ركن التفسير
32 - (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا) الذي يقرؤه محمد (هو الحق) المنزل (من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) مؤلم على بصيرة وجزم ببطلانه
وقوله "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم وهذا مما عيبوا به وكان الأولى لهم أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة كقوله تعالى "ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون" "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب" وقوله "سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج" وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له "فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين" وقال هؤلاء "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" قال شعبة عن عبدالحميد صاحب الزيادي عن أنس بن مالك قال أبو جهل بن هشام قال "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" فنزلت "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النضر كلاهما عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به وأحمد هذا هو أحمد بن النضر بن عبدالوهاب قاله الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبدالله النيسابوري والله أعلم. وقال الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" قال هو النضر بن الحارث بن كلدة قال: فأنزل الله "سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع" وكذا قال مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي إنه النضر بن الحارث زاد عطاء فقال الله تعالى "وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب" وقال "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" وقال "سأل سائل بعذاب واقع للكافرين" قال عطاء ولقد أنزل الله فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عز وجل وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث حدثنا أبو غسان حدثنا أبو نميلة حدثنا الحسين عن ابن بريدة عن أبيه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أحد على فرس وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي. وقال قتادة في قوله "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية. قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها.
﴿وإذْ قالُوا اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ عُطِفَ عَلى ”﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ٣٠]“ أوْ عَلى ”﴿قالُوا قَدْ سَمِعْنا﴾ [الأنفال: ٣١]“ وقائِلُ هَذِهِ المَقالَةِ هو النَّضْرُ بْنُ الحارِثِ صاحِبُ المَقالَةِ السّابِقَةِ، وقالَها أيْضًا أبُو جَهْلٍ وإسْنادُ القَوْلِ إلى جَمِيعِ المُشْرِكِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي أُسْنِدَ لَهُ قَوْلُ النَّضِرِ قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذا، فارْجِعْ إلَيْهِ، وكَذَلِكَ طَرِيقُ حِكايَةِ كَلامِهِمْ إنَّما هو جارٍ عَلى نَحْوِ ما قَرَّرْتُهُ هُنالِكَ مِن حِكايَةِ المَعْنى. وكَلامُهم هَذا جارٍ مَجْرى القَسَمِ، وذَلِكَ أنَّهم يُقْسِمُونَ بِطَرِيقَةِ الدُّعاءِ عَلى أنْفُسِهِمْ إذا كانَ ما حَصَلَ في الوُجُودِ عَلى خِلافِ ما يَحْكُونَهُ أوْ يَعْتَقِدُونَهُ، وهم يَحْسَبُونَ أنَّ دَعْوَةَ المَرْءِ عَلى نَفْسِهِ مُسْتَجابَةً، وهَذِهِ طَرِيقَةٌ شَهِيرَةٌ في كَلامِهِمْ. قالَ النّابِغَةُ: ما إنْ أتَيْتُ بِشَيْءٍ أنْتَ تَكْرَهُهُ إذَنْ فَلا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيَّ يَدِي (p-٣٣٢)وقالَ مَعْدانُ بْنُ جَوّاسٍ الكِنْدِيُّ، أوْ حُجَيَّةُ بْنُ المُضَرِّبِ السَّكُونِيُّ ؎إنْ كانَ ما بُلِّغْتِ عَنِّي فَلامَنِي صَدِيقِي وشَلَّتْ مِن يَدَيَّ الأنامِلُ ؎وكُفِّنْتُ وحْدِي مُنْذَرًا بِرِدائِهِ ∗∗∗ وصادَفَ حَوْطًا مِن أعادِيَّ قاتِلُ وقالَ الأشْتَرُ النَّخَعِيُّ: ؎بُقَّيْتُ وفْرِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلا ∗∗∗ ولَقِيتُ أضْيافِي بِوَجْهِ عَبُـوسِ ؎إنْ لَمْ أشُنَّ عَلى ابْنِ حَرْبٍ غارَةً ∗∗∗ لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِن نَهابِ نُفُـوسِ وقَدْ ضَمَّنَ الحَرِيرِيُّ في المَقامَةِ العاشِرَةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ في حِكايَةِ يَمِينٍ وجَّهَها أبُو زَيْدٍ السُّرُوجِيُّ عَلى غُلامِهِ المَزْعُومِ لَدى والِي رَحْبَةِ مالِكِ بْنِ طَوْقٍ حَتّى اضْطُرَّ الغُلامُ إلى أنْ يَقُولَ: الِاصْطِلاءُ بِالبَلِيَّةِ، ولا الِابْتِلاءُ بِهَذِهِ الألِيَّةِ. فَمَعْنى كَلامِهِمْ: إنَّ هَذا القُرْآنَ لَيْسَ حَقًّا مِن عِنْدِكَ فَإنْ كانَ حَقًّا فَأصِبْنا بِالعَذابِ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّهم قَدْ جَزَمُوا بِأنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، ولَيْسَ الشَّرْطُ عَلى ظاهِرِهِ حَتّى يُفِيدَ تَرَدُّدَهم في كَوْنِهِ حَقًّا، ولَكِنَّهُ كِنايَةٌ عَنِ اليَمِينِ، وقَدْ كانُوا لِجَهْلِهِمْ وضَلالِهِمْ يَحْسَبُونَ أنَّ اللَّهَ يَتَصَدّى لِمُخاطَرَتِهِمْ، فَإذا سَألُوهُ أنْ يُمْطِرَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً إنْ كانَ القُرْآنُ حَقًّا مِنهُ أمْطَرَ عَلَيْهِمُ الحِجارَةَ وأرادُوا أنْ يُظْهِرُوا لِقَوْمِهِمْ صِحَّةَ جَزْمِهِمْ بِعَدَمِ حَقِّيَّةِ القُرْآنِ فَأعْلَنُوا الدُّعاءَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِأنْ يُصِيبَهم عَذابٌ عاجِلٌ إنْ كانَ القُرْآنُ حَقًّا مِنَ اللَّهِ لِيَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِ نُزُولِ العَذابِ عَلى أنَّ القُرْآنَ لَيْسَ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وذَلِكَ في مَعْنى القَسَمِ كَما عَلِمْتَ. وتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِحَرْفِ ”إنْ“ لِأنَّ الأصْلَ فِيها عَدَمُ اليَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، فَهم غَيْرُ جازِمِينَ بِأنَّ القُرْآنَ حَقٌّ ومُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ بَلْ هم مُوقِنُونَ بِأنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ، واليَقِينُ بِأنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ أخَصُّ مِن عَدَمِ اليَقِينِ بِأنَّهُ حَقٌّ. وضَمِيرُ هو ضَمِيرُ فَصْلٍ فَهو يَقْتَضِي تَقَوِّي الخَبَرِ أيْ: إنْ كانَ هَذا حَقًّا ومِن عِنْدِكَ بِلا شَكٍّ. وتَعْرِيفُ المُسْنَدِ بِلامِ الجِنْسِ يَقْتَضِي الحَصْرَ، فاجْتَمَعَ في التَّرْكِيبِ تَقَوٍّ وحَصْرٌ وذَلِكَ تَعْبِيرُهم يَحْكُونَ بِهِ أقْوالَ القُرْآنِ المُنَوِّهَةَ بِصِدْقِهِ كَقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿إنَّ هَذا لَهو القَصَصُ الحَقُّ﴾ [آل عمران: ٦٢] (p-٣٣٣)وهم إنَّما أرادُوا إنْ كانَ القُرْآنُ حَقًّا ولا داعِيَ لَهم إلى نَفْيِ قُوَّةِ حَقِّيَّتِهِ ولا نَفْيِ انْحِصارِ الحَقِّيَّةِ فِيهِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ لازِمًا لِكَوْنِهِ حَقًّا، لِأنَّهُ إذا كانَ حَقًّا كانَ ما هم عَلَيْهِ باطِلًا فَصَحَّ اعْتِبارُ انْحِصارِ الحَقِّيَّةِ فِيهِ انْحِصارًا إضافِيًّا، إلّا أنَّهُ لا داعِيَ إلَيْهِ لَوْلا أنَّهم أرادُوا حِكايَةَ الكَلامِ الَّذِي يُبْطِلُونَهُ. وهَذا الدُّعاءُ كِنايَةٌ مِنهم عَنْ كَوْنِ القُرْآنِ لَيْسَ كَما يُوصَفُ بِهِ، لِلتَّلازُمِ بَيْنَ الدُّعاءِ عَلى أنْفُسِهِمْ وبَيْنَ الجَزْمِ بِانْتِفاءِ ما جَعَلُوهُ سَبَبَ الدُّعاءِ بِحَسْبِ عُرْفِ كَلامِهِمْ واعْتِقادِهِمْ. و”مِن عِنْدِكَ“ حالٌ مِنَ الحَقِّ أيْ مُنَزَّلًا مِن عِنْدِكَ فَهم يَطْعَنُونَ في كَوْنِهِ حَقًّا وفي كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ. وقَوْلُهُ ”مِنَ السَّماءِ“ وصْفٌ لِحِجارَةٍ أيْ حِجارَةٌ مَخْلُوقَةٌ لِعَذابِ مَن تُصِيبُهُ لِأنَّ الشَّأْنَ أنَّ مَطَرَ السَّماءِ لا يَكُونُ بِحِجارَةٍ كَقَوْلِهِ - تَعالى - ”﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ﴾ [الفجر: ١٣]“ والصَّبُّ قَرِيبٌ مِنَ الأمْطارِ. ذَكَرُوا عَذابًا خاصًّا وهو مَطَرُ الحِجارَةِ ثُمَّ عَمَّمُوا فَقالُوا أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ ويُرِيدُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَذابَ الدُّنْيا لِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ، ووَصَفُوا العَذابَ بِالألِيمِ زِيادَةً في تَحْقِيقِ يَقِينِهِمْ بِأنَّ المَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِهَذا الدُّعاءِ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ فَلِذَلِكَ عَرَّضُوا أنْفُسَهم لِخَطَرٍ عَظِيمٍ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ القُرْآنُ حَقًّا ومُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ. وإذْ كانَ هَذا القَوْلُ إنَّما يَلْزَمُ قائِلَهُ خاصَّةً ومَن شارَكَهُ فِيهِ ونَطَقَ بِهِ مِثْلَ النَّضْرِ وأبِي جَهْلٍ ومَنِ التَزَمَ ذَلِكَ وشارَكَ فِيهِ مِن أهْلِ نادِيهِمْ، كانُوا قَدْ عَرَّضُوا أنْفُسَهم بِهِ إلى تَعْذِيبِ اللَّهِ إيّاهُمُ انْتِصارًا لِنَبِيِّهِ وكِتابِهِ، وكانَتِ الآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ أنْ حَقَّ العَذابُ عَلى قائِلِي هَذا القَوْلِ وهو عَذابُ القَتْلِ المُهِينِ بِأيْدِي المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، قالَ - تَعالى - ”﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأيْدِيكم ويُخْزِهِمْ ويَنْصُرْكم عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٤]“ وكانَ العَذابُ قَدْ تَأخَّرَ عَنْهم زَمَنًا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ، بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ في هَذِهِ الآيَةِ سَبَبَ تَأخُّرِ العَذابِ عَنْهم حِينَ قالُوا ما قالُوا، وأيْقَظَ النُّفُوسَ إلى حُلُولِهِ بِهِمْ وهم لا يَشْعُرُونَ. فَقَوْلُهُ ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾ كِنايَةٌ عَنِ اسْتِحْقاقِهِمْ، وإعْلامٍ بِكَرامَةِ رَسُولِهِ ﷺ عِنْدَهُ، لِأنَّهُ جَعَلَ وجُودَهُ بَيْنَ ظَهْرانَيِ المُشْرِكِينَ مَعَ اسْتِحْقاقِهِمُ (p-٣٣٤)العِقابَ سَبَبًا في تَأْخِيرِ العَذابِ عَنْهم، وهَذِهِ مَكْرُمَةٌ أكْرَمَ اللَّهُ بِها نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ فَجَعَلَ وجُودَهُ في مَكانٍ مانِعًا مِن نُزُولِ العَذابِ عَلى أهْلِهِ، فَهَذِهِ الآيَةُ إخْبارٌ عَمّا قَدَّرَهُ اللَّهُ فِيما مَضى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كُلُّها بِمَكَّةَ، وقالَ ابْنُ أبْزى نَزَلَ قَوْلُهُ ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾ بِمَكَّةَ إثْرَ قَوْلِهِمْ ”﴿أوِ ايتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾“ ونَزَلَ قَوْلُهُ ﴿وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ ﷺ إلى المَدِينَةِ وقَدْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ، ونَزَلَ قَوْلُهُ ”وما لَهم أنْ لا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ بَدْرٍ. وفِي تَوْجِيهِ الخِطابِ بِهَذا إلى النَّبِيءِ ﷺ، واجْتِلابِ ضَمِيرِ خِطابِهِ بِقَوْلِهِ“ وأنْتَ فِيهِمْ ”لَطِيفَةٌ مِنَ التَّكْرِمَةِ إذْ لَمْ يَقُلْ: وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وفِيهِمْ رَسُولُهُ، كَما قالَ ﴿وكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكم آياتُ اللَّهِ وفِيكم رَسُولُهُ﴾ [آل عمران: ١٠١] . وأمّا قَوْلُهُ ﴿وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ فَقَدْ أشْكَلَ عَلى المُفَسِّرِينَ نَظْمُها، وحَمَلَ ذَلِكَ بَعْضُهم عَلى تَفْكِيكِ الضَّمائِرِ فَجَعَلَ ضَمائِرَ الغَيْبَةِ مِن يُعَذِّبَهم وفِيهِمْ ووَمُعَذِّبَهم لِلْمُشْرِكِينَ، وجَعَلَ ضَمِيرَ“ وهم يَسْتَغْفِرُونَ ”لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ عائِدًا إلى مَفْهُومٍ مِنَ الكَلامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَسْتَغْفِرُونَ فَإنَّهُ لا يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلّا المُسْلِمُونَ، وعَلى تَأْوِيلِ الإسْنادِ فَإنَّهُ إسْنادُ الِاسْتِغْفارِ لِمَن حَلَّ بَيْنَهم مِنَ المُسْلِمِينَ، بِناءً عَلى أنَّ المُشْرِكِينَ لا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنَ الشِّرْكِ. فالَّذِي يَظْهَرُ أنَّها جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ انْتُهِزَتْ بِها فُرْصَةُ التَّهْدِيدِ بِتَعْقِيبِهِ بِتَرْغِيبٍ عَلى عادَةِ القُرْآنِ في تَعْقِيبِ الوَعِيدِ بِالوَعْدِ، فَبَعْدَ أنْ هَدَّدَ المُشْرِكِينَ بِالعَذابِ ذَكَّرَهم بِالتَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ بِطَلَبِ المَغْفِرَةِ مِن رَبِّهِمْ بِأنْ يُؤْمِنُوا بِأنَّهُ واحِدٌ، ويُصَدِّقُوا رَسُولَهُ، فَهو وعْدٌ بِأنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الشِّرْكِ تَدْفَعُ عَنْهُمُ العَذابَ وتَكُونُ لَهم أمْنًا وذَلِكَ هو المُرادُ بِالِاسْتِغْفارِ، إذْ مِنَ البَيِّنِ أنْ لَيْسَ المُرادُ بِيَسْتَغْفِرُونَ أنَّهم يَقُولُونَ: غُفْرانَكَ اللَّهُمَّ ونَحْوَهُ، إذْ لا عِبْرَةَ بِالِاسْتِغْفارِ بِالقَوْلِ والعَمَلُ يُخالِفُهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ تَحْرِيضًا وذَلِكَ في الِاسْتِغْفارِ وتَلْقِيَنًا لِلتَّوْبَةِ زِيادَةً في الإعْذارِ لَهم عَلى مَعْنى قَوْلِهِ ﴿ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكم إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنتُمْ﴾ [النساء: ١٤٧] وقَوْلِهِ ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ وإنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ [الأنفال: ٣٨] . (p-٣٣٥)وفِي قَوْلِهِ ﴿وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ تَعْرِيضٌ بِأنَّهُ يُوشِكُ أنْ يُعَذِّبَهم إنْ لَمْ يَسْتَغْفِرُوا وهَذا مِنَ الكِنايَةِ العُرْضِيَّةِ. وجُمْلَةُ ﴿وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ حالٌ مُقَدَّرَةٌ أيْ إذا اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مِنَ الشِّرْكِ، وحُسْنُ مَوْقِعِها هُنا أنَّها جاءَتْ قَيْدًا لِعَمَلٍ مَنفِيٍّ فالمَعْنى: وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم لَوِ اسْتَغْفَرُوا. وبِذَلِكَ يَظْهَرُ أنَّ جُمْلَةَ“ ﴿وما لَهم أنْ لا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٣٤] ”صادَفَتْ مَحَزَّها مِنَ الكَلامِ أيْ لَمْ يَسْلُكُوا، يَحُولُ بَيْنَهم وبَيْنَ عَذابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهم أنْ يَنْتَفِيَ عَنْهم عَذابُ اللَّهِ. وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى فَضِيلَةِ الِاسْتِغْفارِ وبَرَكَتِهِ بِإثْباتٍ بِأنَّ المُسْلِمِينَ أمِنُوا مِنَ العَذابِ الَّذِي عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ الأُمَمَ لِأنَّهُمُ اسْتَغْفَرُوا مِنَ الشِّرْكِ بِاتِّباعِهِمُ الإسْلامَ. رَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي مُوسى قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أمانَيْنِ لِأُمَّتِي“ ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ " فَإذا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفارَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» .