ركن التفسير
15 - (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً) أي مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون (فلا تولوهم الأدبار) منهزمين
يقول تعالى متوعدا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا" أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم "فلا تولوهم الأدبار" أي تفروا وتتركوا أصحابكم.
(p-٢٨٦)﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبارَ﴾ ﴿ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبَرَهُ إلّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ومَأْواهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ لَمّا ذَكَّرَ اللَّهُ المُسْلِمِينَ بِما أيَّدَهم يَوْمَ بَدْرٍ بِالمَلائِكَةِ والنَّصْرِ مِن عِنْدِهِ، وأكْرَمَهم بِأنْ نَصَرَهم عَلى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ كانُوا أشَدَّ مِنهم وأكْثَرَ عَدَدًا وعُدَدًا وأعْقَبُهُ بِأنْ أعْلَمَهم أنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ مَعَ الكافِرِينَ بِهِ اعْتَرَضَ في خِلالِ ذَلِكَ بِتَحْذِيرِهِمْ مِنَ الوَهْنِ والفِرارِ. فالجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أنِّي مَعَكُمْ﴾ [الأنفال: ١٢] وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ [الأنفال: ١٧] الآيَةَ. وفي هَذا تَدْرِيبٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلى الشَّجاعَةِ والإقْدامِ والثَّباتِ عِنْدَ اللِّقاءِ وهي خُطَّةٌ مَحْمُودَةٌ عِنْدَ العَرَبِ لَمْ يَزِدْها الإسْلامُ إلّا تَقْوِيَةً. قالَ الحُصَيْنُ بْنُ الحُمامِ: ؎تَأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحَياةَ فَلَمْ أجِدْ لِنَفْسِي حَياةً مِثْلَ أنْ أتَقَدَّمَـــا وقَدْ قِيلَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في قِتالِ بَدْرٍ، ولَعَلَّ مُرادَ هَذا القائِلِ أنَّ حُكْمَها نَزَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ أُثْبِتَتْ في سُورَةِ الأنْفالِ النّازِلَةِ بَعْدَ المَلْحَمَةِ، أوْ أرادَ أنَّها نَزَلَتْ قَبْلَ الآياتِ الَّتِي صُدِّرَتْ بِها سُورَةُ الأنْفالِ ثُمَّ رُتِّبَتْ في التِّلاوَةِ في مَكانِها هَذا، والصَّحِيحُ أنَّها نَزَلَتْ بَعْدَ وقْعَةِ بَدْرٍ كَما سَيَأْتِي. واللِّقاءُ غَلَبَ اسْتِعْمالُهُ في كَلامِهِمْ عَلى مُناجَزَةِ العَدُوِّ في الحَرْبِ. فالجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، والمُناسَبَةُ واضِحَةٌ، وسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا﴾ [الأنفال: ٤٥] في هَذِهِ السُّورَةِ، وأصْلُ اللِّقاءِ أنَّهُ الحُضُورُ لَدى الغَيْرِ. والزَّحْفُ أصْلُهُ مَصْدَرُ زَحَفَ مِن بابِ مَنَعَ إذا انْبَعَثَ مِن مَكانِهِ مُتَنَقِّلًا عَلى مَقْعَدَتِهِ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ كَما يَزْحَفُ الصَّبِيُّ. ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى مَشْيِ المُقاتِلِ إلى عَدُوِّهِ في ساحَةِ القِتالِ زَحْفٌ لِأنَّهُ يَدْنُو إلى العَدُوِّ بِاحْتِراسٍ وتَرَصُّدِ فُرْصَةٍ فَكَأنَّهُ يَزْحَفُ إلَيْهِ. (p-٢٨٧)ويُطْلَقُ الزَّحْفُ عَلى الجَيْشِ الدَّهْمِ، أيِ الكَثِيرِ عَدَدِ الرِّجالِ، لِأنَّهُ لِكَثْرَةِ النّاسِ فِيهِ يَثْقُلُ تَنَقُّلُهُ، فَوُصِفَ بِالمَصْدَرِ، ثُمَّ غُلِبَ إطْلاقُهُ حَتّى صارَ مَعْنًى مِن مَعانِي الزَّحْفِ، ويُجْمَعُ عَلى زُحُوفٍ. وقَدِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ المُرادِ مِن لَفْظِ زَحْفًا في هَذِهِ الآيَةِ فَمِنهم مَن فَسَّرَهُ بِالمَعْنى المَصْدَرِيِّ أيِ المَشْيِ في الحَرْبِ وجَعَلَهُ وصْفًا لِتَلاحُمِ الجَيْشَيْنِ عِنْدَ القِتالِ لِأنَّ المُقاتِلِينَ يَدِبُّونَ إلى أقْرانِهِمْ دَبِيبًا ومِنهم مَن فَسَّرَهُ بِمَعْنى الجَيْشِ الدَّهْمِ الكَثِيرِ العَدَدِ، وجَعَلَهُ وصْفًا لِذاتِ الجَيْشِ. وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ فَهو: إمّا حالٌ مِن ضَمِيرِ لَقِيتُمْ وإمّا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ هو نَهْيٌ عَنِ الِانْصِرافِ مِنَ القِتالِ فِرارًا إذا التَحَمَ الجَيْشانِ، سَواءٌ جَعَلْتَ زَحْفًا حالًا مِن ضَمِيرِ لَقِيتُمْ أوْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأنَّ مَشْيَ أحَدِ الجَيْشَيْنِ يَسْتَلْزِمُ مَشْيَ الآخَرِ. وعَلى التَّفْسِيرِ الثّانِي فَإنْ جُعِلَ حالًا مِن ضَمِيرِ لَقِيتُمْ كانَ نَهْيًا عَنِ الفِرارِ إذا كانَ المُسْلِمُونَ جَيْشًا كَثِيرًا، ومَفْهُومُهُ أنَّهم إذا كانُوا قِلَّةً فَلا نَهْيَ، وهَذا المَفْهُومُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] إلى مَعَ الصّابِرِينَ، وإنْ جُعِلَ حالًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كانَ المَعْنى إذا لَقِيتُمُوهم وهم كَثِيرُونَ فَلا تَفِرُّوا، فَيُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الفِرارِ إذا كانَ الكُفّارُ قِلَّةً بِفَحْوى الخِطابِ ويُؤَوَّلُ إلى مَعْنى لا تُوَلُّوهُمُ الأدْبارَ في كُلِّ حالٍ. وهَذِهِ الآيَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ أهْلِ العِلْمِ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِضاءِ وقْعَةِ بَدْرٍ، وهو القَوْلُ الَّذِي لا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ في صِحَّتِهِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الِاخْتِلافِ في أنْفالِ الجَيْشِ مِن أهْلِ بَدْرٍ عِنْدَ قِسْمَةِ مَغانِمِ بَدْرٍ، وما هَذِهِ الآيَةُ إلّا جُزْءٌ مِن هَذِهِ السُّورَةِ فَحُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ شَرْعٌ شَرَعَهُ اللَّهُ عَلى المُسْلِمِينَ بِسَبَبِ تِلْكَ الغَزْوَةِ لِتَوَقُّعِ حُدُوثِ غَزَواتٍ يَكُونُ جَيْشُ المُسْلِمِينَ فِيها قَلِيلًا كَما كانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَهاهُمُ اللَّهُ عَنِ التَّقَهْقُرِ إذا لاقَوُا العَدُوَّ. فَأمّا يَوْمُ بَدْرٍ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ في هَذا الشَّأْنِ فَإنَّ المُسْلِمِينَ وقَعُوا في الحَرْبِ بَغْتَةً وتَوَلّى اللَّهُ نَصْرَهم. (p-٢٨٨)وحُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ باقٍ غَيْرُ مَنسُوخٍ عِنْدَ جُمْهُورِ أهْلِ العِلْمِ، ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وجُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ، لَكِنَّهم جَعَلُوا عُمُومَ هَذِهِ الآيَةِ مَخْصُوصًا بِآيَةِ ”﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإنْ تَكُنْ مِنكم مِائَةً يَغْلِبُوا ألْفًا﴾ [الأنفال: ٦٥]“ إلى قَوْلِهِ ”بِإذْنِ اللَّهِ“ . والوَجْهُ في الِاسْتِدْلالِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلى صِيَغِ عُمُومٍ في قَوْلِهِ ﴿ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ وهي مِن جانِبٍ آخَرَ مُطْلَقَةٌ في حالَةِ اللِّقاءِ مِن قَوْلِهِ ﴿إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا﴾ فَتَكُونُ آياتُ ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٥] إلى قَوْلِهِ ﴿يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٦] مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ هاتِهِ الآيَةِ بِمِقْدارِ العَدَدِ ومُقَيِّدَةً لِإطْلاقِها اللِّقاءَ بِقَيْدِ حالَةِ ذَلِكَ العَدَدِ. ورُوِيَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وعَطاءٍ، والحَسَنِ، ونافِعٍ، وقَتادَةَ، والضَّحّاكِ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ وقْعَةِ بَدْرٍ. وقالُوا إنَّ حُكْمَها نُسِخَ بِآيَةِ الضِّعْفِ أيْ آيَةِ ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ﴾ [الأنفال: ٦٥] الآيَةَ وبِهَذا قالَ أبُو حَنِيفَةَ، ومِثالُ القَوْلَيْنِ واحِدٌ بِالنِّسْبَةِ لِما بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، ولِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا في فِقْهِ هَذِهِ الآيَةِ إلّا ما رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ كَما سَيَأْتِي. والصَّحِيحُ هو الأوَّلُ كَما يَقْتَضِيهِ سِياقُ انْتِظامِ آيِ السُّورَةِ، ولَوْ صَحَّ قَوْلُ أصْحابِ الرَّأْيِ الثّانِي لَلَزِمَ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الشُّرُوعِ في القِتالِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الأنْفالِ فَأُلْحِقَتِ الآيَةُ بِها، وهَذا ما لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ مِن أصْحابِ الأثَرِ. وذَهَبَ فَرِيقٌ ثالِثٌ إلى أنَّ قَوْلَهُ - تَعالى - ﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبارَ﴾ الآيَةَ مُحْكَمٌ عامٌّ في الأزْمانِ، لا يُخَصَّصُ بِيَوْمِ بَدْرٍ ولا بِغَيْرِهِ، ولا يَخْتَصُّ بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ. ونَسَبَ ابْنُ الفُرْسِ، عَنِ النَّحّاسِ، إلى عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ، وقالَ ابْنُ الفُرْسِ: قالَ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: هو الصَّحِيحُ لِأنَّهُ ظاهِرُ القُرْآنِ والحَدِيثِ، ولَمْ يَذْكُرْ أيْنَ قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ ذَلِكَ، وأنا لَمْ أقِفْ عَلَيْهِ. ولَمْ يَسْتَقِرَّ مِن عَمَلِ جُيُوشِ المُسْلِمِينَ، في غَزَواتِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ومَعَ الأُمَراءِ الصّالِحِينَ في زَمَنِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ، ما يَنْضَبِطُ بِهِ مَدى الإذْنِ أوِ المَنعِ مِنَ الفِرارِ. وقَدِ انْكَشَفَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَنَّفَهُمُ اللَّهُ - تَعالى - بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ إنَّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ولَقَدْ عَفا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٥] وما عَفا عَنْهم إلّا بَعْدَ أنِ اسْتَحَقُّوا الإثْمَ، ولَمّا انْكَشَفُوا عِنْدَ لِقاءِ هَوازِنَ (p-٢٨٩)يَوْمَ حُنَيْنٍ عَنَّفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ ولَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥] إلى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلى مَن يَشاءُ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ٢٧] في سُورَةِ بَراءَةَ، وذِكْرُ التَّوْبَةِ يَقْتَضِي سَبْقَ الإثْمِ. ومَعْنى ﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبارَ﴾ لا تُوَجِّهُوا إلَيْهِمْ أدْبارَكم. يُقالُ ولّى وجْهَهُ فُلانًا إذا أقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ ومِنهُ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٤٤] فَيُعَدّى فِعْلُ ولّى إلى مَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ التَّضْعِيفِ، ومُجَرَّدُهُ ”ولِيَ“ إذا جَعَلَ شَيْئًا والِيًا أيْ قَرِيبًا فَيَكُونُ ”ولّى“ المُضاعَفُ مِثْلَ ”قَرَّبَ“ المُضاعَفِ، فَهَذا نَظْمُ هَذا التَّرْكِيبِ. والأدْبارُ جَمْعُ دُبُرٍ وهو ضِدُّ قُبُلِ الشَّيْءِ، وجْهُهُ وما يَتَوَجَّهُ إلَيْكَ مِنهُ عِنْدَ إقْبالِهِ عَلى شَيْءٍ وجَعْلُهُ أمامَهُ، ودُبُرُهُ ظَهْرُهُ وما تَراهُ مِنهُ حِينَ انْصِرافِهِ وجَعْلُهُ إيّاكَ وراءَهُ، ومِنهُ يُقالُ اسْتَقْبَلَ واسْتَدْبَرَ وأقْبَلَ وأدْبَرَ، فَمَعْنى تَوْلِيَتِهِمُ الأدْبارَ صَرْفُ الأدْبارِ إلَيْهِمْ، أيِ الرُّجُوعُ عَنِ اسْتِقْبالِهِمْ، وتَوْلِيَةُ الأدْبارِ كِنايَةٌ عَنِ الفِرارِ مِنَ العَدُوِّ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ في سِياقِ لِقاءِ العَدُوِّ، فَهو مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ مَعْناهُ مَعَ بَعْضِ المَعْنى الأصْلِيِّ، وإلّا فَإنَّ صَرْفَ الظَّهْرِ إلى العَدُوِّ بَعْدَ النَّصْرِ لا بُدَّ مِنهُ وهو الِانْصِرافُ إلى المُعَسْكَرِ، إذْ لا يَفْهَمُ أحَدٌ النَّهْيَ عَنْ إرادَةِ الوَجْهِ عَنِ العَدُوِّ، وإلّا لَلَزِمَ أنْ يَبْقى النّاسُ مُسْتَقْبِلِينَ جَيْشَ عَدُوِّهِمْ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أنَّ المُفادَ مِن قَوْلِهِ ﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبارَ﴾ النَّهْيُ عَنِ الفِرارِ قَبْلَ النَّصْرِ أوِ القَتْلِ. وعَبَّرَ عَنْ حِينِ الزَّحْفِ بِلَفْظِ اليَوْمِ في قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ أيْ يَوْمَ الزَّحْفِ أيْ يُوُلِّهِمْ يَوْمَ الزَّحْفِ دُبُرَهُ أيْ حِينَ الزَّحْفِ. ومِن ثَمَّ اسْتَثْنى مِنهُ حالَةَ التَّحَرُّفِ لِأجْلِ الحِيلَةِ الحَرْبِيَّةِ والِانْحِيازِ إلى فِئَةٍ مِنَ الجَيْشِ لِلِاسْتِنْجادِ بِها أوْ لِإنْجادِها. والمُسْتَثْنى يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذاتًا مُسْتَثْنًى مِنَ المَوْصُولِ في قَوْلِهِ ﴿ومَن يُوَلِّهِمْ﴾ والتَّقْدِيرُ: إلّا رَجُلًا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ، فَحَذَفَ المَوْصُوفَ وبَقِيَتِ الصِّفَةُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُسْتَثْنى حالَةً مِن عُمُومِ الأحْوالِ دَلَّ عَلَيْها الِاسْتِثْناءُ أيْ إلّا في حالِ تَحَرُّفِهِ لِقِتالٍ. والتَّحَرُّفُ الِانْصِرافُ إلى الحَرْفِ، وهو المَكانُ البَعِيدُ عَنْ وسَطِهِ فالتَّحَرُّفُ مُزايَلَةُ المَكانِ المُسْتَقِرِّ فِيهِ والعُدُولُ إلى أحَدِ جَوانِبِهِ، وهو يَسْتَدْعِي تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ لِذَلِكَ المَكانِ بِمَعْنى الفِرارِ مِنهُ. (p-٢٩٠)واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ أيْ إلّا في حالِ تَحَرُّفٍ أيْ مُجانَبَةٍ لِأجْلِ القِتالِ، أيْ لِأجْلِ إعْمالِهِ إنْ كانَ المُرادُ بِالقِتالِ الِاسْمَ، أوْ لِأجْلِ إعادَةِ المُقاتَلَةِ إنْ كانَ المُرادُ بِالقِتالِ المَصْدَرَ، وتَنْكِيرُ قِتالٍ يُرَجِّحُ الوَجْهَ الثّانِي، فالمُرادُ بِهَذا التَّحَرُّفِ ما يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالفَرِّ لِأجْلِ الكَرِّ فَإنَّ الحَرْبَ كَرٌّ وفَرٌّ، وقالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ: ؎ولَقَدْ أجْمَعُ رِجْلَيَّ بِهَـا ∗∗∗ حَذَرَ المَوْتِ وإنِّي لَفَرُورُ ؎ولَقَدْ أعْطِفُهَـا كَـارِهَةً ∗∗∗ حِينَ لِلنَّفْسِ مِنَ المَوْتِ هَرِيرُ ؎كُلُّ مَـا ذَلِكَ مِنِّي خُلُقٌ ∗∗∗ وبِكُلٍّ أنا في الرَّوْعِ جَدِيرُ والتَّحَيُّزُ طَلَبُ الحَيِّزِ، فَيْعِلٌ مِنَ الحَوْزِ، فَأصْلُ إحْدى ياءَيْهِ الواوُ، فَلَمّا اجْتَمَعَتِ الواوُ والياءُ وكانَتِ السّابِقَةُ ساكِنَةً قُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ، ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنهُ تَحَيُّزٌ فَوَزْنُهُ ”تَفَيْعُلٌ“ وهو مُخْتارُ صاحِبِ الكَشّافِ جَرْيًا عَلى القِياسِ بِقَدْرِ الإمْكانِ، وجَوَّزَ التَّفْتازانِيُّ أنْ يَكُونَ وزْنُهُ ”تَفَعُّلُ“ بِناءً عَلى اعْتِبارِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الكَلِمَةِ الواقِعِ فِيها الإبْدالُ والإدْغامُ وهي الحَيِّزُ، ونَظَّرَهُ بِقَوْلِهِمْ ”تَدَيُّرٌ“ بِمَعْنى الإقامَةِ في الدّارِ، فَإنَّ الدّارَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدَّوَرانِ ولِذَلِكَ جُمِعَتْ عَلى دُورٍ، إلّا أنَّهُ لَمّا كَثُرَ في جَمْعِها دِيارٌ ودِيَرَةٌ عُومِلَتْ مُعامَلَةَ ما عَيْنُهُ ياءٌ، فَقالُوا مِن ذَلِكَ تَدَيَّرَ بِمَعْنى أقامَ في الدّارِ وهو تَفَعَّلَ مِنَ الدّارِ، واحْتَجَّ بِكَلامِ ابْنِ جِنِّيٍّ والمَرْزُوقِيِّ في شَرْحِ الحَماسَةِ، يَعْنِي ما قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ في شَرْحِ الحَماسَةِ عِنْدَ قَوْلِ جابِرِ بْنِ حَرِيشٍ: ؎إذْ لا تَخافُ حُدُوجُنا قَذْفَ النَّوى ∗∗∗ قَبْلَ الفَسَـادِ إقَـامَةً وتَدَيُّرا التَّدَيُّرُ تَفَعُّلٌ مِنَ الدّارِ وقِياسُهُ تَدَوَّرٌ إلّا أنَّهُ لَمّا كَثُرَ اسْتِعْمالُهم دِيارَ أنِسُوا بِالياءِ ووَجَدُوا جانِبَها أوْطَأ حِسًّا وألْيَنَ مَسًّا فاجْتَرُّوا عَلَيْها فَقالُوا تَدَيُّرٌ. وما قالَ المَرْزُوقِيُّ ”الأصْلُ في تَدَيُّرٍ الواوُ ولَكِنَّهم بَنَوْهُ عَلى دِيارٍ لِإلْفِهِمْ لَهُ بِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ في كَلامِهِمْ“ . فَمَعْنى ﴿مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ﴾ أنْ يَكُونَ رَجَعَ القَهْقَرى لِيَلْتَحِقَ بِطائِفَةٍ مِن أصْحابِهِ فَيَتَقَوّى بِهِمْ. والفِئَةُ الجَماعَةُ مِنَ النّاسِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ (p-٢٩١)﴿كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾ [البقرة: ٢٤٩] وتُطْلَقُ عَلى مُؤَخَّرَةِ الجَيْشِ لِأنَّها يَفِيءُ إلَيْها مَن يَحْتاجُ إلى إصْلاحِ أمْرِهِ أوْ مَن عُرِضَ لَهُ ما يَمْنَعُهُ مِنَ القِتالِ مِن مَرَضٍ أوْ جِراحَةٍ أوْ يَسْتَنْجِدُ بِهِمْ، فَهو تَوَلٍّ لِمَقْصِدِ القِتالِ، ولَيْسَ المُرادُ أنْ يَنْحازَ إلى جَماعَةٍ مُسْتَرِيحِينَ لِأنَّ ذَلِكَ مِنَ الفِرارِ. ويَدْخُلُ في مَعْنى التَّحَيُّزِ إلى الفِئَةِ الرُّجُوعُ إلى مَقَرِّ أمِيرِ الجَيْشِ لِلِاسْتِنْجادِ بِفِئَةٍ أُخْرى، وكَذَلِكَ القُفُولُ إلى مَقَرِّ أمِيرِ المِصْرِ الَّذِي وجَّهَ الجَيْشَ لِلِاسْتِمْدادِ بِجَيْشٍ آخَرَ إذا رَأى أمِيرُ الجَيْشِ ذَلِكَ مِنَ المَصْلَحَةِ كَما فَعَلَ المُسْلِمُونَ في فَتْحِ إفْرِيقِيَّةَ وغَيْرِهِ في زَمَنِ الخُلَفاءِ، ولَمّا انْهَزَمَ أبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ يَوْمَ الجِسْرِ بِالقادِسِيَّةِ، وقُتِلَ هو ومَن مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: ”هَلّا تَحَيَّزَ إلَيَّ فَأنا فِئَتُهُ“ . و”باءَ“ رَجَعَ. والمَعْنى أنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ في رُجُوعِهِ ذَلِكَ فَهو قَدْ رَجَعَ مُلابِسًا لِغَضَبِ اللَّهِ - تَعالى - عَلَيْهِ. ومُناسَبَةُ ”باءَ“ هُنا أنَّهُ يُشِيرُ إلى أنَّ سَبَبَ الغَضَبِ عَلَيْهِ هو ذَلِكَ البَوْءُ الَّذِي باءَهُ. وهَذا غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِ في الدُّنْيا المُسْتَحِقُّ الذَّمَّ وغَيْرَهُ مِمّا عَسى أنْ يَحْرِمَهُ عِنايَةَ اللَّهِ - تَعالى - في الدُّنْيا. ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ المَصِيرُ إلى عَذابِ جَهَنَّمَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ إلى المُشْرِكِينَ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ. فالآيَةُ دالَّةٌ عَلى تَحْرِيمِ التَّوَلِّي عَنْ مُقابَلَةِ العَدُوِّ حِينَ الزَّحْفِ. والَّذِي أُرى في فِقْهِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ هو تَحْرِيمُ التَّوَلِّي عَلى آحادِهِمْ وجَماعَتِهِمْ إذا التَقَوْا مَعَ أعْدائِهِمْ في مَلاحِمِ القِتالِ والمُجالَدَةِ، بِحَيْثُ إنَّ المُسْلِمِينَ إذا تَوَجَّهُوا إلى قِتالِ المُشْرِكِينَ أوْ إذا نَزَلَ المُشْرِكُونَ لِمُقاتَلَتِهِمْ وعَزَمُوا عَلى المُقاتَلَةِ. فَإذا التَقى الجَيْشانِ لِلْقِتالِ وجَبَ عَلى المُسْلِمِينَ الثَّباتُ والصَّبْرُ لِلْقِتالِ، ولَوْ كانُوا أقَلَّ مِن جَيْشِ المُشْرِكِينَ، فَإمّا أنْ يَنْتَصِرُوا وإمّا أنْ يَسْتَشْهِدُوا وعَلى هَذا فَلِلْمُسْلِمِينَ النَّظَرُ قَبْلَ اللِّقاءِ هَلْ هم بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُونَ الثَّباتَ وجْهَهُ أوْ لا، فَإنَّ وقْتَ المُجالَدَةِ يَضِيقُ عَنِ التَّدْبِيرِ، فَعَلى الجَيْشِ النَّظَرُ في عَدَدِهِ وعُدَدِهِ ونِسْبَةُ ذَلِكَ مِن جَيْشِ عَدُوِّهِمْ، فَإذا أزْمَعُوا الزَّحْفَ وجَبَ عَلَيْهِمُ الثَّباتَ، وكَذَلِكَ يَكُونُ شَأْنُهم في مُدَّةِ نُزُولِهِمْ بِدارِ العَدُوِّ، فَإذا رَأوْا لِلْعَدُوِّ نَجْدَةً أوِ ازْدِيادَ قُوَّةٍ نَظَرُوا في أمْرِهِمْ هَلْ يَثْبُتُونَ لِقِتالِهِ أوْ يَنْصَرِفُونَ بِإذْنِ أمِيرِهِمْ، فَإمّا أنْ يَأْمُرَهم بِالكَفِّ عَنْ مُتابَعَةِ ذَلِكَ (p-٢٩٢)العَدُوِّ وإمّا أنْ يَأْمُرَهم بِالِاسْتِنْجادِ والعَوْدَةِ إلى قِتالِ العَدُوِّ كَما صَنَعَ المُسْلِمُونَ في غَزْوَةِ إفْرِيقِيَّةَ الأُولى وهَذا هو الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا﴾ [الأنفال: ٤٥] وما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ يَوْمَ الأحْزابِ قامَ في النّاسِ فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ لا تَتَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ فَإذا لَقِيتُمُوهم فاصْبِرُوا واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ» . ولَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أنْ يَمْضِيَ المُسْلِمُونَ في نَصْرِ الدِّينِ. وعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ لِأمِيرِ الجَيْشِ، إذا رَأى المَصْلَحَةَ في الِانْجِلاءِ عَنْ دارِ العَدُوِّ وتَرْكِ قِتالِهِمْ، أنْ يُغادِرَ دارَ الحَرْبِ ويَرْجِعَ إلى مَقَرِّهِ، إذا أمِنَ أنْ يَلْحَقَ بِهِ العَدُوُّ، وكانَ لَهُ مِنَ القُوَّةِ ما يَسْتَطِيعُ بِهِ دِفاعَهم إذا لَحِقُوا بِهِ، فَذَلِكَ لا يُسَمّى تَوْلِيَةَ أدْبارٍ، بَلْ هو رَأْيٌ ومَصْلَحَةٌ، وهَذا عِنْدِي هو مَحْمَلُ ما رَوى أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أنَّهُ كانَ في سَرِيَّةٍ بَعَثَها النَّبِيءُ ﷺ، قالَ: ”فَحاصَ النّاسُ حَيْصَةً فَكُنْتُ فِيمَن حاصَ فَلَمّا بَرَزْنا قُلْنا كَيْفَ نَصْنَعُ إذا دَخَلْنا المَدِينَةَ وقَدْ فَرَرْنا مِنَ الزَّحْفِ وبُؤْنا بِالغَضَبِ ثُمَّ قُلْنا لَوْ عَرَضْنا أنْفُسَنا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإنْ كانَ لَنا تَوْبَةٌ أقَمْنا وإنْ كانَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَهَبْنا قالَ: فَجَلَسْنا لِرَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ صَلاةِ الفَجْرِ فَلَمّا خَرَجَ قُمْنا إلَيْهِ فَقُلْنا نَحْنُ الفَرّارُونَ، فَأقْبَلْ إلَيْنا فَقالَ: لا بَلْ أنْتُمُ العَكّارُونَ» (أيِ الَّذِينَ يَكُرُّونَ يَعْنِي أنَّ فِرارَكم مِن قَبِيلِ الفَرِّ لِلْكَرِّ يُقالُ لِلرَّجُلِ إذا ولّى عَنِ الحَرْبِ ثُمَّ كَرَّ راجِعًا إلَيْها عَكَّرَ أوِ اعْتَكَرَ) وأنا فِئَةُ المُسْلِمِينَ“ يَتَأوَّلُ لَهم أنَّ فِرارَهم مِن قَبِيلِ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ﴾ قالَ ابْنُ عُمَرَ ”فَدَنَوْنا فَقَبَّلْنا يَدَهُ“ . فَيُفْهَمُ مِنهُ أنَّ فِرارَ ابْنِ عُمَرَ وأصْحابِهِ لَمْ يَكُنْ في وقْتِ مُجالَدَتِهِمُ المُشْرِكِينَ، ولَكِنَّهُ كانَ انْسِلالًا لِيَنْحازُوا إلى المَدِينَةِ، فَتِلْكَ فِئَتُهم. وإنَّما حَرَّمَ اللَّهُ الفِرارَ في وقْتِ مُناجَزَةِ المُشْرِكِينَ ومُجالَدَتِهِمْ وهو وقْتُ اللِّقاءِ لِأنَّ الفِرارَ حِينَئِذٍ يُوقِعُ في الهَزِيمَةِ الشَّنِيعَةِ والتَّقْتِيلِ، وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ أوْجَبَ عَلى المُسْلِمِينَ قِتالَ المُشْرِكِينَ فَإذا أقْدَمَ المُسْلِمُونَ عَلى القِتالِ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهم إلّا بِصَبْرِهِمْ وتَأْيِيدِ اللَّهِ إيّاهم، فَلَوِ انْكَشَفُوا بِالفِرارِ لَأعْمَلَ المُشْرِكُونَ الرِّماحَ في ظُهُورِهِمْ فاسْتَأْصَلُوهم، فَلِذَلِكَ أمَرَهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ بِالصَّبْرِ والثَّباتِ، فَيَكُونُ ما في هَذِهِ الآيَةِ هو حُكْمُ الصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقاءِ، وبِهَذا يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِحالِ الزَّحْفِ لِلِاحْتِرازِ عَنِ اللِّقاءِ في غَيْرِ تِلْكَ الحالَةِ. وأمّا آيَةُ ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٥] فَقَدْ (p-٢٩٣)بَيَّنَتْ حُكْمَ العَدَدِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ طَلَبُ جِهادِ المُشْرِكِينَ بِنِسْبَةِ عَدَدِهِمْ إلى عَدَدِ المُشْرِكِينَ، ولَعَلَّ هَذا مُرادُ ابْنِ العَرَبِيِّ مِن قَوْلِهِ لِأنَّهُ ظاهِرُ الكِتابِ والحَدِيثِ فِيما نَقَلَهُ ابْنُ الفُرْسِ.