ركن التفسير
75 - (والذين آمنوا من بعد) أي بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة (وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) أيها المهاجرون والأنصار (وأولوا الأرحام) ذوو القرابات (بعضهم أولى ببعض) في الإرث من التوراث في الإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة (في كتاب الله) اللوح المحفوظ (إن الله بكل شيء عليم) ومنه حكمة الميراث
وأما قوله تعالى "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله" أي في حكم الله وليس المراد بقوله "وأولوا الأرحام" خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذي لا فرض لهم ولا هم عصبة بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ويعتقد ذلك صريحا في المسألة بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" قالوا فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا والله أعلم. آخر تفسير سورة الأنفال ولله الحمد والمنة وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
﴿والَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وهاجَرُوا وجاهَدُوا مَعَكم فَأُولَئِكَ مِنكُمْ﴾ بَعْدَ أنْ مَنَعَ اللَّهُ ولايَةَ المُسْلِمِينَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا بِالصَّراحَةِ، ابْتِداءً ونَفى عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُهاجِرُوا تَحْقِيقَ الإيمانِ، وكانَ ذَلِكَ مُثِيرًا في نُفُوسِ السّامِعِينَ أنْ يَتَساءَلُوا (p-٩٠)هَلْ لِأُولَئِكَ تَمَكُّنٌ مِن تَدارُكِ أمْرِهِمْ بِرَأْبِ هَذِهِ الثُّلْمَةِ عَنْهم، فَفَتَحَ اللَّهُ بابَ التَّدارُكِ بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وهاجَرُوا وجاهَدُوا مَعَكم فَأُولَئِكَ مِنكُمْ﴾ فَكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ بَيانًا، وكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ تَكُونَ مَفْصُولَةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ، ولَكِنْ عُدِلَ عَنِ الفَصْلِ إلى العَطْفِ تَغْلِيبًا لِمَقامِ التَّقْسِيمِ الَّذِي اسْتَوْعَبَتْهُ هَذِهِ الآياتُ. ودُخُولُ الفاءِ عَلى الخَبَرِ وهو فَأُولَئِكَ مِنكم لِتَضْمِينِ المَوْصُولِ مَعْنى الشَّرْطِ مِن جِهَةِ أنَّهُ جاءَ كالجَوابِ عَنْ سُؤالِ السّائِلِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وأمّا الَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وهاجَرُوا إلَخْ، أيْ: مَهْما يَكُنْ مِن حالِ الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا، ومِن حالِ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا، فَـ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وهاجَرُوا وجاهَدُوا مَعَكم فَأُولَئِكَ مِنكُمْ﴾ وبِذَلِكَ صارَ فِعْلُ آمَنُوا تَمْهِيدًا لِما بَعْدَهُ مِن هاجَرُوا وجاهَدُوا لِأنَّ قَوْلَهُ: مِن بَعْدُ قَرِينَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ: إذا حَصَلَ مِنهم ما لَمْ يَكُنْ حاصِلًا في وقْتِ نُزُولِ الآياتِ السّابِقَةِ، لِيَكُونَ أصْحابُ هَذِهِ الصِّلَةِ قِسْمًا مُغايِرًا لِلْأقْسامِ السّابِقَةِ. فَلَيْسَ المَعْنى أنَّهم آمَنُوا مِن بَعْدِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ثُمَّ يُؤْمِنُونَ مِن بَعْدُ لا حاجَةَ إلى بَيانِ حُكْمِ الِاعْتِدادِ بِإيمانِهِمْ، فَإنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ الإسْلامَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ، وإنَّما المَقْصُودُ: بَيانُ أنَّهم إنْ تَدارَكُوا أمْرَهم بِأنْ هاجَرُوا قُبِلُوا وصارُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ المُهاجِرِينَ، فَيَتَعَيَّنُ أنَّ المُضافَ إلَيْهِ المَحْذُوفَ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ بِناءُ ”بَعْدُ“ عَلى الضَّمِّ، أنَّ تَقْدِيرَهُ: مِن بَعْدِ ما قُلْناهُ في الآياتِ السّابِقَةِ، وإلّا صارَ هَذا الكَلامُ إعادَةً لِبَعْضِ ما تَقَدَّمَ، وبِذَلِكَ تَسْقُطُ الِاحْتِمالاتُ الَّتِي تَرَدَّدَ فِيها بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في تَقْدِيرِ ما أُضِيفَ إلَيْهِ ”بَعْدُ“ وفِي قَوْلِهِ: ”مَعَكم“ إيذانٌ بِأنَّهم دُونَ المُخاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَقِرُّوا بِدارِ الكُفْرِ بَعْدَ أنْ هاجَرَ مِنها المُؤْمِنُونَ وأنَّهم فَرَّطُوا في الجِهادِ مُدَّةً. والإتْيانُ بِاسْمِ الإشارَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وهاجَرُوا، دُونَ الضَّمِيرِ، لِلِاعْتِناءِ بِالخَبَرِ وتَمْيِيزِهِمْ بِذَلِكَ الحُكْمِ. و”مِن“ في قَوْلِهِ: ”مِنكم“ تَبْعِيضَيَّةٌ، ويُعْتَبَرُ الضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِـ ”مِن“، جَماعَةُ المُهاجِرِينَ أيْ فَقَدْ صارُوا مِنكم، أيْ مِن جَماعَتِكم وبِذَلِكَ يُعْلَمُ أنَّ ولايَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. * * * (p-٩١)﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: قَوْلُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ مِنكُمْ﴾ أيْ مِثْلُكم في النَّصْرِ والمُوالاةِ. قالَ مالِكٌ: إنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ في المَوارِيثِ. وقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: قَوْلُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ مِنكُمْ﴾ يَعْنِي في المُوالاةِ والمِيراثِ عَلى اخْتِلافِ الأقْوالِ، أيِ اخْتِلافِ القائِلِينَ في أنَّ المُهاجِرَ يَرِثُ الأنْصارِيَّ والعَكْسِ، وهو قَوْلُ فِرْقَةٍ. وقالُوا: إنَّها نُسِخَتْ بِآيَةِ المَوارِيثِ. عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ فَلا يَقْتَضِي اتِّحادًا بَيْنَ المَعْطُوفَةِ والمَعْطُوفِ عَلَيْها ولَكِنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الآيَةِ بِإثْرِ التَّقاسِيمِ يُؤْذِنُ بِأنَّ لَها حَظًّا في إتْمامِ التَّقْسِيمِ وقَدْ جُعِلَتْ في المَصاحِفِ مَعَ الَّتِي قَبْلَها آيَةً واحِدَةً. فَيَظْهَرُ أنَّ التَّقاسِيمَ السّابِقَةَ لَمّا أثْبَتَتْ ولايَةً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، ونَفَتْ ولايَةً مِن بَيْنِهِمْ وبَيْنَ الكافِرِينَ، ومِن بَيْنِهِمْ وبَيْنِ الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا حَتّى يُهاجِرُوا، ثُمَّ عادَتْ عَلى الَّذِينَ يُهاجِرُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بَعْدَ تَقاعُسِهِمْ عَنِ الهِجْرَةِ بِالبَقاءِ في دارِ الكُفْرِ مُدَّةً، فَبَيَّنَتْ أنَّهم إنْ تَدارَكُوا أمْرَهم وهاجَرُوا يَدْخُلُونَ بِذَلِكَ في ولايَةِ المُسْلِمِينَ وكانَ ذَلِكَ قَدْ يَشْغَلُ السّامِعِينَ عَنْ ولايَةِ ذَوِي أرْحامِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ - جاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ تُذَكِّرُ بِأنَّ ولايَةَ الأرْحامِ قائِمَةٌ وأنَّها مُرَجِّحَةٌ لِغَيْرِها مِنَ الوَلايَةِ فَمَوْقِعُها كَمَوْقِعِ الشُّرُوطِ. وشَأْنُ الصِّفاتِ والغاياتِ بَعْدَ الجُمَلِ المُتَعاطِفَةِ أنَّها تَعُودُ إلى جَمِيعِ تِلْكَ الجُمَلِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ لا تَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ ناسِخَةً لِما اقْتَضَتْهُ الآياتُ قَبْلَها مِنَ الوَلايَةِ بَيْنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ بَلْ مُقَيِّدَةً الإطْلاقَ الَّذِي فِيها. وظاهِرُ لَفْظِ الأرْحامِ جَمْعُ رَحِمٍ وهو مَقَرُّ الوَلَدِ في بَطْنِ أُمِّهِ، فَمِنَ العُلَماءِ مَن أبْقاهُ عَلى ظاهِرِهِ في اللُّغَةِ فَجَعَلَ المُرادَ مِن أُولِي الأرْحامِ ذَوِي القَرابَةِ النّاشِئَةِ عَنِ الأُمُومَةِ، وهو ما دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، ومِنهم مَن جَعَلَ المُرادَ مِنَ الأرْحامِ العَصاباتِ دُونَ المَوْلُودِينَ بِالرَّحِمِ. قالَهُ القُرْطُبِيُّ، واسْتَدَلَّ لَهُ بِأنَّ لَفْظَ الرَّحِمِ يُرادُ بِهِ العَصابَةُ، كَقَوْلِ العَرَبِ في الدُّعاءِ وصَلَتْكَ رَحِمٌ، وكَقَوْلِ قَتِيلَةَ بِنْتِ النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ: ؎ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أبِيهِ تَنُوشُهُ لِلَّهِ أرْحامٌ هُناكَ تُـمَـزَّقُ (p-٩٢)حَيْثُ عَبَّرَتْ عَنْ نَوْشِ بَنِي أبِيهِ بِتَمْزِيقِ أرْحامٍ. وعُلِمَ مِن قَوْلِهِ: ”أُولِي“ هو صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أنَّ الوَلايَةَ بَيْنَ ذَوِي الأرْحامِ لا تُعْتَبَرُ إلّا بِالنِّسْبَةِ لِمَحَلِّ الوَلايَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَأُولُو الأرْحامِ أوْلى بِالوَلايَةِ مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهم ولايَةٌ تامَّةٌ أوْ ناقِصَةٌ كالَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا في ولايَةِ النَّصْرِ في الدِّينِ إذْ لَمْ يَقُمْ دُونَها مانِعٌ مِن كُفْرٍ أوْ تَرْكِ هِجْرَةٍ. فالمُؤْمِنُونَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ أوْلِياءُ ولايَةَ الإيمانِ، وأُولُو الأرْحامِ مِنهم بَعْضُهم لِبَعْضٍ أوْلِياءُ ولايَةَ النَّسَبِ، ولِوَلايَةِ الإسْلامِ حُقُوقٌ مُبَيَّنَةٌ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ، ولِوَلايَةِ الأرْحامِ حُقُوقٌ مُبَيَّنَةٌ أيْضًا، بِحَيْثُ لا تُزاحِمُ إحْدى الوَلايَتَيْنِ الأُخْرى، والِاعْتِناءُ بِهَذا البَيانِ مُؤْذِنٌ بِما لِوَشائِجِ الأرْحامِ مِنَ الِاعْتِبارِ في نَظَرِ الشَّرِيعَةِ فَلِذَلِكَ عُلِّقَتْ أوْلَوِيَّةُ الأرْحامِ بِأنَّها كائِنَةٌ في كِتابِ اللَّهِ أيْ في حُكْمِهِ. وكِتابُ اللَّهِ قَضاؤُهُ وشَرْعُهُ، وهو مَصْدَرٌ، إمّا باقٍ عَلى مَعْنى المَصْدَرِيَّةِ، أوْ هو بِمَعْنى المَفْعُولِ، أيْ مَكْتُوبَةٌ كَقَوْلِ الرّاعِي كانَ كِتابُها مَفْعُولا، وجَعْلُ تِلْكَ الأوْلَوِيَّةِ كائِنَةً في كِتابِ اللَّهِ كِنايَةٌ عَنْ عَدَمِ تَعْبِيرِها لِأنَّهم كانُوا إذا أرادُوا تَوْكِيدَ عَهْدٍ كَتَبُوهُ. قالَ الحارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: ؎حَذَرَ الجَوْرِ والتَّطاخِي وهَلْ ∗∗∗ يَنْقُضُ ما في المَهارِقِ الأهْواءُ فَتَقْيِيدُ أوْلَوِيَّةِ أُولِي الأرْحامِ بِأنَّها في كِتابِ اللَّهِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِطْرِيٌّ قَدَّرَهُ اللَّهُ وأثْبَتَهُ بِما وضَعَ في النّاسِ مِنَ المَيْلِ إلى قَراباتِهِمْ، كَما ورَدَ في الحَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ لَمّا خَلَقَ الرَّحِمَ أخَذَتْ بِقائِمَةٍ مِن قَوائِمِ العَرْشِ وقالَتْ: هَذا مَقامُ العائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ» الحَدِيثَ. فَلَمّا كانَتْ ولايَةُ الأرْحامِ أمْرًا مُقَرَّرًا في الفِطْرَةِ، ولَمْ تَكُنْ ولايَةُ الدِّينِ مَعْرُوفَةً في الجاهِلِيَّةِ بَيَّنَ اللَّهُ أنَّ ولايَةَ الدِّينِ لا تُبْطِلُ ولايَةَ الرَّحِمِ إلّا إذا تَعارَضَتا؛ لِأنَّ أواصِرَ العَقِيدَةِ والرَّأْيِ أقْوى مِن أواصِرِ الجَسَدِ، فَلا يُغَيِّرُهُ ما ورَدَ هُنا مِن أحْكامِ ولايَةِ النّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وبِذَلِكَ الِاعْتِبارِ الأصْلِيِّ لِوَلايَةِ ذَوِي الأرْحامِ كانُوا مُقَدَّمِينَ عَلى أهْلِ الوَلايَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الوَلايَةُ، ويَنْتَفِي التَّفْضِيلُ بِانْتِفاءِ أصْلِها، فَلا ولايَةَ لِأُولِي الأرْحامِ إذا كانُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ. (p-٩٣)واخْتَلَفَ العُلَماءُ في أنَّ ولايَةَ الأرْحامِ هُنا هَلْ تَشْمَلُ ولايَةَ المِيراثِ: فَقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ هَذِهِ الآيَةُ لَيْسَتْ في المَوارِيثِ أيْ فَهي ولايَةُ النَّصْرِ وحُسْنُ الصُّحْبَةِ، أيْ فَتُقْصَرُ عَلى مَوْرِدِها. ولَمْ يَرَها مُساوِيَةً لِلْعامِّ الوارِدِ عَلى سَبَبٍ خاصٍّ إذْ لَيْسَتْ صِيغَتُها صِيغَةَ عُمُومٍ لِأنَّ مَناطَ الحُكْمِ قَوْلُهُ: أوْلى بِبَعْضٍ لا قَوْلُهُ: أُولُو الأرْحامِ وقالَ جَماعَةٌ: تَشْمَلُ ولايَةَ المِيراثِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن قالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الوَلايَةُ بِآيَةِ المَوارِيثِ فَبَطَلَ تَوْرِيثُ ذَوِي الأرْحامِ بِقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «ألْحِقُوا الفَرائِضَ بِأهْلِها فَما بَقِيَ فَلِأوْلى رَجُلٍ ذَكَرٍ» فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ عِنْدَهم. وقالَ جَماعَةٌ: يَرِثُ ذَوُو الأرْحامِ وهم مُقَدَّمُونَ عَلى أبْناءِ الأعْمامِ. وهَذا قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وفُقَهاءِ الكُوفَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ مُقَيِّدَةً لِإطْلاقِ آيَةِ المَوارِيثِ، وقَدْ عَلِمْتَ مِمّا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أنَّ في هَذِهِ الآياتِ غُمُوضًا جَعَلَها مَرامِيَ لِمُخْتَلَفِ الأفْهامِ والأقْوالِ. وأيًّا ما كانَتْ فَقَدْ جاءَ بَعْدَها مِنَ القُرْآنِ والسُّنَّةِ ما أغْنى عَنْ زِيادَةِ البَسْطِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ هو مُؤْذِنٌ بِالتَّعْلِيلِ لِتَقْرِيرِ أوْلَوِيَّةِ ذَوِي الأرْحامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فِيما فِيهِ اعْتِدادٌ بِالوَلايَةِ، أيْ إنَّما اعْتُبِرَتْ تِلْكَ الأوْلَوِيَّةُ في الوَلايَةِ لِأنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أنَّ لِآصِرَةِ الرَّحِمِ حَقًّا في الوَلايَةِ هو ثابِتٌ ما لَمْ يُمانِعْهُ مانِعٌ مُعْتَبَرٌ في الشَّرْعِ لِأنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وهَذا الحُكْمُ مِمّا عَلِمَ اللَّهُ أنَّ إثْباتَهُ رِفْقٌ ورَأْفَةٌ بِالأُمَّةِ. * * * (p-٩٤)(p-٩٥)سُورَةُ التَّوْبَةِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، في أكْثَرِ المَصاحِفِ، وفي كَلامِ السَّلَفِ: سُورَةُ ”بَراءَةٌ“ فَفي الصَّحِيحِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، في قِصَّةِ حَجِّ أبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ، قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: فَأذَّنَ مَعَنا عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ في أهْلِ مِنًى بِـ ”بَراءَةٌ“ . وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ قالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ ”بَراءَةٌ“ وبِذَلِكَ تَرْجَمَها البُخارِيُّ في كِتابِ التَّفْسِيرِ مِن صَحِيحِهِ. وهي تَسْمِيَةٌ لَها بِأوَّلِ كَلِمَةٍ مِنها. وتُسَمّى سُورَةُ التَّوْبَةِ في كَلامِ بَعْضِ السَّلَفِ في مَصاحِفَ كَثِيرَةٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ هي الفاضِحَةُ، وتَرْجَمَ لَها التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ بِاسْمِ التَّوْبَةِ. ووَجْهُ التَّسْمِيَةِ: أنَّها ورَدَتْ فِيها تَوْبَةُ اللَّهِ - تَعالى - عَنِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وهو حَدَثٌ عَظِيمٌ. ووَقَعَ هَذانِ الِاسْمانِ مَعًا في حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، في صَحِيحِ البُخارِيِّ، في بابِ جَمْعِ القُرْآنِ، قالَ زَيْدٌ فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ حَتّى وجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أبِي خُزَيْمَةَ الأنْصارِيِّ: ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]، حَتّى خاتِمَةِ سُورَةِ ”بَراءَةٌ“ . وهَذانِ الِاسْمانِ هُما المَوْجُودانِ في المَصاحِفِ الَّتِي رَأيْناها. ولِهَذِهِ السُّورَةِ أسْماءٌ أُخَرُ، وقَعَتْ في كَلامِ السَّلَفِ، مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كُنّا نَدْعُوها - أيْ سُورَةَ ”بَراءَةٌ“ - المُقَشْقِشَةَ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ وتاءِ التَّأْنِيثِ مِن قَشْقَشَهُ: إذا أبْراهُ مِنَ المَرَضِ، كانَ هَذا لَقَبًا لَها ولِسُورَةِ الكافِرُونَ لِأنَّهُما تُخَلِّصانِ مَن آمَنَ بِما فِيهِما مِنَ النِّفاقِ والشِّرْكِ، لِما فِيهِما مِنَ الدُّعاءِ إلى الإخْلاصِ، ولِما فِيهِما مِن وصْفِ أحْوالِ المُنافِقِينَ. (p-٩٦)وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَدْعُوها الفاضِحَةَ قالَ: ما زالَ يَنْزِلُ فِيها ”ومِنهم ومِنهم“ حَتّى ظَنَنّا أنَّهُ لا يَبْقى أحَدٌ إلّا ذُكِرَ فِيها. وأحْسَبُ أنَّ ما تَحْكِيهِ مِن أحْوالِ المُنافِقِينَ يَعْرِفُ بِهِ المُتَّصِفُونَ بِها أنَّهُمُ المُرادُ، فَعَرَفَ المُؤْمِنُونَ كَثِيرًا مِن أُولَئِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: ٤٩] فَقَدْ قالَها بَعْضُهم وسُمِعَتْ مِنهم، وقَوْلُهُ: ﴿ومِنهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيءَ ويَقُولُونَ هو أُذْنٌ﴾ [التوبة: ٦١] فَهَؤُلاءِ نُقِلَتْ مَقالَتُهم بَيْنَ المُسْلِمِينَ. وقَوْلُهُ: ﴿وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٢] وعَنْ حُذَيْفَةَ: أنَّهُ سَمّاها سُورَةَ العَذابِ لِأنَّها نَزَلَتْ بِعَذابِ الكُفّارِ، أيْ عَذابِ القَتْلِ والأخْذِ حِينَ يُثْقَفُونَ. وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أنَّهُ سَمّاها المُنَقِّرَةَ بِكَسْرِ القافِ مُشَدَّدَةٍ لِأنَّها نَقَّرَتْ عَمّا في قُلُوبِ المُشْرِكِينَ. لَعَلَّهُ يَعْنِي مِن نَوايا الغَدْرِ بِالمُسْلِمِينَ والتَّمالِي عَلى نَقْضِ العَهْدِ وهو مِن نَقَرَ الطّائِرُ: إذا أنْفى بِمِنقارِهِ مَوْضِعًا مِنَ الحَصى ونَحْوِهِ لِيَبِيضَ فِيهِ. وعَنِ المِقْدادِ بْنِ الأسْوَدِ، وأبِي أيُّوبَ الأنْصارِيِّ: تَسْمِيَتُها البَحُوثَ بِباءٍ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ في أوَّلِهِ وبِمُثَلَّثَةٍ في آخِرِهِ بِوَزْنِ فَعُولٍ بِمَعْنى الباحِثَةِ وهو مِثْلُ تَسْمِيَتِها المُنَقِّرَةَ. وعَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ أنَّهُ دَعاها الحافِرَةَ كَأنَّها حَفَرَتْ عَمّا في قُلُوبِ المُنافِقِينَ مِنَ النِّفاقِ، فَأظْهَرَتْهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وعَنْ قَتادَةَ: أنَّها تُسَمّى المُثِيرَةَ لِأنَّها أثارَتْ عَوْراتِ المُنافِقِينَ وأظْهَرَتْها. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سَمّاها المُبَعْثِرَةَ لِأنَّها بَعْثَرَتْ عَنْ أسْرارِ المُنافِقِينَ، أيْ أخْرَجَتْها مِن مَكانِها. وفِي الإتْقانِ: أنَّها تُسَمّى المُخْزِيَةَ بِالخاءِ والزّايِ المُعْجَمَةِ وتَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الزّايِ. وأحْسَبُ أنَّ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكافِرِينَ﴾ [التوبة: ٢] وفِي الإتْقانِ أنَّها تُسَمّى المُنَكِّلَةَ، أيْ بِتَشْدِيدِ الكافِ. وفِيهِ أنَّها تُسَمّى المُشَدِّدَةَ. (p-٩٧)وعَنْ سُفْيانَ أنَّها تُسَمّى المُدَمْدِمَةَ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ مِن دَمْدَمَ: إذا أهْلَكَ. لِأنَّها كانَتْ سَبَبَ هَلاكِ المُشْرِكِينَ. فَهَذِهِ أرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا. وهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ. قالَ في الإتْقانِ: واسْتَثْنى بَعْضُهم قَوْلَهُ: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيءِ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى﴾ [التوبة: ١١٣] الآيَةَ. فَفي صَحِيحِ البُخارِيِّ «أنَّ أبا طالِبٍ لَمّا حَضَرَتْهُ الوَفاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ ﷺ فَقالَ: يا عَمُّ قُلْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحاجُّ لَكَ بِها عِنْدَ اللَّهِ. فَقالَ أبُو جَهْلٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي أُمَيَّةَ: يا أبا طالِبٍ أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ. فَكانَ آخِرَ قَوْلِ أبِي طالِبٍ أنَّهُ عَلى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقالَ النَّبِيءُ: لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ. وتُوُفِّيَ أبُو طالِبٍ فَنَزَلَتْ ﴿ما كانَ لِلنَّبِيءِ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة»: ١١٣] وشَذَّ ما رُوِيَ عَنْ مُقاتِلٍ: أنَّ آيَتَيْنِ مِن آخِرِها مَكِّيَّتانِ، وهُما ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] إلى آخِرِ السُّورَةِ. وسَيَأْتِي ما رُوِيَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ﴾ [التوبة: ١٩] . الآيَةَ. نَزَلَ في العَبّاسِ إذْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَعَيَّرَهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ بِالكُفْرِ وقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَقالَ: نَحْنُ نَحْجُبُ الكَعْبَةَ إلَخْ. وهَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ نُزُولًا عِنْدَ الجَمِيعِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الفَتْحِ، في قَوْلِ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ، فَهي السُّورَةُ الرّابِعَةَ عَشَرَ بَعْدَ المِائَةِ في عِدادِ نُزُولِ سُوَرِ القُرْآنِ. ورُوِيَ: أنَّها نَزَلَتْ في أوَّلِ شَوّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وقِيلَ: آخِرُ ذِي القَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، بَعْدَ خُرُوجِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنَ المَدِينَةِ لِلْحَجَّةِ الَّتِي أمَّرَهُ عَلَيْها النَّبِيءُ ﷺ وقِيلَ: قُبَيْلَ خُرُوجِهِ. والجُمْهُورُ عَلى أنَّها نَزَلَتْ دُفْعَةً واحِدَةً، فَتَكُونُ مِثْلَ سُورَةِ الأنْعامِ بَيْنَ السُّوَرِ الطِّوالِ. وفَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ بَعْضَ آياتِ هَذِهِ السُّورَةِ بِما يَقْتَضِي أنَّها نَزَلَتْ أوْزاعًا في أوْقاتٍ مُتَباعِدَةٍ، كَما سَيَأْتِي، ولَعَلَّ مُرادَ مَن قالَ إنَّها نَزَلَتْ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ: أنَّهُ يَعْنِي أنَّها لَمْ يَتَخَلَّلْها ابْتِداءُ نُزُولِ سُورَةٍ أُخْرى. والَّذِي يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أنَّ ثَلاثَ عَشْرَةَ آيَةً: مِن أوَّلِها إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٣] نَزَلَتْ مُتَتابِعَةً، كَما سَيَأْتِي في خَبَرِ بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ (p-٩٨)لِيُؤَذِّنَ بِها في المَوْسِمِ. وهَذا ما اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرِّواياتُ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ ثَلاثِينَ آيَةً مِنها: مِن أوَّلِها إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة: ٣٠] أُذِّنَ بِها يَوْمَ المَوْسِمِ، وقِيلَ: أرْبَعِينَ آيَةً: مِن أوَّلِها إلى قَوْلِهِ: ﴿وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٤٠] أُذِّنَ بِهِ في المَوْسِمِ، كَما سَيَأْتِي أيْضًا في مُخْتَلِفِ الرِّواياتِ، فالجَمْعُ بَيْنَها يُغَلِّبُ الظَّنَّ بِأنَّ أرْبَعِينَ آيَةً نَزَلَتْ مُتَتابِعَةً، عَلى أنَّ نُزُولَ جَمِيعِ السُّورَةِ دُفْعَةً واحِدَةً لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنِ الصِّحَّةِ. وعَدَدُ آيِها، في عَدِّ أهْلِ المَدِينَةِ ومَكَّةَ والشّامِ والبَصْرَةِ: مِائَةٌ وثَلاثُونَ آيَةً، وفي عَدِّ أهْلِ الكُوفَةِ مِائَةٌ وتِسْعٌ وعِشْرُونَ آيَةً. اتَّفَقَتِ الرِّواياتُ عَلى أنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَمّا قَفَلَ مِن غَزْوَةِ تَبُوكَ، في رَمَضانَ سَنَةَ تِسْعٍ، عَقَدَ العَزْمَ عَلى أنْ يَحُجَّ في شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ مِن عامِهِ ولَكِنَّهُ كَرِهَ - عَنِ اجْتِهادٍ أوْ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ - مُخالَطَةَ المُشْرِكِينَ في الحَجِّ مَعَهُ، وسَماعَ تَلْبِيَتِهِمُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الإشْراكَ، أيْ قَوْلِهِمْ في التَّلْبِيَةِ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكًا هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ. وطَوافُهم عُراةً، وكانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ عَهْدٌ لَمْ يَزَلْ عامِلًا لَمْ يُنْقَضْ. والمَعْنى أنَّ مَقامَ الرِّسالَةِ يَرْبَأُ عَنْ أنْ يَسْمَعَ مُنْكَرًا مِنَ الكُفْرِ ولا يُغَيِّرُهُ بِيَدِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أقْوى الإيمانِ. فَأمْسَكَ عَنِ الحَجِّ تِلْكَ السَّنَةِ، وأمَّرَ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلى أنْ يَحُجَّ بِالمُسْلِمِينَ، وأمَرَهُ أنْ يُخْبِرَ المُشْرِكِينَ بِأنْ لا يَحُجَّ بَعْدَ عامِهِ ذَلِكَ مُشْرِكٌ ولا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ. وأكْثَرُ الأقْوالِ عَلى أنَّ ”بَراءَةٌ“ نَزَلَتْ قَبْلَ خُرُوجِ أبِي بَكْرٍ مِنَ المَدِينَةِ، فَكانَ ما صَدَرَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ صادِرًا عَنْ وحْيٍ لِقَوْلِهِ - تَعالى - في هَذِهِ السُّورَةِ ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَعَسى أُولَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: ١٨] وقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ [التوبة: ٢٨] الآيَةَ. وقَدْ كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «صالَحَ قُرَيْشًا عامَ الحُدَيْبِيَةَ عَلى أنْ يَضَعُوا الحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيها النّاسُ ويَكُفُّ بَعْضُهم عَنْ بَعْضٍ فَدَخَلَتْ خُزاعَةُ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ودَخَلَ بَنُو بَكْرٍ في عَهْدِ قُرَيْشٍ ثُمَّ عَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلى خُزاعَةَ بِسَبَبِ دَمٍ كانَ لِبَنِي بَكْرٍ عِنْدَ خُزاعَةَ قَبْلَ البَعْثَةِ بِمُدَّةٍ. واقْتَتَلُوا فَكانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلصُّلْحِ» . واسْتَصْرَخَتْ خُزاعَةُ النَّبِيءَ ﷺ فَوَعَدَهم بِالنَّصْرِ وتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِفَتْحِ (p-٩٩)مَكَّةَ ثُمَّ حُنَيْنٍ ثُمَّ الطّائِفِ، وحَجَّ بِالمُسْلِمِينَ تِلْكَ السَّنَةَ سَنَةَ ثَمانٍ عَتّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، ثُمَّ كانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ في رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . مِن تَبُوكَ أمَّرَ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلى الحَجِّ وبَعَثَ مَعَهُ بِأرْبَعِينَ آيَةً مِن صَدْرِ سُورَةِ ”بَراءَةٌ“ لِيَقْرَأها عَلى النّاسِ. ثُمَّ أرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ لِيَقْرَأ عَلى النّاسِ ذَلِكَ. وقَدْ يَقَعُ خَلْطٌ في الأخْبارِ بَيْنَ قَضِيَّةِ بَعْثِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَحُجَّ بِالمُسْلِمِينَ عِوَضًا عَنِ النَّبِيءِ ﷺ وبَيْنَ قَضِيَّةِ بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ لِيُؤَذِّنَ في النّاسِ بِسُورَةِ ”بَراءَةٌ“ في تِلْكَ الحَجَّةِ. اشْتَبَهَ بِهِ الغَرَضانِ عَلى مَن أرادَ أنْ يَتَلَبَّسَ وعَلى مَن لُبِسَ عَلَيْهِ الأمْرُ فَأرَدْنا إيقاظَ البَصائِرِ لِذَلِكَ. فَهَذا سَبَبُ نُزُولِها وذِكْرُهُ أوَّلُ أغْراضِها. فافْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِتَحْدِيدِ مُدَّةِ العُهُودِ الَّتِي بَيْنَ النَّبِيءِ ﷺ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ وما يَتْبَعُ ذَلِكَ مِن حالَةِ حَرْبٍ وأمْنٍ وفي خِلالِ مُدَّةِ الحَرْبِ مُدَّةُ تَمْكِينِهِمْ مِن تَلَقِّي دَعْوَةِ الدِّينِ وسَماعِ القُرْآنِ. وأُتْبِعَ بِأحْكامِ الوَفاءِ والنَّكْثِ ومُوالاتِهِمْ. ومَنعِ المُشْرِكِينَ مِن دُخُولِ المَسْجِدِ الحَرامِ وحُضُورِ مَناسِكِ الحَجِّ. وإبْطالِ مَناصِبِ الجاهِلِيَّةِ الَّتِي كانُوا يَعْتَزُّونَ بِأنَّهم أهْلُها. وإعْلانِ حالَةِ الحَرْبِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وبَيْنَهم. وإعْلانِ الحَرْبِ عَلى أهْلِ الكِتابِ مِنَ العَرَبِ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ، وأنَّهم لَيْسُوا بَعِيدًا مِن أهْلِ الشِّرْكِ وأنَّ الجَمِيعَ لا تَنْفَعُهم قُوَّتُهم ولا أمْوالُهم. وحُرْمَةِ الأشْهُرِ الحَرامِ. وضَبْطِ السَّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ وإبْطالِ النَّسِيءِ الَّذِي كانَ عِنْدَ الجاهِلِيَّةِ. وتَحْرِيضِ المُسْلِمِينَ عَلى المُبادَرَةِ بِالإجابَةِ إلى النَّفِيرِ لِلْقِتالِ في سَبِيلِ اللَّهِ ونَصْرِ النَّبِيءِ ﷺ وأنَّ اللَّهَ ناصِرُ نَبِيِّهِ وناصِرُ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ. وتَذْكِيرِهِمْ بِنَصْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وبِنَصْرِهِ إذْ أنْجاهُ مِن كَيْدِ المُشْرِكِينَ بِما هَيَّأ لَهُ مِنَ الهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ. (p-١٠٠)والإشارَةِ إلى التَّجْهِيزِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ. وذَمِّ المُنافِقِينَ المُتَثاقِلِينَ والمُعْتَذِرِينَ والمُسْتَأْذِنِينَ في التَّخَلُّفِ بِلا عُذْرٍ. وصِفاتِ أهْلِ النِّفاقِ مِن جُبْنٍ وبُخْلٍ وحِرْصٍ عَلى أخْذِ الصَّدَقاتِ مَعَ أنَّهم لَيْسُوا بِمُسْتَحِقِّيها. وذِكْرِ أذاهُمُ الرَّسُولَ ﷺ بِالقَوْلِ. وأيْمانِهِمُ الكاذِبَةِ وأمْرِهِمْ بِالمُنْكَرِ ونَهْيِهِمْ عَنِ المَعْرُوفِ وكَذِبِهِمْ في عُهُودِهِمْ وسُخْرِيَتِهِمْ بِضُعَفاءِ المُؤْمِنِينَ. والأمْرِ بِضَرْبِ الجِزْيَةِ عَلى أهْلِ الكِتابِ. ومَذَمَّةِ ما أدْخَلَهُ الأحْبارُ والرُّهْبانُ في دِينِهِمْ مِنَ العَقائِدِ الباطِلَةِ، ومِنَ التَّكالُبِ عَلى الأمْوالِ. وأمْرِ اللَّهِ بِجِهادِ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ. ونَهْيِ المُؤْمِنِينَ عَنِ الِاسْتِعانَةِ بِهِمْ في جِهادِهِمْ والِاسْتِغْفارِ لَهم. ونَهْيِ نَبِيِّهِ ﷺ عَنِ الصَّلاةِ عَلى مَوْتاهم. وضَرْبِ المَثَلِ بِالأُمَمِ الماضِيَةِ. وذِكْرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدَ الضِّرارِ عَنْ سُوءِ نِيَّةٍ، وفَضْلِ مَسْجِدِ قِباءَ ومَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالمَدِينَةِ. وانْتَقَلَ إلى وصْفِ حالَةِ الأعْرابِ مِن مُحْسِنِهِمْ ومُسِيئِهِمْ ومُهاجِرِهِمْ ومُتَخَلِّفِهِمْ. وقُوبِلَتْ صِفاتُ أهْلِ الكُفْرِ والنِّفاقِ بِأضْدادِها صِفاتِ المُسْلِمِينَ وذَكَرَ ما أعَدَّ لَهم مِنَ الخَيْرِ. وذُكِرَ في خِلالِ ذَلِكَ فَضْلُ أبِي بَكْرٍ. وفَضْلُ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ. والتَّحْرِيضِ عَلى الصَّدَقَةِ والتَّوْبَةِ والعَمَلِ الصّالِحِ. والجِهادِ وأنَّهُ فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ. والتَّذْكِيرِ بِنَصْرِ اللَّهِ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعْدَ يَأْسِهِمْ. والتَّنْوِيهِ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وجَيْشِها. والَّذِينَ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ المُتَخَلِّفِينَ عَنْها. (p-١٠١)والِامْتِنانِ عَلى المُسْلِمِينَ بِأنْ أرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهم جَبَلَهُ عَلى صِفاتٍ فِيها كُلُّ خَيْرٍ لَهم. وشَرْعِ الزَّكاةِ ومَصارِفِها والأمْرِ بِالفِقْهِ في الدِّينِ ونَشْرِ دَعْوَةِ الدِّينِ. اعْلَمْ أنَّهُ قَدْ تَرَكَ الصَّحابَةَ الَّذِينَ كَتَبُوا المُصْحَفَ كِتابَةَ البَسْمَلَةِ قَبْلَ سُورَةِ ”بَراءَةٌ“ كَما نَبَّهْتُ عَلَيْهِ عِنْدَ الكَلامِ عَلى سُورَةِ الفاتِحَةِ. فَجَعَلُوا سُورَةَ ”بَراءَةٌ“ عَقِبَ سُورَةِ الأنْفالِ بِدُونِ بَسْمَلَةٍ بَيْنَهُما، وتَرَدَّدَ العُلَماءُ في تَوْجِيهِ ذَلِكَ. وأوْضَحُ الأقْوالِ ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ، «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: قُلْتُ لِعُثْمانَ: ما حَمَلَكم عَلى أنْ عَمَدْتُمْ إلى الأنْفالِ وهي مِنَ المَثانِي وإلى ”بَراءَةٌ“ وهي مِنَ المِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُما ولَمْ تَكْتُبُوا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقالَ عُثْمانُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ كانَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَن يَكْتُبُ عِنْدَهُ فَيَقُولُ ضَعُوا هَذِهِ في السُّورَةِ الَّتِي فِيها كَذا وكَذا، وكانَتِ الأنْفالُ مِن أوائِلِ ما نَزَلَ بِالمَدِينَةِ وبَراءَةٌ مِن آخِرِ القُرْآنِ وكانَتْ قِصَّتُها شَبِيهَةً بِقِصَّتِها وقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يُبَيِّنْ لَنا أنَّها مِنها فَظَنَنْتُ أنَّها مِنها فَمِن ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُما ولَمْ أكْتُبْ بَيْنَهُما سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . ونَشَأ مِن هَذا قَوْلٌ آخَرُ: وهو أنَّ كَتَبَةَ المَصاحِفِ في زَمَنِ عُثْمانَ اخْتَلَفُوا في الأنْفالِ و”بَراءَةٌ“ هَلْ هُما سُورَةٌ واحِدَةٌ أوْ هُما سُورَتانِ، فَتَرَكُوا فُرْجَةً فَصْلًا بَيْنَهُما مُراعاةً لِقَوْلِ مَن عَدَّهُما سُورَتَيْنِ، ولَمْ يَكْتُبُوا البَسْمَلَةَ بَيْنَهُما مُراعاةً لِقَوْلِ مَن جَعَلَهُما سُورَةً واحِدَةً، ورَوى أبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ: أنَّهم إنَّما تَرَكُوا البَسْمَلَةَ في أوَّلِها لِأنَّ البَسْمَلَةَ أمانٌ وبِشارَةٌ، وسُورَةُ ”بَراءَةٌ“ نَزَلَتْ بِنَبْذِ العُهُودِ والسَّيْفِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُبْدَأْ بِشِعارِ الأمانِ، وهَذا إنَّما يَجْرِي عَلى قَوْلِ مَن يَجْعَلُونَ البَسْمَلَةَ آيَةً مِن أوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ عَدا سُورَةِ ”بَراءَةٌ“ فَفي هَذا رَعْيٌ لِبَلاغَةِ مَقامِ الخِطابِ كَما أنَّ الخاطِبَ المُغْضَبَ يَبْدَأُ خُطْبَتَهُ بِـ ”أمّا بَعْدُ“ دُونَ اسْتِفْتاحٍ. وشَأْنُ العَرَبِ إذا كانَ بَيْنَهم عَهْدٌ فَأرادُوا نَقْضَهُ، كَتَبُوا إلى القَوْمِ الَّذِينَ يَنْبِذُونَ إلَيْهِمْ بِالعَهْدِ كِتابًا ولَمْ يَفْتَتِحُوهُ بِكَلِمَةِ ”بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ“ فَلَمّا نَزَلَتْ ”بَراءَةٌ“ بِنَقْضِ العَهْدِ الَّذِي كانَ بَيْنَ النَّبِيءِ ﷺ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ بَعَثَ عَلِيًّا إلى المَوْسِمِ فَقَرَأ صَدْرَ ”بَراءَةٌ“ ولَمْ يُبَسْمِلْ جَرْيًا عَلى عادَتِهِمْ في رَسائِلِ نَقْضِ العُهُودِ. وقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في الأحْكامِ: قالَ مالِكٌ فِيما رَوى (p-١٠٢)عَنْهُ ابْنُ وهْبٍ، وابْنُ القاسِمِ، وابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: إنَّهُ لَمّا سَقَطَ أوَّلُها، أيْ سُورَةِ ”بَراءَةٌ“ سَقَطَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعَهُ. ويُفَسِّرُ كَلامَهُ ما قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: بَلَغَنا أنَّ سُورَةَ ”بَراءَةٌ“ كانَتْ نَحْوَ سُورَةِ البَقَرَةِ ثُمَّ نُسِخَ ورُفِعَ كَثِيرٌ مِنها وفِيهِ البَسْمَلَةُ فَلَمْ يَرَوْا بَعْدُ أنْ يَضَعُوهُ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وما نَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إلى مالِكٍ عَزاهُ ابْنُ العَرَبِيِّ إلى ابْنِ عَجْلانَ فَلَعَلَّ في نُسْخَةِ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ نَقْصًا. والَّذِي وقَفْنا عَلَيْهِ مِن كَلامِ مالِكٍ في تَرْكِ البَسْمَلَةِ مِن سُورَةِ الأنْفالِ وسُورَةِ ”بَراءَةٌ“: هو ما في سَماعِ ابْنِ القاسِمِ في أوائِلِ كِتابِ الجامِعِ الأوَّلِ مِنَ العُتْبُيَّةِ قالَ مالِكٌ في أوَّلِ ”بَراءَةٌ“ إنَّما تَرَكَ مَن مَضى أنْ يَكْتُبُوا في أوَّلِ ”بَراءَةٌ“ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَأنَّهُ رَآهُ مِن وجْهِ الِاتِّباعِ في ذَلِكَ، كانَتْ في آخِرِ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ. وساقَ حَدِيثَ ابْنِ شِهابٍ في سَبَبِ كِتابَةِ المُصْحَفِ في زَمَنِ أبِي بَكْرٍ وكَيْفَ أخَذَ عُثْمانُ الصُّحُفَ مِن حَفْصَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ وأرْجَعَها إلَيْها. قالَ ابْنُ رُشْدٍ في البَيانِ والتَّحْصِيلِ ما تَأوَّلَهُ مالِكٌ مِن أنَّهُ إنَّما تَرَكَ مَن مَضى أنْ يَكْتُبُوا في أوَّلِ ”بَراءَةٌ“ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِن وجْهِ الِاتِّباعِ، المَعْنى فِيهِ واللَّهُ أعْلَمُ أنَّهُ إنَّما تَرَكَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ ومَن كانَ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الصَّحابَةِ المُجْتَمِعِينَ عَلى جَمْعِ القُرْآنِ البَسْمَلَةَ بَيْنَ سُورَةِ الأنْفالِ و”بَراءَةٌ“ وإنْ كانَتا سُورَتَيْنِ بِدَلِيلِ أنَّ ”بَراءَةٌ“ كانَتْ آخِرَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ القُرْآنِ، وأنَّ الأنْفالَ أُنْزِلَتْ في بَدْرٍ سَنَةَ أرْبَعٍ، اتِّباعًا لِما وجَدُوهُ في الصُّحُفِ الَّتِي جُمِعَتْ عَلى عَهْدِ أبِي بَكْرٍ وكانَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ. ولَمْ يَذْكُرِ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ مالِكٍ قَوْلًا غَيْرَ هَذا.