ركن التفسير
3 - (إنا هديناه السبيل) بينا له طريق الهدى ببعث الرسل (إما شاكرا) أي مؤمنا (وإما كفورا) حالان من المفعول أي بينا له في حال شكره أو كفره المقدرة وإما لتفصيل الأحوال
أي بيناه له ووضحناه وبصرناه به كقوله جل وعلا "وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى" وكقوله جل وعلا "وهديناه النجدين" أي بينا له طريق الخير وطريق الشر وهذا قول عكرمة وعطية وابن زيد ومجاهد في المشهور عنه والجمهور وروي عن مجاهد وأبي صالح والضحاك والسدي أنهم قالوا في قوله تعالى "إنا هديناه السبيل" يعني خروجه من الرحم وهذا قول غريب والصحيح المشهور الأول وقوله تعالى "إما شاكرا وإما كفورا" منصوب على الحال من الهاء في قوله "إنا هديناه السبيل" تقديره فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها" وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن ابن خثيم عن عبدالرحمن بن سابط عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة "أعاذك الله من إمارة السفهاء" قال وما إمارة السفهاء؟ قال "أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم عل ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون علي حوضي يا كعب ابن عجرة: الصوم جنة والصدقة تطفيء الخطيئة والصلاة قربات - أو قال برهان - يا كعب بن عجرة: إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به يا كعب: الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها وبائع نفسه فموبقها" ورواه عن عفان بن وهيب عن عبدالله بن خثيم به وقد تقدم في سورة الروم عند قوله جل جلاله "فطرة الله التي فطر الناس عليها" من رواية جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا" وقال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر حدثنا عبدالله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان: راية بيد ملك وراية بيد شيطان فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته".
﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِبَيانِ ما نَشَأ عَنْ جُمْلَةِ (نَبْتَلِيهِ) ولِتَفْصِيلِ جُمْلَةِ (﴿فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: ٢])، وتَخَلُّصٌ إلى الوَعِيدِ عَلى الكُفْرِ والوَعْدِ عَلى الشُّكْرِ. وهِدايَةُ السَّبِيلِ: تَمْثِيلٌ لِحالِ المُرْشِدِ. والسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ الجادَّةُ إلى ما فِيهِ النَّفْعُ بِواسِطَةِ الرُّسُلِ إلى العَقائِدِ الصَّحِيحَةِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ الَّتِي هي سَبَبُ فَوْزِهِ بِالنَّعِيمِ الأبَدِيِّ، بِحالِ مَن يَدُلُّ السّائِرَ عَلى الطَّرِيقِ المُؤَدِّيَةِ إلى مَقْصِدِهِ مِن سَيْرِهِ. وهَذا التَّمْثِيلُ يَنْحَلُّ إلى تَشْبِيهاتِ أجْزاءِ الحالَةِ المُرَكَّبَةِ المُشَبَّهَةِ بِأجْزاءِ الحالَةِ المُشَبَّهِ بِها، فاللَّهُ تَعالى كالهادِي، والإنْسانُ يُشْبِهُ السّائِرَ المُتَحَيِّرَ في الطَّرِيقِ، وأعْمالُ الدِّينِ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ، وفَوْزُ المُتَتَبِّعِ لِهَدْيِ اللَّهِ يُشْبِهُ البُلُوغَ إلى المَكانِ المَطْلُوبِ. وفِي هَذا النِّداءِ عَلى أنَّ اللَّهَ أرْشَدَ الإنْسانَ إلى الحَقِّ وأنَّ بَعْضَ النّاسِ أدْخَلُوا عَلى أنْفُسِهِمْ ضَلالَ الِاعْتِقادِ ومَفاسِدَ الأعْمالِ فَمَن بَرَّأ نَفْسَهُ مِن ذَلِكَ فَهو الشّاكِرُ (p-٣٧٦)وغَيْرُهُ الكَفُورُ، وذَلِكَ تَقْسِيمٌ بِحَسَبِ حالِ النّاسِ في أوَّلِ البَعْثَةِ، ثُمَّ ظَهَرَ مَن خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وأخَرَ سَيِّئًا. وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِـ (إنَّ) لِلرَّدِّ عَلى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّ ما يَدْعُوهم إلَيْهِ القُرْآنُ باطِلٌ. و(﴿إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾) حالانِ مِن ضَمِيرِ الغَيْبَةِ في هَدَيْناهُ، وهو ضَمِيرُ (الإنْسانَ) . و(إمّا) حَرْفُ تَفْصِيلٍ، وهو حَرْفٌ بَسِيطٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ. وقالَ سِيبَوَيْهِ: هو مُرَكَّبٌ مِن حَرْفِ (إنْ) الشَّرْطِيَّةِ و(ما) النّافِيَةِ. وقَدْ تَجَرَّدَتْ (إنْ) بِالتَّرْكِيبِ عَلى الشَّرْطِيَّةِ كَما تَجَرَّدَتْ (ما) عَنِ النَّفْيِ، فَصارَ مَجْمُوعُ (إمّا) حَرْفَ تَفْصِيلٍ ولا عَمَلَ لَها في الِاسْمِ بَعْدَها ولا تَمْنَعُ العامِلَ الَّذِي قَبْلَها عَنِ العَمَلِ في مَعْمُولِهِ الَّذِي بَعْدَها فَهي في ذَلِكَ مِثْلُ (ال) حَرْفِ التَّعْرِيفِ. وقَدَّرَ بَعْضُ النُّحاةِ (إمّا) الثّانِيَةَ حَرْفَ عَطْفٍ وهو تَحَكُّمٌ إذْ جَعَلُوا الثّانِيَةَ عاطِفَةً وهي أُخْتُ الأُولى، وإنَّما العاطِفُ الواوُ وإمّا مُقْحَمَةٌ بَيْنَ الِاسْمِ ومَعْمُولِهِ كَما في قَوْلِ تَأبَّطَ شَرًّا: ؎هُما خُطَّتا إمّا إسَـارٌ ومِـنَّةٌ وإمّا دَمٌ والمَوْتُ بِالحُرِّ أجْدَرُ فَإنَّ الِاسْمَيْنِ بَعْدَ (إمّا) في المَوْضِعَيْنِ مِنَ البَيْتِ مَجْرُورانِ بِالإضافَةِ ولِذَلِكَ حُذِفَتِ النُّونُ مِن قَوْلِهِ: هُما خُطَّتا، وذَلِكَ أفْصَحُ كَما جاءَ في هَذِهِ الآيَةِ. قالَ ابْنُ جِنِّي: أمّا مَن جَرَّ (إسارٍ) فَإنَّهُ حَذَفَ النُّونَ لِلْإضافَةِ ولَمْ يَعْتَدْ (إمّا) فاصِلًا بَيْنَ المُضافِ والمُضافِ إلَيْهِ وعَلى هَذا تَقُولُ: هُما إمّا غُلاما زَيْدٍ وإمّا عَمْرٍو وأجْوَدُ مِن هَذا أنْ تَقُولَ: هُما خُطَّتا إسارٍ ومِنَّةٍ وإمّا خُطَّتا دَمٍ ثُمَّ قالَ: وأمّا الرَّفْعُ فَطَرِيقُ المَذْهَبِ، وظاهِرُ أمْرِهِ أنَّهُ عَلى لُغَةِ مَن حَذَفَ النُّونَ لِغَيْرِ الإضافَةِ فَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ، إلَخْ. ومُقْتَضى كَلامِهِ أنَّ البَيْتَ رُوِيَ بِالوَجْهَيْنِ الجَرِّ والرَّفْعِ وقَرِيبٌ مِنهُ كَلامُ المَرْزُوقِيِّ وزادَ فَقالَ: وحَذْفُ النُّونِ إذا رُفِعَتْ ”إسارٌ“ اسْتِطالَةٌ لِلِاسْمِ كَأنَّهُ اسْتَطالَ خُطَّتا بِبَدَلِهِ وهو قَوْلُهُ: إمّا إسارٌ، إلَخْ. والمَعْنى: إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ في حالِ أنَّهُ مُتَرَدِّدٌ أمْرُهُ بَيْنَ أحَدِ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ (p-٣٧٧)وصْفِ شاكِرٍ ووَصْفِ كَفُورٍ، فَأحَدُ الوَصْفَيْنِ عَلى التَّرْدِيدِ مُقارِنٌ لِحالِ إرْشادِهِ إلى السَّبِيلِ، وهي مُقارَنَةٌ عُرْفِيَّةٌ، أيْ عَقِبُ التَّبْلِيغِ والتَّأمُّلِ، فَإنْ أخَذَ بِالهُدى كانَ شاكِرًا وإنْ أعْرَضَ كانَ كَفُورًا كَمَن لَمْ يَأْخُذْ بِإرْشادِ مَن يَهْدِيهِ الطَّرِيقَ فَيَأْخُذْ في طَرِيقٍ يَلْقى بِهِ السِّباعَ أوِ اللُّصُوصَ، وبِذَلِكَ تَمَّ التَّمْثِيلُ الَّذِي في قَوْلِهِ (﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ﴾) .