ركن التفسير
6 - (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) عن الإيمان
أي تباعدا من الإيمان. وقراءة العامة بفتح الياء من "دعائي" وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.
( ﴿قالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا ونَهارًا﴾ ﴿فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِيَ إلّا فِرارًا﴾ . جُرِّدَ فِعْلُ (قالَ) هُنا مِنَ العاطِفِ؛ لِأنَّهُ حِكايَةُ جَوابِ نُوحٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ ﴿أنْذِرْ قَوْمَكَ﴾ [نوح: ١] عُومِلَ مُعامَلَةَ الجَوابِ الَّذِي يُتَلَقّى بِهِ الأمْرُ عَلى الفَوْرِ عَلى طَرِيقَةِ المُحاوَراتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ، تَنْبِيهًا عَلى مُبادَرَةِ نُوحٍ بِإبْلاغِ الرِّسالَةِ إلى قَوْمِهِ وتَمامِ حِرْصِهِ في ذَلِكَ كَما أفادَهُ قَوْلُهُ ﴿لَيْلًا ونَهارًا﴾ وحُصُولِ يَأْسِهِ مِنهم، فَجَعَلَ مُراجَعَتَهُ رَبَّهُ بَعْدَ مُهْلَةٍ مُسْتَفادَةٍ مِن قَوْلِهِ ﴿لَيْلًا ونَهارًا﴾ بِمَنزِلَةِ المُراجَعَةِ في المَقامِ الواحِدِ بَيْنَ المُتَحاوِرِينَ. ولَكَ أنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ قالَ رَبِّ إلَخْ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لِأنَّ السّامِعَ يَتَرَقَّبُ مَعْرِفَةَ ماذا أجابَ قَوْمُ نُوحٍ دَعْوَتَهُ، فَكانَ في هَذِهِ الجُمْلَةِ بَيانُ ما يَتَرَقَّبُهُ السّامِعُ مَعَ زِيادَةِ مُراجَعَةِ نُوحٍ رَبَّهُ تَعالى. وهَذا الخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ مَعْناهُ وهو الشِّكايَةُ والتَّمْهِيدُ لِطَلَبِ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّ المُخاطَبَ بِهِ عالِمٌ بِمَدْلُولِ الخَبَرِ. وذَلِكَ ما سَيُفْضِي إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿وقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ [نوح: ٢٦] الآياتِ. وفائِدَةُ حِكايَةِ ما ناجى بِهِ نُوحٌ رَبَّهُ إظْهارُ تَوَكُّلِهِ عَلى اللَّهِ، وانْتِصارُ اللَّهِ لَهُ، والإتْيانُ عَلى مُهِمّاتٍ مِنَ العِبْرَةِ بِقِصَّتِهِ، بِتَلْوِينٍ لِحِكايَةِ أقْوالِهِ وأقْوالِ قَوْمِهِ وقَوْلِ اللَّهِ لَهُ. وتِلْكَ ثَمانِ مَقالاتٍ هي: ١ - ﴿أنْ أنْذِرْ قَوْمَكَ﴾ [نوح: ١] إلَخْ. ٢ - ﴿قالَ يا قَوْمِ إنِّي لَكم نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [نوح: ٢] إلَخْ. ٣ - ﴿قالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي﴾ إلَخْ. ٤ - ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ [نوح: ١٠] إلَخْ. ٥ - ﴿قالَ نُوحٌ رَبِّ إنَّهم عَصَوْنِي﴾ [نوح: ٢١] إلَخْ. (p-١٩٤)٦ - ﴿ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلّا ضَلالًا﴾ [نوح: ٢٤] إلَخْ. ٧ - ﴿وقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ﴾ [نوح: ٢٦] إلَخْ. ٨ - ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ [نوح: ٢٨] إلَخْ. وجَعَلَ دَعْوَتَهُ مَظْرُوفَةً في زَمَنَيِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لِلدَّلالَةِ عَلى عَدَمِ الهَوادَةِ في حِرْصِهِ عَلى إرْشادِهِمْ، وأنَّهُ يَتَرَصَّدُ الوَقْتَ الَّذِي يَتَوَسَّمُ أنَّهم فِيهِ أقْرَبُ إلى فَهْمِ دَعْوَتِهِ مِنهم في غَيْرِهِ، مِن أوْقاتِ النَّشاطِ وهي أوْقاتُ النَّهارِ، ومِن أوْقاتِ الهَدُوِّ وراحَةِ البالِ وهي أوْقاتُ اللَّيْلِ. ومَعْنى (﴿فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِي إلّا فِرارًا﴾) أنَّ دُعائِي لَهم بِأنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وبِطاعَتِهِمْ لِي لَمْ يَزِدْهم ما دَعَوْتُهم إلَيْهِ إلّا بُعْدًا مِنهُ، فالفِرارُ مُسْتَعارٌ لِقُوَّةِ الإعْراضِ، أيْ: فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِي إيّاهم قُرْبًا مِمّا أدْعُوهم إلَيْهِ. واسْتِثْناءُ الفِرارِ مِن عُمُومِ الزِّياداتِ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ. والتَّقْدِيرُ: فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِي قُرْبًا مِنَ الهُدى لَكِنْ زادَهم فِرارًا كَما في قَوْلِهِ تَعالى حِكايَةً عَنْ صالِحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ [هود: ٦٣] . وإسْنادُ زِيادَةِ الفِرارِ إلى الدُّعاءِ مَجازٌ؛ لِأنَّ دُعاءَهُ إيّاهم كانَ سَبَبًا في تَزايُدِ إعْراضِهِمْ وقُوَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِشِرْكِهِمْ. وهَذا مِنَ الأُسْلُوبِ المُسَمّى في عِلْمِ البَدِيعِ تَأْكِيدُ المَدْحِ بِما يُشْبِهُ الذَّمَّ، أوْ تَأْكِيدُ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وهو هُنا تَأْكِيدُ إعْراضِهِمُ المُشَبَّهِ بِالِابْتِعادِ بِصُورَةٍ تُشْبِهُ ضِدَّ الإعْراضِ. ولَمّا كانَ فِرارُهم مِنَ التَّوْحِيدِ ثابِتًا لَهم مِن قَبْلُ كانَ قَوْلُهُ ﴿فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِي إلّا فِرارًا﴾ مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وتَصْدِيرُ كَلامِ نُوحٍ بِالتَّأْكِيدِ لِإرادَةِ الِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ.