ركن التفسير
68 - (لولا كتاب من الله سبق) بإحلال الغنائم والأسرى لكم (لمسكم فيما أخذتم) من الفداء (عذاب عظيم)
قال وأنزل الله عز وجل "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك وقال الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيدة عن عبدالله قال لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم وقال عبدالله بن رواحة يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب فأضرم الوادي عليهم نارا ثم ألقهم فيه قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا ثم قام فدخل فقال: ناس يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس:يأخذ بقول عمر وقال ناس: يأخذ بقول عبدالله بن رواحة ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال "فمن تبعني فأنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال "ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا" أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق" قال ابن مسعود قلت: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإنه يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا سهيل بن بيضاء" فأنزل الله عز وجل "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" إلى آخر الآية. رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به والحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن عبدالله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري وروى ابن مردويه أيضا واللفظ له والحاكم في مستدركه من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر قال لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر أسره رجل من الأنصار قال وقد أوعدته الأنصار أن يقاتلوه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه". فقال له عمر أفآتهم فقال "نعم" فأتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس فقالوا لا والله لا نرسله فقال لهم عمر فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى قالوا فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى فخذه فأخذه عمر فلما صار في يده قال له يا عباس أسلم فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك قال واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فيهم فقال أبو بكر عشيرتك فأرسلهم فاستشار عمر فقال اقتلهم ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" الآية. قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال سفيان الثوري عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا الفداء وإن شاءوا القتل على أن يقتل عاما مقبلا منهم مثلهم قالوا الفداء ويقتل منا رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحها من حديث الثوري به وهذا حديث غريب جدا وقال ابن عون عن عبيدة عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر "إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموه واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم" قال فكان آخر السبعين ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة رضي الله عنه ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا فالله أعلم. وقال محمد بن إسحق عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" فقرأ حتى بلغ "عذاب عظيم". قال غنائم بدر قبل أن يحلها لهم يقول لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال الأعمش سبق منه أن لا يعذب أحدا شهد بدرا وروى نحوه عن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن جبير وعطاء وقال شعبة عن أبي هاشم عن مجاهد "لولا كتاب من الله سبق" أي لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان الثوري رحمه الله وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "لولا كتاب من الله سبق" يعني في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم "لمسكم فيما أخذتم" من الأسارى "عذاب عظيم".
﴿ما كانَ لِنَبِيءٍ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ في الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكم فِيما أخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ مُناسِبٌ لِما قَبْلَهُ سَواءٌ نَزَلَ بِعَقِبِهِ أمْ تَأخَّرَ نُزُولُهُ عَنْهُ فَكانَ مَوْقِعُهُ هُنا بِسَبَبِ مُوالاةِ نُزُولِهِ لِنُزُولِ ما قَبْلَهُ أوَكَأنَّ وضْعَ الآيَةِ هُنا بِتَوْقِيفٍ خاصٍّ. والمُناسَبَةُ ذِكْرُ بَعْضِ أحْكامِ الجِهادِ وكانَ أعْظَمُ جِهادٍ مَضى هو جِهادُ يَوْمِ بَدْرٍ. لا جَرَمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بَعْدَ قَضِيَّةِ فِداءِ أسْرى بَدْرٍ مُشِيرَةً إلَيْها. وعِنْدِي أنَّ هَذا تَشْرِيعٌ مُسْتَقْبَلٌ أخَّرَهُ اللَّهُ - تَعالى - رِفْقًا بِالمُسْلِمِينَ الَّذِينَ انْتَصَرُوا بِبَدْرٍ وإكْرامًا لَهم عَلى ذَلِكَ النَّصْرِ المُبِينِ وسَدًّا لَخُلَّتِهِمُ الَّتِي كانُوا فِيها، فَنَزَلَتْ لِبَيانِ الأمْرِ الأجْدَرِ فِيما جَرى في شَأْنِ الأسْرى في وقْعَةِ بَدْرٍ. وذَلِكَ ما رَواهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ما مُخْتَصَرُهُ أنَّ «المُسْلِمِينَ لَمّا أسَرُوا الأُسارى يَوْمَ بَدْرٍ وفِيهِمْ صَنادِيدُ المُشْرِكِينَ سَألَ المُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنْ يُفادِيَهم بِالمالِ وعاهَدُوا عَلى أنْ لا يَعُودُوا إلى حَرْبِهِ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْمُسْلِمِينَ: ما تَرَوْنَ في هَؤُلاءِ الأُسارى ؟ قالَ أبُو بَكْرٍ: يا نَبِيءَ اللَّهِ، هم بَنُو العَمِّ والعَشِيرَةِ أرى أنْ تَأْخُذَ مِنهم فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنا قُوَّةً عَلى الكُفّارِ، فَعَسى اللَّهُ أنْ يَهْدِيَهم لِلْإسْلامِ. وقالَ عُمَرُ: أرى أنْ تُمَكِّنَنا فَنَضْرِبَ أعْناقَهم فَإنَّ هَؤُلاءِ أئِمَّةُ الكُفْرِ وصَنادِيدُها فَهَوِيَ (p-٧٣)رَسُولُ اللَّهِ ما قالَ أبُو بَكْرٍ فَأخَذَ مِنهُمُ الفِداءَ» كَما رَواهُ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ما كانَ لِنَبِيءٍ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى﴾ الآيَةَ. ومَعْنى قَوْلِهِ: هَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ ما «قالَ أبُو بَكْرٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ أحَبَّ واخْتارَ ذَلِكَ لِأنَّهُ مِنَ اليُسْرِ والرَّحْمَةِ بِالمُسْلِمِينَ إذْ كانُوا في حاجَةٍ إلى المالِ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ما خُيِّرَ بَيْنَ أمْرَيْنِ إلّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا» . ورُوِيَ أنَّ ذَلِكَ كانَ رَغْبَةَ أكْثَرِهِمْ وفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وهم في حاجَةٍ إلى المالِ. ولَمّا اسْتَشارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أهْلَ مَشُورَتِهِ تَعَيَّنَ أنَّهُ لَمْ يُوحِ اللَّهُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ في ذَلِكَ، وأنَّ اللَّهَ أوْكَلَ ذَلِكَ إلى اجْتِهادِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَرَأى أنْ يَسْتَشِيرَ النّاسَ ثُمَّ رَجَّحَ أحَدَ الرَّأْيَيْنِ بِاجْتِهادٍ وقَدْ أصابَ الِاجْتِهادَ، فَإنَّهم قَدْ أسْلَمَ مِنهم، حِينَئِذٍ، سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضاءَ، وأسْلَمَ مِن بَعْدُ العَبّاسُ وغَيْرُهُ، وقَدْ خَفِيَ عَلى النَّبِيءِ ﷺ شَيْءٌ لَمْ يَعْلَمْهُ إلّا اللَّهُ وهو إضْمارُ بَعْضِهِمْ بَعْدَ الرُّجُوعِ إلى قَوْمِهِمْ أنْ يَتَأهَّبُوا لِقِتالِ المُسْلِمِينَ مِن بَعْدُ. ورُبَّما كانُوا يُضْمِرُونَ اللَّحاقَ بِفَلِّ المُشْرِكِينَ مِن مَوْضِعٍ قَرِيبٍ ويَعُودُونَ إلى القِتالِ فَيَنْقَلِبُ انْتِصارُ المُسْلِمِينَ هَزِيمَةً كَما كانَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلِأجْلِ هَذا جاءَ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿ما كانَ لِنَبِيءٍ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ في الأرْضِ﴾ . قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في العارِضَةِ: رَوى عُبَيْدَةُ السَّلْمانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ «أنَّ جِبْرِيلَ أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أنْ يُقَرِّبَ الأسارى فَيَضْرِبَ أعْناقَهم أوْ يَقْبَلُوا مِنهُمُ الفِداءَ ويُقْتَلَ مِنكم في العامِ المُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَذا جِبْرِيلُ يُخَيِّرُكم أنْ تُقَدِّمُوا الأُسارى وتَضْرِبُوا أعْناقَهم أوْ تَقْبَلُوا مِنهُمُ الفِداءَ ويُسْتَشْهَدَ مِنكم في العامِ المُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ نَأْخُذُ الفِداءَ فَنَقْوى عَلى عَدُوِّنا ويُقْتَلُ مِنّا في العامِ المُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ، فَفَعَلُوا» . والمَعْنى أنَّ النَّبِيءَ إذا قاتَلَ فَقِتالُهُ مُتَمَحِّضٌ لِغايَةٍ واحِدَةٍ، هي نَصْرُ الدِّينِ ودَفْعُ أعْدائِهِ، ولَيْسَ قِتالُهُ لِلْمُلْكِ والسُّلْطانِ فَإذا كانَ أتْباعُ الدِّينِ في قِلَّةٍ كانَ قَتْلُ الأسْرى تَقْلِيلًا لِعَدَدِ أعْداءِ الدِّينِ حَتّى إذا انْتَشَرَ الدِّينُ وكَثُرَ أتْباعُهُ صَلُحَ الفِداءُ لِنَفْعِ أتْباعِهِ بِالمالِ، وانْتِفاءِ خَشْيَةِ عَوْدِ العَدُوِّ إلى القُوَّةِ. فَهَذا وجْهُ تَقْيِيدِ هَذا الحُكْمِ بِقَوْلِهِ: ما كانَ لِنَبِيءٍ (p-٧٤)والكَلامُ مُوَجَّهٌ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أشارُوا بِالفِداءِ، ولَيْسَ مُوَجَّهًا لِلنَّبِيءِ ﷺ لِأنَّهُ ما فَعَلَ إلّا ما أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِن مُشاوَرَةِ أصْحابِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وشاوِرْهم في الأمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] لاسِيَّما عَلى ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ مِن أنَّ جِبْرِيلَ بَلَّغَ إلى النَّبِيءِ ﷺ أنْ يُخَيِّرَ أصْحابَهُ. ويَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا﴾ فَإنَّ الَّذِينَ أرادُوا عَرَضَ الدُّنْيا هُمُ الَّذِينَ أشارُوا بِالفِداءِ، ولَيْسَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ في ذَلِكَ حَظٌّ. فَمَعْنى ﴿ما كانَ لِنَبِيءٍ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى﴾ نَفْيُ اتِّخاذِ الأسْرى عَنِ اسْتِحْقاقِ نَبِيءٍ لِذَلِكَ الكَوْنِ. وجِيءَ بِـ ”نَبِيءٍ“ نَكِرَةً إشارَةً إلى أنَّ هَذا حُكْمٌ سابِقٌ في حُرُوبِ الأنْبِياءِ في بَنِي إسْرائِيلَ، وهو في الإصْحاحِ عِشْرِينَ مِن سِفْرِ التَّثْنِيَةِ. ومِثْلُ هَذا النَّفْيِ في القُرْآنِ قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنى النَّهْيِ نَحْوَ ﴿وما كانَ لَكم أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٥٣] . وقَدْ يَجِيءُ بِمَعْنى أنَّهُ لا يَصْلُحُ، كَما هُنا؛ لِأنَّ هَذا الكَلامَ جاءَ تَمْهِيدًا لِلْعِتابِ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ مُرادًا مِنهُ ما لا يَصْلُحُ مِن حَيْثُ الرَّأْيِ والسِّياسَةِ. ومَعْنى هَذا الكَوْنِ المَنفِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لِنَبِيءٍ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى﴾ هو بَقاؤُهم في الأسْرِ، أيْ بَقاؤُهم أرِقّاءَ أوْ بَقاءُ أعْواضِهِمْ وهو الفِداءُ. ولَيْسَ المُرادُ أنَّهُ لا يَصْلُحُ أنْ تَقَعَ في يَدِ النَّبِيءِ أسْرى؛ لِأنَّ أخْذَ الأسْرى مِن شُئُونِ الحَرْبِ، وهو مِن شُئُونِ الغَلَبِ، إذا اسْتَسْلَمَ المُقاتِلُونَ، فَلا يَعْقِلُ أحَدٌ نَفْيَهُ عَنِ النَّبِيءِ، فَتَعَيَّنَ أنَّ المُرادَ نَفِيُ أثَرِهِ، وإذا نُفِيَ أثَرُ الأسْرِ صَدَقَ بِأحَدِ أمْرَيْنِ: وهُما المَنُّ عَلَيْهِمْ بِإطْلاقِهِمْ، أوْ قَتْلُهم، ولا يَصْلُحُ المَنُّ هُنا لِأنَّهُ يُنافِي الغايَةَ وهي حَتّى يُثْخِنَ في الأرْضِ فَتَعَيَّنَ أنَّ المَقْصُودَ قَتْلُ الأسْرى الحاصِلِينَ في يَدِهِ، أيْ أنَّ ذَلِكَ الأجْدَرُ بِهِ حِينَ ضَعْفِ المُؤْمِنِينَ، خَضْدًا لِشَوْكَةِ أهْلِ العِنادِ، وقَدْ صارَ حُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ تَشْرِيعًا لِلنَّبِيءِ ﷺ فِيمَن يَأْسِرُهم في غَزَواتِهِ. (p-٧٥)والإثْخانُ الشِّدَّةُ والغِلْظَةُ في الأذى. يُقالُ أثْخَنَتْهُ الجِراحَةُ وأثْخَنَهُ المَرَضُ إذا ثَقُلَ عَلَيْهِ، وقَدْ شاعَ إطْلاقُهُ عَلى شِدَّةِ الجِراحَةِ عَلى الجَرِيحِ. وقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى مَعْنى الشِّدَّةِ والقُوَّةِ. فالمَعْنى: حَتّى يَتَمَكَّنَ في الأرْضِ، أيْ يَتَمَكَّنَ سُلْطانُهُ وأمْرُهُ. وقَوْلُهُ: في الأرْضِ عَلى هَذا جارٍ عَلى حَقِيقَةِ المَعْنى مِنَ الظَّرْفِيَّةِ، أيْ يَتَمَكَّنَ في الدُّنْيا. وحَمَلَهُ في الكَشّافِ عَلى مَعْنى إثْخانِ الجِراحَةِ، فَيَكُونُ جَرْيًا عَلى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ حالِ الرَّسُولِ ﷺ بِالمُقاتِلِ الَّذِي يَجْرَحُ قِرْنَهُ جِراحًا قَوِيَّةً تُثْخِنُهُ، أيْ حَتّى يُثْخِنَ أعْداءَهُ فَتَصِيرَ لَهُ الغَلَبَةُ عَلَيْهِمْ في مُعْظَمِ المَواقِعِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: في الأرْضِ قَرِينَةَ التَّمْثِيلِيَّةِ. والكَلامُ عِتابٌ لِلَّذِينَ أشارُوا بِاخْتِيارِ الفِداءِ والمَيْلِ إلَيْهِ وغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الأخْذِ بِالحَزْمِ في قَطْعِ دابِرِ صَنادِيدِ المُشْرِكِينَ، فَإنَّ في هَلاكِهِمْ خَضْدًا لِشَوْكَةِ قَوْمِهِمْ فَهَذا تَرْجِيحٌ لِلْمُقْتَضى السِّياسِيِّ العَرَضِيِّ عَلى المُقْتَضى الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الإسْلامُ وهو التَّيْسِيرُ والرِّفْقُ في شُئُونِ المُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ كَما قالَ تَعالى: ﴿أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] . وقَدْ كانَ هَذا المَسْلَكُ السِّياسِيُّ خَفِيًّا حَتّى كَأنَّهُ مِمّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ، وفي التِّرْمِذِيِّ، عَنِ الأعْمَشِ: أنَّهم في يَوْمِ بَدْرٍ سَبَقُوا إلى الغَنائِمِ قَبْلَ أنْ تَحِلَّ لَهم، وهَذا قَوْلٌ غَرِيبٌ فَقَدْ ثَبَتَ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ اسْتَشارَهم، وهو في الصَّحِيحِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”أنْ يَكُونَ لَهُ“ بِتَحْتِيَّةٍ عَلى أُسْلُوبِ التَّذْكِيرِ. وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ، وأبُو جَعْفَرٍ بِمُثَنّاةٍ فَوْقِيَّةٍ عَلى صِيغَةِ التَّأْنِيثِ؛ لِأنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ الجَماعَةِ. والخِطابُ في قَوْلِهِ: ”تُرِيدُونَ“ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ أشارُوا بِأخْذِ الفِداءِ وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - غَيْرُ مُعاتَبٍ لِأنَّهُ إنَّما أخَذَ بِرَأْيِ الجُمْهُورِ. وجُمْلَةُ ”تُرِيدُونَ“ إلى آخِرِها واقِعَةٌ مَوْقِعَ العِلَّةِ لِلنَّهْيِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ ”ما كانَ لِنَبِيءٍ“ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ؛ لِأنَّ العِلَّةَ بِمَنزِلَةِ الجُمْلَةِ المُبَيِّنَةِ. (p-٧٦)و﴿عَرَضَ الدُّنْيا﴾ هو المالُ، وإنَّما سُمِّيَ عَرَضًا لِأنَّ الِانْتِفاعَ بِهِ قَلِيلُ اللُّبْثِ، فَأشْبَهَ الشَّيْءَ العارِضَ إذِ العُرُوضُ مُرُورُ الشَّيْءِ وعَدَمُ مُكْثِهِ لِأنَّهُ يَعْرِضُ لِلْماشِينَ بِدُونِ تَهَيُّؤٍ. والمُرادُ عَرَضُ الدُّنْيا المَحْضُ وهو أخْذُ المالِ لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِهِ. والإرادَةُ هُنا بِمَعْنى المَحَبَّةِ، أيْ: تُحِبُّونَ مَنافِعَ الدُّنْيا واللَّهُ يُحِبُّ ثَوابَ الآخِرَةِ، ومَعْنى مَحَبَّةِ اللَّهِ إيّاها مَحَبَّتُهُ ذَلِكَ لِلنّاسِ، أيْ يُحِبُّ لَكم ثَوابَ الآخِرَةِ، فَعُلِّقَ فِعْلُ الإرادَةِ بِذاتِ الآخِرَةِ، والمَقْصُودُ نَفْعُها بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا﴾ فَهو حَذْفُ مُضافٍ لِلْإيجازِ، ومِمّا يُحَسِّنُهُ أنَّ الآخِرَةَ المُرادَةَ لِلْمُؤْمِنِ لا يُخالِطُ نَفْعَها ضُرٌّ ولا مَشَقَّةٌ، بِخِلافِ نَفْعِ الدُّنْيا. وإنَّما ذُكِرَ مَعَ الدُّنْيا المُضافُ ولَمْ يُحْذَفْ: لِأنَّ في ذِكْرِهِ إشْعارًا بِعُرُوضِهِ وسُرْعَةِ زَوالِهِ. وإنَّما أحَبَّ اللَّهُ نَفْعَ الآخِرَةِ: لِأنَّهُ نَفْعٌ خالِدٌ، ولِأنَّهُ أثَرُ الأعْمالِ النّافِعَةِ لِلدِّينِ الحَقِّ، وصَلاحُ الفَرْدِ والجَماعَةِ. وقَدْ نَصَبَ اللَّهُ عَلى نَفْعِ الآخِرَةِ أماراتٍ، هي أماراتُ أمْرِهِ ونَهْيِهِ، فَكُلُّ عَرَضٍ مِن أعْراضِ الدُّنْيا لَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِن نَفْعِ الآخِرَةِ، فَهو غَيْرُ مَحْبُوبٍ لِلَّهِ تَعالى، وكُلُّ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيا فِيهِ نَفْعٌ مِنَ الآخِرَةِ فَفِيهِ مَحَبَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وهَذا الفِداءُ الَّذِي أحَبُّوهُ لَمْ يَكُنْ يَحُفُّ بِهِ مِنَ الأماراتِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّهُ، ولِذَلِكَ تَعَيَّنَ أنَّ عِتابَ المُسْلِمِينَ عَلى اخْتِيارِهِمْ إيّاهُ حِينَ اسْتَشارَهُمُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - إنَّما هو عِتابٌ عَلى نَوايا في نُفُوسِ جُمْهُورِ الجَيْشِ، حِينَ تَخَيَّرُوا الفِداءَ، أيْ أنَّهم ما راعَوْا فِيهِ إلّا مَحَبَّةَ المالِ لِنَفْعِ أنْفُسِهِمْ فَعاتَبَهُمُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ لِيُنَبِّهَهم عَلى أنَّ حَقِيقًا عَلَيْهِمْ أنْ لا يَنْسَوْا في سائِرِ أحْوالِهِمْ وآرائِهِمُ الِالتِفاتَ إلى نَفْعِ الدِّينِ وما يَعُودُ عَلَيْهِ بِالقُوَّةِ، فَإنَّ أبا بَكْرٍ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ الِاسْتِشارَةِ: قَوْمُكَ وأهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وخُذْ مِنهم فِدْيَةً تُقَوِّي بِها أصْحابَكَ. فَنَظَرَ إلى مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ مِن جِهَتَيْنِ ولَعَلَّ هَذا المَلْحَظَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ جُمْهُورِ أهْلِ الجَيْشِ. ويَجُوزُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا﴾ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنى الِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ، والمَعْنى: لَعَلَّكم تُحِبُّونَ عَرَضَ الدُّنْيا فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ لَكُمُ الثَّوابَ وقُوَّةَ (p-٧٧)الدِّينِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ المَنظُورُ إلَيْهِ هو النَّفْعَ الدُّنْيَوِيَّ لَكانَ حِفْظُ أنْفُسِ النّاسِ مُقَدَّمًا عَلى إسْعافِهِمْ بِالمالِ، فَلِمَ وجَبَ عَلَيْهِمْ بَذْلُ نُفُوسِهِمْ في الجِهادِ ؟ فالمَعْنى: يُوشِكُ أنْ تَكُونَ حالُكم كَحالِ مَن لا يُحِبُّ إلّا عَرَضَ الدُّنْيا، تَحْذِيرًا لَهم مِنَ التَّوَغُّلِ في إيثارِ الحُظُوظِ العاجِلَةِ. وجُمْلَةُ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ عَطْفًا يُؤْذِنُ بِأنَّ لِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ أثَرًا في أنَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ، فَيَكُونُ كالتَّعْلِيلِ، وهو يُفِيدُ أنَّ حَظَّ الآخِرَةِ هو الحَظُّ الحَقُّ، ولِذَلِكَ يُرِيدُهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ. فَوَصْفُ العَزِيزِ يَدُلُّ عَلى الِاسْتِغْناءِ عَنِ الِاحْتِياجِ، وعَلى الرِّفْعَةِ والمَقْدِرَةِ، ولِذَلِكَ لا يَلِيقُ بِهِ إلّا مَحَبَّةُ الأُمُورِ النَّفِيسَةِ، وهَذا يُومِئُ إلى أنَّ أوْلِياءَهُ يَنْبَغِي لَهم أنْ يَكُونُوا أعِزّاءَ كَقَوْلِهِ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨] فَلِأجْلِ ذَلِكَ كانَ اللّائِقُ بِهِمْ أنْ يَرْبَأُوا بِنُفُوسِهِمْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِسَفاسِفِ الأُمُورِ وأنْ يَجْنَحُوا إلى مَعالِيها. ووَصْفُ الحَكِيمِ يَقْتَضِي أنَّهُ العالِمُ بِالمَنافِعِ الحَقِّ عَلى ما هي عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الحِكْمَةَ العِلْمُ بِحَقائِقِ الأشْياءِ عَلى ما هي عَلَيْهِ. وجُمْلَةُ ﴿لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ﴾ سَبَقَ إلَخْ. مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِأنَّ الكَلامَ السّابِقَ يُؤْذِنُ بِأنَّ مُفاداةَ الأسْرى أمْرٌ مَرْهُوبٌ تُخْشى عَواقِبُهُ، فَيَسْتَثِيرُ سُؤالًا في نُفُوسِهِمْ عَمّا يُتَرَقَّبُ مِن ذَلِكَ فَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: ﴿لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ الآيَةَ. والمُرادُ بِالكِتابِ المَكْتُوبُ، وهو مِنَ الكِتابَةِ الَّتِي هي التَّعْيِينُ والتَّقْدِيرُ، وقَدْ نُكِّرَ ”الكِتابُ“ تَنْكِيرَ نَوْعِيَّةٍ وإبْهامٍ، أيْ: لَوْلا وُجُودُ سُنَّةِ تَشْرِيعٍ سَبَقَ عَنِ اللَّهِ. وذَلِكَ الكِتابُ هو عُذْرُ المُسْتَشارِ وعُذْرُ المُجْتَهِدِ في اجْتِهادِهِ إذا أخْطَأ، فَقَدِ اسْتَشارَهُمُ النَّبِيءُ ﷺ فَأشارُوا بِما فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَأوْها وأخَذَ بِما أشارُوا بِهِ ولَوْلا ذَلِكَ لَكانَتْ مُخالَفَتُهم لِما يُحِبُّهُ اللَّهُ اجْتِراءً عَلى اللَّهِ يُوجِبُ أنْ يَمَسَّهم عَذابٌ عَظِيمٌ. وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ لِلَّهِ حُكْمًا في كُلِّ حادِثَةٍ وأنَّهُ نَصَبَ عَلى حُكْمِهِ أمارَةً هي دَلِيلُ المُجْتَهِدِ وأنَّ مُخْطِئَهُ مِنَ المُجْتَهِدِينَ لا يَأْثَمُ بَلْ يُؤْجَرُ. و”في“ لِلتَّعْلِيلِ و”العَذابُ“ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَذابَ الآخِرَةِ. (p-٧٨)ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ العَذابُ المَنفِيُّ عَذابًا في الدُّنْيا، أيْ: لَوْلا قَدَرٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ مِن لُطْفِهِ بِكم فَصَرَفَ بِلُطْفِهِ وعِنايَتِهِ عَنِ المُؤْمِنِينَ عَذابًا كانَ مِن شَأْنِ أخْذِهِمُ الفِداءَ أنْ يُسَبِّبَهُ لَهم ويُوقِعَهم فِيهِ. وهَذا العَذابُ عَذابٌ دُنْيَوِيٌّ لِأنَّ عَذابَ الآخِرَةِ لا يَتَرَتَّبُ إلّا عَلى مُخالَفَةِ شَرْعٍ سابِقٍ، ولَمْ يَسْبِقْ مِنَ الشَّرْعِ ما يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ أخْذَ الفِداءِ، كَيْفَ وقَدْ خُيِّرُوا فِيهِ لَمّا اسْتُشِيرُوا، وهو أيْضًا عَذابٌ مِن شَأْنِهِ أنْ يَجُرَّهُ عَمَلُهم جَرَّ الأسْبابِ لِمُسَبَّباتِها، ولَيْسَ عَذابَ غَضَبٍ مِنَ اللَّهِ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَتَرَتَّبُ إلّا عَلى مَعاصٍ عَظِيمَةٍ. فالمُرادُ بِالعَذابِ أنَّ أُولَئِكَ الأسْرى الَّذِينَ فادَوْهم كانُوا صَنادِيدَ المُشْرِكِينَ وقَدْ تَخَلَّصُوا مِنَ القَتْلِ والأسْرِ يَحْمِلُونَ في صُدُورِهِمْ حَنَقًا فَكانَ مِن مُعْتادِ أمْثالِهِمْ في مِثْلِ ذَلِكَ أنْ يَسْعَوْا في قَوْمِهِمْ إلى أخْذِ ثَأْرِ قَتْلاهم واسْتِرْدادِ أمْوالِهِمْ. فَلَوْ فَعَلُوا لَكانَتْ دائِرَةً عَظِيمَةً عَلى المُسْلِمِينَ، ولَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ المُسْلِمِينَ مِن ذَلِكَ فَصَرَفَ المُشْرِكِينَ عَنْ مَحَبَّةِ أخْذِ الثَّأْرِ، وألْهاهم بِما شَغَلَهم عَنْ مُعاوَدَةِ قِتالِ المُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ الصَّرْفُ هو مِنَ الكِتابِ الَّذِي سَبَقَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. وقَدْ حَصَلَ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَحْذِيرُ المُسْلِمِينَ مِنَ العَوْدَةِ لِلْفِداءِ في مِثْلِ هَذِهِ الحالَةِ، وبِذَلِكَ كانَتْ تَشْرِيعًا لِلْمُسْتَقْبَلِ كَما ذَكَرْناهُ آنِفًا.