ركن التفسير
23 - (وقالوا) للسفلة (لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا) بفتح الواو وضمها. (ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) هي أسماء أصنامهم
قال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور, كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب وهذا قول الجمهور. وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم. وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم; فلذلك خصوها بالذكر بعد قوله تعالى: "لا تذرن آلهتكم". ويكون معنى الكلام كما قال قوم نوح لأتباعهم: "لا تذرن ألهتكم" قالت العرب لأولادهم وقومهم: لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا; ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح عليه السلام. وعلى القول الأول, الكلام كله منسوق في قوم نوح. وقال عروة بن الزبير وغيره: اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه: ود, وسواع, ويغوث, ويعوق, ونسر. وكان ود أكبرهم وأبرهم به. قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر; وكانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا عليه; فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه. قالوا: أفعل. فصوره في المسجد من صفر ورصاص. ثم مات آخر, فصوره حتى ماتوا كلهم فصورهم. وتنقصت الأشياء كما تتنقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين. فقال لهم الشيطان: مالكم لا تعبدون شيئا؟ قالوا: وما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم, ألا ترون في مصلاكم. فعبدوها من دون الله; حتى بعث الله نوحا فقالوا: {لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا" الآية. وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس: بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح, وكان لهم تبع يقتدون بهم, فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم, وليتسلوا بالنظر إليها; فصورهم. فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا: ليت شعرنا هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر. فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت. قلت: وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية, فيها تصاوير لرسول الله صلي الله عليه وسلم; فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وذكر الثعلبي عن ابن عباس قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح; فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم تذكروهم بها; ففعلوا, فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت من دون الله. وذكر أيضا عن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام, كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل بالهند, فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره; فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم, وإنما هو جسد, وأنا أصور لكم مثله تطوفون به; فصور لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها. فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء; فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. قال الماوردي: فأما ود فهو أول صنم معبود, سمي ودا لودهم له; وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل; في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل. وفيه يقول شاعرهم: حياك ود فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد عزما وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر; في قولهم. وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ; في قول قتادة. وقال المهدوي. لمراد ثم لغطفان. الثعلبي: وأخذت أعلى وأنعم - وهما من طيء - وأهل جرش من مذحج يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثم إن بني ناجية أرادوا نزعه من أعلى وأنعم, ففروا به إلى الحصين أخي بن الحارث بن كعب من خزاعة. وقال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص, وكانوا يحملونه على جمل أحرد, ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك, فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل; فيضربون عليه بناء ينزلون حوله. وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع; في قول عكرمة وقتادة وعطاء. ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: وأما يعوق فكان لكهلان من سبأ, ثم توارثه بنوه; الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان. وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني: يريش الله في الدنيا ويبري ولا يبري يعوق ولا يريش وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير; في قول قتادة, ونحوه عن مقاتل. وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل, وسواع على صورة امرأة, ويغوث على صورة أسد, ويعوق على صورة فرس, ونسر على صورة نسر من الطير; فالله أعلم. وقرأ نافع "ولا تذرن ودا" بضم الواو. وفتحها الباقون. قال الليث: ود (بفتح الواو) صنم كان لقوم نوح. وود (بالضم) صنم لقريش; وبه سمي عمرو بن ود. وفي الصحاح: والود (بالفتح) الوتد في لغة أهل, نجد; كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول أمرئ القيس: تظهر الود إذا ما أشجذت وتواريه إذا ما تعتكر قال ابن دريد: هو اسم جبل: وود صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار لكلب وكان بدومة الجندل; ومنه سموه عبد ود وقال: "لا تذرن آلهتكم" ثم قال: "ولا تذرون ودا ولا سواعا" الآية. خصها بالذكر; لقوله تعالى: "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح" [الأحزاب: 7].
(p-٢٠٦)﴿قالَ نُوحٌ رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إلّا خَسارًا﴾ ﴿ومَكَرُوا مَكْرًا كُبّارًا﴾ ﴿وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكم ولا تَذَرُنَّ وُدًّا ولا سُواعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ بَدَلٌ مِن جُمْلَةِ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي﴾ [نوح: ٥] بَدَلَ اشْتِمالٍ؛ لِأنَّ حِكايَةَ عِصْيانِ قَوْمِهِ إيّاهُ مِمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ حِكايَةُ أنَّهُ دَعاهم، فَيَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ المَقالَتانِ في وقْتٍ واحِدٍ جاءَ فِيهِ نُوحٌ إلى مُناجاةِ رَبِّهِ بِالجَوابِ عَنْ أمْرِهِ لَهُ بِقَوْلِهِ ﴿أنْذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [نوح: ١] فَتَكُونُ إعادَةُ فِعْلِ (قالَ) مِن قَبِيلِ ذِكْرِ عامِلِ المُبْدَلِ مِنهُ في البَدَلِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿تَكُونُ لَنا عِيدًا لِأوَّلِنا وآخِرِنا﴾ [المائدة: ١١٤]، لِلرَّبْطِ بَيْنَ كَلامَيْهِ لِطُولِ الفَصْلِ بَيْنَهُما. ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ المَقالَتانِ في وقْتَيْنِ جَمَعَها القُرْآنُ حِكايَةً لِجَوابَيْهِ لِرَبِّهِ، فَتَكُونُ إعادَةُ فِعْلِ (قالَ) لِما ذَكَرْنا مَعَ الإشارَةِ إلى تَباعُدِ ما بَيْنَ القَوْلَيْنِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لِأنَّ ما سَبَقَها مِن قَوْلِهِ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي﴾ [نوح: ٥] إلى هُنا مِمّا يُثِيرُ عَجَبًا مِن حالِ قَوْمِهِ المَحْكِيِّ بِحَيْثُ يَتَساءَلُ السّامِعُ عَنْ آخِرِ أمْرِهِمْ، فابْتُدِئَ ذِكْرُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ وما بَعْدَها إلى قَوْلِهِ أنْصارًا. وتَأْخِيرُ هَذا بَعُدَ عَنْ قَوْلِهِ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا ونَهارًا﴾ [نوح: ٥] ارْتِقاءً في التَّذَمُّرِ مِنهم؛ لِأنَّ هَذا حِكايَةُ حُصُولِ عِصْيانِهِمْ بَعْدَ تَقْدِيمِ المَوْعِظَةِ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ [نوح: ١١] إلى قَوْلِهِ ﴿سُبُلًا فِجاجًا﴾ [نوح: ٢٠] . وإظْهارُ اسْمِ (نُوحٍ) مَعَ القَوْلِ الثّانِي دُونَ إضْمارٍ لِبُعْدِ مُعادِ الضَّمِيرِ لَوْ تَحَمَّلَهُ الفِعْلُ، وهَذا الخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ مَعْناهُ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ قالَ رَبِّ إلَخْ. وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِـ (إنَّ) لِلِاهْتِمامِ بِما اسْتُعْمِلَ فِيهِ مِنَ التَّحَسُّرِ والِاسْتِنْصارِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهم أخَذُوا بِقَوْلِ الَّذِينَ يَصُدُّونَهم عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ نُوحٍ، أيْ: اتَّبَعُوا سادَتَهم وقادَتَهم. وعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهم بِالكُبَراءِ ونَحْوِهِ إلى المَوْصُولِ لِما تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِن بَطَرِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالأمْوالِ والأوْلادِ. فَقَلَبُوا النِّعْمَةَ عِنْدَهم مُوجِبَ خَسارٍ وضَلالٍ. وأُدْمِجَ في الصِّلَةِ أنَّهم أهْلُ أمْوالٍ وأوْلادٍ إيماءً إلى أنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نَفاذِ قَوْلِهِمْ في (p-٢٠٧)قَوْمِهِمْ وائْتِمارِ القَوْمِ بِأمْرِهِمْ: فَأمْوالُهم إذا أنْفَقُوها لِتَأْلِيفِ أتْباعِهِمْ قالَ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوالَهم لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٣٦]، وأوْلادُهم أرْهَبُوا بِهِمْ مَن يُقاوِمُهم. والمَعْنى: واتَّبَعُوا أهْلَ الأمْوالِ والأوْلادِ الَّتِي لَمْ تَزِدْهم تِلْكَ الأمْوالُ والأوْلادُ إلّا خَسارًا لِأنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوها في تَأْيِيدِ الكُفْرِ والفَسادِ فَزادَتْهم خَسارًا إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهم أمْوالٌ ولا أوْلادٌ لَكانُوا أقَلَّ ارْتِكابًا لِلْفَسادِ قالَ تَعالى ﴿وذَرْنِي والمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهم قَلِيلًا﴾ [المزمل: ١١] . والخَسارُ: مُسْتَعارٌ لِحُصُولِ الشَّرِّ مِن وسائِلَ شَأْنُها أنْ تَكُونَ سَبَبَ خَيْرٍ كَخَسارَةِ التّاجِرِ مِن حَيْثُ أرادَ الرِّبْحَ، فَإذا كانَ هَؤُلاءِ خاسِرِينَ فالَّذِينَ يَتَّبِعُونَهم يَكُونُونَ مِثْلَهم في الخَسارَةِ وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم أرْشَدُوهم إلى النَّجاحِ. وماصْدَقَ (مَن) فَرِيقٌ مِنَ القَوْمِ أهْلُ مالٍ وأوْلادٍ ازْدادُوا بِذَلِكَ بَطَرًا دُونَ الشُّكْرِ وهم سادَتُهم، ولِذَلِكَ أُعِيدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ ومَكَرُوا، وقَوْلُهُ وقالُوا، وقَوْلُهُ ﴿وقَدْ أضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [نوح: ٢٤] . وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ وأبُو جَعْفَرٍ (ووَلَدُهُ) بِفَتْحِ الواوِ وفَتْحِ اللّامِ، وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ وخَلَفٌ (ووُلْدُهُ) بِضَمِّ الواوِ وسُكُونِ اللّامِ، فَأمّا الوَلَدُ، بِفَتْحِ الواوِ وفَتْحِ اللّامِ، فاسْمٌ يُطْلَقُ عَلى الواحِدِ مِنَ الأوْلادِ وعَلى الجَمْعِ فَيَكُونُ اسْمَ جِنْسٍ، وأمّا وُلْدٌ، بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، فَقِيلَ: هو لُغَةٌ في ولَدٍ فَيَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ والجَمْعُ مِثْلَ الفُلْكِ. وقِيلَ: هو جَمْعُ ولَدٍ مِثْلَ أُسْدٍ جَمْعُ أسَدٍ. والمَكْرُ: إخْفاءُ العَمَلِ أوِ الرَّأْيُ الَّذِي يُرادُ بِهِ ضُرُّ الغَيْرِ، أيْ: مَكَرُوا بِنُوحٍ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِإضْمارِ الكَيْدِ لَهم حَتّى يَقَعُوا في الضُّرِّ، قِيلَ كانُوا يُدَبِّرُونَ الحِيلَةَ عَلى قَتْلِ نُوحٍ وتَحْرِيشِ النّاسِ عَلى أذاهُ وأذى أتْباعِهِ. وكُبّارًا: مُبالَغَةٌ، أيْ: كَبِيرًا جِدًّا، وهو وارِدٌ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ في ألْفاظٍ قَلِيلَةٍ مِثْلَ طُوّالٍ، أيْ: طَوِيلٌ جِدًّا، وعُجّابٍ، أيْ: عَجِيبٌ، وحُسّانٍ، وجُمّالٍ، أيْ: جَمِيلٌ، وقُرّاءٍ لِكَثِيرِ القِراءَةِ، ووُضّاءٍ، أيْ: وضِيءٌ. قالَ عِيسى بْنُ عُمَرٍ: هي لُغَةٌ يَمانِيَّةٌ. (﴿وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكم ولا تَذَرُنَّ ودًّا ولا سُواعًا﴾) إلَخْ، أيْ: قالَ بَعْضُهم (p-٢٠٨)لِبَعْضٍ: ودٌّ، وسُواعٌ، ويَغُوثُ، ويَعُوقُ، ونَسْرٌ، هَذِهِ أصْنامُ قَوْمِ نُوحٍ، وبِهَذا تَعْلَمُ أنَّ أسْماءَها غَيْرُ جارِيَةٍ عَلى اشْتِقاقِ الكَلِماتِ العَرَبِيَّةِ، وفي واوِ (ودٍّ) لُغَتانِ لِلْعَرَبِ مِنهم مَن يَضُمُّ الواوَ، وبِهِ قَرَأ نافِعٌ وأبُو جَعْفَرٍ. ومِنهم مَن يَفْتَحُ الواوَ، وكَذَلِكَ قَرَأ الباقُونَ. ورَوى البُخارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ودٌّ وسُواعٌ ويَغُوثُ ويَعُوقُ ونَسْرٌ: أسْماءُ رِجالٍ صالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ فَلَمّا هَلَكُوا أوْحى الشَّيْطانُ إلى قَوْمِهِمْ أنْ أنْصِبُوا إلى مَجالِسِهِمُ الَّتِي كانُوا يَجْلِسُونَ أنْصابًا، وسَمُّوها بِأسْمائِهِمْ فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتّى إذا هَلَكَ أُولَئِكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ، وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: هي أسْماءُ أبْناءِ خَمْسَةٍ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وكانُوا عُبّادًا. وعَنِ الماوَرْدِيِّ أنْ (ودًّا) أوَّلُ صَنَمٍ مَعْبُودٍ. والآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ هَذِهِ الأنْصابَ عُبِدَتْ قَبْلَ الطُّوفانِ، وقَدْ قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ هَذِهِ الأصْنامَ أُقِيمَتْ لِبَعْضِ الصُّلَحاءِ مِن أوْلادِ آدَمَ، وقالَ بَعْضُهم: كانُوا أصْنامًا بَيْنَ زَمَنِ آدَمَ وزَمَنِ نُوحٍ. ولا يَلْتَئِمُ هَذا مَعَ حُدُوثِ الطُّوفانِ إذْ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ جَرَفَها، وخَلَصَ البَشَرُ مِنَ الإشْراكِ بَعْدَ الطُّوفانِ، ومَعَ وُجُودِ هَذِهِ الأسْماءِ في قَبائِلِ العَرَبِ إلى زَمَنِ البِعْثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، فَقَدْ كانَ في دَوْمَةِ الجَنْدَلِ - بِلادِ كَلْبٍ - صَنَمٌ اسْمُهُ ودٌّ. قِيلَ كانَ عَلى صُورَةِ رَجُلٍ وكانَ مِن صُفْرٍ ورَصاصٍ وكانَ عَلى صُورَةِ امْرَأةٍ، وكانَ لِهُذَيْلٍ صَنَمٌ اسْمُهُ سُواعٌ، وكانَ لِمُرادٍ وغُطَيْفٍ - بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وطاءٍ مُهْمَلَةٍ، بَطْنٍ مِن مُرادٍ بِالجَوْفِ عِنْدَ سَبَأٍ - صَنَمٌ اسْمُهُ يَغُوثُ، وكانَ أيْضًا لِغَطَفانَ وأخَذَتْهُ ”أنْعُمُ وأعْلى“ وهُما مِن طَيِّءٍ وأهْلُ جَرَشٍ مِن مَذْحِجٍ فَذَهَبُوا بِهِ إلى مُرادٍ فَعَبَدُوهُ، ثُمَّ إنَّ بَنِي ناجِيَةَ رامُوا نَزْعَهُ مِن أعْلى، وأنْعُمَ فَفَرُّوا بِهِ إلى الحُصَيْنِ أخِي بَنِي الحارِثِ مِن خُزاعَةَ. قالَ أبُو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ: رَأيْتُ يَغُوثَ مِن رَصاصٍ وكانُوا يَحْمِلُونَهُ عَلى جَمَلٍ أحْرَدَ - بِالحاءِ المُهْمَلَةِ، أيْ: يَخْبِطُ بِيَدَيْهِ إذا مَشى - ويَسِيرُونَ مَعَهُ ولا يُهَيِّجُونَهُ حَتّى يَكُونَ هو الَّذِي يَبْرُكُ، فَإذا بَرَكَ نَزَلُوا وقالُوا قَدْ رَضِيَ لَكُمُ المَنزِلَ، فَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِ بِناءً يَنْزِلُونَ حَوْلَهُ. وكانَ يَغُوثُ عَلى صُورَةِ أسَدٍ. وكانَ لِهَمْدانَ صَنَمٌ اسْمُهُ يَعُوقُ وهو عَلى صُورَةِ فَرَسٍ، وكانَ لِكَهْلانَ مِن سَبَأٍ ثُمَّ تَوارَثَهُ بَنُوهُ حَتّى صارَ إلى هَمْدانَ. (p-٢٠٩)وكانَ لِحِمْيَرَ ولِذِي الكُلاعِ مِنهم صَنَمٌ اسْمُهُ نَسْرٌ عَلى صُورَةِ النَّسْرِ مِنَ الطَّيْرِ. وهَذا مَرْوِيٌّ في صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ: صارَتِ الأوْثانُ الَّتِي كانَتْ في قَوْمِ نُوحٍ إلى العَرَبِ اهـ. فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ انْتَقَلَتْ بِأعْيانِها ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ العَرَبُ سَمَّوْا عَلَيْها ووَضَعُوا لَها صُوَرًا. ولَقَدِ اضْطَرَّ هَذا بَعْضَ المُفَسِّرِينَ إلى تَأْوِيلِ نَظْمِ الآيَةِ بِأنَّ مُعادَ ضَمِيرِ (قالُوا) إلى مُشْرِكِي العَرَبِ، وأنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ في أثْناءِ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ بِقَصْدِ التَّنْظِيرِ، أيْ: قالَ العَرَبُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكم ودًّا وسُواعًا ويَغُوثَ ويَعُوقُ ونَسْرًا كَما قالَ قَوْمُنُوحٍ لِأتْباعِهِمْ ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾، ثُمَّ عادَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إلى قَوْمِ نُوحٍ، وهو تَكَلُّفٌ بَيِّنٌ وتَفْكِيكٌ لِأجْزاءِ نَظْمِ الكَلامِ. فالأحْسَنُ ما رَآهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ وما نُرِيدُهُ بَيانًا: أنَّ أصْنامَ قَوْمِ نُوحٍ قَدْ دُثِرَتْ وغَمَرَها الطُّوفانُ وأنَّ أسْماءَها بَقِيَتْ مَحْفُوظَةً عِنْدَ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَ نُوحٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَكانُوا يَذْكُرُونَها ويَعِظُونَ ناشِئَتَهم بِما حَلَّ بِأسْلافِهِمْ مِن جَرّاءِ عِبادَةِ تِلْكَ الأصْنامِ، فَبَقِيَتْ تِلْكَ الأسْماءُ يَتَحَدَّثُ بِها العَرَبُ الأقْدَمُونَ في أثاراتِ عِلْمِهِمْ وأخْبارِهِمْ، فَجاءَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ الخُزاعِيُّ الَّذِي أعادَ لِلْعَرَبِ عِبادَةَ الأصْنامِ فَسَمّى لَهُمُ الأصْنامَ بِتِلْكَ الأسْماءِ وغَيْرِها فَلا حاجَةَ بِالمُفَسِّرِ إلى التَّطَوُّحِ إلى صِفاتِ الأصْنامِ الَّتِي كانَتْ لَها هَذِهِ الأسْماءُ عِنْدَ العَرَبِ ولا إلى ذِكْرِ تَعْيِينِ القَبائِلِ الَّتِي عَبَدَتْ مُسَمَّياتِ هَذِهِ الأسْماءِ. ثُمَّ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ لِقَوْمِ نُوحٍ أصْنامٌ كَثِيرَةٌ جَمَعَها قَوْلُ كُبَرائِهِمْ: ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ ثُمَّ خَصُّوا بِالذِّكْرِ أعْظَمَها وهي هَذِهِ الخَمْسَةُ، فَيَكُونُ ذِكْرُها مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ لِلِاهْتِمامِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿مَن كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [البقرة: ٩٨] . ويَحْتَمِلُ أنْ لا يَكُونَ لَهم غَيْرُ تِلْكَ الأصْنامِ الخَمْسَةِ فَيَكُونُ ذِكْرُها مُفَصَّلَةً بَعْدَ الإجْمالِ لِلِاهْتِمامِ بِها ويَكُونُ العَطْفُ مِن قَبِيلِ عَطْفِ المُرادِفِ. ولِقَصْدِ التَّوْكِيدِ أُعِيدَ فِعْلُ النَّهْيِ ولا تَذَرُنَّ ولَمْ يُسْلَكْ طَرِيقُ الإبْدالِ، والتَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ قَدْ يُقْرَنُ بِالعاطِفِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما أدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الإنفطار: ١٧] ﴿ثُمَّ ما أدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الإنفطار: ١٨] . ونُقِلَ عَنِ الألُوسِيِّ في طُرَّةِ تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الآيَةِ هَذِهِ الفِقْرَةُ: قَدْ أخْرَجَ الإفْرِنْجُ في حُدُودِ الألْفِ والمائَتَيْنِ والسِّتِّينَ أصْنامًا وتَماثِيلَ مِن أرْضِ المَوْصِلِ كانَتْ مُنْذُ نَحْوٍ مِن ثَلاثَةِ آلافِ سَنَةٍ. وتَكْرِيرُ (لا) النّافِيَةِ في قَوْلِهِ ﴿ولا سُواعًا ولا يَغُوثَ﴾ (p-٢١٠)لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ وعَدَمُ إعادَةِ (لا) مَعَ قَوْلِهِ ﴿ويَعُوقَ ونَسْرًا﴾؛ لِأنَّ الِاسْتِعْمالَ جارٍ عَلى أنْ لا يُزادَ في التَّأْكِيدِ عَلى ثَلاثِ مَرّاتٍ. وقَرَأ نافِعٌ وأبُو جَعْفَرٍ (وُدًّا) بِضَمِّ الواوِ. وقَرَأها غَيْرُهُما بِفَتْحِ الواوِ، وهو اسْمٌ عَجَمِيٌّ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِسانُ العَرَبِ كَيْفَ شاءُوا.