ركن التفسير
88 - (ذلك) الدين الذي هدوا إليه (هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا) فرضاً (لحبط عنهم ما كانوا يعملون)
ثم قال تعالى "ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده" أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم "ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون" تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته كقوله تعالى "ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك" الآية وهذا شرط والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين" وكقوله "لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين" وكقوله "لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار".
﴿ذَلِكَ هُدى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ولَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ . اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، أيْ لا تَعْجَبُوا مِن هَدْيِهِمْ وضَلالِ غَيْرِهِمْ. والإشارَةُ إلى الهُدى الَّذِي هو مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِن أفْعالِ الهِدايَةِ الثَّلاثَةِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ قَبْلَها، وخُصُوصًا المَذْكُورُ آخِرًا بِقَوْلِهِ ”﴿وهَدَيْناهم إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: ٨٧]“ . وقَدْ زادَ اسْمُ الإشارَةِ اهْتِمامًا بِشَأْنِ الهَدْيِ إذْ جُعِلَ كالشَّيْءِ (p-٣٥١)المُشاهَدِ فَزِيدَ باسِمِ الإشارَةِ كَمالُ تَمْيِيزٍ، وأخْبَرَ عَنِ الهُدى بِأنَّهُ هُدى اللَّهِ لِتَشْرِيفِ أمْرِهِ وبَيانِ عِصْمَتِهِ مِنَ الخَطَأِ والضَّلالِ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِما عَلَيْهِ المُشْرِكُونَ مِمّا يَزْعُمُونَهُ هُدًى ويَتَلَقَّوْنَهُ عَنْ كُبَرائِهِمْ، أمْثالِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الَّذِي وضَعَ لَهم عِبادَةَ الأصْنامِ، ومِثْلِ الكُهّانِ وأضْرابِهِمْ. وقَدْ جاءَ هَذا الكَلامُ عَلى طَرِيقَةِ الفَذْلَكَةِ لِأحْوالِ الهِدايَةِ الَّتِي تَكَرَّرَ ذِكْرُها كَأبْياتِ حاتِمٍ الطّائِيِّ: ؎ولِلَّهِ صُعْلُوكٌ يُساوِرُ هَمَّهُ ويَمْضِي عَلى الأحْداثِ والدَّهْرِ مُقْدِما إلى أنْ قالَ بَعْدَ أبْياتٍ سَبْعَةٍ في مَحامِدِ ذَلِكَ الصُّعْلُوكِ: ؎فَذَلِكَ إنْ يَهْلِكْ فَحُسْنى ثَناؤُهُ ∗∗∗ وإنْ عاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفًا مُذَمَّما وقَوْلُهُ تَعالى ﴿يَهْدِي بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ”هَدى اللَّهُ“ . والمُرادُ بِـ مَن يَشاءُ الَّذِينَ اصْطَفاهُمُ اللَّهُ واجْتَباهم، وهو أعْلَمُ بِهِمْ وبِاسْتِعْدادِهِمْ لِهَدْيهِ ونَبْذِهِمُ المُكابَرَةَ وإقْبالِهِمْ عَلى طَلَبِ الخَيْرِ وتَطَلُّعِهِمْ إلَيْهِ وتَدَرُّجِهِمْ فِيهِ إلى أنْ يَبْلُغُوا مَرْتَبَةَ إفاضَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الوَحْيَ أوِ التَّوْفِيقَ والإلْهامَ الصّادِقَ. فَفِي قَوْلِهِ ”مَن يَشاءُ“ مِنَ الإبْهامِ ما يَبْعَثُ النُّفُوسَ عَلى تَطَلُّبِ هُدى اللَّهِ تَعالى والتَّعَرُّضِ لِنَفَحاتِهِ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أنْكَرُوا نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ حَسَدًا، ولِذَلِكَ أعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ ولَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ تَفْظِيعًا لِأمْرِ الشِّرْكِ وأنَّهُ لا يُغْتَفَرُ لِأحَدٍ ولَوْ بَلَغَ مِن فَضائِلِ الأعْمالِ مَبْلَغًا عَظِيمًا مِثْلَ هَؤُلاءِ المَعْدُودِينَ المُنَوَّهِ بِهِمْ. ”والواوُ“ لِلْحالِ. وحَبِطَ مَعْناهُ تَلِفَ. أيْ بَطَلَ ثَوابُهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن يَرْتَدِدْ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهو كافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ.