ركن التفسير
24 - (وقد أضلوا) بها (كثيرا) من الناس بأن أمروهم بعبادتهم (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) عطفا على قد أضلوا دعا عليهم لما أوحي إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
هذا من قول نوح; أي أضل كبراؤهم كثيرا من أتباعهم; فهو عطف على قوله: "ومكروا مكرا كبارا". وقيل: إن الأصنام "أضلوا كثيرا" أي ضل بسببها كثير; نظيره قول إبراهيم: "رب إنهن أضللن كثيرا من الناس" [إبراهيم: 36] فأجرى عليهم وصف ما يعقل; لاعتقاد الكفار فيهم ذلك. أي عذابا; قاله ابن بحر. وأستشهد بقوله تعالى: "إن المجرمين في ضلال وسعر" [القمر: 47]. وقيل إلا خسرانا. وقيل إلا فتنة بالمال والولد. وهو محتمل.
﴿وقَدْ أضَلُّوا كَثِيرًا﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ [نوح: ٢٣]، أيْ: أضَلُّوا بِقَوْلِهِمْ هَذا وبِغَيْرِهِ مِن تَقالِيدِ الشِّرْكِ كَثِيرًا مِنَ الأُمَّةِ بِحَيْثُ ما آمَنَ مَعَ نُوحٍ إلّا قَلِيلٌ. * * * ﴿ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلّا ضَلالًا﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ تَتِمَّةَ كَلامِ نُوحٍ مُتَّصِلَةً بِحِكايَةِ كَلامِهِ السّابِقِ، فَتَكُونُ الواوُ عاطِفَةَ جُزْءِ جُمْلَةٍ مَقُولَةٍ لِفِعْلِ (قالَ) عَلى جُزْئِها الَّذِي قَبْلَها عَطْفَ المَفاعِيلِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ كَما تَقُولُ قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎قِفا نَبْكِ . خَتَمَ نُوحٌ شَكْواهُ إلى اللَّهِ بِالدُّعاءِ عَلى الضّالِّينَ - المُتَحَدَّثِ عَنْهم - بِأنْ يَزِيدَهُمُ اللَّهُ ضَلالًا. ولا يُرِيبُكَ عَطْفُ الإنْشاءِ عَلى الخَبَرِ؛ لِأنَّ مَنعَ عَطْفِ الإنْشاءِ عَلى الخَبَرِ عَلى الإطْلاقِ غَيْرُ وجِيهٍ والقُرْآنُ طافِحٌ بِهِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلّا ضَلالًا﴾ غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِحِكايَةِ كَلامِهِ في قَوْلِهِ ﴿قالَ نُوحٌ رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي﴾ [نوح: ٢١] بَلْ هو حِكايَةُ كَلامٍ آخَرَ لَهُ صَدْرٌ في مَوْقِفٍ آخَرَ فَتَكُونُ الواوُ عاطِفَةً جُمْلَةَ مَقُولَةِ قَوْلٍ عَلى جُمْلَةِ مَقُولَةِ قَوْلٍ آخَرَ، أيْ: نائِبَةٍ عَنْ فِعْلِ (قالَ) كَما تَقُولُ: قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎قِفا نَبْكِ، و: ؎ألا عِمْ صَباحًا أيُّها الطَّلَلُ البالِي وقَدْ نَحا هَذا المَعْنى مَن يَأْبَوْنَ عَطْفَ الإنْشاءِ عَلى الخَبَرِ. والمُرادُ بِـ الظّالِمِينَ: قَوْمُهُ الَّذِينَ عَصَوْهُ فَكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ التَّعْبِيرَ عَنْهم بِالضَّمِيرِ عائِدًا عَلى ”قَوْمِي“ مِن قَوْلِهِ ﴿دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا ونَهارًا﴾ [نوح: ٥] فَعَدَلَ عَنْ (p-٢١١)الإضْمارِ إلى الإظْهارِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ لِما يُؤْذِنُ بِهِ وصْفُ الظّالِمِينَ مِنِ اسْتِحْقاقِهِمِ الحِرْمانَ مِن عِنايَةِ اللَّهِ بِهِمْ لِظُلْمِهِمْ، أيْ: إشْراكِهِمْ بِاللَّهِ، فالظُّلْمُ هُنا الشِّرْكُ ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] . والضَّلالُ، مُسْتَعارٌ لِعَدَمِ الِاهْتِداءِ إلى طَرائِقِ المَكْرِ الَّذِي خَشِيَ نُوحٌ غائِلَتَهُ في قَوْلِهِ ﴿ومَكَرُوا مَكْرًا كُبّارًا﴾ [نوح: ٢٢]، أيْ: حُلْ بَيْنَنا وبَيْنَ مَكْرِهِمْ ولا تَزِدْهم إمْهالًا في طُغْيانِهِمْ عَلَيْنا إلّا أنْ تُضَلِّلَهم عَنْ وسائِلِهِ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْناءُ مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أوْ أرادَ إبْهامَ طُرُقِ النَّفْعِ عَلَيْهِمْ حَتّى تَنْكَسِرَ شَوْكَتُهم وتَلِينَ شَكِيمَتُهم نَظِيرَ قَوْلِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿رَبَّنا اطْمِسْ عَلى أمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ [يونس: ٨٨] . ولَيْسَ المُرادُ بِالضَّلالِ الضَّلالَ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ والتَّوْحِيدِ لِظُهُورِ أنَّهُ يُنافِي دَعْوَةَ نُوحٍ قَوْمَهُ إلى الِاسْتِغْفارِ والإيمانِ بِالبَعْثِ فَكَيْفَ يَسْألُ اللَّهُ أنْ يَزِيدَهم مِنهُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّلالُ أُطْلِقَ عَلى العَذابِ المُسَبَّبِ عَنِ الضَّلالِ، أيْ: في عَذابِ يَوْمِ القِيامَةِ وهو عَذابُ الإهانَةِ والآلامِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً وهي مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى لِنُوحٍ فَتَكُونُ الواوُ اعْتِراضِيَّةً ويُقَدَّرُ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ: وقُلْنا لا تَزِدِ الظّالِمِينَ. والمَعْنى: ولا تَزِدْ في دُعائِهِمْ فَإنَّ ذَلِكَ لا يَزِيدُهم إلّا ضَلالًا، فالزِّيادَةُ مِنهُ تَزِيدُهم كُفْرًا وعِنادًا. وبِهَذا يَبْقى الضَّلالُ مُسْتَعْمَلًا في مَعْناهُ المَشْهُورِ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ، فَصِيغَةُ النَّهْيِ مُسْتَعْمَلَةٌ في التَّأْيِيسِ مِن نَفْعِ دَعْوَتِهِ إيّاهم. وأعْلَمَ اللَّهُ نُوحًا أنَّهُ مُهْلِكُهم بِقَوْلِهِ ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ [نوح: ٢٥] الآيَةَ وهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ ﴿وأُوحِيَ إلى نُوحٍ أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [هود: ٣٦] ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا ووَحْيِنا ولا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا إنَّهم مُغْرَقُونَ﴾ [هود: ٣٧] . ألا تَرى أنَّ خِتامَ كِلْتا الآيَتَيْنِ مُتَّحِدُ المَعْنى مِن قَوْلِهِ هُنا أُغْرِقُوا وقَوْلِهِ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿إنَّهم مُغْرَقُونَ﴾ [هود: ٣٧] .