ركن التفسير
39 - (وقاتلوهم حتى لا تكون) توجد (فتنة) شرك (ويكون الدين كله لله) وحده ولا يعبد غيره (فإن انتهوا) عن الكفر (فإن الله بما يعملون بصير) فيجازيهم به
وقوله تعالى "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" قال البخاري حدثنا الحسن بن عبدالعزيز حدثنا عبدالله بن يحيى حدثنا حيوة بن شريح عن بكر بن عمر عن بكير عن نافع عن ابن عمر أن رجلا جاء فقال: يا أبا عبدالرحمن ألا تصنع ما ذكر الله في كتابه "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" الآية. فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي أُعَيَّرُ بهذه الآية ولا أقاتل أحب إلي من أن أُعَيَّرُ بالآية التي يقول الله عز وجل "ومن يقتل مؤمنا متعمدا" إلى آخر الآية قال: فإن الله تعالى يقول "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال ابن عمر قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه ومتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال: فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابن عمر أما قولي في علي وعثمان أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله عنه وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا بيان أن ابن وبرة حدثه قال حدثني سعيد بن جبير قال: خرج علينا أو إلينا ابن عمر رضي الله عنهما فقال: كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس بقتالكم على الملك. هذا كله سياق البخاري رحمه الله تعالى وقال عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعني أن الله حرم علي دم أخي المسلم. قالوا أولم يقل الله "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وكذا روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أيوب بن عبدالله اللخمي قال كنت عند عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فأتاه رجل فقال إن الله يقول "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وكذا رواه حماد بن سلمة فقال ابن عمر قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله وذهب الشرك ولم تكن فتنة ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله رواهما ابن مردويه. وقال أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قال ذو البطين يعني أسامة بن زيد لا أقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا. فقال سعد بن مالك وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا فقال رجل ألم يقل الله " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" فقالا قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله. رواه ابن مردويه وقال الضحاك عن ابن عباس "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" يعني لا يكون شرك وكذا قال أبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع عن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم. وقال محمد بن إسحق بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا حتى لا تكون فتنة حتى لا يفتن مسلم عن دينه. وقوله "ويكون الدين كله لله" قال الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال يخلص التوحيد لله وقال الحسن وقتادة وابن جريج "ويكون الدين كله لله" أن يقال لا إله إلا الله وقال محمد بن إسحق ويكون التوحيد خالصا لله ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم "ويكون الدين كله لله" لا يكون مع دينكم كفر ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل". وفيهما عن أبي موسى الأشعري قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله عز وجل؟ فقال "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل". وقوله "فإن انتهوا" أي بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه وإن لم تعلموا بواطنهم "فإن الله بما يعملون بصير" كقوله "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" الآية. وفي الآية الأخرى "فإخوانكم في الدين" وقال "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" وفي.الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف فقال لا إله إلا الله فضربه فقتله فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأسامة "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ " فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذا قال "هلا شققت عن قلبه؟ " وجعل يقول ويكرر عليه" من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ " قال أسامة حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
﴿وقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإنِ انْتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ﴿وإنْ تَوَلَّوْا فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَوْلاكم نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٣٦] الآيَةَ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ ”فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ“ فَتَكُونَ مِمّا يَدْخُلُ في حُكْمِ جَوابِ الشَّرْطِ. والتَّقْدِيرُ: فَإنْ يَعُودُوا فَقاتِلُوهم، كَقَوْلِهِ ”﴿وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا﴾ [الإسراء: ٨]“ وقَوْلِهِ ﴿وإنْ تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنَّكم غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣] والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى مُشْرِكِي مَكَّةَ. والفِتْنَةُ اضْطِرابُ أمْرِ النّاسِ ومَرَجُهم، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُها غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنها عِنْدَ قَوْلِهِ (p-٣٤٧)- تَعالى - ”﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ [البقرة: ١٠٢]“ في سُورَةِ البَقَرَةِ وقَوْلِهِ ”﴿وحَسِبُوا أنْ لّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [المائدة: ٧١]“ في سُورَةِ العُقُودِ. والمُرادُ هُنا أنْ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ مِنَ المُشْرِكِينَ لِأنَّهُ لَمّا جَعَلَ انْتِفاءَ الفِتْنَةِ غايَةً لِقِتالِهِمْ، وكانَ قِتالُهم مَقْصُودًا مِنهُ إعْدامُهم أوْ إسْلامُهم، وبِأحَدِ هَذَيْنِ يَكُونُ انْتِفاءُ الفِتْنَةِ، فَنَتَجَ مِن ذَلِكَ أنَّ الفِتْنَةَ المُرادَ نَفْيُها كانَتْ حاصِلَةً مِنهم وهي فِتْنَتُهُمُ المُسْلِمِينَ لا مَحالَةَ، لِأنَّهم إنَّما يَفْتِنُونَ مَن خالَفَهم في الدِّينِ فَإذا أسْلَمُوا حَصَلَ انْتِفاءُ فِتْنَتِهِمْ وإذا أعْدَمَهُمُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ. وهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَماءِ الأُمَّةِ مِن أنَّ قِتالَ المُشْرِكِينَ واجِبٌ حَتّى يُسْلِمُوا، وأنَّهم لا تُقْبَلُ مِنهُمُ الجِزْيَةُ، ولِذَلِكَ قالَ اللَّهُ - تَعالى - هُنا ﴿حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ وقالَ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] وهي أيْضًا دالَّةٌ عَلى ما رَآهُ المُحَقِّقُونَ مِن مُؤَرِّخِينا: مِن أنَّ قِتالَ المُسْلِمِينَ المُشْرِكِينَ إنَّما كانَ أوَّلُهُ دِفاعًا لِأذى المُشْرِكِينَ ضُعَفاءَ المُسْلِمِينَ، والتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ حَيْثُما حَلُّوا، فَتِلْكَ الفِتْنَةُ الَّتِي أشارَ إلَيْها القُرْآنُ ولِذَلِكَ قالَ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿واقْتُلُوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهم وأخْرِجُوهم مِن حَيْثُ أخْرَجُوكم والفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾ [البقرة: ١٩١] . والتَّعْرِيفُ في الدِّينِ لِلْجِنْسِ وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِها في سُورَةِ البَقَرَةِ. إلّا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ زِيدَ فِيها اسْمُ التَّأْكِيدِ وهو ”كُلُّهُ“ وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ أسْبَقُ نُزُولًا مِن آيَةِ البَقَرَةِ فاحْتِيجَ فِيها إلى تَأْكِيدِ مُفادِ صِيغَةِ اخْتِصاصِ جِنْسِ الدِّينِ بِأنَّهُ لِلَّهِ - تَعالى - لِئَلّا يُتَوَهَّمَ الِاقْتِناعُ بِإسْلامِ غالِبِ المُشْرِكِينَ، فَلَمّا تَقَرَّرَ مَعْنى العُمُومِ وصارَ نَصًّا مِن هَذِهِ الآيَةِ عَدَلَ عَنْ إعادَتِهِ في آيَةِ البَقَرَةِ تَطَلُّبًا لِلْإيجازِ. وقَوْلُهُ ﴿فَإنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أيْ عَلِيمٌ كِنايَةً عَنْ حُسْنِ مُجازاتِهِ إيّاهم لِأنَّ القادِرَ عَلى نَفْعِ أوْلِيائِهِ ومُطِيعِيهِ لا يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ إيصالِ النَّفْعِ إلَيْهِمُ إلّا خْفاءُ حالِ مَن يُخْلَصُ إلَيْهِ، فَلَمّا أُخْبِرُوا بِأنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلى انْتِهائِهِمْ عَنِ الكُفْرِ إنِ انْتَهَوْا عَنْهُ، وكانَ ذَلِكَ لا يُظَنُّ خِلافُهُ عُلِمَ أنَّ المَقْصُودَ لازِمُ ذَلِكَ. (p-٣٤٨)وقَرَأ الجُمْهُورُ: يَعْمَلُونَ - بِياءِ الغائِبِ - وقَرَأهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتاءِ الخِطابِ. والتَّوَلِّي: الإعْراضُ وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنَّما عَلى رَسُولِنا البَلاغُ المُبِينُ﴾ [المائدة: ٩٢] في سُورَةِ العُقُودِ. والمَوْلى الَّذِي يَتَوَلّى أمْرَ غَيْرِهِ ويَدْفَعُ عَنْهُ وفِيهِ مَعْنى النَّصْرِ. والمَعْنى وإنْ تَوَلَّوْا عَنْ هاتِهِ الدَّعْوَةِ فاللَّهُ مُغْنٍ لَكم عَنْ ولائِهِمْ، أيْ لا يَضُرُّكم تَوَلِّيهِمْ، فَقَوْلُهُ ”﴿أنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ﴾“ يُؤْذِنُ بِجَوابٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَلا تَخافُوا تَوَلِّيهِمْ ! فَإنَّ اللَّهَ مَوْلاكم وهو يُقَدِّرُ لَكم ما فِيهِ نَفْعُكم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ. وهَذا «كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ لِمُسَيْلِمَةَ الكَذّابِ ولَئِنْ تَوَلَّيْتَ لَيَعْفِرَنَّكَ اللَّهُ ”وإنَّما الخَسارَةُ عَلَيْهِمْ إذْ حُرِمُوا السَّلامَةَ والكَرامَةَ» . وافْتِتاحُ جُمْلَةِ جَوابِ الشَّرْطِ بِاعْلَمُوا لِقَصْدِ الِاهْتِمامِ بِهَذا الخَبَرِ وتَحْقِيقِهِ، أيْ لا تَغْفُلُوا عَنْ ذَلِكَ، كَما مَرَّ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤] . وجُمْلَةُ“ ﴿نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾ ”مُسْتَأْنَفَةٌ لِأنَّها إنْشاءُ ثَناءٍ عَلى اللَّهِ فَكانَتْ بِمَنزِلَةِ التَّذْيِيلِ. وعَطَفَ عَلى“ نِعْمَ المَوْلى ”قَوْلَهُ“ ونِعْمَ النَّصِيرُ ”لِما في المَوْلى مِن مَعْنى النَّصْرِ كَما تَقَدَّمَ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ عَطْفِ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] عَلى قَوْلِهِ“ ﴿حَسْبُنا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] " سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.