موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الجمعة 18 رمضان 1445 هجرية الموافق ل29 مارس 2024


الآية [85] من سورة  

وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ


ركن التفسير

85 - (وزكريا ويحيى) ابنه (وعيسى) ابن مريم يفيد أن الذرية تتناول أولاد البنت (وإلياس) ابن هارون أخي موسى (كل) منهم (من الصالحين)

وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام بأمه مريم عليها السلام فإنه لا أب له. قال ابن أبي حاتم حدثنا سهل بن يحيى العسكري حدثنا عبد الرحمن بن صالح حدثنا علي بن عابس عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي حرب بن أبي الأسود قال أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجده في كتاب الله - وقد فرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟ قال أليس تقرأ سورة الأنعام "ومن ذريته داود وسليمان" حتى بلغ "ويحيى وعيسى" قال بلى. قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال صدقت. فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه واحتجوا بقول الشاعر العربي: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأجانب وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيه أيضا لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال للحسن بن علي إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فسماه ابنا فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوز.

﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ونُوحًا هَدَيْنا مِن قَبْلُ ومِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ وأيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسى وهارُونَ وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿وزَكَرِيّا ويَحْيى وعِيسى وإلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿وإسْماعِيلَ واليَسَعَ ويُونُسَ ولُوطًا وكُلًّا فَضَّلْنا عَلى العالَمِينَ﴾ ﴿ومِن آبائِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ وإخْوانِهِمْ واجْتَبَيْناهم وهَدَيْناهم إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ . (p-٣٣٧)جُمْلَةُ ووَهَبْنا عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ آتَيْناها لِأنَّ مَضْمُونَها تَكْرِمَةٌ وتَفْضِيلٌ. ومَوْقِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ وإنْ كانَتْ مَعْطُوفَةً هو مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِلْجُمَلِ المَقْصُودِ مِنها إبْطالُ الشِّرْكِ وإقامَةُ الحُجَجِ عَلى فَسادِهِ وعَلى أنَّ الصّالِحِينَ كُلَّهم كانُوا عَلى خِلافِهِ. والوَهْبُ والهِبَةُ: إعْطاءُ شَيْءٍ بِلا عِوَضٍ، وهو هُنا مَجازٌ في التَّفَضُّلِ والتَّيْسِيرِ. ومَعْنى هِبَةِ يَعْقُوبَ لِإبْراهِيمَ أنَّهُ وُلِدَ لِابْنِهِ إسْحاقَ في حَياةِ إبْراهِيمَ وكَبِرَ وتَزَوَّجَ في حَياتِهِ فَكانَ قُرَّةَ عَيْنٍ لِإبْراهِيمَ. وقَدْ مَضَتْ تَرْجَمَةُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى وإذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ. وتَرْجَمَةُ إسْحاقَ، ويَعْقُوبَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ﴾ [البقرة: ١٣٢] وقَوْلِهِ ﴿وإلَهَ آبائِكَ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ﴾ [البقرة: ١٣٣] كُلُّ ذَلِكَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَوْلُهُ ”﴿كُلًّا هَدَيْنا﴾“ اعْتِراضٌ أيْ كُلُّ هَؤُلاءِ هَدَيْناهم يَعْنِي إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ، فَحَذَفَ المُضافَ إلَيْهِ لِظُهُورِهِ وعَوَّضَ عَنْهُ التَّنْوِينَ في كُلًّا تَنْوِينَ عِوَضٍ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ كَما هو المُخْتارُ. وفائِدَةُ ذِكْرِ هَدْيِهِما التَّنْوِيهُ بِإسْحاقَ ويَعْقُوبَ، وأنَّهُما نَبِيئانِ نالا هُدى اللَّهِ كَهَدْيِهِ إبْراهِيمَ، وفِيهِ أيْضًا إبْطالٌ لِلشِّرْكِ، ودَمْغٌ لِقُرَيْشٍ ومُشْرِكِي العَرَبِ، وتَسْفِيهٌ لَهم بِإثْباتِ أنَّ الصّالِحِينَ المَشْهُورِينَ كانُوا عَلى ضِدِّ مُعْتَقَدِهِمْ، كَما سَيُصَرَّحُ بِهِ في قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ هُدى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ولَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] . وجُمْلَةُ ”﴿ونُوحًا هَدَيْنا مِن قَبْلُ﴾“ عَطْفٌ عَلى الِاعْتِراضِ، أيْ وهَدَيْنا نُوحًا مِن قَبْلِهِمْ. وهَذا اسْتِطْرادٌ بِذِكْرِ بَعْضِ مَن أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالهُدى، وإشارَةٌ إلى أنَّ الهُدى هو الأصْلُ، ومِن أعْظَمِ الهُدى التَّوْحِيدُ كَما عَلِمْتَ. (p-٣٣٨)وانْتَصَبَ نُوحًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ عَلى هَدَيْنا لِلِاهْتِمامِ، و”مِن قَبْلُ“ حالٌ مِن ”نُوحًا“ . وفائِدَةُ ذِكْرِ هَذا الحالِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ الهِدايَةَ مُتَأصِّلَةٌ في أُصُولِ إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ. وبُنِيَ قَبْلُ عَلى الضَّمِّ، عَلى ما هو المَعْرُوفُ في (قَبْلُ) وأخَواتِ غَيْرٍ مِن حَذْفِ ما يُضافُ إلَيْهِ قَبْلُ ويُنْوى مَعْناهُ دُونَ لَفْظِهِ. وتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ نُوحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا﴾ [آل عمران: ٣٣] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وقَوْلُهُ ”مِن ذُرِّيَّتِهِ“ حالٌ مِن ”داوُدَ“، وداوُدُ مَفْعُولُ هَدَيْنا مَحْذُوفًا. وفائِدَةُ هَذا الحالِ التَّنْوِيهُ بِهَؤُلاءِ المَعْدُودِينَ بِشَرَفِ أصْلِهِمْ وبِأصْلِ فَضْلِهِمْ، والتَّنْوِيهُ بِإبْراهِيمَ أوْ بِنُوحٍ بِفَضائِلِ ذُرِّيَّتِهِ. والضَّمِيرُ المُضافُ إلَيْهِ عائِدٌ إلى نُوحٍ لا إلى إبْراهِيمَ لِأنَّ نُوحًا أقْرَبُ مَذْكُورٍ، ولِأنَّ لُوطًا مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، ولَيْسَ مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ حَسْبَما جاءَ في كِتابِ التَّوْراةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لُوطٌ عُومِلَ مُعامَلَةَ ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ لِشِدَّةِ اتِّصالِهِ بِهِ، كَما يَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ ذِكْرُ اسْمِهِ بَعْدَ انْتِهاءِ أسْماءِ مَن هم مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ مَنصُوبًا عَلى المَدْحِ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ لا عَلى العَطْفِ. وداوُدُ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِن تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى وقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. ونُكْمِلُها هُنا بِأنَّهُ داوُدُ بْنُ يِسِّي مِن سِبْطِ يَهُوذا مِن بَنِي إسْرائِيلَ. وُلِدَ بِقَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ سَنَةَ ١٠٨٥ قَبْلَ المَسِيحِ، وتُوُفِّيَ في أُورَشْلِيمَ سَنَةَ ١٠١٥ . وكانَ في شَبابِهِ راعِيًا لِغَنَمِ أبِيهِ. ولَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّغَمِ والعَزْفِ والرَّمْيِ بِالمِقْلاعِ. فَأوْحى اللَّهُ إلى (شَمْوِيلَ) نَبِيءِ بَنِي إسْرائِيلَ أنْ يُبارِكَ داوُدَ بْنَ يِسِّي، ويَمْسَحَهُ بِالزَّيْتِ المُقَدَّسِ لِيَكُونَ مَلِكًا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، عَلى حَسَبِ تَقالِيدِ بَنِي إسْرائِيلَ إنْباءً بِأنَّهُ سَيَصِيرُ مَلِكًا عَلى إسْرائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ (شاوُلَ) الَّذِي غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَلَمّا مَسَحَهُ (شَمْوِيلُ) في قَرْيَةِ بَيْتِ لَحْمٍ دُونَ أنْ يَعْلَمَ أحَدٌ (p-٣٣٩)خَطَرَ لِشاوُلَ - وكانَ مَرِيضًا - أنْ يَتَّخِذَ مَن يَضْرِبُ لَهُ بِالعُودِ عِنْدَما يَعْتادُهُ المَرَضُ، فَصادَفَ أنِ اخْتارُوا لَهُ داوُدَ فَألْحَقَهُ بِأهْلِ مَجْلِسِهِ لِيَسْمَعَ أنْغامَهُ. ولَمّا حارَبَ جُنْدُ (شاوُلَ) الكَنْعانِيِّينَ كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ، كانَ النَّصْرُ لِلْإسْرائِيلِيِّينَ بِسَبَبِ داوُدَ إذْ رَمى البَطَلَ الفِلَسْطِينِيَّ (جالُوتَ) بِمِقْلاعِهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَصَرَعَهُ وقَطَعَ رَأْسَهُ، فَلِذَلِكَ صاهَرَهُ (شاوُلُ) بِابْنَتِهِ (مِيكالَ)، ثُمَّ إنَّ (شاوُلَ) تَغَيَّرَ عَلى داوُدَ، فَخَرَجَ داوُدُ إلى بِلادِ الفِلَسْطِينِيِّينَ وجَمَعَ جَماعَةً تَحْتَ قِيادَتِهِ، ولَمّا قُتِلَ (شاوُلُ) سَنَةَ ١٠٥٥ بايَعَتْ طائِفَةٌ مِنَ الجُنْدِ الإسْرائِيلِيِّ في فِلَسْطِينَ داوُدَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ. وجَعَلَ مَقَرَّ مُلْكِهِ (حَبْرُونَ)، وبَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ قُتِلَ مَلِكُ إسْرائِيلَ الَّذِي خَلَفَ شاوُلَ فَبايَعَتِ الإسْرائِيلِيُّونَ كُلُّهم داوُدَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، ورَجَعَ إلى أُورَشْلِيمَ، وآتاهُ اللَّهُ النُّبُوءَةَ وأمَرَهُ بِكِتابَةِ الزَّبُورِ المُسَمّى عِنْدَ اليَهُودِ بِالمَزامِيرِ. وسُلَيْمانُ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ [البقرة: ١٠٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وأيُّوبُ نَبِيءٌ أثْبَتَ القُرْآنُ نُبُوءَتَهُ. ولَهُ قِصَّةٌ مُفَصَّلَةٌ في الكِتابِ المَعْرُوفِ بِكِتابِ أيُّوبَ، مِن جُمْلَةِ كُتُبِ اليَهُودِ. ويَظُنُّ بَعْضُ المُؤَرِّخِينَ أنَّ أيُّوبَ مِن ذُرِّيَّةِ (ناحُورَ) أخِي إبْراهِيمَ. وبَعْضُهم ظَنَّ أنَّهُ ابْنُ حَفِيدِ عِيسُو بْنِ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ، وفي كِتابِهِ أنَّ أيُّوبَ كانَ ساكِنًا بِأرْضِ عُوصَ وهي أرْضُ حُورانَ بِالشّامِ، وهي مَنازِلُ بَنِي عُوصِ بْنِ إرَمَ بْنِ سامِ بْنِ نُوحٍ، وهم أُصُولُ عادٍ وكانَتْ مُجاوِرَةً لِحُدُودِ بِلادِ الكِلْدانِ، وقَدْ ورَدَ ذِكْرُ البُلْدانِ في كِتابِ أيُّوبَ وبَعْضُ المُحَقِّقِينَ يَظُنُّ أنَّهُ مَن صِنْفٍ عَرَبِيٍّ وأنَّهُ مَن عُوصَ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِنِسْبَتِهِ في كِتابِهِ، والِاقْتِصارُ عَلى أنَّهُ كانَ بِأرْضِ عُوصَ الَّذِينَ هم مِنَ العَرَبِ العارِبَةِ. وزَعَمُوا أنَّ كَلامَهُ المَسْطُورَ في كِتابِهِ كانَ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ نَقَلَهُ إلى العِبْرانِيَّةِ. وبَعْضُهم يَظُنُّ أنَّ الكَلامَ المَنسُوبَ إلَيْهِ كانَ شِعْرًا تَرْجَمَهُ مُوسى في كِتابِهِ وأنَّهُ أوَّلُ شِعْرٍ عُرِفَ (p-٣٤٠)بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الأصْلِيَّةِ. وبَعْضُهم يَقُولُ: هو أوَّلُ شِعْرٍ عَرَفَهُ التّارِيخُ، ذَلِكَ لِأنَّ كَلامَهُ وكَلامَ أصْحابِهِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ عَزَّوْهُ عَلى مَصائِبِهِ جارٍ عَلى طَرِيقَةٍ شِعْرِيَّةٍ لا مَحالَةَ. ويُوسُفُ هو ابْنُ يَعْقُوبَ ويَأْتِي تَفْصِيلُ تَرْجَمَتِهِ في سُورَةِ يُوسُفَ. ومُوسى وهارُونُ وزَكَرِيّا، تَقَدَّمَتْ تَراجِمُهم في سُورَةِ البَقَرَةِ. وتَرْجَمَةُ عِيسى تَقَدَّمَتْ في سُورَةِ البَقَرَةِ وفي سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. ويَحْيى تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ في آلِ عِمْرانَ. وقَوْلُهُ ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ المُتَعاطِفاتِ، والواوُ لِلْحالِ، أيْ وكَذَلِكَ الوَهْبُ الَّذِي وهَبْنا لِإبْراهِيمَ والهَدْيُ الَّذِي هَدَيْنا ذُرِّيَّتَهُ نَجْزِي المُحْسِنِينَ مِثْلَهُ، أوْ وكَذَلِكَ الهَدْيُ الَّذِي هَدَيْنا ذُرِّيَّةَ نُوحٍ نَجْزِي المُحْسِنِينَ مِثْلَ نُوحٍ، فَعُلِمَ أنَّ نُوحًا أوْ إبْراهِيمَ مِنَ المُحْسِنِينَ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ، فَأمّا إحْسانُ نُوحٍ فَيَكُونُ مُسْتَفادًا مِن هَذا الِاعْتِراضِ، وأمّا إحْسانُ إبْراهِيمَ فَهو مُسْتَفادٌ مِمّا أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ مِن دَعْوَتِهِ قَوْمَهُ وبَذْلِهِ كُلَّ الوُسْعِ لِإقْلاعِهِمْ عَنْ ضَلالِهِمْ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ هُنا إلى الهَدْيِ المَأْخُوذِ مِن قَوْلِهِ ”هَدَيْنا“ الأوَّلِ والثّانِي، أيْ وكَذَلِكَ الهَدْيِ العَظِيمِ نَجْزِي المُحْسِنِينَ، أيْ بِمِثْلِهِ، فَيَكُونُ المُرادُ بِالمُحْسِنِينَ أُولَئِكَ المَهْدِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ أوْ مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ. فالمَعْنى أنَّهم أحْسَنُوا فَكانَ جَزاءُ إحْسانِهِمْ أنْ جَعَلْناهم أنْبِياءَ. وأمّا إلْياسُ فَهو المَعْرُوفُ في كُتُبِ الإسْرائِيلِيِّينَ باسِمِ إيلِيا، ويُسَمّى في بِلادِ العَرَبِ باسِمِ إلْياسَ أوْ (مارِ إلْياسَ) وهو إلْياسُ التَّشَبِيُّ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّهُ إلْياسُ بْنُ فِنْحاصَ بْنِ إلْعازَ، أوِ ابْنِ هارُونَ أخِي مُوسى فَيَكُونُ مِن سِبْطِ لاوِي. كانَ مَوْجُودًا في زَمَنِ المَلِكِ (آخابَ) مَلِكِ إسْرائِيلَ في (p-٣٤١)حُدُودِ سَنَةِ ثَمانِ عَشْرَةَ وتِسْعِمِائَةٍ قَبْلَ المَسِيحِ. وهو إسْرائِيلِيٌّ مِن سُكّانِ (جِلْعادَ) بِكَسْرِ الجِيمِ وسُكُونِ اللّامِ صِقْعٌ جَبَلِيٌّ في شَرْقِ الأُرْدُنِّ ومِنهُ بَعْلَبَكُّ. وكانَ إلْياسُ مِن سِبْطِ رُوبِينَ أوْ مِن سِبْطِ جادَ. وهَذانِ السِّبْطانِ هُما سُكّانُ صِقْعِ جِلْعادَ، ويُقالُ لِإلْياسَ في كُتُبِ اليَهُودِ التَّشَبِيُّ، وقَدْ أرْسَلَهُ اللَّهُ تَعالى إلى بَنِي إسْرائِيلَ لَمّا عَبَدُوا الأوْثانَ في زَمَنِ المَلِكِ (آخابَ) وعَبَدُوا (بَعْلَ) صَنَمَ الكَنْعانِيِّينَ. وقَدْ وعَظَهم إلْياسُ ولَهُ أخْبارٌ مَعَهم. أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَجْعَلَ اليَسَعَ خَلِيفَةً لَهُ في النُّبُوءَةِ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ إلْياسَ في عاصِفَةٍ إلى السَّماءِ فَلَمْ يُرَ لَهُ أثَرٌ بَعْدُ، وخَلَفَهُ اليَسَعُ في النُّبُوءَةِ في زَمَنِ المَلِكِ تَهُورامَ بْنِ آخابَ مَلِكِ إسْرائِيلَ. وقَوْلُهُ ”﴿كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ﴾“ اعْتِراضٌ. والتَّنْوِينُ في ”كُلٌّ“ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ كُلُّ هَؤُلاءِ المَعْدُودِينَ وهو يَشْمَلُ جَمِيعَ المَذْكُورِينَ إسْحاقَ ومَن بَعْدَهُ. وأمّا إسْماعِيلُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ. واليَسَعُ اسْمُهُ بِالعِبْرانِيَّةِ إلْيَشَعُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَكْسُورَةٍ ولامٍ بَعْدَها تَحْتِيَّةٌ ثُمَّ شِينٌ مُعْجَمَةٌ وعَيْنٌ، وتَعْرِيبُهُ في العَرَبِيَّةِ اليَسَعُ بِهَمْزَةِ وصْلٍ ولامٍ ساكِنَةٍ في أوَّلِهِ بَعْدَها تَحْتِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ (اللَّيْسَعُ) بِهَمْزَةِ وصْلٍ وفَتْحِ اللّامِ مُشَدَّدَةً بَعْدَها تَحْتِيَّةٌ ساكِنَةٌ بِوَزْنِ ضَيْغَمٍ، فَهُما لُغَتانِ فِيهِ. وهو ابْنُ (شافاطَ) مِن أهْلِ (آبُلِ مَحُولَةَ) . كانَ فَلّاحًا فاصْطَفاهُ اللَّهُ لِلنُّبُوءَةِ عَلى يَدِ الرَّسُولِ إلْياسَ في مُدَّةِ (آخابَ) وصَحِبَ إلْياسَ. ولَمّا رُفِعَ إلْياسُ لازَمَ سِيرَةَ إلْياسَ وظَهَرَتْ لَهُ مُعْجِزاتٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ في (أرِيحا) وغَيْرِها. وتُوُفِّيَ في مُدَّةِ المَلِكِ (يُوءاشَ) مَلِكِ إسْرائِيلَ وكانَتْ وفاتُهُ سَنَةَ أرْبَعِينَ وثَمانِمِائَةٍ ٨٤٠ قَبْلَ المَسِيحِ ودُفِنَ بِالسّامِرَةِ. والألِفُ واللّامُ في اليَسَعَ مِن أصْلِ الكَلِمَةِ، ولَكِنَّ الهَمْزَةَ عُومِلَتْ مُعامَلَةَ هَمْزَةِ الوَصْلِ لِلتَّخْفِيفِ (p-٣٤٢)فَأشْبَهَ الِاسْمَ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ اللّامُ الَّتِي لِلَمْحِ الأصْلِ مِثْلَ العَبّاسِ، وما هي مِنها. وأمّا يُونُسُ فَهو ابْنُ مَتّى، واسْمُهُ في العِبْرانِيَّةِ (يُونانُ بْنُ أمِتّاي) وهو مِن سِبْطِ (زَبُولُونَ) . ويَجُوزُ في نُونِهِ في العَرَبِيَّةِ الضَّمُّ والفَتْحُ والكَسْرُ. وُلِدَ في بَلْدَةِ (غاثِ ايفَرَ) مِن فِلَسْطِينَ، أرْسَلَهُ اللَّهُ إلى أهْلِ (نِينَوى) مِن بِلادِ آشُورَ. وكانَ أهْلُها يَوْمَئِذٍ خَلِيطًا مِنَ الآشُورِيِّينَ واليَهُودِ الَّذِينَ في أسْرِ الآشُورِيِّينَ، ولَمّا دَعاهم إلى الإيمانِ فَأبَوْا تَوَعَّدَهم بِعَذابٍ، فَتَأخَّرَ العَذابُ فَخَرَجَ مُغاضِبًا وذَهَبَ إلى (يافا) فَرَكِبَ سَفِينَةً لِلْفِينِيقِيِّينَ لِتَذْهَبَ بِهِ إلى (تَرْشِيشَ) مَدِينَةٍ غَرْبِيِّ فِلَسْطِينَ إلى غَرْبِيِّ صُورَ وهي عَلى البَحْرِ ولَعَلَّها مِن مَراسِي الوَجْهِ البَحْرِيِّ مِن مِصْرَ أوْ مِن مَراسِي بُرْقَةَ لِأنَّهُ وُصِفَ في كُتُبِ اليَهُودِ أنَّ سُلَيْمانَ كانَ يُجْلَبُ إلَيْهِ الذَّهَبُ والفِضَّةُ والقُرُودُ والطَّواوِيسُ مِن تَرْشِيشَ، فَتَعَيَّنَ أنْ تَكُونَ لِتَرْشِيشَ تِجارَةٌ مَعَ الحَبَشَةِ أوِ السُّودانِ، ومِنها تُصَدَّرُ هَذِهِ المَحْصُولاتُ. وقِيلَ هي طَرْطُوشَةُ مِن مِراسِي الأنْدَلُسِ. وقِيلَ قَرْطاجَنَّةُ مَرْسى إفْرِيقِيَّةَ قُرْبَ تُونُسَ. وقَدْ قِيلَ في تَوارِيخِنا أنَّ تُونُسَ كانَ اسْمُها قَبْلَ الفَتْحِ الإسْلامِيِّ تَرْشِيشَ. وهَذا قَرِيبٌ لِأنَّ تِجارَتَها مَعَ السُّودانِ قَدْ تَكُونُ أقْرَبَ فَهالَ البَحْرُ عَلى السَّفِينَةِ وثَقُلَتْ وخِيفَ غَرَقُها، فاقْتَرَعُوا فَكانَ يُونُسُ مِمَّنْ خابَ في القُرْعَةِ فَرُمِيَ في البَحْرِ والتَقَمَهُ حُوتٌ عَظِيمٌ فَنادى في جَوْفِهِ: ﴿لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧]، فاسْتَجابَ اللَّهُ لَهُ، وقَذَفَهُ الحُوتُ عَلى الشّاطِئِ. وأرْسَلَهُ اللَّهُ ثانِيًا إلى أهْلِ نِينَوى وآمَنُوا وكانُوا يَزِيدُونَ عَلى مِائَةِ ألْفٍ. وكانَتْ مُدَّتُهُ في أوَّلِ القَرْنِ الثّامِنِ قَبْلَ المِيلادِ. ولَمْ نَقِفْ عَلى ضَبْطِ وفاتِهِ. وذَكَرَ ابْنُ العَرَبِيِّ في الأحْكامِ في سُورَةِ الصّافّاتِ أنَّ قَبْرَهُ بِقَرْيَةِ جَلْجُونَ بَيْنَ القُدْسِ وبَلَدِ الخَلِيلِ، وأنَّهُ وقَفَ عَلَيْهِ في رِحْلَتِهِ. وسَتَأْتِي أخْبارُ يُونُسَ في سُورَةِ يُونُسَ وسُورَةِ الأنْبِياءِ وسُورَةِ الصّافّاتِ. (p-٣٤٣)وأمّا لُوطٌ فَهو ابْنُ هارانَ بْنِ تارَحَ، فَهو ابْنُ أخِي إبْراهِيمَ. وُلِدَ في (أُورِ الكَلْدانِيِّينَ) . وماتَ أبُوهُ قَبْلَ تارَحَ، فاتَّخَذَ تارَحُ لُوطًا في كَفالَتِهِ. ولَمّا ماتَ تارَحُ كانَ لُوطٌ مَعَ إبْراهِيمَ ساكِنَيْنِ في أرْضِ حارانَ (حُورانَ) بَعْدَ أنْ خَرَجَ تارَحُ أبُو إبْراهِيمَ مِن أُورِ الكَلْدانِيِّينَ قاصِدَيْنِ أرْضَ كَنْعانَ. وهاجَرَ إبْراهِيمُ مَعَ لُوطٍ إلى مِصْرَ لِقَحْطٍ أصابَ بِلادَ كَنْعانَ، ثُمَّ رَجَعا إلى بِلادِ كَنْعانَ، وافْتَرَقَ إبْراهِيمُ ولُوطٌ بِسَبَبِ خِصامٍ وقَعَ بَيْنَ رُعاتِهِما، فارْتَحَلَ لُوطٌ إلى (سَدُومَ)، وهي مِن شَرْقِ الأُرْدُنِّ إلى أنْ أُوحِيَ إلَيْهِ بِالخُرُوجِ مِنها حِينَ قَدَّرَ اللَّهُ خَسْفَها عِقابًا لِأهْلِها فَخَرَجَ إلى (صَوْغَرَ) مَعَ ابْنَتِهِ ونَسْلِهِ هُناكَ، وهُمُ (المُؤابِيُّونَ) و(بَنُو عَمُونَ) . وقَوْلُهُ ﴿وكُلًّا فَضَّلْنا عَلى العالَمِينَ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، والتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ كُلُّ أُولَئِكَ المَذْكُورِينَ مِن إسْحاقَ إلى هُنا. و(كُلٌّ) يَقْتَضِي اسْتِغْراقَ ما أُضِيفَ إلَيْهِ. وحُكْمُ الِاسْتِغْراقِ أنْ يَثْبُتَ الحُكْمُ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ لا لِلْمَجْمُوعِ. والمُرادُ تَفْضِيلُ كُلِّ واحِدٍ مِنهم عَلى العالَمِينَ مِن أهْلِ عَصْرِهِ عَدا مَن كانَ أفْضَلَ مِنهُ أوْ مُساوِيًا لَهُ، فاللّامُ في (العالَمِينَ) لِلِاسْتِغْراقِ العُرْفِيِّ، فَقَدْ كانَ لُوطٌ في عَصْرِ إبْراهِيمَ وإبْراهِيمُ أفْضَلُ مِنهُ. وكانَ مِن غَيْرِهِما مَن كانُوا في عَصْرٍ واحِدٍ ولا يُعْرَفُ فَضْلُ أحَدِهِمْ عَلى الآخَرِ. وقالَ عَبْدُ الجَبّارِ: يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: المُرادُ وكُلٌّ مِنَ الأنْبِياءِ يُفَضَّلُونَ عَلى كُلِّ مَن سِواهم مِنَ العالَمِينَ. ثُمَّ الكَلامُ بَعْدَ ذَلِكَ في أنَّ أيَّ الأنْبِياءِ أفْضَلُ مِنَ الآخَرِ، كَلامٌ في غَرَضٍ آخَرَ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالأوَّلِ اهـ. ولا يَسْتَقِيمُ؛ لِأنَّ مُقْتَضى حُكْمِ الِاسْتِغْراقِ الحُكْمُ عَلى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ. وتَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ مَسْألَةٌ مُهِمَّةٌ مِن مَسائِلِ أُصُولِ الدِّينِ. وهي ثُبُوتُ نُبُوءَةِ الَّذِينَ جَرى ذِكْرُ أسْمائِهِمْ فِيها، وما يَتَرَتَّبُ عَلى ثُبُوتِ ذَلِكَ مِن أحْكامٍ في الإيمانِ وحَقِّ النُّبُوءَةِ. وقَدْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِها المُفَسِّرُونَ وكانَ يَنْبَغِي التَّعَرُّضُ لَها لِأنَّها تَتَفَرَّعُ إلى مَسائِلَ تَهُمُّ طالِبَ العُلُومِ الإسْلامِيَّةِ مَعْرِفَتُها، (p-٣٤٤)وأحَقُّ مَظِنَّةً بِذِكْرِها هو هَذِهِ الآيَةُ وما هو بِمَعْنى بَعْضِها. فَأمّا ثُبُوتُ نُبُوءَةِ الَّذِينَ ذُكِرَتْ أسْماؤُهم فِيها فَلِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ بَعْدَ أنْ عَدَّ أسْماءَهم أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوءَةَ. فَثُبُوتُ النُّبُوءَةِ لَهم أمْرٌ مُتَقَرِّرٌ؛ لِأنَّ اسْمَ الإشارَةِ ”أُولَئِكَ“ قَرِيبٌ مِنَ النَّصِّ في عَوْدِهِ إلى جَمِيعِ المُسَمَّيْنَ قَبْلَهُ مَعَ ما يُعَضِّدُهُ ويُكَمِّلُهُ مِنَ النَّصِّ بِنُبُوءَةِ بَعْضِهِمْ في آياتٍ تُماثِلُ هَذِهِ الآيَةَ، مِثْلِ آيَةِ سُورَةِ النِّساءِ ﴿إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ كَما أوْحَيْنا إلى نُوحٍ﴾ [النساء: ١٦٣] الآياتِ، ومِثْلِ الآياتِ مِن سُورَةِ مَرْيَمَ ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إبْراهِيمَ﴾ [مريم: ٤١] الآياتِ. ولِلنُّبُوءَةِ أحْكامٌ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَوْصُوفِها وبِمُعامَلَةِ المُسْلِمِينَ لِمَن يَتَّصِفُ بِها: مِنها مَعْنى النَّبِيءِ والرَّسُولِ، ومَعْنى المُعْجِزَةِ الَّتِي هي دَلِيلُ تَحَقُّقِ النُّبُوءَةِ أوِ الرِّسالَةِ لِمَن أتى بِها، وما يَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ مِن وُجُوبِ الإيمانِ بِما يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعالى مِن شَرْعٍ وآدابٍ، ومَسائِلُ كَثِيرَةٌ مِن ذَلِكَ مَبْسُوطَةٌ في عِلْمِ الكَلامِ فَلْيُرْجَعْ إلَيْها. إنَّما الَّذِي يَهُمُّنا مِن ذَلِكَ في هَذا التَّفْسِيرِ هو ما أوْمَأ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِها فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ. فَمَن عَلِمَ هَذِهِ الآياتِ في هَذِهِ السُّورَةِ وكانَ عالِمًا بِمَعْناها وجَبَ عَلَيْهِ الإيمانُ بِنُبُوءَةِ مَن جَرَتْ أسْماؤُهم فِيها. ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ ‌‌‌‌وقَدْ ذَكَرَ عُلَماؤُنا أنَّ الإيمانَ بِأنَّ اللَّهَ أرْسَلَ رُسُلًا ونَبَّأ أنْبِياءَ لِإرْشادِ النّاسِ واجِبٌ عَلى الجُمْلَةِ، أيْ إيمانًا بِإرْسالِ أفْرادٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، أوْ بِنُبُوءَةِ أفْرادٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ دُونَ تَعْيِينِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِاسْمِهِ ولا غَيْرَ ذَلِكَ مِمّا يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ إلّا مُحَمَّدًا ﷺ . قالَ الشَّيْخُ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ أبِي زَيْدٍ في الرِّسالَةِ: الباعِثُ (صِفَةُ لِلَّهِ تَعالى) الرُّسُلِ إلَيْهِمْ لِإقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. فَإرْسالُ الرُّسُلِ جائِزٌ في حَقِّ اللَّهِ غَيْرُ واجِبٍ، وهو واقِعٌ عَلى الإجْمالِ دُونَ تَعْيِينِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وقَدْ ذَكَرَ صاحِبُ المَقاصِدِ أنَّ إرْسالَ الرُّسُلِ مُحْتاجٌ إلَيْهِ، وهو لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ ولَيْسَ واجِبًا عَلَيْهِ. وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ وجَمْعٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ (أيْ مِن أهْلِ السُّنَّةِ) مِمّا وراءَ النَّهْرِ بِوُجُوبِ إرْسالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ تَعالى. (p-٣٤٥)ولَمْ يَذْكُرْ أحَدٌ مِن أئِمَّتِنا وُجُوبَ الإيمانِ بِنَبِيءٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا إلى الخَلْقِ كافَّةً. قالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ أبِي زَيْدٍ: ثُمَّ خَتَمَ - أيِ اللَّهُ - الرِّسالَةَ والنِّذارَةَ والنُّبُوءَةَ بِمُحَمَّدٍ نَبِيئِهِ ﷺ إلَخْ، لِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ في الحَدِيثِ الَّذِي رَواهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ مِن سُؤالِ جِبْرِيلَ النَّبِيءَ ﷺ عَنِ الإيمانِ فَقالَ «أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ» إلَخْ. فَلَمْ يُعَيِّنْ رُسُلًا مَخْصُوصِينَ. وقالَ في جَوابِ سُؤالِهِ عَنِ الإسْلامِ «الإسْلامُ أنْ تَشْهَدَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» . فَمَن عَلِمَ هَذِهِ الآياتِ وفَهِمَ مَعْناها وجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِقادُ بِنُبُوءَةِ المَذْكُورِينَ فِيها. ولَعَلَّ كَثِيرًا لا يَقْرَءُونَها وكَثِيرًا مِمَّنْ يَقْرَءُونَها لا يَفْهَمُونَ مَدْلُولاتِها حَقَّ الفَهْمِ فَلا يُطالَبُونَ بِتَطَلُّبِ فَهْمِها واعْتِقادِ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ؛ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِن أُصُولِ الإيمانِ والإسْلامِ، ولَكِنَّهُ مِنَ التَّفَقُّهِ في الدِّينِ. قالَ القاضِي عِياضٌ في فَصْلٍ سابِعٍ مِن فُصُولِ البابِ الثّالِثِ مِنَ القِسْمِ الرّابِعِ مِن كِتابِ الشِّفاءِ: وهَذا كُلُّهُ (أيْ ما ذَكَرَهُ مِن إلْزامِ الكُفْرِ أوِ الجُرْمِ المُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ لِمَن جاءَ في حَقِّهِمْ بِما يُنافِي ما يَجِبُ لَهم) فِيمَن تُكُلِّمَ فِيهِمْ؛ أيِ الأنْبِياءِ أوِ المَلائِكَةِ، بِما قُلْناهُ عَلى جُمْلَةِ المَلائِكَةِ والنَّبِيئِينَ أيْ عَلى مَجْمُوعِهِمْ لا عَلى جَمِيعِهِمْ قالَهُ الخَفاجِيُّ يُرِيدُ بِالجَمِيعِ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِمَّنْ حَقَّقْنا كَوْنَهُ مِنهم مِمَّنْ نَصَّ عَلَيْهِ في كِتابِهِ أوْ حَقَّقْنا عِلْمَهُ بِالخَبَرِ المُتَواتِرِ والإجْماعِ القاطِعِ والخَبَرِ المُشْتَهِرِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ ”الواوُ“ في هَذا التَّقْسِيمِ بِمَعْنى ”أوْ“ . فَأمّا مَن لَمْ يَثْبُتِ الإخْبارُ بِتَعْيِينِهِ ولا وقَعَ الإجْماعُ عَلى كَوْنِهِ مِنَ الأنْبِياءِ كالخَضِرِ، ولُقْمانَ، وذِي القَرْنَيْنِ، ومَرْيَمَ، وآسِيَةَ امْرَأةِ فِرْعَوْنَ وخالِدِ بْنِ سِنانٍ المَذْكُورِ أنَّهُ نَبِيءُ أهْلِ الرَّسِّ، فَلَيْسَ الحُكْمُ في سابِّهِمْ والكافِرِ بِهِمْ كالحُكْمِ فِيما قَدَّمْناهُ اهـ. فَإذا عَلِمْتَ هَذا عَلِمْتَ أنَّ ما وقَعَ في أبْياتٍ ثَلاثَةٍ نَظَمَها البَعْضُ، (p-٣٤٦)ذَكَرَها الشَّيْخُ إبْراهِيمُ البَيْجُورِيُّ في مَبْحَثِ الإيمانِ مِن شَرْحِهِ عَلى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ: ؎حَتْمٌ عَلى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ مَعْرِفَةٌ بِأنْبِياءٍ عَلى التَّفْصِيلِ قَدْ عُلِمُوا ؎فِي تِلْكَ حُجَّتُنا مِنهم ثَمانِيَةٌ ∗∗∗ مِن بَعْدِ عَشْرٍ ويَبْقى سَبْعَةٌ وُهُمُ ؎إدْرِيسُ. هُودٌ. شُعَيْبٌ، صالِحٌ وكَذا ∗∗∗ ذُو الكِفْلِ، آدَمُ، بِالمُخْتارِ قَدْ خُتِمُوا لا يَسْتَقِيمُ إلّا بِتَكَلُّفٍ؛ لِأنَّ كَوْنَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَتْمًا يَقْتَضِي ظاهِرُهُ الِاصْطِلاحِيُّ أنَّهُ واجِبٌ، وهَذا لا قائِلَ بِهِ، فَإنْ أرادَ بِالحَتْمِ الأمْرَ الَّذِي لا يَنْبَغِي إهْمالُهُ كانَ مُتَأكِّدًا لِقَوْلِهِ: عَلى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ. فَلَوْ عَوَّضَهُ بِكُلِّ ذِي التَّعْلِيمِ. ولَعَلَّهُ أرادَ بِالحَتْمِ أنَّهُ يَتَحَتَّمُ عَلى مَن عَلِمَ ذَلِكَ عَدَمُ إنْكارِ كَوْنِ هَؤُلاءِ أنْبِياءَ بِالتَّعْيِينِ، ولَكِنْ شاءَ بَيْنَ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ شَيْءٍ وبَيْنَ مَنعِ إنْكارِهِ بَعْدَ أنْ يُعْرَفَ. فَأمّا رِسالَةُ هُودٍ وصالِحٍ وشُعَيْبٍ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُها في آياتٍ كَثِيرَةٍ. وأمّا مَعْرِفَةُ نُبُوءَةِ ذِي الكِفْلِ فَفِيها نَظَرٌ؛ إذْ لَمْ يُصَرَّحْ في سُورَةِ الأنْبِياءِ بِأكْثَرَ مِن كَوْنِهِ مِنَ الصّابِرِينَ والصّالِحِينَ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في عِدَّةٍ مِنَ الأنْبِياءِ، ونُسِبَ إلى الجُمْهُورِ القَوْلُ بِأنَّهُ نَبِيءٌ. وعَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ ومُجاهِدٍ: أنَّ ذا الكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا. وسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ في سُورَةِ الأنْبِياءِ. وأمّا آدَمُ فَإنَّهُ نَبِيءٌ مُنْذُ كَوْنِهِ في الجَنَّةِ فَقَدْ كَلَّمَهُ اللَّهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وقالَ ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى﴾ [طه: ١٢٢] فَهو قَدْ أُهْبِطَ إلى الأرْضِ مُشَرَّفًا (p-٣٤٧)بِصِفَةِ النُّبُوءَةِ. وقِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ في سُورَةِ المائِدَةِ دالَّةٌ عَلى أنَّ آدَمَ بَلَّغَ لِأبْنائِهِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعالى فِيها ﴿إذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِن أحَدِهِما ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قالَ لَأقْتُلَنَّكَ قالَ إنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أنا بِباسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لِأقْتُلَكَ إنِّيَ أخافُ اللَّهَ رَبَّ العالَمِينَ إنِّيَ أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ فَتَكُونَ مِن أصْحابِ النّارِ وذَلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٢٧] . فالَّذِي نَعْتَمِدُهُ أنَّ الَّذِي يُنْكِرُ نُبُوءَةَ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ سُمِّيَ في القُرْآنِ في عِدادِ الأنْبِياءِ في سُورَةِ النِّساءِ وسُورَةِ هُودٍ وسُورَةِ الأنْعامِ وسُورَةِ مَرْيَمَ، وكانَ المُنْكَرُ مُحَقَّقًا عِلْمُهُ بِالآيَةِ الَّتِي وُصِفَ فِيها بِأنَّهُ نَبِيءٌ، ووَقَفَ عَلى دَلِيلِ صِحَّةِ ما أنْكَرَهُ ورُوجِعَ فَصَمَّمَ عَلى إنْكارِهِ، إنَّ ذَلِكَ الإنْكارَ يَكُونُ كُفْرًا لِأنَّهُ أنْكَرَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ؛ لِئَلّا يَعْتَذِرَ بِجَهْلٍ أوْ تَأْوِيلٍ مَقْبُولٍ. واعْلَمْ أنِّي تَطَلَّبْتُ كَشْفَ القِناعِ عَنْ وجْهِ الِاقْتِصارِ عَلى تَسْمِيَةِ هَؤُلاءِ الأنْبِياءِ مِن بَيْنِ سائِرِ الأنْبِياءِ مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ أوْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، عَلى الوَجْهَيْنِ في مُعادِ ضَمِيرِ ذُرِّيَّتِهِ. فَلَمْ يَتَّضِحْ لِي وتَطَلَّبْتُ وجْهَ تَرْتِيبِ أسْمائِهِمْ هَذا التَّرْتِيبَ، ومُوالاةِ بَعْضِ هَذِهِ الأسْماءِ لِبَعْضٍ في العَطْفِ فَلَمْ يَبْدُ لِي، وغالِبُ ظَنِّي أنَّ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ كَوْنَ هَؤُلاءِ مَعْرُوفِينَ لِأهْلِ الكِتابِ ولِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ مَعْرِفَةَ الأنْبِياءِ مِن أهْلِ الكِتابِ، وأنَّ المُناسَبَةَ في تَرْتِيبِهِمْ لا تَخْلُو مِن أنْ تَكُونَ ناشِئَةً عَنِ الِابْتِداءِ بِذِكْرِ أنَّ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ مَوْهِبَةٌ لِإبْراهِيمَ وهُما أبٌ وابْنُهُ، فَنَشَأ الِانْتِقالُ مِن واحِدٍ إلى آخَرَ بِمُناسَبَةٍ لِلِانْتِقالِ، وأنَّ تَوْزِيعَ أسْمائِهِمْ عَلى فَواصِلَ ثَلاثٍ لا يَخْلُو عَنْ مُناسَبَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ أصْحابِ تِلْكَ الأسْماءِ في الفاصِلَةِ الشّامِلَةِ لِأسْمائِهِمْ. ويَجُوزُ أنَّ خِفَّةَ أسْماءِ هَؤُلاءِ في تَعْرِيبِها إلى العَرَبِيَّةِ حُرُوفًا ووَزْنًا لَها أثَرٌ في إيثارِها بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِها مِنَ الأسْماءِ نَحْوُ (شَمْعُونَ وشَمْوِيلَ وحِزْقيالَ ونَحْمِيا)، وأنَّ المَعْدُودِينَ في هَذِهِ الآياتِ الثَّلاثِ تَوَزَّعُوا الفَضائِلَ، إذْ مِنهُمُ الرُّسُلُ والأنْبِياءُ والمُلُوكُ وأهْلُ الأخْلاقِ الجَلِيلَةِ العَزِيزَةِ مِنَ الصَّبْرِ وجِهادِ النَّفْسِ والجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ والمُصابَرَةِ (p-٣٤٨)لِتَبْلِيغِ التَّوْحِيدِ والشَّرِيعَةِ ومَكارِمِ الأخْلاقِ، كَما أشارَ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ الآياتِ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوءَةَ ومِن بَيْنِهِمْ أصْلا الأُمَّتَيْنِ العَرَبِيَّةِ والإسْرائِيلِيَّةِ. فَلَمّا ذَكَرَ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ أرْدَفَ ذِكْرَهُما بِذِكْرِ نَبِيئَيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ، وهُما أبٌ وابْنُهُ مِنَ الأنْبِياءِ هُما داوُدُ وسُلَيْمانُ مُبْتَدَءًا بِهِما عَلى بَقِيَّةِ ذَرِّيَّةِ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ، لِأنَّهُما نالا مَجْدَيْنِ عَظِيمَيْنِ؛ مَجْدَ الآخِرَةِ بِالنُّبُوءَةِ ومَجْدَ الدُّنْيا بِالمُلْكِ. ثُمَّ أرْدَفَ بِذِكْرِ ”نَبِيئَيْنِ“ تَماثَلا في أنَّ الضُّرَّ أصابَ كِلَيْهِما وأنَّ انْفِراجَ الكَرْبِ عَنْهُما بِصَبْرِهِما. وهُما أيُّوبُ ويُوسُفُ. ثُمَّ بِذِكْرِ رَسُولَيْنِ أخَوَيْنِ هُما مُوسى وهارُونُ، وقَدْ أصابَ مُوسى مِثْلُ ما أصابَ يُوسُفَ مِنَ الكَيْدِ لَهُ لِقَتْلِهِ ومِن نَجاتِهِ مِن ذَلِكَ وكَفالَتِهِ في بَيْتِ المُلْكِ، فَهَؤُلاءِ السِّتَّةُ شَمِلَتْهُمُ الفاصِلَةُ الأُولى المُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ. ثُمَّ بِذِكْرِ نَبِيئَيْنِ أبٍ وابْنِهِ وهُما زَكَرِيّا ويَحْيى. فَناسَبَ أنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُما رَسُولانِ لا ذُرِّيَّةَ لَهُما، وهُما عِيسى وإلْياسُ، وهُما مُتَماثِلانِ في أنَّهُما رُفِعا إلى السَّماءِ. فَأمّا عِيسى فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ في القُرْآنِ، وأمّا إلْياسُ فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ في كُتُبِ الإسْرائِيلِيِّينَ ولَمْ يَذْكُرْهُ المُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ إلْياسَ هو إدْرِيسُ وعَلَيْهِ فَرَفْعُهُ مَذْكُورٌ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واذْكُرْ في الكِتابِ إدْرِيسَ إنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيئًا﴾ [مريم: ٥٦] ورَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا في سُورَةِ مَرْيَمَ. وابْتُدِئَ بِعِيسى عَطْفًا عَلى يَحْيى لِأنَّهُما قَرِيبانِ ابْنا خالَةٍ، ولِأنَّ عِيسى رَسُولٌ وإلْياسَ نَبِيءٌ غَيْرُ رَسُولٍ. وهَؤُلاءِ الأرْبَعَةُ تَضَمَّنَتْهُمُ الفاصِلَةُ الثّانِيَةُ المُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى ”كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ“ . وعَطَفَ اليَسَعَ لِأنَّهُ خَلِيفَةُ إلْياسَ وتِلْمِيذُهُ، وأدْمَجَ بَيْنَهُ وبَيْنَ إلْياسَ إسْماعِيلَ تَنْهِيَةً بِذِكْرِ النَّبِيءِ الَّذِي إلَيْهِ يَنْتَهِي نَسَبُ العَرَبُ مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ. وخُتِمُوا بِيُونُسَ ولُوطٍ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما أُرْسِلَ إلى أُمَّةٍ صَغِيرَةٍ. وهَؤُلاءِ الأرْبَعَةُ تَضَمَّنَتْهُمُ الفاصِلَةُ الثّالِثَةُ المُنْتَهِيَةُ بِقَوْلِهِ وكُلًّا فَضَّلْنا عَلى العالَمِينَ. (p-٣٤٩)وقَوْلُهُ ”ومِن آبائِهِمْ“ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ ”كُلًّا“ . فالتَّقْدِيرُ: وهَدَيْنا مِن آبائِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ وإخْوانِهِمْ. وجَعَلَ صاحِبُ الكَشّافِ ”مِن“ اسْمًا بِمَعْنى بَعْضٍ، أيْ؛ وهَدَيْنا بَعْضَ آبائِهِمْ عَلى طَرِيقَتِهِ في قَوْلِهِ تَعالى مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ. وقَدَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ ومَن تَبِعَهُ المَعْطُوفَ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: ومِن آبائِهِمْ جَمْعًا كَثِيرًا أوْ مَهْدِيِّينَ كَثِيرِينَ، فَتَكُونُ ”مِن“ تَبْعِيضِيَّةً مُتَعَلِّقَةٍ بِـ ”هَدَيْنا“ . والذُّرِّيّاتُ جَمْعُ ذُرِّيَّةٍ، وهي مَن تَناسَلَ مِنَ الآدَمِيِّ مِن أبْناءٍ أدْنَيْنَ وأبْنائِهِمْ، فَيَشْمَلُ أوْلادَ البَنِينَ وأوْلادَ البَناتِ. ووَجْهُ جَمْعِهِ إرادَةُ أنَّ الهُدى تَعَلَّقَ بِذُرِّيَّةِ كُلِّ مِن لَهُ ذَرِّيَّةٌ مِنَ المَذْكُورِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ في هَدْيِ بَعْضِ الذُّرِّيَّةِ كَرامَةً لِلْجِدِّ، فَكُلُّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ مُرادٌ وُقُوعُ الهَدْيِ في ذُرِّيَّتِهِ. وإنْ كانَتْ ذُرِّيّاتُهم راجِعِينَ إلى جَدٍّ واحِدٍ وهو نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ. ثُمَّ إنْ كانَ المُرادُ بِالهُدى المُقَدَّرِ الهُدى المُماثِلَ لِلْهُدى المُصَرَّحِ بِهِ، وهو هُدى النُّبُوءَةِ، فالآباءُ يَشْمَلُ مِثْلَ آدَمَ وإدْرِيسَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَإنَّهم آباءُ نُوحٍ. والذُّرِّيّاتُ يَشْمَلُ أنْبِياءَ بَنِي إسْرائِيلَ مِثْلَ يُوشَعَ ودانْيالَ. فَهم مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وإبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ، والأنْبِياءَ مِن أبْناءِ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوانَ وخالِدِ بْنِ سِنانٍ، وهُودًا، وصالِحًا مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وشُعَيْبًا، مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ. والإخْوانُ يَشْمَلُ بَقِيَّةَ الأسْباطِ إخْوَةَ يُوسُفَ. وإنْ كانَ المُرادُ مِنَ الهُدى ما هو أعَمُّ مِنَ النُّبُوءَةِ شَمِلَ الصّالِحِينَ مِنَ الآباءِ مِثْلَ هابِيلَ بْنِ آدَمَ. وشَمِلَ الذُّرِّيّاتِ جَمِيعَ صالِحِي الأُمَمِ مِثْلَ أهْلِ الكَهْفِ، قالَ تَعالى ”وزِدْناهم هُدًى“، ومِثْلَ طالُوتَ مَلِكِ إسْرائِيلَ، ومِثْلَ مُضَرَ ورَبِيعَةَ فَقَدْ ورَدَ أنَّهُما كانا مُسْلِمَيْنِ. رَواهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. ومِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وامْرَأةِ فِرْعَوْنَ. ويَشْمَلُ الإخْوانُ هارانَ بْنَ تارَحَ أخا إبْراهِيمَ، وهو أبُو لُوطٍ، وعيسو أخا، يَعْقُوبَ وغَيْرَ هَؤُلاءِ مِمَّنْ عَلِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى. (p-٣٥٠)والِاجْتِباءُ الِاصْطِفاءُ والِاخْتِيارُ، قالُوا هو مُشْتَقٌّ مِنَ الجَبْيِ، وهو الجَمْعُ، ومِنهُ جِبايَةُ الخَراجِ. وجَبْيُ الماءِ في الحَوْضِ الَّذِي سُمِّيَتْ مِنهُ الجابِيَةُ، فالِافْتِعالُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ مِثْلُ الِاضْطِرارِ، ووَجْهُ الِاشْتِقاقِ أنَّ الجَمْعَ إنَّما يَكُونُ لِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ في تَحْصِيلِهِ لِلْحاجَةِ إلَيْهِ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ اخْتارَهم فَجَعَلَهم مَوْضِعَ هَدْيِهِ لِأنَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ونُبُوءَتَهُ وهَدْيَهُ. وعَطَفَ قَوْلَهُ ”وهَدَيْناهم“ عَلى ”اجْتَبَيْناهم“ عَطْفًا يُؤَكِّدُ إثْباتَ هُداهُمُ اهْتِمامًا بِهَذا الهَدْيِ، فَبَيَّنَ أنَّهُ هَدى إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، أيْ إلى ما بِهِ نَوالُ ما يَعْمَلُ أهْلُ الكَمالِ لِنَوالِهِ، فَضَرَبَ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ مَثَلًا لِذَلِكَ تَشْبِيهًا لِهَيْئَةِ العامِلِ لِيَنالَ ما يَطْلُبُهُ مِنَ الكَمالِ بِهَيْئَةِ السّاعِي عَلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يُوَصِّلُهُ إلى ما سارَ بِدُونِ تَرَدُّدٍ ولا تَحَيُّرٍ ولا ضَلالٍ، وذَكَرَ مِن ألْفاظِ المُرَكَّبِ الدّالِّ عَلى الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها بَعْضُهُ وهو الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ لِدَلالَتِهِ عَلى جَمِيعِ الألْفاظِ المَحْذُوفَةِ لِلْإيجازِ. والصِّراطُ المُسْتَقِيمُ هو التَّوْحِيدُ والإيمانُ بِما يَجِبُ الإيمانُ بِهِ مِن أُصُولِ الفَضائِلِ الَّتِي اشْتَرَكَتْ فِيها الشَّرائِعُ، والمَقْصُودُ مَعَ الثَّناءِ عَلَيْهِمُ التَّعْرِيضُ بِالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خالَفُوا مُعْتَقَدَهم، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ”هَدى اللَّهُ“ إلى قَوْلِهِ ﴿ولَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] .


ركن الترجمة

Zachariah and John We guided, and guided Jesus and Elias who were all among the upright.

De même, Zacharie, Jean-Baptiste, Jésus et Elie, tous étant du nombre des gens de bien.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :