ركن التفسير
10 - (وما جعله الله) أي الإمداد (إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم)
وقوله تعالى "وما جعله الله إلا بشرى" الآية. أي وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى "ولتطمئن به قلوبكم" وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله أي بدون ذلك ولهذا قال "وما النصر إلا من عند الله" كما قال تعالى "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداءا حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم" وقال تعالى "وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين" فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة كما أهلك قوم نوح بالطوفان وعادا الأولى بالدبور وثمود بالصيحة وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل وقوم شعيب بيوم الظلة فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم ثم أنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك كما قال تعالى "ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر" وقتل المؤمنين للكافرين أشد إهانة للكافرين وأشفى لصدور المؤمنين كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين" ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك كما مات أبو لهب لعنه الله بالعدسة بحيث لم يقربه أحد من أقاربه وإنما غسلوه بالماء قذفا من بعيد ورجموه حتى دفنوه ولهذا قال تعالى "إن الله عزيز" أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة كقوله تعالى "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد"."حكيم": فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى.
﴿وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلّا بُشْرى ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكم وما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ عَطْفٌ عَلى ”أنِّي مُمِدُّكم بِألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدَفِينَ“ فالضَّمِيرُ المَنصُوبُ في قَوْلِهِ ”جَعَلَهُ“ عائِدٌ إلى القَوْلِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ”فاسْتَجابَ لَكم أنِّي مُمِدُّكم“ أيْ ما جَعَلَ جَوابَكم بِهَذا الكَلامِ إلّا لِيُبَشِّرَكم، وإلّا فَقَدْ كانَ يَكْفِيكم أنْ يَضْمَنَ لَكُمُ النَّصْرَ دُونَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّهُ بِإمْدادٍ مِنَ المَلائِكَةِ. وفائِدَةُ التَّبْشِيرِ بِإمْدادِ المَلائِكَةِ أنَّ يَوْمَ بَدْرٍ كانَ في أوَّلِ يَوْمٍ لَقِيَ فِيهِ المُسْلِمُونَ عَدُوًّا قَوِيًّا وجَيْشًا عَدِيدًا، فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِكَيْفِيَّةِ النَّصْرِ الَّذِي ضَمِنَهُ لَهم بِأنَّهُ بِجَيْشٍ مِنَ المَلائِكَةِ، لِأنَّ النُّفُوسَ أمْيَلُ إلى المَحْسُوساتِ، فالنَّصْرُ مَعْنًى مِنَ المَعانِي يَدِقُّ إدْراكُهُ وسُكُونُ النَّفْسِ لِتُصَوُّرِهِ بِخِلافِ الصُّوَرِ المَحْسُوسَةِ مِن تَصْوِيرِ مَدَدِ المَلائِكَةِ ورُؤْيَةِ أشْكالِ بَعْضِهِمْ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ في نَظِيرِ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ إلّا لِتَعَرُّضٍ لِما بَيْنَ الآيَتَيْنِ مِنَ اخْتِلافٍ في تَرْتِيبِ النَّظْمِ وذَلِكَ في ثَلاثَةِ أُمُورٍ. أحَدُها أنَّهُ قالَ في آلِ عِمْرانَ ”﴿إلّا بُشْرى لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٢٦]“ وحَذَفَ ”لَكم“ هُنا دَفْعًا لِتَكْرِيرِ لَفْظِهِ لَسَبْقِ كَلِمَةِ ”لَكم“ قَرِيبًا في قَوْلِهِ ”فاسْتَجابَ لَكم“ فَعَلِمَ السّامِعُ أنَّ البُشْرى لَهم، فَأغْنَتْ ”لَكُمُ“ الأوْلى، بِلَفْظِها ومَعْناها، عَنْ ذِكْرِ ”لَكم“ مَرَّةً ثانِيَةً، ولِأنَّ آيَةَ آلِ عِمْرانَ سِيقَتْ مَساقَ الِامْتِنانِ والتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ النَّصْرِ في حِينِ القِلَّةِ والضَّعْفِ، فَكانَ تَقْيِيدُ ”بُشْرى“ بِأنَّها لِأجْلِهِمْ زِيادَةً في المِنَّةِ أيْ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بُشْرى لِأجْلِكم كَقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١] وأمّا آيَةُ الأنْفالِ فَهي مَسُوقَةٌ مَساقَ العِتابِ عَلى كَراهِيَةِ الخُرُوجِ إلى بَدْرٍ في أوَّلِ الأمْرِ، وعَلى اخْتِيارِ أنْ تَكُونَ الطّائِفَةُ الَّتِي تُلاقِيهِمْ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ، فَجَرَّدَ (p-٢٧٧)بُشْرى عَنْ أنْ يُعَلِّقَ بِهِ ”لَكم“ إذْ كانَتِ البُشْرى لِلنَّبِيءِ ﷺ ومَن لَمْ يَتَرَدَّدُوا مِنَ المُسْلِمِينَ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ في آلِ عِمْرانَ. ثانِيها تَقْدِيمُ المَجْرُورِ هُنا في قَوْلِهِ ”بِهِ قُلُوبُكم“ وهو يُفِيدُ الِاخْتِصاصَ، فَيَكُونُ المَعْنى: ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكم لا بِغَيْرِهِ، وفي هَذا الِاخْتِصاصِ تَعْرِيضٌ بِما اعْتَراهم مِنَ الوَجَلِ مِنَ الطّائِفَةِ ذاتِ الشَّوْكَةِ وقَناعَتِهِمْ بِغَنْمِ العُرُوضِ الَّتِي كانَتْ مَعَ العِيرِ، فَعَرَّضَ لَهم بِأنَّهم لَمْ يَتَفَهَّمُوا مُرادَ الرَّسُولِ ﷺ، حِينَ اسْتَشارَهم، وأخْبَرَهم بِأنَّ العِيرَ سَلَكَتْ طَرِيقَ السّاحِلِ فَكانَ ذَلِكَ كافِيًا في أنْ يَعْلَمُوا أنَّ الطّائِفَةَ المَوْعُودَ بِها تَمَحَّضَتْ أنَّها طائِفَةُ النَّفِيرِ. وكانَ الشَّأْنُ أنْ يَظُنُّوا بِوَعْدِ اللَّهِ أكْمَلَ الأحْوالِ، فَلَمّا أرادَ اللَّهُ تَسْكِينَ رَوْعِهِمْ، وعَدَهم بِنُصْرَةِ المَلائِكَةِ عِلْمًا بِأنَّهُ لا يُطَمْئِنُ قُلُوبَهم إلّا ذَلِكَ. وجَعَلَ الفَخْرُ التَّقْدِيمَ هُنا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ بِذَلِكَ الوَعْدِ، وذَلِكَ مِن وُجُوهِ التَّقْدِيمِ لَكِنَّهُ وجَّهَ تَأْخِيرَهُ في آلِ عِمْرانَ بِما هو غَيْرُ مَقْبُولٍ. ثالِثُها أنَّهُ قالَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ العَزِيزُ الحَكِيمُ فَصاغَ الصِّفَتَيْنِ العَلِيَّتَيْنِ في صِيغَةِ النَّعْتِ، وجَعَلَهُما في هَذِهِ الآيَةِ في صِيغَةِ الخَبَرِ المُؤَكَّدِ، إذْ قالَ ”إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ“ فَنَزَّلَ المُخاطَبِينَ مَنزِلَةَ مَن يَتَرَدَّدُ في أنَّهُ - تَعالى - مَوْصُوفٌ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: وهُما العِزَّةُ، المُقْتَضِيَةُ أنَّهُ إذا وعَدَ بِالنَّصْرِ لَمْ يُعْجِزْهُ شَيْءٌ، والحِكْمَةُ، فَما يَصْدُرُ مِن جانِبِهِ يَجِبُ غَوْصُ الأفْهامِ في تَبَيُّنِ مُقْتَضاءِهِ، فَكَيْفَ لا يَهْتَدُونَ إلى أنَّ اللَّهَ لَمّا وعَدَهُمُ الظَّفَرَ بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ وقَدْ فاتَتْهُمُ العِيرُ أنَّ ذَلِكَ آيِلٌ إلى الوَعْدِ بِالظَّفَرِ بِالنَّفِيرِ. وجُمْلَةُ ”إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ“ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا جُعِلَتْ كالإخْبارِ بِما لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لَهم.