موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الثلاثاء 19 شعبان 1446 هجرية الموافق ل18 فبراير 2025


الآية [7] من سورة  

وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَٰفِرِينَ


ركن التفسير

7 - (و) اذكر (إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) العير أو النفير (أنها لكم وتودون) تريدون (أن غير ذات الشوكة) أي البأس والسلاح وهي العير (تكون لكم) لقلة عددها ومددها بخلاف النفير (ويريد الله أن يحق الحق) يظهره (بكلماته) السابقة بظهور الإسلام (ويقطع دابر الكافرين) آخرهم بالاستئصال فأمركم بقتال النفير

وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا يحيى بن بكير وعبدالرزاق قالا: حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبدالمطلب قال عبدالرزاق وهو أسير في وثاقه إنه لا يصلح لك. قال ولم؟ قال لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك إسناد جيد ولم يخرجه ومعنى قوله تعالى "وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم " أي يحبون أن الطائفة التي لا حد لها ولا منعة ولا قتال تكون لهم وهي العير "ويريد الله أن يحق الحق بكلماته "أي هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم. ويظهر دينه ويرفع كلمة الإسلام ويجعله غالبا على الأديان وهو أعلم بعواقب الأمور وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم كقوله تعالى "كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم" وقال محمد بن إسحق رحمه الله حدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن عبدالله بن عباس كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم. وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا وكان أبو سفيان قد أستنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار. ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله أمض لما أمرك الله به فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون" ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خيرا ودعا له بخير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أشيروا علي أيها الناس" وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم كانوا عدد الناس وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل" فقال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أمرك الله فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال:"سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا وكذلك قال السدي وقتادة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحق.

(p-٢٦٩)﴿وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ أنَّها لَكم وتَوَدُّونَ أنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكم ويُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ ويَقْطَعَ دابِرَ الكافِرِينَ﴾ ﴿لِيُحِقَّ الحَقَّ ويُبْطِلَ الباطِلَ ولَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ﴾ الأحْسَنُ أنْ تَكُونَ ﴿وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ﴾ مَعْطُوفًا عَلى ﴿كَما أخْرَجَكَ﴾ [الأنفال: ٥] عَطْفُ المُفْرَدِ عَلى المُفْرَدِ فَيَكُونَ المَعْطُوفُ مُشَبَّهًا بِهِ التَّشْبِيهُ المُفادُ بِالكافِ، والمَعْنى: كَإخْراجِكَ اللَّهُ مِن بَيْتِكَ، وكَوَقْتِ ﴿يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ﴾ الآيَةَ. واسْمُ الزَّمانِ إذا أُضِيفَ إلى الجُمْلَةِ كانَتِ الجُمْلَةُ في تَأْوِيلِ المُفْرَدِ فَتُؤَوَّلُ بِمَصْدَرٍ، والتَّقْدِيرُ: وكَوَقْتِ وعْدِ اللَّهِ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ، فَ ”إذِ“ اسْمُ زَمانٍ مُتَصَرِّفٌ مَجْرُورٌ بِالعَطْفِ عَلى مَجْرُورِ كافِ التَّشْبِيهِ، وجَعَلَ صاحِبُ الكَشّافِ ”إذْ“ مَفْعُولًا لِفِعْلِ ”اذْكُرْ“ مَحْذُوفٍ شَأْنَ ”إذِ“ الواقِعَةِ في مُفْتَتَحِ القَصَصِ، فَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ الأمْرِ المُقَدَّرِ عَلى جُمْلَةِ ﴿قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: ١] والمُناسَبَةُ هي أنَّ كِلا القَوْلَيْنِ فِيهِ تَوْقِيفُهم عَلى خَطَأِ رَأْيِهِمْ وأنَّ ما كَرِهُوهُ هو الخَيْرُ لَهم. والطّائِفَةُ الجَماعَةُ مِنَ النّاسِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ [النساء: ١٠٢] في سُورَةِ النِّساءِ. وجُمْلَةُ أنَّها لَكم في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، هو بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن إحْدى الطّائِفَتَيْنِ، أيْ: يَعِدُكم مَصِيرَ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ لَكم، أيْ كَوْنُها مُعْطاةً لَكم، وهو إعْطاءُ النَّصْرِ والغَلَبَةِ عَلَيْها بَيْنَ قَتْلٍ وأسْرٍ وغَنِيمَةٍ. واللّامُ لِلْمِلْكِ وهو هُنا مِلْكٌ عُرْفِيٌّ، كَما يَقُولُونَ كانَ يَوْمُ كَذا لِبَنِي فُلانٍ عَلى بَنِي فُلانٍ، فَيُعْرَفُ أنَّهُ كانَ لَهم غَلَبَةَ حَرْبٍ وهي بِالقَتْلِ والأسْرِ والغَنِيمَةِ. ”وتَوَدُّونَ“ إمّا عَطْفٌ عَلى ”يَعِدُكم“ أيْ إذْ يَقَعُ الوَعْدُ مِنَ اللَّهِ والوُدُّ مِنكم، وإمّا في مَوْضِعِ الحالِ والواوُ واوُ الحالِ، أيْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ في حالِ وُدِّكم لِقاءَ الطّائِفَةِ غَيْرِ ذاتِ الشَّوْكَةِ، وهَذا الوُدُّ هو مَحَلُّ التَّشْبِيهِ الَّذِي أفادَهُ عَطْفُ ”وإذْ يَعِدُكم“ مَجْرُورِ الكافِ في قَوْلِهِ ﴿كَما أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ﴾ [الأنفال: ٥] فَهو مِمّا شُبِّهَ (p-٢٧٠)بِهِ حالُ سُؤالِهِمْ عَنِ الأنْفالِ سُؤالًا مَشُوبًا بِكَراهِيَةِ صَرْفِ الأنْفالِ عَنِ السّائِلَيْنِ عَنْها الرّائِمِينَ أخْذَها. والوُدُّ المَحَبَّةُ، وذاتُ الشَّوْكَةِ صاحِبَةُ الشَّوْكَةِ، ووَقَعَ ”ذاتَ“ صِفَةً لِمُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ الطّائِفَةُ غَيْرُ ذاتِ الشَّوْكَةِ، أيِ الطّائِفَةُ الَّتِي لا تَسْتَطِيعُ القِتالَ. والشَّوْكَةُ أصْلُها الواحِدَةُ مِنَ الشَّوْكِ وهو ما يَخْرُجُ في بَعْضِ النَّباتِ مِن أعْوادٍ دَقِيقَةٍ تَكُونُ مُحَدَّدَةَ الأطْرافِ كالإبَرِ، فَإذا نَزَغَتْ جِلْدَ الإنْسانِ أدْمَتْهُ أوْ آلَمَتْهُ، وإذا عَلِقَتْ بِثَوْبٍ أمْسَكَتْهُ، وذَلِكَ مِثْلُ ما في ورَقِ العَرْفَجِ، ويُقالُ هَذِهِ شَجَرَةٌ شائِكَةٌ، ومِنَ الكِنايَةِ عَنْ ظُهُورِ الشَّرِّ قَوْلُهم ”إنَّ العَوْسَجَ قَدْ أوْرَقَ“، وشَوْكَةُ العَقْرَبِ البَضْعَةُ الَّتِي في ذَنَبِها تَلْسَعُ بِها. وشاعَ اسْتِعارَةُ الشَّوْكَةِ لِلْبَأْسِ، يُقالُ: فُلانٌ ذُو شَوْكَةٍ، أيْ ذُو بَأْسٍ يُتَّقى، كَما يُسْتَعارُ القَرْنُ لِلْبَأْسِ في قَوْلِهِمْ: أبْدى قَرْنَهُ، والنّابُ أيْضًا في قَوْلِهِمْ: كَشَّرَ عَنْ نابِهِ، وذَلِكَ مِن تَشْبِيهِ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ أيْ تَوَدُّونَ الطّائِفَةَ الَّتِي لا يُخْشى بَأْسُها تَكُونُ لَكم أيْ مِلْكَكم فَتَأْخُذُونَهم. وقَدْ أشارَتِ الآيَةُ إلى ما في قِصَّةِ بَدْرٍ حِينَ أخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المُسْلِمِينَ بِانْصِرافِ عِيرِ قُرَيْشٍ نَحْوَ السّاحِلِ وبِمَجِيءِ نَفِيرِهِمْ إلى بَدْرٍ، وأخْبَرَهم أنَّ اللَّهَ وعَدَهم إحْدى الطّائِفَتَيْنِ، أيْ إمّا العِيرُ وإمّا النَّفِيرُ، وعْدًا مُعَلَّقًا عَلى اخْتِيارِهِمْ إحْداهُما، ثُمَّ اسْتَشارَهم في الأمْرِ أيَخْتارُونَ اللَّحاقَ بِالعِيرِ أمْ يَقْصِدُونَ نَفِيرَ قُرَيْشٍ، فَقالَ النّاسُ: إنَّما خَرَجْنا لِأجْلِ العِيرِ، ورامُوا اللِّحاقَ بِالعِيرِ واعْتَذَرُوا بِضَعْفِ اسْتِعْدادِهِمْ وأنَّهم يَخْرُجُوا لِمُقاتَلَةِ جَيْشٍ، وكانَتِ العِيرُ لا تَشْتَمِلُ إلّا عَلى أرْبَعِينَ رَجُلًا وكانَ النَّفِيرُ فِيما قِيلَ يَشْمَلُ عَلى ألْفِ رَجُلٍ مُسَلَّحٍ، فَذَلِكَ مَعْنى قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وتَوَدُّونَ أنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ أيْ تَوَدُّونَ غَنِيمَةً بِدُونِ حَرْبٍ، فَلَمّا لَمْ يَطْمَعُوا بِلِقاءِ الجَيْشِ ورامُوا لِقاءَ العِيرِ كانُوا يَوَدُّونَ أنْ تَحْصُلَ لَهم غَنِيمَةُ العِيرِ، ولَعَلَّ الِاسْتِشارَةَ كانَتْ صُورِيَّةً أمَرَ اللَّهُ بِها نَبِيَّهُ لِتَثْبِيتِ المُسْلِمِينَ لِئَلّا تَهِنَ قُوَّتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ إنْ أُعْلِمُوا بِأنَّهم سَيَلْقَوْنَ ذاتَ الشَّوْكَةِ. وقَوْلُهُ ﴿ويُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ وتَوَدُّونَ عَلى احْتِمالَيْ (p-٢٧١)أنَّ واوَها لِلْعَطْفِ أوْ لِلْحالِ، والمَقْصُودُ مِنَ الإخْبارِ بِهَذِهِ الجُمَلِ الثَّلاثِ إظْهارُ أنَّ ما يَوَدُّونَهُ لَيْسَ فِيهِ كَمالُ مَصْلَحَتِهِمْ، وأنَّ اللَّهَ اخْتارَ لَهم ما فِيهِ كَمالُ مَصْلَحَتِهِمْ، وإنْ كانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ويُرْهِبُهم، فَإنَّهم لَمْ يَطَّلِعُوا عَلى الأصْلَحِ بِهِمْ. فَهَذا تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ. والمُرادُ مِنَ الإرادَةِ هُنا إرادَةٌ خاصَّةٌ وهي المَشِيئَةُ والتَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيِّ لِلْإرادَةِ الَّتِي هي صِفَةُ الذّاتِ. فَهَذا كَقَوْلِهِ ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] أيْ يُسْرٌ بِكم. ومَعْنى يُحِقُّ الحَقَّ: يُثْبِتُ ما يُسَمّى الحَقُّ وهو ضِدُّ الباطِلِ يُقالُ: حَقَّ الشَّيْءُ، إذا ثَبَتَ، قالَ - تَعالى - ﴿أفَمَن حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذابِ﴾ [الزمر: ١٩] . والمُرادُ بِالحَقِّ، هُنا: دِينُ الحَقِّ، وهو الإسْلامُ، وقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الحَقِّ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ القُرْآنِ كَقَوْلِهِ ”﴿حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الزخرف: ٢٩]“ الآيَةَ. وإحْقاقُهُ بِاسْتِئْصالِ مُعانِدِيهِ، فَأنْتُمْ تُرِيدُونَ نَفْعًا قَلِيلًا عاجِلًا، وأرادَ اللَّهُ نَفْعًا عَظِيمًا في العاجِلِ والآجِلِ، واللَّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وفِي قَوْلِهِ لِيُحِقَّ الحَقَّ جِناسُ الِاشْتِقاقِ. وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ أصْلَ مادَّةِ الحَقِّ هو فِعْلُ ”حَقَّ“ . وأنَّ أصْلَ مادَّةِ الباطِلِ هي فِعْلُ ”بَطَلَ“ . ونَظِيرُهُ «قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ لِلَّذِينَ قالُوا في التَّشَهُّدِ ”السَّلامُ عَلى اللَّهِ“ فَقالَ لَهُمُ النَّبِيءُ ﷺ إنَّ اللَّهَ هو السَّلامُ» . وكَلِماتُ اللَّهِ ما يَدُلُّ عَلى مُرادِهِ وعَلى كَلامِهِ النَّفْسِيِّ، حَقِيقُهُ مِن أقْوالٍ لَفْظِيَّةٍ يَخْلُقُها خَلْقًا غَيْرَ مُتَعارَفٍ لِيَفْهَمَها أحَدُ البَشَرِ ويُبَلِّغَها عَنِ اللَّهِ، مِثْلَ القُرْآنِ، أوْ مَجازًا مِن أدِلَّةٍ غَيْرِ لَفْظِيَّةٍ، مِثْلَ ما يُخاطِبُ بِهِ المَلائِكَةَ المَحْكِيِّ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿حَتّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكم قالُوا الحَقَّ وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ [سبإ: ٢٣] وفَسَّرَهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «إذا قَضى اللَّهُ الأمْرَ في السَّماءِ ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ بِأجْنِحَتِها خُضْعانًا لِقَوْلِهِ كَأنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلى صَفْوانٍ فَإذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكم قالُوا لِلَّذِي قالَ: الحَقُّ وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ» . والجَمْعُ المُعَرَّفُ بِالإضافَةِ يُفِيدُ العُمُومَ، فَقَوْلُهُ بِكَلِماتِهِ يَعُمُّ أنْواعَ الكَلامِ الَّذِي يُوحِي بِهِ اللَّهُ الدّالِّ عَلى إرادَتِهِ تَثْبِيتَ الحَقِّ، مِثْلَ آياتِ القُرْآنِ المُنَزَّلَةِ في قِتالِ الكُفّارِ وما أمَرَ بِهِ المَلائِكَةَ مِن نُصْرَتِهِمُ المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ. (p-٢٧٢)والباءُ في بِكَلِماتِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وذِكْرُ هَذا القَيْدِ لِلتَّنْوِيهِ بِإحْقاقِ هَذا الحَقِّ وبَيانِ أنَّهُ مِمّا أرادَ اللَّهُ ويَسَّرَهُ وبَيَّنَهُ لِلنّاسِ مِنَ الأمْرِ، لِيَقُومَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ المَأْمُورِينَ بِما هو حَظُّهُ مِن بَعْضِ تِلْكَ الأوامِرِ، ولِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ ذَلِكَ واقِعٌ لا مَحالَةَ لِأنَّ كَلِماتِ اللَّهِ لا تَخْتَلِفُ كَما قالَ - تَعالى - ﴿يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذَلِكم قالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [الفتح: ١٥]، ولِمَدْحِ هَذا الإحْقاقِ بِأنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ كَلِماتِ اللَّهِ. وقَطُعُ دابِرِ الشَّيْءِ إزالَةُ الشَّيْءِ كُلِّهِ إزالَةً تَأْتِي عَلى آخِرِ فَرْدٍ مِنهُ يَكُونُ في مُؤَخِّرَتِهِ مِن ورائِهِ وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنعام: ٤٥] في سُورَةِ الأنْعامِ. والمَعْنى: أرَدْتُمُ الغَنِيمَةَ وأرادَ اللَّهُ إظْهارَ أمْرِكم وخَضْدَ شَوْكَةِ عَدُوِّكم، وإنْ كانَ ذَلِكَ يَحْرِمُكُمُ الغِنى العارِضَ، فَإنَّ أمْنَكم واطْمِئْنانَ بالِكم خَيْرٌ لَكم وأنْتُمْ تَحْسَبُونَ أنْ لا تَسْتَطِيعُوا هَزِيمَةَ عَدُوِّكم. واللّامُ في قَوْلِهِ ﴿لِيُحِقَّ الحَقَّ ويُبْطِلَ الباطِلَ﴾ لامُ التَّعْلِيلِ، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ ﴿ويُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ﴾ أيْ إنَّما أرادَ ذَلِكَ وكَوَّنَ أسْبابَهُ بِكَلِماتِهِ لِأجْلِ تَحْقِيقِهِ الحَقَّ وإبْطالِهِ الباطِلَ. وإذْ قَدْ كانَ مَحْصُولُ هَذا التَّعْلِيلِ هو عَيْنَ مَحْصُولِ المُعَلَّلِ في قَوْلِهِ ﴿ويُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ﴾ وشَأْنُ العِلَّةِ أنْ تَكُونَ مُخالِفَةً لِلْمُعَلِّلِ، ولَوْ في الجُمْلَةِ، إذْ فائِدَةُ التَّعْلِيلِ إظْهارُ الغَرَضِ الَّذِي يَقْصِدُهُ الفاعِلُ مِن فِعْلِهِ، فَمُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ لا يَكُونَ تَعْلِيلُ الفِعْلِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الفِعْلِ، لِأنَّ السّامِعَ لا يَجْهَلُ أنَّ الفاعِلَ المُخْتارَ ما فَعَلَ فِعْلًا إلّا وهو مُرادٌ لَهُ، فَإذا سَمِعْنا مِن كَلامِ البَلِيغِ تَعْلِيلَ الفِعْلِ بِنَفْسِ ذَلِكَ الفِعْلِ كانَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنْ كَوْنِهِ ما فَعَلَ ذَلِكَ الفِعْلَ إلّا لِذاتِ الفِعْلِ، لا لِغَرَضٍ آخَرَ زائِدٍ عَلَيْهِ، فَإفادَةُ التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ مَعْنى الحَصْرِ حاصِلَةٌ مِن مُجَرَّدِ التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ المُعَلَّلِ. والحَصْرُ هُنا مِن مُسْتَتْبَعاتِ التَّرْكِيبِ، ولَيْسَ مِن دَلالَةِ اللَّفْظِ، فافْهَمْهُ فَإنَّهُ دَقِيقٌ وقَدْ وقَعَتْ فِيهِ غَفَلاتٌ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِاخْتِلافُ بَيْنَ المُعَلَّلِ والعِلَّةِ بِالعُمُومِ والخُصُوصِ أيْ يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُحِقَّ الحَقَّ في هَذِهِ الحادِثَةِ لِأنَّهُ يُرِيدُ إحْقاقَ الحَقِّ عُمُومًا. وأمّا قَوْلُهُ ﴿ويُبْطِلَ الباطِلَ﴾ فَهو ضِدُّ مَعْنى قَوْلِهِ ﴿لِيُحِقَّ الحَقَّ﴾ وهو مِن لَوازِمِ (p-٢٧٣)مَعْنى لِيُحِقَّ الحَقَّ، لِأنَّهُ إذا حَصَلَ الحَقُّ ذَهَبَ الباطِلُ كَما قالَ - تَعالى - بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذا هو زاهِقٌ، ولَمّا كانَ الباطِلُ ضِدَّ الحَقِّ لَزِمَ مِن ثُبُوتِ أحَدِهِما انْتِفاءُ الآخَرِ. ومِن لَطائِفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ لِعُمَرَ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ كَمْ سِنُّكَ ؟ فَقالَ ابْنُ أبِي رَبِيعَةَ وُلِدْتُ يَوْمَ ماتَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ”أيُّ حَقٍّ رُفِعَ وأيُّ باطِلٍ وُضِعَ“ أيْ في ذَلِكَ اليَوْمِ، فَفائِدَةُ قَوْلِهِ ”ويُبْطِلَ الباطِلَ“ التَّصْرِيحُ بِأنَّ اللَّهَ لا يَرْضى بِالباطِلِ، فَكانَ ذِكْرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ لِيُحِقَّ الحَقَّ بِمَنزِلَةِ التَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ لِيُحِقَّ الحَقَّ لِأنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ قَدْ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿قَدْ ضَلُّوا وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٠] ويَجِيءُ في قَوْلِهِ ﴿ويُبْطِلَ الباطِلَ﴾ مِن مَعْنى الكَلامِ، ومِن جِناسِ الِاشْتِقاقِ، ما جاءَ في قَوْلِهِ ﴿أنْ يُحِقَّ الحَقَّ﴾ ثُمَّ في مُقابَلَةِ قَوْلِهِ ﴿لِيُحِقَّ الحَقَّ﴾ بِقَوْلِهِ ﴿ويُبْطِلَ الباطِلَ﴾ مُحَسِّنُ الطِّباقِ. ولَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ شَرْطٌ اتِّصالِيٌّ. ولَوِ اتِّصالِيَّةٌ تَدُلُّ عَلى المُبالَغَةِ في الأحْوالِ، وهو عَطْفٌ عَلى ”يُرِيدُ اللَّهُ“، أوْ عَلى لِيُحِقَّ الحَقَّ أيْ يُرِيدُ ذَلِكَ لِذَلِكَ لا لِغَيْرِهِ، ولا يَصُدُّ مُرادَهُ ما لِلْمُعانِدِينَ مِن قُوَّةٍ بِأنْ يَكْرَهَهُ المُجْرِمُونَ وهُمُ المُشْرِكُونَ. والكَراهِيَةُ هُنا كِنايَةٌ عَنْ لَوازِمِها، وهي الِاسْتِعْدادُ لِمُقاوَمَةِ المُرادِ مِن تِلْكَ الإرادَةِ، فَإنَّ المُشْرِكِينَ، بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وعُدَدِهِمْ، يُرِيدُونَ إحْقاقَ الباطِلِ، وإرادَةُ اللَّهِ تَنْفُذُ بِالرَّغْمِ عَلى كَراهِيَةِ المُجْرِمِينَ، وأمّا مُجَرَّدُ الكَراهَةِ فَلَيْسَ صالِحًا أنْ يَكُونَ غايَةً لِلْمُبالَغَةِ في أحْوالِ نُفُوذِ مُرادِ اللَّهِ - تَعالى - إحْقاقَ الحَقِّ: لِأنَّهُ إحْساسٌ قاصِرٌ عَلى صاحِبِهِ، ولَكِنَّهُ إذا بَعَثَهُ عَلى مُدافَعَةِ الأمْرِ المَكْرُوهِ كانَتْ أسْبابُ المُدافِعَةِ هي الغايَةَ لِنُفُوذِ الأمْرِ المَكْرُوهِ عَلى الكارِهِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى لَوِ الِاتِّصالِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ”﴿ولَوِ افْتَدى بِهِ﴾ [آل عمران: ٩١]“ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، وقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أوَلَوْ كانَ آباؤُهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ [البقرة: ١٧٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ.


ركن الترجمة

Though God promised that one of two columns (would fall to you), you desired the one that was not armed. But God wished to confirm the truth by His words, and wipe the unbelievers out to the last,

(Rappelez-vous), quand Allah vous promettait qu'une des deux bandes sera à vous. Vous désiriez vous emparer de celle qui était sans armes, alors qu'Allah voulait par Ses paroles faire triompher la vérité et anéantir les mécréants jusqu'au dernier.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :