ركن التفسير
51 - (ذلك) التعذيب (بما قدمت أيديكم) عبر بها دون غيرها لأن أكثر الأفعال تزاول بها (وأن الله ليس بظلام) أي بذي ظلم (للعبيد) فيعذبهم بغير ذنب
وقوله تعالى "ذلك بما قدمت أيديكم" أي هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا جازاكم الله بها هذا الجزاء "وأن الله ليس بظلام للعبيد" أي لا يظلم أحدا من خلقه بل هو الحكم العدل الذي لا يجور تبارك وتعالى وتقدس وتنزه الغني الحميد ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن مسلم رحمه الله من رواية أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". ولهذا قال تعالى.
﴿ولَوْ تَرى إذْ يَتَوَفّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهم وذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾ ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكم وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ لَمّا وُفِّيَ وصْفُ حالِ المُشْرِكِينَ حَقَّهُ، وفُصِّلَتْ أحْوالُ هَزِيمَتِهِمْ بِبَدْرٍ، وكَيْفَ أمْكَنَ اللَّهُ مِنهُمُ المُسْلِمِينَ، عَلى ضَعْفِ هَؤُلاءِ وقُوَّةِ أُولَئِكَ، بِما شاهَدَهُ كُلُّ حاضِرٍ حَتّى لَيُوقِنُ السّامِعُ أنَّ ما نالَ المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ إنَّما هو خِذْلانٌ مِنَ اللَّهِ إيّاهم، وإيذانٌ بِأنَّهم لاقُونَ هَلاكَهم ما دامُوا مُناوِئِينَ لِلَّهِ ورَسُولِهِ - انْتُقِلَ إلى وصْفِ ما لَقِيَهُ مِنَ العَذابِ مَن قُتِلَ مِنهم يَوْمَ بَدْرٍ، مِمّا هو مُغَيَّبٌ عَنِ النّاسِ، لِيَعْلَمَ المُؤْمِنُونَ ويَرْتَدِعَ الكافِرُونَ، والمُرادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنا الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ مِن تَمامِ الخَبَرِ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ. (p-٤٠)ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: جَمِيعَ الكافِرِينَ حَمْلًا لِلْمَوْصُولِ عَلى مَعْنى العُمُومِ. فَتَكُونُ الآيَةُ اعْتِراضًا مُسْتَطْرَدًا في خِلالِ القِصَّةِ بِمُناسَبَةِ وصْفِ ما لَقِيَهُ المُشْرِكُونَ في ذَلِكَ اليَوْمِ، الَّذِي عُجِّلَ لَهم فِيهِ عَذابُ المَوْتِ. وابْتُدِئَ الخَبَرُ بِـ ”ولَوْ تَرى“ مُخاطَبًا بِهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، لِيَعُمَّ كُلَّ مُخاطَبٍ، أيْ: لَوْ تَرى أيُّها السّامِعُ، إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ بِهَذا الخَبَرِ خُصُوصَ النَّبِيءِ ﷺ حَتّى يُحْمَلَ الخِطابُ عَلى ظاهِرِهِ، بَلْ غَيْرُ النَّبِيءِ أوْلى بِهِ مِنهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ قادِرٌ أنْ يُطْلِعَ نَبِيَّهُ عَلى ذَلِكَ كَما أراهُ الجَنَّةَ في عَرْضِ الحائِطِ. ثُمَّ إنْ كانَ المُرادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا مُشْرِكِي يَوْمِ بَدْرٍ، وكانَ ذَلِكَ قَدْ مَضى، يَكُنْ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُقالَ: ولَوْ رَأيْتَ إذْ تَوَفّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ. فالإتْيانُ بِالمُضارِعِ في المَوْضِعَيْنِ مَكانَ الماضِي: لِقَصْدِ اسْتِحْضارِ تِلْكَ الحالَةِ العَجِيبَةِ، وهي حالَةُ ضَرْبِ الوُجُوهِ والأدْبارِ، لِيُخَيَّلَ لِلسّامِعِ أنَّهُ يُشاهِدُ تِلْكَ الحالَةَ، وإنْ كانَ المُرادُ المُشْرِكِينَ حَيْثُما كانُوا كانَ التَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ. وجَوابُ ”لَوْ“ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَرَأيْتَ أمْرًا عَجِيبًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”يَتَوَفّى“ بِياءِ الغائِبِ وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ: ”تَتَوَفّى“ بِتاءِ التَّأْنِيثِ رَعْيًا لِصُورَةِ جَمْعِ المَلائِكَةِ. والتَّوَفِّي: الإماتَةُ سُمِّيَتْ تَوَفِّيًا لِأنَّها تُنْهِي حَياةَ المَرْءِ أوْ تَسْتَوْفِيها ﴿قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: ١١] وجُمْلَةُ ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ إنْ كانَ المُرادُ مِنَ التَّوَفِّي قَبْضَ أرْواحِ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ يَقْتُلُهُمُ المُسْلِمُونَ، أيْ: يَزِيدُهُمُ المَلائِكَةُ تَعْذِيبًا عِنْدَ نَزْعِ أرْواحِهِمْ. وهي بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ”يَتَوَفّى“ إنْ كانَ المُرادُ بِالتَّوَفِّي تَوَفِّيًا يَتَوَفّاهُ المَلائِكَةُ الكافِرِينَ. وجُمْلَةُ ﴿وذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ”يَضْرِبُونَ“ بِتَقْدِيرِ القَوْلِ؛ لِأنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ لا مَوْقِعَ لَها مَعَ الَّتِي قَبْلَها، إلّا أنْ تَكُونَ مِن قَوْلِ المَلائِكَةِ أيْ ويَقُولُونَ: ﴿ذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾ [آل عمران: ١٨١] كَقَوْلِهِ: ﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا﴾ [البقرة: ١٢٧] . وقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ تَرى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أبْصَرْنا وسَمِعْنا﴾ [السجدة: ١٢] . (p-٤١)وذِكْرُ الوُجُوهِ والأدْبارِ لِلتَّعْمِيمِ، أيْ: يَضْرِبُونَ جَمِيعَ أجْسادِهِمْ. فالأدْبارُ: جَمْعُ دُبُرٍ وهو ما دَبَرَ مِنَ الإنْسانِ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ [القمر: ٤٥] . وكَذَلِكَ الوُجُوهُ كِنايَةٌ عَمّا أقْبَلَ مِنَ الإنْسانِ، وهَذا كَقَوْلِ العَرَبِ: ضَرَبْتُهُ الظَّهْرَ والبَطْنَ، كِنايَةً عَمّا أقْبَلَ وما أدْبَرَ أيْ ضَرَبْتُهُ في جَمِيعِ جَسَدِهِ. والذَّوْقُ مُسْتَعْمَلٌ في مُطْلَقِ الإحْساسِ، بِعَلاقَةِ الإطْلاقِ. وإضافَةُ العَذابِ إلى الحَرِيقِ: مِن إضافَةِ الجِنْسِ إلى نَوْعِهِ، لِبَيانِ النَّوْعِ، أيْ عَذابًا هو الحَرِيقُ، فَهي إضافَةٌ بَيانِيَّةٌ. والحَرِيقُ هو اضْطِرامُ النّارِ، والمُرادُ بِهِ جَهَنَّمُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ عَجَّلَ بِأرْواحِ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ إلى النّارِ قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ، فالأمْرُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّكْوِينِ، أيْ: يُذِيقُونَهم، أوْ مُسْتَعْمَلٌ في التَّشَفِّي، أوِ المُرادُ بِقَوْلِ المَلائِكَةِ ”فَذُوقُوا“ إنْذارُهم بِأنَّهم سَيَذُوقُونَهُ، وإنَّما يَقَعُ الذَّوْقُ يَوْمَ القِيامَةِ، فَيَكُونُ الأمْرُ مُسْتَعْمَلًا في الإنْذارِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ﴾ [إبراهيم: ٣٠] بِناءً عَلى أنَّ التَّمَتُّعَ يُؤْذِنُ بِشَيْءٍ سَيَحْدُثُ بَعْدَ التَّمَتُّعِ مُضادٌّ لِما بِهِ التَّمَتُّعُ. واسْمُ الإشارَةِ ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ إلى ما يُشاهِدُونَهُ مِنَ العَذابِ. وجِيءَ بِإشارَةِ البَعِيدِ لِتَعْظِيمِ ما يُشاهِدُونَهُ مِنَ الأهْوالِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِقَصْدِ التَّنْكِيلِ والتَّشَفِّي. والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وهي مَعَ المَجْرُورِ، خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الإشارَةِ. و”ما“ في قَوْلِهِ: ﴿بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ مَوْصُولَةٌ، ومَعْنى ﴿قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ أسْلَفَتْهُ مِنَ الأعْمالِ فِيما مَضى، أيْ مِنَ الشِّرْكِ وفُرُوعِهِ مِنَ الفَواحِشِ. وذِكْرُ الأيْدِي اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الأعْمالِ الَّتِي اقْتَرَفُوها، وهي ماصَدَقُ ”ما قَدَّمَتْ“ بِما يَجْتَنِيهِ المُجْتَنِي مِنَ الثَّمَرِ، أوْ يَقْبِضُهُ البائِعُ مِنَ الأثْمانِ، تَشْبِيهُ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ، وذُكِرَ رَدِيفُ المُشَبَّهِ وهو الأيْدِي الَّتِي هي آلَةُ الِاكْتِسابِ، أيْ: بِما قَدَّمَتْهُ أيْدِيكم لَكم. (p-٤٢)وقَوْلُهُ: ﴿وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ والتَّقْدِيرُ: وبِأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ، وهَذا عِلَّةٌ ثانِيَةٌ لِإيقاعِ تِلْكَ العُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ، فالعِلَّةُ الأُولى، المُفادَةُ مِن باءِ السَّبَبِيَّةِ تَعْلِيلٌ لِإيقاعِ العِقابِ. والعِلَّةُ الثّانِيَةُ المُفادَةُ مِنَ العَطْفِ عَلى الباءِ ومَجْرُورِها، تَعْلِيلٌ لِصِفَةِ العَذابِ، أيْ هو عَذابٌ مُعادِلٌ لِأعْمالِهِمْ، فَمَوْرِدُ العِلَّتَيْنِ شَيْءٌ واحِدٌ لَكِنْ بِاخْتِلافِ الِاعْتِبارِ. ونَفْيُ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ - تَعالى - كِنايَةٌ عَنْ عَدْلِهِ وأنَّ الجَزاءَ الألِيمَ كانَ كِفاءً لِلْعَمَلِ المُجازى عَنْهُ دُونَ إفْراطٍ. وجَعَلَ صاحِبُ الكَشّافِ التَّعْلِيلَيْنِ لِشَيْءٍ واحِدٍ، وهو ذَلِكَ العَذابُ، فَجَعَلَهُما سَبَبَيْنِ لِكُفْرِهِمْ ومَعاصِيهِمْ، وأنَّ التَّعْذِيبَ مِنَ العَدْلِ مِثْلُ الإثابَةِ، وهو بَعِيدٌ؛ لِأنَّ تَرْكَ اللَّهِ المُؤاخَذَةَ عَلى الِاعْتِداءِ عَلى حُقُوقِهِ إذا شاءَ ذَلِكَ، لَيْسَ بِظُلْمٍ، والمَوْضُوعُ هو العِقابُ عَلى الإشْراكِ والفَواحِشِ، وأمّا الِاعْتِداءُ عَلى حُقُوقِ النّاسِ فَتَرْكُ المُؤاخَذَةِ بِهِ عَلى تَسْلِيمِ أنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وقَدْ يُعَوَّضُ المُعْتَدى عَلَيْهِ بِتَرْضِيَةٍ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ كانَ ما في الكَشّافِ غَيْرَ خالٍ عَنْ تَعَسُّفٍ حَمَلَهُ عَلَيْهِ الإسْراعُ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ مِنِ اسْتِحالَةِ العَفْوِ عَنِ العُصاةِ لِأنَّهُ مُنافٍ لِلْعَدْلِ أوْ لِلْحِكْمَةِ. ونَفْيُ ”ظَلّامٍ“ بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ لا يُفِيدُ إثْباتَ ظُلْمٍ غَيْرِ قَوِيٍّ: لِأنَّ الصِّيَغَ لا مَفاهِيمَ لَها، وجَرَتْ عادَةُ العُلَماءِ أنْ يُجِيبُوا بِأنَّ المُبالَغَةَ مُنْصَرِفَةٌ إلى النَّفْيِ كَما جاءَ ذَلِكَ كَثِيرًا في مِثْلِ هَذا، ويُزادُ هُنا الجَوابُ بِاحْتِمالِ أنَّ الكَثْرَةَ بِاعْتِبارِ تَعَلُّقِ الظُّلْمِ المَنفِيِّ، لَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُهُ، بِالعَبِيدِ الكَثِيرِينَ، فَعُبِّرَ بِالمُبالَغَةِ عَنْ كَثْرَةِ أعْدادِ الظُّلْمِ بِاعْتِبارِ تَعَدُّدِ أفْرادِ مَعْمُولِهِ. والتَّعْرِيفُ بِاللّامِ في ”العَبِيدِ“ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ: لِعَبِيدِهِ. كَقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ الجَنَّةَ هي المَأْوى﴾ [النازعات: ٤١] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”العَبِيدُ“ أُطْلِقَ عَلى ما يُرادِفُ النّاسَ كَما أُطْلِقَ العِبادُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ﴾ [يس: ٣٠] في سُورَةِ يس.