ركن التفسير
46 - (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا) تختلفوا فيما بينكم (فتفشلوا) تجبنوا (وتذهب ريحكم) قوتكم ودولتكم (واصبروا إن الله مع الصابرين) بالنصر والعون
أمرهم أن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا. وما نهاهم عنه انزجروا ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم "وتذهب ريحكم" أي قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال "واصبروا إن الله مع الصابرين" وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والإئتمار بما أمرهم الله ورسوله به وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ولا يكون لأحد ممن بعدهم فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالية والبربر والحبوش وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب.
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ ﴿وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكم واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ . لَمّا عَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِنِعَمِهِ ودَلائِلِ عِنايَتِهِ، وكَشَفَ لَهم عَنْ سِرٍّ مِن أسْرارِ نَصْرِهِ إيّاهم، وكَيْفَ خَذَلَ أعْداءَهم، وصَرَفَهم عَنْ أذاهم، فاسْتَتَبَّ لَهُمُ النَّصْرُ مَعَ قِلَّتِهِمْ وكَثْرَةِ أعْدائِهِمْ، أقْبَلَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى أنْ يَأْمُرَهم بِما يُهَيِّئُ لَهُمُ النَّصْرَ في المَواقِعِ كُلِّها، ويَسْتَدْعِي عِنايَةَ اللَّهِ بِهِمْ وتَأْيِيدَهُ إيّاهم، فَجَمَعَ لَهم في هَذِهِ الآيَةِ ما بِهِ قِوامُ النَّصْرِ في الحُرُوبِ. وهَذِهِ الجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿وإذْ يُرِيكُمُوهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٤] وجُمْلَةِ ﴿وإذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] وافْتُتِحَتْ هَذِهِ الوَصايا بِالنِّداءِ اهْتِمامًا بِها، وجُعِلَ طَرِيقُ تَعْرِيفِ المُنادى طَرِيقَ المَوْصُولِيَّةِ: لِما تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ الِاسْتِعْدادِ لِامْتِثالِ ما يَأْمُرُهم بِهِ اللَّهُ تَعالى؛ لِأنَّ ذَلِكَ أخَصُّ صِفاتِهِمْ تِلْقاءَ أوامِرِ اللَّهِ تَعالى، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [النور: ٥١] واللِّقاءُ: أصْلُهُ مُصادَفَةُ الشَّخْصِ ومُواجَهَتُهُ بِاجْتِماعٍ في مَكانٍ واحِدٍ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ﴾ [البقرة: ٣٧] وقَوْلِهِ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ [البقرة: ٢٢٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَدْ غَلَبَ إطْلاقُهُ عَلى لِقاءٍ خاصٍّ وهو لِقاءُ القِتالِ، فَيُرادِفُ القِتالَ والنِّزالَ. (p-٣٠)وقَدْ تَقَدَّمَ اللِّقاءُ قَرِيبًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ١٥] وبِهَذا المَعْنى تَعَيَّنَ أنَّ المُرادَ بِالفِئَةِ: فِئَةٌ خاصَّةٌ وهي فِئَةُ العَدُوِّ، يَعْنِي المُشْرِكِينَ. والفِئَةُ الجَماعَةُ مِنَ النّاسِ، وقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقاقُها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والثَّباتُ: أصْلُهُ لُزُومُ المَكانِ دُونَ تَحَرُّكٍ ولا تَزَلْزُلٍ، ويُسْتَعارُ لِلدَّوامِ عَلى الفِعْلِ وعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِيهِ، وقَدْ أُطْلِقَ هُنا عَلى مَعْناهُ المَجازِيِّ، إذْ لَيْسَ المُرادُ عَدَمَ التَّحَرُّكِ، بَلْ أُرِيدَ الدَّوامُ عَلى القِتالِ وعَدَمِ الفِرارِ، وقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالصَّبْرِ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ لا تَتَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ فَإذا لَقِيتُمُوهم فاصْبِرُوا. وذِكْرُ اللَّهِ، المَأْمُورُ بِهِ هُنا: هو ذِكْرُهُ بِاللِّسانِ؛ لِأنَّهُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ القَلْبِ وزِيادَةً فَإنَّهُ إذا ذَكَرَ بِلِسانِهِ فَقَدْ ذَكَرَ بِقَلْبِهِ وبِلِسانِهِ، وسَمِعَ الذِّكْرَ بِسَمْعِهِ، وذَكَّرَ مَن يَلِيهِ بِذَلِكَ الذِّكْرِ، فَفِيهِ فَوائِدُ زائِدَةٌ عَلى ذِكْرِ القَلْبِ المُجَرَّدِ، وقَرِينَةُ إرادَةِ ذِكْرِ اللِّسانِ ظاهِرُ وصْفِهِ بِـ ”كَثِيرًا“ لِأنَّ الذِّكْرَ بِالقَلْبِ يُوصَفُ بِالقُوَّةِ، والمَقْصُودُ تَذَكُّرُ أنَّهُ النّاصِرُ. وهَذانِ أمْرانِ أُمِرُوا بِهِما وهُما يَخُصّانِ المُجاهِدَ في نَفْسِهِ، ولِذَلِكَ قالَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ. فَهُما لِإصْلاحِ الأفْرادِ، ثُمَّ أمَرَهم بِأعْمالٍ راجِعَةٍ إلى انْتِظامِ جَيْشِهِمْ وجَماعَتِهِمْ، وهي عَلائِقُ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وهي الطّاعَةُ وتَرْكُ التَّنازُعِ، فَأمّا طاعَةُ اللَّهِ ورَسُولِهِ فَتَشْمَلُ اتِّباعَ سائِرِ أحْكامِ القِتالِ المَشْرُوعَةِ بِالتَّعْيِينِ، مِثْلَ الغَنائِمِ. وكَذَلِكَ ما يَأْمُرُهم بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِن آراءِ الحَرْبِ كَقَوْلِهِ لِلرُّماةِ يَوْمَ أُحُدٍ «لا تَبْرَحُوا مِن مَكانِكم ولَوْ تَخَطَّفَنا الطَّيْرُ» . وتَشْمَلُ طاعَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - طاعَةَ أُمَرائِهِ في حَياتِهِ، لِقَوْلِهِ: ”«ومَن أطاعَ أمِيرِي فَقَدْ أطاعَنِي» “ . وتَشْمَلُ طاعَةَ أُمَراءِ الجُيُوشِ بَعْدَ وفاةِ الرَّسُولِ ﷺ لِمُساواتِهِمْ لِأُمَرائِهِ الغائِبِينَ عَنْهُ في الغَزَواتِ والسَّرايا في حُكْمِ الغَيْبَةِ عَنْ شَخْصِهِ. وأمّا النَّهْيُ عَنِ التَّنازُعِ فَهو يَقْتَضِي الأمْرَ بِتَحْصِيلِ أسْبابِ ذَلِكَ: بِالتَّفاهُمِ، والتَّشاوُرِ، ومُراجَعَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، حَتّى يَصْدُرُوا عَنْ رَأْيٍ واحِدٍ، فَإنْ تَنازَعُوا في شَيْءٍ رَجَعُوا إلى أُمَرائِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأمْرِ مِنهُمْ﴾ [النساء: ٨٣] وقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩] . والنَّهْيُ عَنِ التَّنازُعِ أعَمُّ مِنَ (p-٣١)الأمْرِ بِالطّاعَةِ لِوُلاةِ الأُمُورِ: لِأنَّهم إذا نُهُوا عَنِ التَّنازُعِ بَيْنَهم فالتَّنازُعُ مَعَ ولِيِّ الأمْرِ أوْلى بِالنَّهْيِ. ولَمّا كانَ التَّنازُعُ مِن شَأْنِهِ أنْ يَنْشَأ عَنِ اخْتِلافِ الآراءِ، وهو أمْرٌ مُرْتَكِزٌ في الفِطْرَةِ بَسَطَ القُرْآنُ القَوْلَ فِيهِ بِبَيانِ سَيِّئِ آثارِهِ، فَجاءَ بِالتَّفْرِيعِ بِالفاءِ في قَوْلِهِ: ﴿فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ فَحَذَّرَهم أمْرَيْنِ مَعْلُومًا سُوءُ مَغَبَّتِهِما: وهُما الفَشَلُ وذَهابُ الرِّيحِ. والفَشَلُ: انْحِطاطُ القُوَّةِ وقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أراكَهم كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ﴾ [الأنفال: ٤٣] وهو هُنا مُرادٌ بِهِ حَقِيقَةُ الفَشَلِ في خُصُوصِ القِتالِ ومُدافَعَةِ العَدُوِّ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحالِ المُتَقاعِسِ عَنِ القِتالِ بِحالِ مَن خارَتْ قُوَّتُهُ وفَشِلَتْ أعْضاؤُهُ، في انْعِدامِ إقْدامِهِ عَلى العَمَلِ. وإنَّما كانَ التَّنازُعُ مُفْضِيًا إلى الفَشَلِ لِأنَّهُ يُثِيرُ التَّغاضُبَ ويُزِيلُ التَّعاوُنَ بَيْنَ القَوْمِ، ويُحْدِثُ فِيهِمْ أنْ يَتَرَبَّصَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ الدَّوائِرَ، فَيَحْدُثُ في نُفُوسِهِمُ الِاشْتِغالُ بِاتِّقاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وتَوَقُّعُ عَدَمِ إلْفاءِ النَّصِيرِ عِنْدَ مَآزِقِ القِتالِ، فَيَصْرِفُ الأُمَّةَ عَنِ التَّوَجُّهِ إلى شُغْلٍ واحِدٍ فِيما فِيهِ نَفْعُ جَمِيعِهِمْ، ويَصْرِفُ الجَيْشَ عَنِ الإقْدامِ عَلى أعْدائِهِمْ، فَيَتَمَكَّنُ مِنهُمُ العَدُوُّ، كَما قالَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ ﴿حَتّى إذا فَشِلْتُمْ وتَنازَعْتُمْ في الأمْرِ وعَصَيْتُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢] والرِّيحُ حَقِيقَتُها تَحَرُّكُ الهَواءِ وتَمَوُّجُهُ، واسْتُعِيرَتْ هُنا لِلْغَلَبَةِ، وأحْسَبُ أنَّ وجْهَ الشَّبَهِ في هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ هو أنَّ الرِّيحَ لا يُمانِعُ جَرْيَها ولا عَمَلَها شَيْءٌ فَشُبِّهَ بِها الغَلَبُ والحُكْمُ. وأنْشَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِعُبَيْدِ بْنِ الأبْرَصِ: ؎كَما حَمَيْناكَ يَوْمَ النَّعْبِ مِن شَطِبٍ والفَضْلُ لِلْقَوْمِ مِن رِيحٍ ومِن عَدَدِ وفِي الكَشّافِ قالَ سُلَيْكُ بْنُ السَّلَكَةِ: ؎يا صاحِبَيَّ ألا لا حَيَّ بِالـوادِي ∗∗∗ إلّا عَبِيدٌ قُـعُـودٌ بَـيْنَ أذْوادِ ؎هَلْ تَنْظُرانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ∗∗∗ أوْ تَعْدُوانِ فَإنَّ الرِّيحَ لِلْعَـادِي وقالَ الحَرِيرِيُّ، في دِيباجَةِ المَقاماتِ: قَدْ جَرى بِبَعْضِ أنْدِيَةِ الأدَبِ الَّذِي رَكَدَتْ في هَذا العَصْرِ رِيحُهُ. (p-٣٢)والمَعْنى: وتَزُولُ قُوَّتُكم ونُفُوذُ أمْرِكم وذَلِكَ لِأنَّ التَّنازُعَ يُفْضِي إلى التَّفَرُّقِ، وهو يُوهِنُ أمْرَ الأُمَّةِ، كَما تَقَدَّمَ في مَعْنى الفَشَلِ. ثُمَّ أمَرَهُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ يَعُمُّ نَفْعُهُ المَرْءَ في نَفْسِهِ وفي عَلاقَتِهِ مَعَ أصْحابِهِ، ويُسَهِّلُ عَلَيْهِمُ الأُمُورَ الأرْبَعَةَ، الَّتِي أُمِرُوا بِها آنِفًا في قَوْلِهِ: ﴿فاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ وفي قَوْلِهِ: ﴿وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنازَعُوا﴾ الآيَةَ. ألا وهو الصَّبْرُ، فَقالَ ”واصْبِرُوا“ لِأنَّ الصَّبْرَ هو تَحَمُّلُ المَكْرُوهِ وما هو شَدِيدٌ عَلى النَّفْسِ، وتِلْكَ المَأْمُوراتُ كُلُّها تَحْتاجُ إلى تَحَمُّلِ المَكارِهِ، فالصَّبْرُ يَجْمَعُ تَحَمُّلَ الشَّدائِدِ والمَصاعِبِ، ولِذَلِكَ كانَ قَوْلُهُ: واصْبِرُوا بِمَنزِلَةِ التَّذْيِيلِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ إيماءٌ إلى مَنفَعَةٍ لِلصَّبْرِ إلَهِيَّةٍ، وهي إعانَةُ اللَّهِ لِمَن صَبَرَ امْتِثالًا لِأمْرِهِ، وهَذا مُشاهَدٌ في تَصَرُّفاتِ الحَياةِ كُلِّها. وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ قائِمَةٌ مَقامَ التَّعْلِيلِ لِلْأمْرِ؛ لِأنَّ حَرْفَ التَّأْكِيدِ في مِثْلِ هَذا قائِمٌ مُقامَ فاءِ التَّفْرِيعِ، كَما تَقَدَّمَ في مَواضِعَ.