ركن التفسير
58 - (ليس لها من دون الله) نفس (كاشفة) أي لا يكشفها إلآ هو كقوله لا يجليها إلا هو
أي لا يدفعها إذا من دون الله أحد ولا يطلع على علمها سواه والنذير الحذر لما يعاين من الشر الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم كما قال "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" وفي الحديث "أنا النذير العريان" أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئا بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عريانا مسرعا وهو مناسب لقوله "أزفت الآزفة" أي اقتربت القريبة يعني يوم القيامة كما قال في أول السورة التي بعدها "اقتربت الساعة" وقال الإمام أحمد حدثنا أنس بن عياض حدثني أبو حاتم لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكة" وقال أبو حازم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو نضرة لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال "مثلي ومثل الساعة كهاتين" وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم قال "مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان" ثم قال "مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه أتيتم أتيتم" ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا ذلك" وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان.
﴿أزِفَتِ الآزِفَةُ﴾ ﴿لَيْسَ لَها مِن دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ﴾ . تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الجُمْلَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلِها مَنزِلَةَ البَيانِ لِلْإنْذارِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ﴿هَذا نَذِيرٌ﴾ [النجم: ٥٦] . فالمَعْنى: هَذا نَذِيرٌ بِآزِفَةٍ قَرُبَتْ، وفي ذِكْرِ فِعْلِ القُرْبِ فائِدَةٌ أُخْرى زائِدَةٌ عَلى البَيانِ وهي أنَّ المُنْذَرَ بِهِ دَنا وقْتُهُ، فَإنَّ: أزِفَ مَعْناهُ: قَرُبَ وحَقِيقَتُهُ لِقُرْبِ المَكانِ، واسْتُعِيرَ لِقُرْبِ الزَّمانِ لِكَثْرَةِ ما يُعامِلُونَ الزَّمانَ مُعامَلَةَ المَكانِ. والتَّنْبِيهُ عَلى قُرْبِ المُنْذَرِ بِهِ مِن كَمالِ الإنْذارِ لِلْبِدارِ بِتَجَنُّبِ الوُقُوعِ فِيما يُنْذَرُ بِهِ. وجِيءَ لِفِعْلِ أزِفَتِ بِفاعِلٍ مِن مادَّةِ الفِعْلِ لِلتَّهْوِيلِ عَلى السّامِعِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ في تَعْيِينِ هَذِهِ المُحادَثَةِ الَّتِي أزِفَتْ، ومَعْلُومٌ أنَّها مِنَ الأُمُورِ المَكْرُوهَةِ لِوُرُودِ ذِكْرِها عَقِبَ ذِكْرِ الإنْذارِ. وتَأْنِيثُ الآزِفَةُ بِتَأْوِيلِ الوَقْعَةِ، أوِ الحادِثَةِ كَما يُقالُ: نَزَلَتْ بِهِ نازِلَةٌ، أوْ (p-١٥٩)وقَعَتِ الواقِعَةُ، وغَشِيَتْهُ غاشِيَةٌ، والعَرَبُ يَسْتَعْمِلُونَ التَّأْنِيثَ دَلالَةً عَلى المُبالَغَةِ في النَّوْعِ، ولَعَلَّهم راعَوْا أنَّ الأُنْثى مَصْدَرُ كَثْرَةِ النَّوْعِ. والتَّعْرِيفُ في الآزِفَةُ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، ومِنهُ زِيادَةُ تَهْوِيلٍ بِتَمْيِيزِ هَذا الجِنْسِ مِن بَيْنِ الأجْناسِ؛ لِأنَّ في اسْتِحْضارِهِ زِيادَةَ تَهْوِيلٍ؛ لِأنَّهُ حَقِيقٌ بِالتَّدَبُّرِ في المَخْلَصِ مِنهُ نَظِيرَ التَّعْرِيفِ في الحَمْدِ لِلَّهِ، وقَوْلِهِمْ: أرْسَلَها العِراكَ. والكَلامُ يَحْتَمِلُ آزِفَةً في الدُّنْيا مِن جِنْسِ ما أُهْلِكَ بِهِ عادٌ وثَمُودُ وقَوْمُ نُوحٍ فَهي اسْتِئْصالُهم يَوْمَ بَدْرٍ، ويَحْتَمِلُ آزِفَةً وهي القِيامَةُ. وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فالقُرْبُ مُرادٌ بِهِ التَّحَقُّقُ وعَدَمُ الِانْقِلابِ مِنها كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ﴾ [القمر: ١] وقَوْلُهُ ﴿إنَّهم يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ونَراهُ قَرِيبًا﴾ [المعارج: ٦] . وجُمْلَةُ ﴿لَيْسَ لَها مِن دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيانِيَّةٌ أوْ صِفَةٌ لِ الآزِفَةُ. وكاشِفَةٌ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرَ بِوَزْنِ فاعِلَةٍ كالعافِيَةِ، وخائِنَةِ الأعْيُنِ، ولَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ. والمَعْنى لَيْسَ لَها كَشْفٌ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْمَ فاعِلٍ قُرِنَ بِهاءِ التَّأْنِيثِ لِلْمُبالَغَةِ مِثْلَ راوِيَةٍ، وباقِعَةٍ وداهِيَةٍ، أيْ: لَيْسَ لَها كاشِفٌ قَوِيُّ الكَشْفِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُ. والكَشْفُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى التَّعْرِيَةِ مُرادٌ بِهِ الإزالَةُ مِثْلُ ويَكْشِفُ الضُّرَّ، وذَلِكَ ضِدُّ ما يُقالُ: غَشْيَةُ الضُّرِّ. فالمَعْنى: لا يَسْتَطِيعُ أحَدٌ إزالَةَ وعِيدِها غَيْرُ اللَّهِ، وقَدْ أخْبَرَ بِأنَّها واقِعَةٌ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ لَها مِن دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ﴾ كِنايَةٌ عَنْ تَحَقُّقِ وُقُوعِها. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكَشْفُ بِمَعْنى إزالَةِ الخَفاءِ، أيْ: لا يُبَيِّنُ وقْتَ الآزِفَةِ أحَدٌ لَهُ قُدْرَةٌ عَلى البَيانِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلّا هُوَ﴾ [الأعراف: ١٨٧] . فالمَعْنى: أنَّ اللَّهَ هو العالِمُ بِوَقْتِها لا يَعْلَمُهُ أحَدٌ إلّا إذا شاءَ أنْ يُطِلِعَ عَلَيْهِ أحَدًا مِن رُسُلِهِ أوْ مَلائِكَتِهِ. و﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾، أيْ: غَيْرُ اللَّهِ، و”مِن“ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِالكَوْنِ الَّذِي يُنْوى في خَبَرِ لَيْسَ في قَوْلِهِ لَها.