ركن التفسير
17 - (فلم تقتلوهم) ببدر بقوتكم (ولكن الله قتلهم) بنصره إياكم (وما رميت) يا محمد أعين القوم (إذ رميت) بالحصى لأن كفَّا من الحصى لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر (ولكن الله رمى) بإيصال ذلك إليهم فعل ذلك ليقهر الكافرين (وليبلي المؤمنين منه بلاءً) عطاءً (حسناً) هو الغنيمة (إن الله سميع) لأقوالهم (عليم) بأحوالهم
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم ولهذا قال "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم" أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم أي بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة" الآية وقال تعالى "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين" يعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللأمة والعدد وإنما النصر من عنده تعالى كما قال تعالى "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضا في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته فرماهم بها وقال "شاهت الوجوه" ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ولهذا قال تعالى "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" أي هو الذي بلغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يعني يوم بدر فقال "يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدأ" فقال له جبريل خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين وقال السدي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم بدر "أعطني حصبا من الأرض" فناوله حصبا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وأنزل الله "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال "شاهت الوجوه" فدخلت في أعينهم كلهم وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" قال هذا يوم بدر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصبات فرمى بحصبات ميمنة القوم وحصبات في ميسرة القوم وحصبات بين أظهرهم وقال "شاهت الوجوه" فانهزموا وقد روى في هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أحمد بن منصور حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا عبدالعزيز بن عمران حدثنا موسى بن يعقوب بن عبدالله بن ربيعة عن يزيد بن عبدالله عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا. غريب من هذا الوجه وههنا قولان آخران غريبان جدا. "أحدهما" قال ابن جرير حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان بن عمرو حدثنا عبدالرحمن بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر دعا بقوس فأتي بقوس طويلة وقال "جيئوني بقوس غيرها" فجاءوه بقوس كبداء فرمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو في فراشه فأنزل الله عز وجل "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" وهذا غريب وإسناده جيد إلى عبدالرحمن بن جبير بن نفير ولعله اشتبه عليه أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم والله أعلم. "والثاني" روى ابن جرير أيضا والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا: أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبي بن خلف بالحربة وهو في لأمته فخدشه في ترقوته فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا حتى كانت وفاته بعد أيام قاسى فيها العذاب الأليم موصولا بعذاب البرزخ المتصل بعذاب الآخرة وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم والله أعلم. وقال محمد بن إسحق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا" أي ليعرف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته وهكذا فسره ابن جرير أيضا وفي الحديث "وكل بلاء حسن أبلانا" وقوله "إن الله سميع عليم" أي سميع الدعاء عليم بمن يستحق النصر والغلب.
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ الأظْهَرُ أنَّ الفاءَ فَصِيحَةٌ ناشِئَةٌ عَنْ جُمْلَةِ ”إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أنِّي مَعَكم“ تُفْصِحُ عَنْ مُقَدَّرٍ قَبْلَها شَرْطٌ أوْ غَيْرُهُ، والأكْثَرُ أنْ يَكُونَ شَرْطًا فَتَكُونَ رابِطَةً لِجَوابِهِ، والتَّقْدِيرُ هُنا إذا عَلِمْتُمْ أنَّ اللَّهَ أوْحى إلى المَلائِكَةِ بِضَرْبِ أعْناقِ المُشْرِكِينَ وقَطْعِ أيْدِيهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهم أنْتُمْ ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهم أيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أنَّكم لَمْ تَقْتُلُوهم أنْتُمْ، وإلى هَذا يُشِيرُ كَلامُ صاحِبِ الكَشّافِ هُنا وتَبِعَهُ صاحِبُ المِفْتاحِ في آخِرِ بابِ النَّهْيِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الفاءُ عاطِفَةً عَلى جُمْلَةِ ”﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبارَ﴾ [الأنفال: ١٥]“ أيْ يَتَفَرَّعُ عَلى النَّهْيِ عَنْ أنْ تُوَلُّوا المُشْرِكِينَ الأدْبارَ تَنْبِيهُكم إلى أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي دَفَعَ المُشْرِكِينَ عَنْكم وأنْتُمْ أقَلُّ مِنهم عَدَدًا وعُدَّةً، والتَّفْرِيعُ بِالفاءِ تَفْرِيعُ العِلَّةِ عَلى المَعْلُولِ، فَإنَّ كَوْنَ قَتْلِ المُشْرِكِينَ ورَمْيِهِمْ حاصِلًا مِنَ اللَّهِ لِأمْنِ المُسْلِمِينَ يُفِيدُ تَعْلِيلًا وتَوْجِيهًا لِنَهْيِهِمْ عَنْ أنْ يُوَلُّوهُمُ الأدْبارَ، ولِأمْرِهِمُ الصَّبْرَ والثَّباتَ وهو تَعْرِيضٌ بِضَمانِ تَأْيِيدِ اللَّهِ إيّاهم إنِ امْتَثَلُوا لِقَوْلِهِ ”﴿واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٦]“ فَإنَّهم إذا امْتَثَلُوا ما أمَرَهُمُ اللَّهُ كانَ اللَّهُ ناصِرَهم، وذَلِكَ يُؤَكِّدُ الوَعِيدَ عَلى تَوْلِيَةِ الأدْبارِ لِأنَّهُ يَقْطَعُ عُذْرَ المُتَوَلِّينَ والفارِّينَ، ولِذَلِكَ قالَ اللَّهُ - تَعالى - في وقْعَةِ أُحُدٍ ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ إنَّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا﴾ [آل عمران: ١٥٥] . وإذْ قَدْ تَضَمَّنَتِ الجُمْلَةُ إخْبارًا عَنْ حالَةِ أفْعالٍ فَعَلَها المُخاطَبُونَ، كانَ المَقْصُودُ إعْلامَهم بِنَفْيِ ما يَظُنُّونَهُ مِن أنَّ حُصُولَ قَتْلِ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كانَ بِأسْبابِ ضَرْبِ سُيُوفِ المُسْلِمِينَ، فَأنَّبَأهم أنَّ تِلْكَ السُّيُوفَ ما كانَ يَحِقُّ لَها أنْ تُؤَثِّرَ ذَلِكَ التَّأْثِيرَ المُصِيبَ المُطَّرِدَ العامَّ الَّذِي حَلَّ بِأبْطالٍ ذَوِي شَجاعَةٍ، وذَوِي شَوْكَةٍ وشِكَّةٍ، وإنَّما كانَ ضَرْبُ سُيُوفِ المُسْلِمِينَ صُورِيًّا، أكْرَمَ اللَّهُ المُسْلِمِينَ بِمُقارَنَتِهِ فِعْلَ اللَّهِ - تَعالى - الخارِقَ لِلْعادَةِ، فالمَنفِيُّ هو الضَّرْبُ الكائِنُ سَبَبَ القَتْلِ في العادَةِ، وبِذَلِكَ كانَ القَتْلُ الحاصِلُ يَوْمَئِذٍ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ ﷺ وكَرامَةً لِأصْحابِهِ، ولَيْسَ المَنفِيُّ تَأْثِيرَ الضَّرْبِ (p-٢٩٤)فِي نَفْسِ الأمْرِ بِناءً عَلى القَضاءِ والقَدَرِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقَتْلِ الحاصِلِ يَوْمَ بَدْرٍ مَزِيَّةٌ عَلى أيِّ قَتْلٍ يَقَعُ بِالحَقِّ أوْ بِالباطِلِ، في جاهِلِيَّةٍ أوْ إسْلامٍ، وذَلِكَ سِياقُ الآيَةِ الَّذِي هو تَكْرِيمُ المُسْلِمِينَ وتَعْلِيلُ نَهْيِهِمْ عَنِ الفِرارِ إذا لَقُوا. ولَيْسَ السِّياقُ لِتَعْلِيمِ العَقِيدَةِ الحَقِّ. وأصْلُ الخَبَرِ المَنفِيِّ أنْ يَدُلَّ عَلى انْتِفاءِ صُدُورِ المُسْنَدِ عَنِ المُسْنَدِ إلَيْهِ، لا أنْ يَدُلَّ عَلى انْتِفاءِ وُقُوعِ المُسْنَدِ أصْلًا فَلِذَلِكَ صَحَّ النَّفْيُ في قَوْلِهِ ”﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾“ مَعَ كَوْنِ القَتْلِ حاصِلًا، وإنَّما المَنفِيُّ كَوْنُهُ صادِرًا عَنْ أسْبابِهِمْ. ووَجْهُ الِاسْتِدْراكِ المُفادِ بِ ”لَكِنَّ“ أنَّ الخَبَرَ نَفى أنْ يَكُونَ القَتْلُ الواقِعُ صادِرًا عَنِ المُخاطَبِينَ فَكانَ السّامِعُ بِحَيْثُ يَتَطَلَّبُ أكانَ القَتْلُ حَقِيقَةً أمْ هو دُونَ القَتْلِ، ومَن كانَ فاعِلًا لَهُ، فاحْتِيجَ إلى الِاسْتِدْراكِ بِقَوْلِهِ ”﴿ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾“ . وقَدَّمَ المُسْنَدَ إلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ في قَوْلِهِ ”﴿ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾“ دُونَ أنْ يُقالَ ولَكِنْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ لا الِاخْتِصاصُ، لِأنَّ نَفْيَ اعْتِقادِ المُخاطَبِينَ أنَّهُمُ القاتِلُونَ قَدْ حَصَلَ مِن جُمْلَةِ النَّفْيِ، فَصارَ المُخاطَبُونَ مُتَطَلِّبِينَ لِمَعْرِفَةِ فاعِلِ قَتْلِ المُشْرِكِينَ فَكانَ مُهِمًّا عِنْدَهم تَعْجِيلُ العِلْمِ بِهِ. * * * ﴿وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ اسْتِطْرادٌ بِذِكْرِ تَأْيِيدٍ إلَهِيٍّ آخَرَ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ في الكَلامِ السّابِقِ، وهو إشارَةٌ إلى ما ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ وابْنُ إسْحاقَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ أنْ حَرَّضَ المُؤْمِنِينَ عَلى القِتالِ يَوْمَ بَدْرٍ أتاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: خُذْ قَبْضَةً مِن تُرابٍ فارْمِهِمْ بِها، فَأخَذَ حَفْنَةً مِنَ الحَصْباءِ فاسْتَقْبَلَ بِها المُشْرِكِينَ ثُمَّ قالَ: شاهَتِ الوُجُوهُ، ثُمَّ نَفَحَهم بِها ثُمَّ أمَرَ أصْحابَهُ فَقالَ: شُدُّوا، فَكانَتِ الهَزِيمَةُ عَلى المُشْرِكِينَ، وقالَ غَيْرُهُ لَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إلّا أصابَهُ شَيْءٌ مِنَ الحَصا في عَيْنَيْهِ فَشُغِلَ بِعَيْنَيْهِ فانْهَزَمُوا»، فَلِكَوْنِ الرَّمْيِ قِصَّةً مَشْهُورَةً بَيْنَهم حَذَفَ مَفْعُولَ الرَّمْيِ في المَواضِعِ الثَّلاثَةِ، وهَذا أصَحُّ الرِّواياتِ، والمُرادُ بِالرَّمْيِ رَمْيُ الحَصْباءِ في وُجُوهِ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وفِيهِ رِواياتٌ أُخْرى لا تُناسِبُ مَهْيَعَ السُّورَةِ، فالخِطابُ في قَوْلِهِ ”رَمَيْتَ“ لِلنَّبِيءِ ﷺ . والرَّمْيُ حَقِيقَتُهُ إلْقاءُ شَيْءٍ أمْسَكَتْهُ اليَدُ، ويُطْلَقُ الرَّمْيُ عَلى الإصابَةِ بِسُوءٍ مِن (p-٢٩٥)فِعْلٍ أوْ قَوْلٍ كَما في قَوْلِ النّابِغَةِ: ؎رَمى اللَّهُ في تِلْكَ الأكُفِّ الكَوانِعِ أيْ أصابَها بِما يَشَلُّها - وقَوْلِ جَمِيلٍ: ؎رَمى اللَّهُ في عَيْنَيْ بُثَيْنَةَ بِالقَذى ∗∗∗ وفي الغُرِّ مِن أنْيابِها بِالقَوارِحِ وقَوْلِهِ - تَعالى - ”﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ﴾ [النور: ٦]“ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”رَمَيْتَ“ الأوَّلُ وقَوْلُهُ ”﴿ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾“ مُسْتَعْمَلَيْنِ في مَعْناهُما المَجازِيِّ أيْ وما أصَبْتَ أعْيُنَهم بِالقَذى ولَكِنَّ اللَّهَ أصابَها بِهِ لِأنَّها إصابَةٌ خارِقَةٌ لِلْعادَةِ فَهي مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ وكَرامَةٌ لِأهْلِ بَدْرٍ فَنُفِيَتْ عَنِ الرَّمْيِ المُعْتادِ وأُسْنِدَتْ إلى اللَّهِ لِأنَّها بِتَقْدِيرٍ خَفِيٍّ مِنَ اللَّهِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ ”إذْ رَمَيْتَ“ مُسْتَعْمَلًا في مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ. وفي القُرْطُبِيِّ عَنْ ثَعْلَبٍ أنَّ المَعْنى: وما رَمَيْتَ الفَزَعَ والرُّعْبَ في قُلُوبِهِمْ إذْ رَمَيْتَ بِالحَصْباءِ فانْهَزَمُوا، وفِيهِ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ: إنَّ رَمَيْتَ الأوَّلَ والثّانِي و”رَمى“ مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعانِيها الحَقِيقِيَّةِ وهو ما دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ وجَعَلُوا المَنفِيَّ هو الرَّمْيُ الحَقِيقِيُّ، والمُثْبَتَ في قَوْلِهِ ”إذْ رَمَيْتَ“ هو الرَّمْيُ المَجازِيُّ وجَعَلَهُ السَّكاكِيُّ مِنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ العَقْلِيَّيْنِ فَجَعَلَ ”ما رَمَيْتَ“ نَفْيًا لِلرَّمْيِ الحَقِيقِيِّ، وجَعَلَ ”إذْ رَمَيْتَ“ لِلرَّمْيِ المَجازِيِّ. وقَوْلُهُ ”إذْ رَمَيْتَ“ زِيادَةُ تَقْيِيدٍ لِلرَّمْيِ وأنَّهُ الرَّمْيُ المَعْرُوفُ المَشْهُورُ، وإنَّما احْتِيجَ إلَيْهِ في هَذا الخَبَرِ ولَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِهِ في قَوْلِهِ ”﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾“ لِأنَّ القَتْلَ لَمّا كانَتْ لَهُ أسْبابٌ كَثِيرَةٌ كانَ اخْتِصاصُ سُيُوفِ المُسْلِمِينَ بِتَأْثِيرِهِ غَيْرَ مُشاهَدٍ، وكانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ المَوْتَ قَدْ يَحْصُلُ مِن غَيْرِ فِعْلِ فاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ وإسْنادُ حُصُولِهِ إلى مُجَرَّدِ فِعْلِ اللَّهِ مُحْتاجًا إلى التَّأْكِيدِ بِخِلافِ كَوْنِ رَمْيِ الحَصى الحاصِلِ بِيَدِ الرَّسُولِ ﷺ حاصِلًا مِنهُ، فَإنَّ ذَلِكَ أمْرٌ مُشاهَدٌ لا يَقْبَلُ الِاحْتِمالَ فاحْتِيجَ في نَفْيِهِ إلى التَّأْكِيدِ إبْطالًا لِاحْتِمالِ المَجازِ في النَّفْيِ بِأنْ يُحْمَلَ عَلى نَفْيِ رَمْيٍ كامِلٍ، فَإنَّ العَرَبَ قَدْ يَنْفُونَ الفِعْلَ ومُرادُهم نَفْيُ كَمالِهِ حَتّى قَدْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الشَّيْءِ وإثْباتِهِ أوْ نَفْيِ ضِدِّهِ بِهَذا الِاعْتِبارِ كَقَوْلِ عَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ: ؎فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا ولَمْ أُمْنَعِ أيْ شَيْئًا مُجْدِيًا، فَدَلَّ قَوْلُهُ ”إذْ رَمَيْتَ“ عَلى أنَّ المُرادَ بِالنَّفْيِ في قَوْلِهِ ”وما رَمَيْتَ“ (p-٢٩٦)هُوَ الرَّمْيُ بِمَعْنى أثَرِهِ وحُصُولِ المَقْصُودِ مِنهُ، ولَيْسَ المُرادُ نَفْيَ وُقُوعِ الرَّمْيِ مِثْلَ المُرادِ في قَوْلِهِ ”﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾“ لِأنَّ الرَّمْيَ واقِعٌ مِن يَدِ النَّبِيءِ ﷺ ولَكِنَّ المُرادَ نَفْيُ تَأْثِيرِهِ، فَإنَّ المَقْصُودَ مِن ذَلِكَ الرَّمْيِ إصابَةُ عُيُونِ أهْلِ جَيْشِ المُشْرِكِينَ وما كانَ ذَلِكَ بِالَّذِي يَحْصُلُ بِرَمْيِ اليَدِ، لِأنَّ أثَرَ رَمْيِ البَشَرِ لا يَبْلُغُ أثَرُهُ مَبْلَغَ تِلْكَ الرَّمْيَةِ، فَلَمّا ظَهَرَ مِن أثَرِها ما عَمَّ الجَيْشَ كُلَّهم، عُلِمَ انْتِفاءُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّمْيَةُ مَدْفُوعَةً بِيَدِ مَخْلُوقٍ ولَكِنَّها مَدْفُوعَةٌ بِقُدْرَةِ الخالِقِ الخارِجَةِ عَنِ الحَدِّ المُتَعارَفِ، وأنَّ المُرادَ بِإثْباتِ الرَّمْيِ في قَوْلِهِ ”﴿ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾“ كالقَوْلِ في ”﴿ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾“ . وقَرَأ نافِعٌ والجُمْهُورُ ”ولَكِنَّ“ بِتَشْدِيدِ النُّونِ في المَوْضِعَيْنِ وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِسُكُونِ النُّونِ فِيهِما. * * * ﴿ولِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنهُ بَلاءً حَسَنًا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ عَطْفٌ عَلى مَحْذُوفٍ يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ ”﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾“ الآيَةَ، وقَوْلُهُ ”﴿وما رَمَيْتَ﴾“ الآيَةَ، فَإنَّ قَتْلَهُمُ المُشْرِكِينَ وإصابَةَ أعْيُنِهِمْ كانا لِغَرَضِ هَزْمِ المُشْرِكِينَ فَهو العِلَّةُ الأصْلِيَّةُ، ولَهُ عِلَّةٌ أُخْرى وهي أنْ يُبْلِيَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ بَلاءً حَسَنًا أيْ يُعْطِيَهم عَطاءً حَسَنًا يَشْكُرُونَهُ عَلَيْهِ فَيَظْهَرُ ما يَدُلُّ عَنْ قِيامِهِمْ بِشُكْرِهِ مِمّا تُخْتَبَرُ بِهِ طَوِيَّتُهم لِمَن لا يَعْرِفُها، وهَذا العَطاءُ هو النَّصْرُ والغَنِيمَةُ في الدُّنْيا والجَنَّةُ في الآخِرَةِ. واعْلَمْ أنَّ أصْلَ مادَّةِ هَذا الفِعْلِ هي البَلاءُ وجاءَ مِنهُ الإبْلاءُ بِالهَمْزِ وتَصْرِيفُ هَذا الفِعْلِ أغْفَلَهُ الرّاغِبُ في المُفْرَداتِ ومَن رَأيْتُ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وهو مُضارِعُ أبْلاهُ إذا أحْسَنَ إلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنَ البَلاءِ والبَلْوى الَّذِي أصْلُهُ الِاخْتِبارُ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى إصابَةِ أحَدٍ أحَدًا بِشَيْءٍ يَظْهَرُ بِهِ مِقْدارُ تَأثُّرِهِ، والغالِبُ أنَّ الإصابَةَ بِشَرٍّ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلى ما يَشْمَلُ الإصابَةَ بِخَيْرٍ قالَ - تَعالى - ”﴿ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]“ وهو إطْلاقٌ كَنائِيٌّ، وشاعَ ذَلِكَ الإطْلاقُ الكِنائِيُّ حَتّى صارَ بِمَنزِلَةِ المَعْنى الصَّرِيحِ، وبَقِيَ الفِعْلُ المُجَرَّدُ صالِحًا لِلْإصابَةِ بِالشَّرِّ والخَيْرِ، واسْتَعْمَلُوا ”أبْلاهُ“ مَهْمُوزٌ أيْ أصابَهُ بِخَيْرٍ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ”يُقالُ: مِنَ الخَيْرِ أبْلَيْتُهُ إبْلاءً ومِنَ الشَّرِّ بَلَوْتُهُ أبْلُوهُ بَلاءً“ قُلْتُ: جَعَلُوا الهَمْزَةَ فِيهِ دالَّةً عَلى الإزالَةِ أيْ إزالَةِ البَلاءِ الَّذِي غَلَبَ في إصابَةِ الشَّرِّ ولِهَذا قالَ - تَعالى - ”﴿بَلاءً حَسَنًا﴾“ وهو مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِ يُبْلِي مُؤَكِّدٌ لَهُ لِأنَّ فِعْلَ يُبْلِي دالٌّ عَلى بَلاءٍ حَسَنٍ (p-٢٩٧)وضَمِيرٌ مِنهُ عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ ومِنَ الِابْتِداءِ المَجازِيِّ لِتَشْرِيفِ ذَلِكَ الإبْلاءِ، ويَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلى المَذْكُورِ مِنَ القَتْلِ والرَّمْيِ ويَكُونُ مِن لِلتَّعْلِيلِ والسَّبَبِيَّةِ. وقَوْلُهُ ”﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾“ تَدْبِيلٌ لِلْكَلامِ و”إنَّ“ هُنا مُقَيِّدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ والرَّبْطِ أيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَقَدْ سَمِعَ دُعاءَ المُؤْمِنِينَ واسْتِغاثَتَهم وعَلِمَ أنَّهم لِعِنايَتِهِ ونَصْرِهِ فَقَبِلَ دُعاءَهم ونَصَرَهم.