ركن التفسير
27 - ونزل في أبي لبابة مروان بن عبد المنذر وقد بعثه إلى بني قريظة لينزلوا على حكمه فاستشاروه فأشار إليهم أنه الذبح لأن عياله وماله فيهم (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول) ولا (وتخونوا أماناتكم) ما ائتمنتم عليه من الدين وغيره (وأنتم تعلمون)
قال عبدالرزاق بن أبي قتادة والزهري أنزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد حتى أنزل الله توبته على رسوله فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه وأرادوا أن يحلوه من السارية فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فحله فقال يا رسول الله: إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة فقال "يجزيك الثلث أن تصدق به". وقال ابن جرير حدثني الحارث حدثنا عبدالعزيز حدثنا يونس بن الحارث الطائفي حدثنا محمد بن عبدالله بن عون الثقفي عن المغيرة بن شعبة قال نزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول" الآية. وقال ابن جرير أيضا حدثنا القاسم بن بشر بن معروف حدثنا شبابة بن سوار حدثنا محمد بن المحرم قال لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال حدثني جابر بن عبدالله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا" فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عز وجل "لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم" الآية هذا حديث غريب جدا وفي سنده وسياقه نظر. وفي الصحيحين قصة حاطب بن أبي بلتعة أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح فأطلع الله رسوله على ذلك فبعث في أثر الكتاب فاسترجعه واستحضر حاطبا فأقر بما صنع وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله: ألا أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؟ فقال "دعه فإنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" قلت والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "وتخونوا أماناتكم" الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يعني الفريضة يقول "لا تخونوا" لا تنقضوها وقال في رواية "لا تخونوا الله والرسول" يقول بترك سنته وارتكاب معصيته. وقال محمد بن إسحق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في هذه الآية أي لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السر إلى غيره فإن ذلك هلاك لأماناتكم وخيانة لأنفسكم. وقال السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم. وقال أيضا كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين وقال عبدالرحمن بن زيد نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون.
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكم وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿واعْلَمُوا أنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ وأنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ﴾ اسْتِئْنافُ خِطابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يُحَذِّرُهم مِنَ العِصْيانِ الخَفِيِّ، بَعْدَ أنْ أمَرَهم بِالطّاعَةِ والِاسْتِجابَةِ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ ﷺ حَذَّرَهم مِن أنْ يُظْهِرُوا الطّاعَةَ والِاسْتِجابَةَ في ظاهِرِ أمْرِهِمْ ويُبْطِنُوا المَعْصِيَةَ والخِلافَ في باطِنِهِ. ومُناسَبَتُهُ لِما قَبْلَهُ ظاهِرَةٌ وإنْ لَمْ تُسْبَقْ مِنَ المُسْلِمِينَ خِيانَةٌ، وإنَّما هو تَحْذِيرٌ. وذَكَرَ الواحِدِيُّ في أسْبابِ النُّزُولِ، ورَوى جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ وأهْلُ السِّيَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ والكَلْبِيِّ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي قَتادَةَ، أنَّها نَزَلَتْ في أبِي لُبابَةَ بْنِ عَبْدِ المُنْذِرِ الأنْصارِيِّ «لَمّا حاصَرَ المُسْلِمُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَسَألَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ الصُّلْحَ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَنْزِلُونَ عَلى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ فَأبَوْا وقالُوا أرْسِلْ إلَيْنا أبا لُبابَةَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَيْهِمْ أبا لُبابَةَ وكانَ ولَدُهُ وعِيالُهُ ومالُهُ عِنْدَهم، فَلَمّا جاءَهم قالُوا لَهُ: ما تَرى أنَنْزِلُ عَلى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأشارَ أبُو لُبابَةَ بِيَدِهِ عَلى حَلْقِهِ: أنَّهُ الذَّبْحُ، ثُمَّ فَطِنَ أنَّهُ قَدْ خانَ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الآيَةُ»، وهَذا الخَبَرُ لَمْ (p-٣٢٢)يَثْبُتْ في الصَّحِيحِ، ولَكِنَّهُ اشْتُهِرَ بَيْنَ أهْلِ السِّيَرِ والمُفَسِّرِينَ، فَإذا صَحَّ، وهو الأقْرَبُ كانَتِ الآيَةُ مِمّا نَزَلَ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ مِن وقْتِ نُزُولِ الآياتِ الَّتِي قَبْلَها، المُتَعَلِّقَةِ بِاخْتِلافِ المُسْلِمِينَ في أمْرِ الأنْفالِ، فَإنَّ بَيْنَ الحادِثَتَيْنِ نَحْوًا مِن ثَلاثِ سِنِينَ، ويُقَرِّبُ هَذا ما أشَرْنا إلَيْهِ آنِفًا مِنَ انْتِفاءِ وُقُوعِ خِيانَةٍ لِلَّهِ ورَسُولِهِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ. والخَوْنُ والخِيانَةُ: إبْطالُ ونَقْضُ ما وقَعَ عَلَيْهِ تَعاقُدٍ مِن دُونِ إعْلانٍ بِذَلِكَ النَّقْضِ، قالَ - تَعالى - ﴿وإمّا تَخافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيانَةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] والخِيانَةُ ضِدَّ الوَفاءِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأصْلُ مَعْنى الخَوْنِ النَّقْصُ، كَما أنَّ أصْلَ الوَفاءِ التَّمامُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الخَوْنُ في ضِدِّ الوَفاءِ لِأنَّكَ إذا خُنْتَ الرَّجُلَ في شَيْءٍ فَقَدْ أدْخَلْتَ عَلَيْهِ النُّقْصانَ فِيهِ، أيْ واسْتُعْمِلَ الوَفاءُ في الإتْمامِ بِالعَهْدِ، لِأنَّ مَن أنْجَزَ بِما عاهَدَ عَلَيْهِ فَقَدْ أتَمَّ عَهْدَهُ فَلِذَلِكَ يُقالُ: أوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهِ. فالإيمانُ والطّاعَةُ لِلَّهِ ورَسُولِهِ عَهْدٌ بَيْنَ المُؤْمِنِ وبَيْنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَكَما حُذِّرُوا مِنَ المَعْصِيَةِ العَلَنِيَّةِ حُذِّرُوا مِنَ المَعْصِيَةِ الخَفِيَّةِ. وتَشْمَلُ الخِيانَةُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ خَفِيَّةٍ، فَهي داخِلَةٌ في ”لا تَخُونُوا“، لِأنَّ الفِعْلَ في سِياقِ النَّهْيِ يَعُمُّ، فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ خَفِيَّةٍ فَهي مُرادٌ مِن هَذا النَّهْيِ، فَتَشْمَلُ الغُلُولَ الَّذِي حامُوا حَوْلَهُ في قَضِيَّةِ الأنْفالِ، لِأنَّهم لَمّا سَألَ بَعْضُهُمُ النَّفَلَ وكانُوا قَدْ خَرَجُوا يَتَتَبَّعُونَ آثارَ القَتْلى لِيَنْتَفِلُوا مِنهم، تَعَيَّنَ تَحْذِيرُهم مِنَ الغُلُولِ، فَذَلِكَ مُناسِبَةُ وقْعِ هَذِهِ الآيَةِ مِن هَذِهِ الآياتِ سَواءٌ صَحَّ ما حُكِيَ في سَبَبِ النُّزُولِ أمْ كانَتْ مُتَّصِلَةَ النُّزُولِ بِقَرِيناتِها. وفِعْلُ الخِيانَةِ أصْلُهُ أنْ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ وهو المَخُونُ، وقَدْ يُعَدّى تَعْدِيَةً ثانِيَةً إلى ما وقَعَ نَقْضُهُ، يُقالُ: خانَ فُلانًا أمانَتَهُ أوْ عَهْدَهُ، وأصْلُهُ أنَّهُ نُصِبَ عَلى نَزْعِ الخافِضِ، أيْ خانَهُ في عَهْدِهِ أوْ في أمانَتِهِ، فاقْتَصَرَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى المَخُوفِ ابْتِداءً، واقْتَصَرَ عَلى المَخُونِ فِيهِ في قَوْلِهِ ﴿وتَخُونُوا أماناتِكُمْ﴾ أيْ في أماناتِكم أيْ وتَخُونُوا النّاسَ في أماناتِكم. والنَّهْيُ عَنْ خِيانَةِ الأمانَةِ هُنا: إنْ كانَتِ الآيَةُ نازِلَةً في قَضِيَّةِ أبِي لُبابَةَ: أنَّ ما صَدَرَ مِنهُ مِن إشارَةٍ إلى ما في تَحْكِيمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ مِنَ الضُّرِّ عَلَيْهِمْ يُعْتَبَرُ خِيانَةً لِمَن بَعَثَهُ مُسْتَفْسِرًا، لِأنَّ حَقَّهُ أنْ لا يُشِيرَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ، إذْ هو مَبْعُوثٌ ولَيْسَ بِمُسْتَشارٍ. (p-٣٢٣)وإنْ كانَتِ الآيَةُ نَزَلَتْ مَعَ قَرِيناتِها فَنَهْيُ المُسْلِمِينَ عَنْ خِيانَةِ الأمانَةِ اسْتِطْرادٌ لِاسْتِكْمالِ النَّهْيِ عَنْ أنْواعِ الخِيانَةِ، وقَدْ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ المَفْعُولِ الأصْلِيِّ، إلى ذِكْرِ المَفْعُولِ المُتَّسَعِ فِيهِ، لِقَصْدِ تَبْشِيعِ الخِيانَةِ بِأنَّها نَقْضٌ لِلْأمانَةِ، فَإنَّ الأمانَةَ وصْفٌ مَحْمُودٌ مَشْهُورٌ بِالحُسْنِ بَيْنَ النّاسِ، فَما يَكُونُ نَقْضًا لَهُ يَكُونُ قَبِيحًا فَظِيعًا، ولِأجْلِ هَذا لَمْ يَقُلْ: وتَخُونُوا النّاسَ في أماناتِهِمْ، فَهَذا حَذْفٌ مِنَ الإيجازِ. والأمانَةُ اسْمٌ لِما يَحْفَظُهُ المَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الأمْنِ لِأنَّهُ يَأْمَنُهُ مِن أنْ يُضَيِّعَها، والأمِينُ الَّذِي يَحْفَظُ حُقُوقَ مَن يُوالِيهِ، وإنَّما أُضِيفَتِ الأماناتُ إلى المُخاطَبِينَ مُبالَغَةً في تَفْظِيعِ الخِيانَةِ، بِأنَّها نَقْضٌ لِأمانَةٍ مَنسُوبَةٍ إلى ناقِضِها، بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] دُونَ: ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ. ولِلْأمانَةِ شَأْنٌ عَظِيمٌ في اسْتِقامَةِ أحْوالِ المُسْلِمِينَ، ما ثَبَتُوا عَلَيْها وتَخَلَّقُوا بِها، وهي دَلِيلُ نَزاهَةِ النَّفْسِ واعْتِدالِ أعْمالِها، وقَدْ حَذَّرَ النَّبِيءُ ﷺ مِن إضاعَتِها والتَّهاوُنِ بِها، وأشارَ إلى أنَّ في إضاعَتِها انْحِلالَ أمْرِ المُسْلِمِينَ، فَفي صَحِيحِ البُخارِيِّ «عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ قالَ حَدَّثَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَدِيثِينَ: رَأيْتُ أحَدَهُما وأنا أنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنا أنَّ الأمانَةَ نَزَلَتْ عَلى جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ»، وحَدَّثَنا عَنْ رَفْعِها فَقالَ: «يَنامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ مِن قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أثَرُها مِثْلَ الوَكْتِ، ثُمَّ يَنامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقى أثَرُها مِثْلَ أثَرِ المَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَراهُ مُنْتَبِرًا ولَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، ويُصْبِحُ النّاسُ يَتَبايَعُونَ ولا يَكادُ أحَدٌ يُؤَدِّي الأمانَةَ، فَيُقالُ: إنَّ في بَنِي فُلانٍ رَجُلًا أمِينًا، ويُقالُ لِلرَّجُلِ: ما أعْقَلَهُ وما أظْرَفَهُ وما أجْلَدَهُ، وما في قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ» . الوَكْتُ سَوادٌ يَكُونُ في البُسْرِ إذا قارَبَ أنْ يَصِيرَ رُطَبًا، والمَجْلُ غِلَظُ الجِلْدِ مِن أثَرِ العَمَلِ والخِدْمَةِ، ونَفِطَ تَقَرَّحَ، ومُنْتَبِرًا مُنْتَفِخًا، وقَدْ جَعَلَها النَّبِيءُ ﷺ مِنَ الإيمانِ إذْ قالَ في آخِرِ الإخْبارِ عَنْها «وما في قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ»، وحَسْبُكَ مِن رَفْعِ شَأْنِ الأمانَةِ: أنْ كانَ صاحِبُها حَقِيقًا بِوِلايَةِ أمْرِ المُسْلِمِينَ، لِأنَّ وِلايَةَ أمْرِ المُسْلِمِينَ أمانَةٌ لَهم ونُصْحٌ، ولِذَلِكَ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ (p-٣٢٤)حِينَ أوْصى بِأنْ يَكُونَ الأمْرُ شُورى بَيْنَ سِتَّةٍ ”ولَوْ كانَ أبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرّاحِ حَيًّا لَعَهِدْتُ إلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «لَهُ إنَّهُ أمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ» . وقَوْلُهُ ﴿وتَخُونُوا﴾ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ ﴿لا تَخُونُوا﴾ فَهو في حَيِّزِ النَّهْيِ، والتَّقْدِيرُ: ولا تَخُونُوا أماناتِكم، وإنَّما أُعِيدَ فِعْلُ ﴿تَخُونُوا﴾ ولَمْ يَكْتَفِ بِحَرْفِ العَطْفِ، الصّالِحِ لِلنِّيابَةِ عَنِ العامِلِ في المَعْطُوفِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الخِيانَةِ، فَإنَّ خِيانَتَهُمُ اللَّهَ ورَسُولَهُ نَقْضُ الوَفاءِ لَهُما بِالطّاعَةِ والِامْتِثالِ، وخِيانَةَ الأمانَةِ نَقْضُ الوَفاءِ بِأداءِ ما ائْتَمَنُوا عَلَيْهِ. وجُمْلَةُ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ“ تَخُونُوا ”الأوَّلِ والثّانِي، وهي حالٌ كاشِفَةٌ، والمَقْصُودُ مِنها تَشْدِيدُ النَّهْيِ، أوْ تَشْنِيعُ المَنهِيِّ عَنْهُ، لِأنَّ النَّهْيَ عَنِ القَبِيحِ في حالِ مَعْرِفَةِ المَنهِيِّ أنَّهُ قَبِيحٌ يَكُونُ أشَدَّ، ولِأنَّ القَبِيحَ في حالِ عِلْمِ فاعِلِهِ بِقُبْحِهِ يَكُونُ أشْنَعَ، فالحالُ هُنا بِمَنزِلَةِ الصِّفَةِ الكاشِفَةِ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ومَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [المؤمنون: ١١٧] وقَوْلِهِ ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] ولَيْسَ المُرادُ تَقْيِيدُ النَّهْيِ عَنِ الخِيانَةِ بِحالَةِ العِلْمِ بِها، لِأنَّ ذَلِكَ قَلِيلُ الجَدْوى، فَإنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ مَشْرُوطٍ بِالعِلْمِ، وكَوْنُ الخِيانَةِ قَبِيحَةً أمْرٌ مَعْلُومٌ. ولَكَ أنْ تَجْعَلَ فِعْلَ تَعْلَمُونَ مُنَزَّلًا مَنزِلَةَ اللّازِمِ، فَلا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، فَيَكُونُ مَعْناهُ“ وأنْتُمْ ذَوُو عِلْمٍ " أيْ مَعْرِفَةِ حَقائِقِ الأشْياءِ، أيْ وأنْتُمْ عُلَماءُ لا تَجْهَلُونَ الفَرْقَ بَيْنَ المَحاسِنِ والقَبائِحِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ. ولَكَ أنْ تُقَدِّرَ لَهُ هُنا مَفْعُولًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿وتَخُونُوا أماناتِكُمْ﴾ أيْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ خِيانَةَ الأمانَةِ أيْ تَعْلَمُونَ قُبْحَها، فَإنَّ المُسْلِمِينَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهم في آدابِ دِينِهِمْ تَقْبِيحُ الخِيانَةِ، بَلْ هو أمْرٌ مَعْلُومٌ لِلنّاسِ حَتّى في الجاهِلِيَّةِ. وابْتِداءُ جُمْلَةِ ﴿واعْلَمُوا أنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ﴾ بِفِعْلِ اعْلَمُوا لِلِاهْتِمامِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤] وقَوْلِهِ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى الحَذَرِ مِنَ الخِيانَةِ الَّتِي يَحْمِلُ عَلَيْها المَرْءَ حُبُّ المالِ وهي خِيانَةُ الغُلُولِ وغَيْرُها، فَتَقْدِيمُ الأمْوالِ لِأنَّها مَظِنَّةُ الحَمْلِ عَلى الخِيانَةِ في هَذا المَقامِ. (p-٣٢٥)وعَطْفُ الأوْلادِ عَلى الأمْوالِ لِاسْتِيفاءِ أقْوى دَواعِي الخِيانَةِ فَإنَّ غَرَضَ جُمْهُورِ النّاسِ في جَمْعِ الأمْوالِ أنْ يَتْرُكُوها لِأبْنائِهِمْ مِن بَعْدِهِمْ، وقَدْ كَثُرَ قَرْنُ الأمْوالِ والأوْلادِ في التَّحْذِيرِ، ونَجِدُهُ في القُرْآنِ، قِيلَ إنَّ هاتِهِ الآيَةَ مِن جُمْلَةِ ما نَزَلَ في أبِي لُبابَةَ. وجِيءَ في الإخْبارِ عَنْ كَوْنِ الأمْوالِ والأوْلادِ فِتْنَةً بِطَرِيقِ القَصْرِ قَصْرًا ادِّعائِيًّا لِقَصْدِ المُبالِغَةِ في إثْباتِ أنَّهم فِتْنَةٌ. وجَعَلَ نَفْسَ الأمْوالِ والأوْلادِ فِتْنَةً لِكَثْرَةِ حُدُوثِ فِتْنَةِ المَرْءِ مِن جَرّاءِ أحْوالِهِما، مُبالَغَةً في التَّحْذِيرِ مِن تِلْكَ الأحْوالِ وما يَنْشَأُ عَنْها، فَكَأنَّ وُجُودَ الأمْوالِ والأوْلادِ نَفْسُ الفِتْنَةِ. وعُطِفَ قَوْلُهُ ﴿وأنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ﴾ عَلى قَوْلِهِ ﴿أنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ﴾ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ ما عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الأجْرِ عَلى كَفِّ النَّفْسِ عَنِ المَنهِيّاتِ هو خَيْرٌ مِنَ المَنافِعِ الحاصِلَةِ عَنِ اقْتِحامِ المَناهِي لِأجْلِ الأمْوالِ والأوْلادِ.