ركن التفسير
74 - (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرةٌ ورزق كريم) في الجنة
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا عطف بذكر مالهم في الآخرة فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان كما تقدم في أول السورة وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه. ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال "والسابقون الأولون" الآية وقال "والذين جاءوا من بعدهم" الآية. وفي الحديث المتفق عليه بل المتواتر من طرق صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "المرء مع من أحب" وفي الحديث الآخر "من أحب قوما فهو منهم" وفي رواية"حشر معهم". وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء لبعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة" قال شريك فحدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبدالرحمن بن هلال عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله تفرد به أحمد من هذين الوجهين.
(p-٨٩)﴿والَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ . الأظْهَرُ أنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٣]، وجُمْلَةِ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وهاجَرُوا﴾ [الأنفال: ٧٥]: الآيَةُ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالمُهاجِرِينَ والأنْصارِ، وبَيانِ جَزائِهِمْ وثَوابِهِمْ، بَعْدَ بَيانِ أحْكامِ ولايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٧٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] فَلَيْسَتْ هَذِهِ تَكْرِيرًا لِلْأُولى، وإنْ تَشابَهَتْ ألْفاظُها: فالأُولى لِبَيانِ ولايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وهَذِهِ وارِدَةٌ لِلثَّناءِ عَلَيْهِمْ والشَّهادَةِ لَهم بِصِدْقِ الإيمانِ مَعَ وعْدِهِمْ بِالجَزاءِ. وجِيءَ بِاسْمِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال: ٤] لِمِثْلِ الغَرَضِ الَّذِي جِيءَ بِهِ لِأجْلِهِ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٢] كَما تَقَدَّمَ. وهَذِهِ الصِّيغَةُ صِيغَةُ قَصْرٍ، أيْ قَصْرِ الإيمانِ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُهاجِرُوا، والقَصْرُ هُنا مُقَيَّدٌ بِالحالِ في قَوْلِهِ: حَقًّا. فَقَوْلُهُ: ”حَقًّا“ حالٌ مِنَ المُؤْمِنُونَ وهو مَصْدَرٌ جُعِلَ مِن صِفَتِهِمْ، فالمَعْنى: أنَّهم حاقُّونَ، أيْ مُحَقِّقُونَ لِإيمانِهِمْ بِأنْ عَضَّدُوهُ بِالهِجْرَةِ مِن دارِ الكُفْرِ، ولَيْسَ الحَقُّ هُنا بِمَعْنى المُقابِلِ لِلْباطِلِ، حَتّى يَكُونَ إيمانُ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُهاجِرُوا باطِلًا؛ لِأنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] مانِعَةٌ مِن ذَلِكَ، إذْ قَدْ أثْبَتَ لَهُمُ الإيمانَ ونَفى عَنْهُمُ اسْتِحْقاقَ ولايَةِ المُؤْمِنِينَ. والرِّزْقُ الكَرِيمُ هو الَّذِي لا يُخالِطُ النَّفْعَ بِهِ ضُرٌّ ولا نَكَدٌ، فَهو نَفْعٌ مَحْضٌ لا كَدَرَ فِيهِ.