ النِّيابَةِ في ذَلِكَ بِأنَّ مالِكًا أمْضى الوَصِيَّةَ بِذَلِكَ، وقالَ: لا يُسْتَأْجَرُ لَهُ إلّا مَن حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَلا يَحُجُّ عَنْهُ صَرُورَةٌ، فَلَوْلا أنَّ حَجَّ الأجِيرِ عَلى وجْهِ النِّيابَةِ عَنِ المُوصِي لَما اعْتُبِرَتْ صِفَةُ المُباشِرِ بِالحَجِّ. قالَ ابْنُ الفَرَسِ: أجازَ مالِكٌ الوَصِيَّةَ بِالحَجِّ الفَرْضِ، ورَأى أنَّهُ إذا أوْصى بِذَلِكَ فَهو مِن سَعْيِهِ. والمُحَرَّرُ مِن مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةِ صِحَّةُ النِّيابَةِ في الحَجِّ لِغَيْرِ القادِرِ بِشَرْطِ دَوامِ عَجْزِهِ إلى المَوْتِ فَإنْ زالَ عَجْزُهُ وجَبَ عَلَيْهِ الحَجُّ بِنَفْسِهِ، وقَدْ يُنْقَلُ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ ذَلِكَ في كُتُبِ المالِكِيَّةِ. وجَوَّزَ الشّافِعِيُّ الحَجَّ عَنِ المَيِّتِ ووَصِيَّةَ المَيِّتِ بِالحَجِّ عَنْهُ. قالَ ابْنُ الفَرَسِ: ولِلشّافِعِيِّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ أنَّهُ لا يَجُوزُ واحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ اهـ. ومَذْهَبُ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ جَوازُهُ ولا تَجِبُ عَلَيْهِ إعادَةُ الحَجِّ إنْ زالَ عُذْرُهُ. وأمّا القُرَبُ غَيْرُ الواجِبَةِ وغَيْرُ الرَّواتِبِ مِن جَمِيعِ أفْعالِ البَرِّ والنَّوافِلِ؛ فَأمّا الحَجُّ عَنْ غَيْرِ المُسْتَطِيعِ فَقالَ الباجِيُّ: قالَ ابْنُ الجَلّابِ في التَّفْرِيعِ يُكْرَهُ أنْ (p-١٣٧)يُسْتَأْجَرُ مَن يَحُجُّ عَنْهُ فَإنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُفْسَخْ وقالَ ابْنُ القَصّارِ: ”يَجُوزُ ذَلِكَ في المَيِّتِ دُونَ المَعْضُوبِ“ وهو العاجِزُ عَنِ النُّهُوضِ. وقالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَدْ جاءَتِ الرُّخْصَةُ في ذَلِكَ عَنِ الكَبِيرِ الَّذِي لا يَنْهَضُ وعَنِ المَيِّتِ أنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ ابْنُهُ وإنْ لَمْ يُوصِ بِهِ. وقالَ الأُبِّيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ: ذُكِرَ أنَّ الشَّيْخَ ابْنَ عَرَفَةَ عامَ حَجَّ اشْتَرى حَجَّةً لِلسُّلْطانِ أبِي العَبّاسِ الحَفْصِيِّ عَلى مَذْهَبِ المُخالِفِ، أيْ: خِلافًا لِمَذْهَبِ مالِكٍ. وأمّا الصَّلاةُ والصِّيامُ فَسُئِلَ مالِكٌ عَنِ الحَجِّ عَنِ المَيِّتِ فَقالَ: أمّا الصَّلاةُ والصِّيامُ والحَجُّ عَنْهُ فَلا نَرى ذَلِكَ. وقالَ في المُدَوَّنَةِ: يُتَطَوَّعُ عَنْهُ بِغَيْرِ هَذا أحَبُّ إلَيَّ: يُهْدى عَنْهُ، أوْ يُعْتَقُ عَنْهُ. قالَ الباجِيُّ: فَفَصَلَ بَيْنَها وبَيْنَ النَّفَقاتِ. وقالَ الشّافِعِيُّ في أحَدِ قَوْلِهِ: لا يَصِلُهُ ثَوابُ الصَّلَواتِ التَّطَوُّعِ وسائِرِ التَّطَوُّعاتِ. قالَ صاحِبُ التَّوْضِيحِ مِنَ الشّافِعِيَّةِ: وعِنْدَنا يَجُوزُ الِاسْتِنابَةُ في حُجَّةِ التَّطَوُّعِ عَلى أصَحِّ القَوْلَيْنِ، وقالَ أحْمَدُ: يَصِلُهُ ثَوابُ الصَّلَواتِ وسائِرِ التَّطَوُّعاتِ. والمَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ: أنَّ قِراءَةَ القُرْآنِ واهِداءَ ثَوابِها لِلْمَيِّتِ لا يَصِلُهُ ثَوابُها، وقالَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وكَثِيرٌ مِن أصْحابِ الشّافِعِيِّ يَصِلُهُ ثَوابُها. وحَكى ابْنُ الفَرَسِ عَنْ مَذْهَبِ مالِكٍ: أنَّ مَن قَرَأ ووَهَبَ ثَوابَ قِراءَتِهِ لِمَيِّتٍ جازَ ذَلِكَ ووَصَلَ لِلْمَيِّتِ أجْرُهُ ونَفْعُهُ، فَما يُنْسَبُ إلى مالِكٍ مِن عَدَمِ جَوازِ إهْداءِ ثَوابِ القِراءَةِ في كُتُبِ المُخالِفِينَ غَيْرُ مُحَرِّرٍ. وقَدْ ورَدَ في حَدِيثِ عائِشَةَ قالَتْ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَوِّذُ نَفْسَهُ بِالمُعَوِّذاتِ فَلَمّا ثَقُلَ بِهِ المَرَضُ كُنْتُ أنا أُعَوِّذُهُ بِهِما وأضَعُ يَدَهُ عَلى جَسَدِهِ رَجاءَ بَرَكَتِها» فَهَلْ قِراءَةُ المُعَوِّذَتَيْنِ إلّا نِيابَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيما كانَ يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ، فَإذا صَحَّتِ النِّيابَةُ في التَّعَوُّذِ والتَّبَرُّكِ بِالقُرْآنِ فَلِماذا لا تَصِحُّ في ثَوابِ القِراءَةِ. (p-١٣٨)واعْلَمْ أنَّ هَذا كُلَّهُ في تَطَوُّعِ أحَدٍ عَنْ أحَدٍ بِقُرْبَةٍ، وأمّا الِاسْتِئْجارُ عَلى النِّيابَةِ في القُرَبِ: فَأمّا الحَجُّ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ جَوازَ الِاسْتِئْجارِ بِوَصِيَّةٍ، أوْ بِغَيْرِها،؛ لِأنَّ الإنْفاقَ مِن مُقَوِّماتِ الحَجِّ، ويَظْهَرُ أنَّ كُلَّ عِبادَةٍ لا يَجُوزُ أخْذُ فاعِلِها أُجْرَةً عَلى فِعْلِها كالصَّلاةِ والصَّوْمِ لا يَصِحُّ الِاسْتِئْجارُ عَلى الِاسْتِنابَةِ فِيها، وأنَّ القُرَبَ الَّتِي يَصِحُّ أخْذُ الأجْرِ عَلَيْها يَصِحُّ الِاسْتِئْجارُ عَلى النِّيابَةِ فِيها مِثْلَ قِراءَةِ القُرْآنِ، فَقَدَ «أقَرَّ النَّبِيءُ ﷺ فِعْلَ الَّذِينَ أخَذُوا أجْرًا عَلى رُقْيَةِ المَلْدُوغِ بِفاتِحَةِ الكِتابِ» . وإذا عَلِمْتَ هَذا كُلَّهُ فَقَوْلُهُ تَعالى ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ هو حُكْمٌ كانَ في شَرِيعَةٍ سالِفَةٍ، فالقائِلُونَ بِأنَّهُ لا يَنْسَحِبُ عَلَيْنا لَمْ يَكُنْ فِيما ورَدَ مِنَ الأخْبارِ بِصِحَّةِ النِّيابَةِ في الأعْمالِ في دِينِنا مَعارِضٌ لِمُقْتَضى الآيَةِ، والقائِلُونَ بِأنَّ شَرْعَ غَيْرِنا شَرْعٌ لَنا ما لَمْ يَرِدْ ناسِخٌ، مِنهم مَن أعْمَلَ عُمُومَ الآيَةِ وتَأوَّلَ الأخْبارَ المُعارِضَةَ لَها بِالخُصُوصِيَّةِ، ومِنهم مَن جَعَلَها مُخَصِّصَةً لِلْعُمُومِ، أوْ ناسِخَةً، ومِنهم مَن تَأوَّلَ ظاهِرَ الآيَةِ بِأنَّ المُرادَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَعْتَمِدُ عَلى عَمَلِهِ، أوْ تَأوَّلَ السَّعْيَ بِالنِّيَّةِ. وتَأوَّلَ اللّامَ في قَوْلِهِ لِلْإنْسانِ بِمَعْنى عَلى، أوْ لَيْسَ عَلَيْهِ سَيِّئاتُ غَيْرِهِ. وفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ مِنَ الكَشّافِ: أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طاهِرٍ قالَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ الفَضْلِ: أُشْكِلَتْ عَلَيَّ ثَلاثُ آياتٍ. فَذَكَرَ لَهُ مِنها قَوْلَهُ تَعالى ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ فَما بالُ الأضْعافِ، أيْ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَيُضاعِفَهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥]، فَقالَ الحُسَيْنُ: مَعْناهُ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلّا ما سَعى عَدْلًا، ولِي أنْ أُجْزِيَهُ بِواحِدَةٍ ألْفًا فَضْلًا.