موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الجمعة 9 شوال 1445 هجرية الموافق ل19 أبريل 2024


الآية [6] من سورة  

وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ


ركن التفسير

6 - (وإذا البحار سجرت) بالتخفيف والتشديد اوقدت فصارت نارا

قال ابن جرير حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن سعيد بن المسيب قال: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود أين جهنم؟ قال البحر فقال ما أراه إلا صادقا والبحر المسجور وإذا البحار سجرت وقال ابن عباس وغير واحد يرسل الله عليها الرياح الدبور فتسعرها وتصير نارا تأجج وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى "والبحر المسجور" وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو طاهر حدثني عبدالجبار بن سليمان أبو سليمان النفاط - شيخ صالح يشبه مالك بن أنس - عن معاوية بن سعيد قال إن هذا البحر بركة - يعني بحر الروم - وسط الأرض والأنهار كلها تصب فيه والبحر الكبير يصب فيه وأسفله آبار مطبقة بالنحاس فإذا كان يوم القيامة أسجر وهذا أثر غريب عجيب وفي سنن أبي داود "لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا" الحديث وقد تقدم الكلام عليه في سورة فاطر. وقال مجاهد والحسن بن مسلم: سجرت أوقدت وقال الحسن: يبست وقال الضحاك وقتادة: غاض ماؤها فذهب فلم يبق فيها قطرة وقال الضحاك أيضا سجرت فجرت وقال السدي فتحت وصيرت وقال الربيع بن خيثم سجرت فاضت.

﴿إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ ﴿وإذا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ ﴿وإذا الجِبالُ سُيِّرَتْ﴾ ﴿وإذا العِشارُ عُطِّلَتْ﴾ ﴿وإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ ﴿وإذا البِحارُ سُجِّرَتْ﴾ ﴿وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ ﴿وإذا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ ﴿بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ ﴿وإذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ ﴿وإذا السَّماءُ كُشِطَتْ﴾ ﴿وإذا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ ﴿وإذا الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أحْضَرَتْ﴾ . الِافْتِتاحُ بِـ إذا افْتِتاحٌ مُشَوِّقٌ؛ لِأنَّ إذا ظَرْفٌ يَسْتَدْعِي مُتَعَلَّقًا، ولِأنَّهُ أيْضًا شَرْطٌ يُؤْذِنُ بِذِكْرِ جَوابٍ بَعْدَهُ، فَإذا سَمِعَهُ السّامِعُ تَرَقَّبَ ما سَيَأْتِي بَعْدَهُ، فَعِنْدَما يَسْمَعُهُ يَتَمَكَّنُ مِن نَفْسِهِ كَمالَ تَمَكُّنٍ، وخاصَّةً بِالإطْنابِ بِتَكْرِيرِ كَلِمَةِ إذا. وتَعَدُّدِ الجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إلَيْها اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً، فَإعادَةُ كَلِمَةِ إذا بَعْدَ واوِ العَطْفِ في هَذِهِ الجُمَلِ المُتَعاطِفَةِ إطْنابٌ، وهَذا الإطْنابُ اقْتَضاهُ قَصْدُ التَّهْوِيلِ، والتَّهْوِيلُ مِن مُقْتَضَياتِ الإطْنابِ والتَّكْرِيرِ، كَما في قَصِيدَةِ الحارِثِ بْنِ عَبّادٍ البَكْرِيِّ: ؎قَرِّبا مَرْبَطَ النَّعامَةِ مِنِّي إلَخْ وفِي إعادَةِ إذا إشارَةٌ إلى أنَّ مَضْمُونَ كُلِّ جُمْلَةٍ مِن هَذِهِ الجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ مُسْتَقِلٌّ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الجَوابِ عِنْدَ حُصُولِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَفاوُتِ زَمانِ حُصُولِ الشُّرُوطِ، فَإنَّ زَمَنَ سُؤالِ المَوْءُودَةِ ونَشْرِ الصُّحُفِ أقْرَبُ لِعِلْمِ النُّفُوسِ بِما أحْضَرَتْ أقْرَبُ مِن زَمانِ تَكْوِيرِ الشَّمْسِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ مِمّا يَحْصُلُ قَبْلَ البَعْثِ. (p-١٤١)وقَدْ ذُكِرَ في هَذِهِ الآياتِ اثْنا عَشَرَ حَدَثًا فَسِتَّةٌ مِنها تَحْصُلُ في آخِرِ الحَياةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وسِتَّةٌ مِنها تَحْصُلُ في الآخِرَةِ. وكانَتِ الجُمَلُ الَّتِي جُعِلَتْ شُرُوطًا لِ إذا في هَذِهِ الآيَةِ مُفْتَتَحَةً بِالمُسْنَدِ إلَيْهِ المُخْبَرِ عَنْهُ بِمُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ دُونَ كَوْنِها جُمَلًا فِعْلِيَّةً، ودُونَ تَقْدِيرِ أفْعالٍ مَحْذُوفَةٍ تُفَسِّرُها الأفْعالُ المَذْكُورَةُ وذَلِكَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ نُحاةِ الكُوفَةِ بِجَوازِ وُقُوعِ شَرْطِ (إذا) جُمْلَةً غَيْرَ فِعْلِيَّةٍ وهو الرّاجِحُ؛ لِأنَّ (إذا) غَيْرُ عَرِيقَةٍ في الشَّرْطِ. وهَذا الأُسْلُوبُ لِقَصْدِ الِاهْتِمامِ بِذِكْرِ ما أُسْنِدَتْ إلَيْهِ الأفْعالُ الَّتِي يَغْلِبُ أنْ تَكُونَ شُرُوطًا لِ (إذا)؛ لِأنَّ الِابْتِداءَ بِها أدْخَلُ في التَّهْوِيلِ والتَّشْوِيقِ ولِيُفِيدَ ذَلِكَ التَّقْدِيمُ عَلى المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ تَقَوِّيَ الحُكْمِ وتَأْكِيدَهُ في جَمِيعِ تِلْكَ الجُمَلِ رَدًّا عَلى إنْكارِ مُنْكِرِيهِ؛ فَلِذَلِكَ قِيلَ: إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ولَمْ يُقَلْ: إذا كُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وهَكَذا نَظائِرُهُ. وجَوابُ الشُّرُوطِ الِاثْنَيْ عَشَرَ هو قَوْلُهُ: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أحْضَرَتْ﴾ وتَتَعَلَّقُ بِهِ الظُّرُوفُ المُشْرَبَةُ مَعْنى الشَّرْطِ. وصِيغَةُ الماضِي في الجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ الوارِدَةِ شُرُوطًا لِ إذا مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْنى الِاسْتِقْبالِ تَنْبِيهًا عَلى تَحَقُّقِ وُقُوعِ الشَّرْطِ. وتَكْوِيرُ الشَّمْسِ: فَسادُ جِرْمِها لِتَداخُلِ ظاهِرِها في باطِنِها بِحَيْثُ يَخْتَلُّ تَرْكِيبُها فَيَخْتَلُّ لِاخْتِلالِهِ نِظامُ سَيْرِها، ومِن قَوْلِهِمْ: كَوَّرَ العِمامَةَ، إذا أدْخَلَ بَعْضَها في بَعْضٍ ولَفَّها، وقَرِيبٌ مِن هَذا الإطْلاقِ إطْلاقُ الطَّيِّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] . وفُسِّرَ كُوِّرَتْ بِمَعْنى غُوِّرَتْ. رَواهُ الطَّبَرَيُّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وقالَ: هي كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الفارِسِيَّةِ، وأنَّ أصْلَها بِالفارِسِيَّةِ كُورُ بِكْرْ (بِضَمِّ الكافِ الأُولى وسُكُونِ الرّاءِ الأخِيرَةِ) وعَلى ذَلِكَ عُدَّتْ هَذِهِ الكَلِمَةُ مِمّا وقَعَ في القُرْآنِ مِنَ المُعَرَّبِ. وقَدْ عَدَّها ابْنُ السُّبْكِيِّ في نَظْمِهِ الكَلِماتِ المُعَرَّبَةِ في القُرْآنِ. وإذا زالَ ضَوْءُ الشَّمْسِ انْكَدَرَتِ النُّجُومُ؛ لِأنَّ مُعْظَمَها يَسْتَنِيرُ مِنَ انْعِكاسِ نُورِ الشَّمْسِ عَلَيْها. والِانْكِدارُ: مُطاوِعُ كَدَّرَهُ المُضاعَفِ عَلى غَيْرِ قِياسٍ، أيْ: حَصَلَ لِلنُّجُومِ (p-١٤٢)انْكِدارٌ مِن تَكْدِيرِ الشَّمْسِ لَها حِينَ زالَ عَنْها انْعِكاسُ نُورِها، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ مُطاوِعُ كَدَّرَ دُونَ ذِكْرِ فاعِلِ التَّكْدِيرِ. والكُدْرَةُ: ضِدُّ الصَّفاءِ، كَتَغَيُّرِ لَوْنِ الماءِ ونَحْوِهِ. وفُسِّرَ الِانْكِدارُ بِالتَّساقُطِ والِانْقِضاضِ، وأنْشَدُوا قَوْلَ العَجّاجِ يَصِفُ بازِيًا: ؎أبْصَرَ خِرْبانَ فَضاءً فانْكَدَرْ ومَعْنى تَساقُطِها تَساقُطُ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ واصْطِدامُها بِسَبَبِ اخْتِلالِ نِظامِ الجاذِبِيَّةِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِإمْساكِها إلى أمَدٍ مَعْلُومٍ. وتَسْيِيرُ الجِبالِ انْتِقالُها مِن أماكِنِها بِارْتِجاجِ الأرْضِ وزِلْزالِها. وتَقَدَّمَ في سُورَةِ النَّبَأِ. والعِشارُ جَمْعُ عُشَراءَ وهي النّاقَةُ الحامِلُ إذا بَلَغَتْ عَشَرَةَ أشْهُرٍ لِحَمْلِها فَقارَبَتْ أنْ تَضَعَ حَمْلَها؛ لِأنَّ النُّوقَ تَحْمِلُ عامًا كامِلًا، والعِشارُ أنْفَسُ مَكاسِبِ العَرَبِ ومَعْنى عُطِّلَتْ تُرِكَتْ لا يُنْتَفَعُ بِها. والكَلامُ كِنايَةٌ عَنْ تَرْكِ النّاسِ أعْمالَهم لِشِدَّةِ الهَوْلِ. وعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ ذَلِكَ مِن أشْراطِ السّاعَةِ في الأرْضِ فَيُناسِبُ ﴿وإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ . ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ العِشارُ مُسْتَعارَةً لِلْأسْحِبَةِ المُحَمَّلَةِ بِالمَطَرِ، شُبِّهَتْ بِالنّاقَةِ العُشَراءِ. وهَذا غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الِاسْتِعْمالِ، فَهم يُطْلِقُونَ مِثْلَ هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ لِلسَّحابِ، كَما أطْلَقُوا عَلى السَّحابَةِ اسْمَ بِكْرٍ في قَوْلِ عَنْتَرَةَ: جادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ ∗∗∗ فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدِّرْهَمِ فَأطْلَقَ عَلى السَّحابَةِ الكَثِيرَةِ الماءِ اسْمَ البِكْرِ الحُرَّةِ، أيِ: الأصِيلَةِ مِنَ النُّوقِ وهي في حَمْلِها الأوَّلِ. ومَعْنى تَعْطِيلِ الأسْحِبَةِ أنْ يَعْرِضَ لَها ما يَحْبِسُ مَطَرَها عَنِ النُّزُولِ، أوْ مَعْناهُ أنَّ الأسْحِبَةَ الثِّقالَ لا تَتَجَمَّعُ ولا تَحْمِلُ ماءً، فَمَعْنى تَعْطِيلِها تَكَوُّنُها، فَيَتَوالى القَحْطُ (p-١٤٣)عَلى الأرْضِ فَيَهْلِكُ النّاسُ والأنْعامُ. وعَلى هَذا الوَجْهِ فَذَلِكَ مِن أشْراطِ السّاعَةِ العُلْوِيَّةِ فَيُناسِبُ تَكْوِيرَ الشَّمْسِ وانْكِدارَ النُّجُومِ. والوُحُوشُ: جَمْعُ وحْشٍ وهو الحَيَوانُ البَرِّيُّ غَيْرُ المُتَأنِّسِ بِالنّاسِ. وحَشْرُها: جَمْعُها في مَكانٍ واحِدٍ، أيْ: مَكانٍ مِنَ الأرْضِ عِنْدَ اقْتِرابِ فَناءِ العالَمِ فَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ حَشْرِها طُوفانًا يَغْمُرُ الأرْضَ مِن فَيَضانِ البِحارِ فَكُلَّما غَمَرَ جُزْءًا مِنَ الأرْضِ فَرَّتْ وُحُوشُهُ حَتّى تَجْتَمِعَ في مَكانٍ واحِدٍ طالِبَةً النَّجاةَ مِنَ الهَلاكِ، ويُشْعِرُ بِهَذا عَطْفُ ﴿وإذا البِحارُ سُجِّرَتْ﴾ عَلَيْهِ. وذُكِرَ هَذا بِالنِّسْبَةِ إلى الوُحُوشِ إيماءً إلى شِدَّةِ الهَوْلِ فالوُحُوشُ الَّتِي مِن طَبْعِها نَفْرَةُ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ تَتَجَمَّعُ في مَكانٍ واحِدٍ لا يَعْدُو شَيْءٌ مِنها عَلى الآخَرِ مِن شِدَّةِ الرُّعْبِ، فَهي ذاهِلَةٌ عَمّا في طَبْعِها مِنَ الِاعْتِداءِ والِافْتِراسِ، ولَيْسَ هَذا الحَشْرَ الَّذِي يُحْشَرُ النّاسُ بِهِ لِلْحِسابِ، بَلْ هَذا حَشْرٌ في الدُّنْيا وهو المُناسِبُ لِما عُدَّ مَعَهُ مِنَ الأشْراطِ، ورُوِيَ مَعْناهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وتَسْجِيرُ البِحارِ: فَيَضانُها، قالَ تَعالى: ﴿والبَحْرِ المَسْجُورِ﴾ [الطور: ٦] في سُورَةِ الطُّورِ. والمُرادُ تَجاوُزُ مِياهِها مُعَدَّلَ سُطُوحِها واخْتِلاطُ بَعْضِها بِبَعْضٍ وذَلِكَ مِن آثارِ اخْتِلالِ قُوَّةِ كُرَةِ الهَواءِ الَّتِي كانَتْ ضاغِطَةً عَلَيْها، وقَدْ وقَعَ في آيَةِ سُورَةِ الِانْفِطارِ ﴿وإذا البِحارُ فُجِّرَتْ﴾ [الإنفطار: ٣] وإذا حَدَثَ ذَلِكَ اخْتَلَطَ ماؤُها بِرَمْلِها فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ. يُقالُ: سَجَّرَ مُضاعَفًا وسَجَرَ مُخَفَّفًا. وقُرِئَ بِهِما فَقَرَأهُ الجُمْهُورُ مُشَدَّدًا. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ مُخَفَّفًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ شُرُوعٌ في ذِكْرِ الأحْوالِ الحاصِلَةِ في الآخِرَةِ يَوْمَ القِيامَةِ، وقَدِ انْتُقِلَ إلى ذِكْرِها لِأنَّها تَحْصُلُ عَقِبَ السِّتَّةِ الَّتِي قَبْلَها وابْتُدِئَ بِأوَّلِها وهو تَزْوِيجُ النُّفُوسِ، والتَّزْوِيجُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَوْجًا لِغَيْرِهِ بَعْدَ أنْ كانَ كِلاهُما فَرْدًا، والتَّزْوِيجُ أيْضًا: جَعْلُ الأشْياءِ أنْواعًا مُتَماثِلَةً قالَ تَعالى: ﴿ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الرعد: ٣]؛ لِأنَّ الزَّوْجَ يُطْلَقُ عَلى النَّوْعِ والصِّنْفِ مِنَ الأشْياءِ، والنُّفُوسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، والنَّفْسُ يُطْلَقُ عَلى الرُّوحِ، قالَ تَعالى: ﴿يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: ٢٧] ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ [الفجر: ٢٨] وقالَ: ﴿أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ﴾ [الأنعام: ٩٣] . (p-١٤٤)وتُطْلَقُ النَّفْسُ عَلى ذاتِ الإنْسانِ قالَ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الأنعام: ١٥١] وقالَ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهُمْ﴾ [الجمعة: ٢] وقالَ: ﴿فَإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النور: ٦١] أيْ: فَلْيُسَلِّمِ الدّاخِلُ عَلى أمْثالِهِ مِنَ النّاسِ. فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى النُّفُوسِ هُنا الأرْواحَ، أيْ: تُزَوَّجُ الأرْواحُ بِالأجْسادِ المُخَصَّصَةِ لَها فَيَصِيرُ الرُّوحُ زَوْجًا مَعَ الجَسَدِ بَعْدَ أنْ كانَ فَرْدًا لا جِسْمَ لَهُ في بَرْزَخِ الأرْواحِ، وكانَتِ الأجْسادُ بِدُونِ أرْواحٍ حِينَ يُعادُ خَلْقُها، أيْ: وإذا أُعْطِيَتِ الأرْواحُ لِلْأجْسادِ. وهَذا هو البَعْثُ وهو المَعْنى المُتَبادَرُ أوَّلًا، ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى وإذا الأشْخاصُ نُوِّعَتْ وصُنِّفَتْ فَجُعِلَتْ أصْنافًا: المُؤْمِنُونَ، والصّالِحُونَ، والكُفّارُ، والفُجّارُ، قالَ تَعالى: ﴿وكُنْتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً فَأصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أصْحابُ المَيْمَنَةِ وأصْحابُ المَشْأمَةِ ما أصْحابُ المَشْأمَةِ والسّابِقُونَ﴾ [الواقعة: ٧] الآيَةَ. ولَعَلَّ قَصْدَ إفادَةِ هَذا التَّرْكِيبِ لِهَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ هو مُقْتَضى العُدُولِ عَنْ ذِكْرِ ما زُوِّجَتِ النُّفُوسُ بِهِ. وأوَّلُ مَنازِلِ البَعْثِ اقْتِرانُ الأرْواحِ بِأجْسادِها، ثُمَّ تَقْسِيمُ النّاسِ إلى مَراتِبِهِمْ لِلْحَشْرِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإذا هم قِيامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] ثُمَّ قالَ: ﴿وسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ [الزمر: ٧١] ثُمَّ قالَ: ﴿وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم إلى الجَنَّةِ زُمَرًا﴾ [الزمر: ٧٣] الآيَةَ. وقَدْ ذَكَرُوا مَعانِيَ أُخْرى لِتَزْوِيجِ النُّفُوسِ في هَذِهِ الآيَةِ غَيْرَ مُناسِبَةٍ لِلسِّياقِ. وبِمُناسَبَةِ ذِكْرِ تَزْوِيجِ النُّفُوسِ بِالأجْسادِ خُصَّ سُؤالُ المَوْءُودَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِمّا يُسْألُ عَنْهُ المُجْرِمُونَ يَوْمَ الحِسابِ، ذَلِكَ لِأنَّ إعادَةَ الأرْواحِ إلى الأجْسادِ كانَ بَعْدَ مُفارَقَتِها بِالمَوْتِ، والمَوْتُ إمّا بِعارِضٍ جَسَدِيٍّ مِنَ انْحِلالٍ أوْ مَرَضٍ، وإمّا بِاعْتِداءٍ عُدْوانِيٍّ مِن قَتْلٍ أوْ قِتالٍ، وكانَ مِن أفْظَعِ الإعْتِداءِ عَلى إزْهاقِ الأرْواحِ مِن أجْسادِها اعْتِداءُ الآباءِ عَلى نُفُوسِ أطْفالِهِمْ بِالوَأْدِ، فَإنَّ اللَّهَ جَعَلَ في الفِطْرَةِ حِرْصَ الآباءِ عَلى اسْتِحْياءِ أبْنائِهِمْ وجَعَلَ الأبَوَيْنِ سَبَبَ إيجادِ الأبْناءِ، فالوَأْدُ أفْظَعُ أعْمالِ أهْلِ الشِّرْكِ. وسُؤالُ المَوْءُودَةِ سُؤالٌ تَعْرِيضِيٌّ مُرادٌ مِنهُ تَهْدِيدُ وائِدِها ورُعْبُهُ بِالعَذابِ. وظاهِرُ الآيَةِ أنَّ سُؤالَ المَوْءُودَةِ وعُقُوبَةَ مَن وأدَها أوَّلُ ما يُقْضى فِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ (p-١٤٥)كَما يَقْتَضِي ذَلِكَ جَعْلَ هَذا السُّؤالِ وقْتًا تَعْلَمُ عِنْدَهُ كُلُّ نَفْسٍ ما أحْضَرَتْ، فَهو مِن أوَّلِ ما يُعْلَمُ بِهِ حِينَ الجَزاءِ. والوَأْدُ: دَفْنُ الطِّفْلَةِ وهي حَيَّةٌ: قِيلَ هو مَقْلُوبُ آداهُ، إذا أثْقَلَهُ؛ لِأنَّهُ إثْقالُ الدَّفِينَةِ بِالتُّرابِ. قالَ في الكَشّافِ: كانَ الرَّجُلُ إذا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأرادَ أنْ يَسْتَحْيِيَها البَسْها جُبَّةً مِن صُوفٍ أوْ شَعْرٍ تَرْعى لَهُ الإبِلَ والغَنَمَ في البادِيَةِ، وإنْ أرادَ قَتْلَها تَرَكَها حَتّى إذا كانَتْ سُداسِيَّةً يَقُولُ لِأُمِّها طَيِّبِيها وزَيِّنِيها حَتّى أذْهَبَ بِها إلى أحْمائِها وقَدْ حَفَرَ لَها بِئْرًا في الصَّحْراءِ فَيَبْلُغُ بِها البِئْرَ فَيَقُولُ لَها: انْظُرِي فِيها، ثُمَّ يَدْفَعُها مِن خَلْفِها ويُهِيلُ عَلَيْها التُّرابَ حَتّى تَسْتَوِيَ البِئْرُ بِالأرْضِ. وقِيلَ: كانَتِ الحامِلُ إذا أقْرَبَتْ حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلى رَأْسِ الحُفْرَةِ، فَإذا ولَدَتْ بِنْتًا رَمَتْ بِها في الحُفْرَةِ، وإنْ ولَدَتِ ابْنًا حَبَسَتْهُ اهـ. وكانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ خَشْيَةً مِن إغارَةِ العَدُوِّ عَلَيْهِمْ فَيَسْبِي نِساءَهم، ولِخَشْيَةِ الإمْلاقِ في سِنِيِّ الجَدْبِ؛ لِأنَّ الذَّكَرَ يَحْتالُ لِلْكَسْبِ بِالغارَةِ وغَيْرِها والأُنْثى عالَةٌ عَلى أهْلِها، قالَ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكم خَشْيَةَ إمْلاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] وقالَ: ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِالأُنْثى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أمْ يَدُسُّهُ في التُّرابِ ألا ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: ٥٨] . وإذْ قَدْ فَشا فِيهِمْ كَراهِيَةُ وِلادَةِ الأُنْثى فَقَدْ نَما في نُفُوسِهِمْ بُغْضُها فَتَحَرَّكَتْ فِيها الخَواطِرُ الإجْرامِيَّةُ، فالرَّجُلُ يَكْرَهُ أنْ تُولَدَ لَهُ أُنْثى لِذَلِكَ، وامْرَأتُهُ تَكْرَهُ أنْ تُولَدَ لَها أُنْثى خَشْيَةً مِن فِراقِ زَوْجِها إيّاها، وقَدْ يَهْجُرُ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ إذا ولَدَتْ أُنْثى. وقَدْ تَوارَثَتْ هَذا الجَهْلَ أكْثَرُ الأُمَمِ عَلى تَفاوُتٍ بَيْنَهم فِيهِ، ومِن كَلامِ بَعْضِهِمْ وقَدْ ماتَتِ ابْنَتُهُ: (( نِعْمَ الصِّهْرُ القَبْرُ) ) . ومِن آثارِ هَذا الشُّعُورِ حِرْمانُ البَناتِ مِن أمْوالِ آبائِهِنَّ بِأنْواعٍ مِنَ الحِيَلِ مِثْلَ وقْفِ أمْوالِهِمْ عَلى الذُّكُورِ دُونَ الإناثِ، وقَدْ قالَ مالِكٌ: إنَّ ذَلِكَ مِن سُنَّةِ الجاهِلِيَّةِ، ورَأى ذَلِكَ الحُبْسَ باطِلًا، وكانَ كَثِيرٌ مِن أقْرِباءِ المَيِّتِ يُلْجِئُونَ بَناتَهُ إلى إسْقاطِ حَقِّهِنَّ في مِيراثِ أبِيهِنَّ لِإخْوَتِهِنَّ في فَوْرِ الأسَفِ عَلى مَوْتِ أبِيهِنَّ، فَلا (p-١٤٦)يَمْتَنِعْنَ مِن ذَلِكَ، ويَرَيْنَ الِامْتِناعَ مِن ذَلِكَ عارًا عَلَيْهِنَّ، فَإنْ لَمْ يَفْعَلْنَ قَطَعَهُنَّ أقْرِباؤُهُنَّ. وتُعْرَفُ هَذِهِ المَسْألَةُ في الفِقْهِ بِهِبَةِ بَناتِ القَبائِلِ، وبَعْضُهم يَعُدُّها مِنَ الإكْراهِ. ولَمْ يَكُنِ الوَأْدُ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ القَبائِلِ، قِيلَ: أوَّلُ مَن وأدَ البَناتِ مِنَ القَبائِلِ رَبِيعَةُ، وكانَتْ كِنْدَةُ تَئِدُ البَناتِ، وكانَ بَنُو تَمِيمٍ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ووَأدَ قَيْسُ بْنُ عاصِمٍ المِنقَرِيُّ مِن بَنِي تَمِيمٍ ثَمانِيَ بَناتٍ لَهُ قَبْلَ إسْلامِهِ. ولَمْ يَكُنِ الوَأْدُ في قُرَيْشٍ البَتَّةَ. وكانَ صَعْصَعَةُ بْنُ ناجِيَةَ جَدُّ الفَرَزْدَقِ مِن بَنِي تَمِيمٍ يَفْتَدِي مَن يَعْلَمُ أنَّهُ يُرِيدُ وأْدَ بِنْتِهِ مِن قَوْمِهِ بِناقَتَيْنِ عُشَراوَيْنِ وجَمَلٍ، فَقِيلَ: إنَّهُ افْتَدى ثَلاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ مَوْءُودَةً، وقِيلَ: وسَبْعِينَ، وفي الأغانِي: وقِيلَ: أرْبَعَمِائَةٍ. وفِي تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ: فَجاءَ الإسْلامُ وقَدْ أحْيا سَبْعِينَ مَوْءُودَةً. ومِثْلُ هَذا في كِتابِ الشُّعَراءِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ، وبَيْنَ العَدَدَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَلَعَلَّ في أحَدِهِما تَحْرِيفًا. وفِي تَوْجِيهِ السُّؤالِ إلى المَوْءُودَةِ ﴿بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ في ذَلِكَ الحَشْرِ إدْخالُ الرَّوْعِ عَلى مَن وأدَها، وجَعْلُ سُؤالِها عَنْ تَعْيِينِ ذَنْبٍ أوْجَبَ قَتْلَها لِلتَّعْرِيضِ بِالتَّوْبِيخِ والتَّخْطِئَةِ لِلَّذِي وأدَها، ولِيَكُونَ جَوابُها شَهادَةً عَلى مَن وأدَها فَيَكُونَ اسْتِحْقاقُهُ العِقابَ أشَدَّ وأظْهَرَ. وجُمْلَةُ ﴿بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ بَيانٌ لِجُمْلَةِ سُئِلَتْ. و(أيُّ): اسْمُ اسْتِفْهامٍ يُطْلَبُ بِهِ تَمَيُّزُ شَيْءٍ مِن بَيْنِ أشْياءَ تَشْتَرِكُ مَعَهُ في حالٍ. والِاسْتِفْهامُ في ﴿بِأيِّ ذَنْبٍ﴾ تَقْرِيرِيٌّ، وإنَّما سُئِلَتْ عَنْ تَعْيِينِ الذَّنْبِ المُوجِبِ قَتْلَها دُونَ أنْ تُسْألَ عَنْ قاتِلِها لِزِيادَةِ التَّهْدِيدِ؛ لِأنَّ السُّؤالَ عَنْ تَعْيِينِ الذَّنْبِ مَعَ تَحَقُّقِ الوائِدِ الَّذِي يَسْمَعُ ذَلِكَ السُّؤالَ أنْ لا ذَنْبَ لَها إشْعارٌ لِلْوائِدِ بِأنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِيما صَنَعَ بِها. ويُنْتَزَعُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سُئِلَتْ بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ الوارِدِ في سِياقِ نَفْيِ ذَنْبٍ عَنِ المَوْءُودَةِ يُوجِبُ قَتْلَها اسْتِدْلالٌ عَلى أنَّ مَن ماتُوا مِن أطْفالِ المُشْرِكِينَ لا يُعْتَبَرُونَ مُشْرِكِينَ مِثْلَ آبائِهِمْ، وأوَّلُ مَن رَأيْتُهُ تَعَرَّضَ لِهَذا الِاسْتِدْلالِ الزَّمَخْشَرِيُّ في (p-١٤٧)الكَشّافِ، وذَكَرَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ اسْتَدَلَّ عَلى هَذا المَعْنى قالَ في الكَشّافِ: ”وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ أطْفالَ المُشْرِكِينَ لا يُعَذَّبُونَ، وإذْ أبْكَتَ اللَّهُ الكافِرَ بِبَراءَةِ المَوْءُودَةِ مِنَ الذَّنْبِ فَما أقْبَحَ بِهِ وهو الَّذِي لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أنْ يَكِرَّ عَلى هَذا التَّبْكِيتِ فَيَفْعَلَ بِها ما تَنْسى عِنْدَهُ فِعْلَ المُبَكَّتِ مِنَ العَذابِ السَّرْمَدِيِّ“ . وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فاحْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ اهـ. فَأشارَ إلى ثَلاثَةِ أدِلَّةٍ: أحَدُها: دِلالَةُ الإشارَةِ، أيْ: لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ يُشِيرُ إلى أنَّها لا ذَنْبَ لَها، وهَذا اسْتِدْلالٌ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الذَّنْبَ المَنفِيَّ وجُودُهُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهامِ المَشُوبِ بِإنْكارٍ إنَّما هو الذَّنْبُ الَّذِي يُخَوِّلُ لِأبِيها وأْدَها لا إثْباتَ حُرْمَتِها وعِصَمِةَ دَمِها فَتِلْكَ قَضِيَّةٌ أُخْرى عَلى تَفْصِيلٍ فِيها. الثّانِي: قاعِدَةُ إحالَةِ فِعْلِ القَبِيحِ عَلى اللَّهِ تَعالى عَلى قاعِدَةِ التَّحْسِينِ والتَّقْبِيحِ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ، وإحالَتِهِمُ الظُّلْمَ عَلى اللَّهِ إذا عَذَّبَ أحَدًا بِدُونِ فِعْلِهِ، وهو أصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الأشاعِرَةِ والمُعْتَزِلَةِ. فَعِنْدَنا أنَّ تَصَرُّفَ اللَّهِ في عَبِيدِهِ لا يُوصَفُ بِالظُّلْمِ خِلافًا لَهم عَلى أنَّ هَذا الدَّلِيلَ مَبْنِيٌّ عَلى أساسِ الدَّلِيلِ الأوَّلِ وقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ غَيْرُ سالِمٍ مِنَ النَّقْضِ. الثّالِثُ: ما نَسَبَهُ إلى ابْنِ عَبّاسٍ وهو يُشِيرُ إلى ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ بِسَنَدِهِ إلى عِكْرِمَةَ أنَّهُ قالَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أطْفالُ المُشْرِكِينَ في الجَنَّةِ، فَمَن زَعَمَ أنَّهم في النّارِ فَقَدْ كَذَّبَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿وإذا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ وقَدْ أُجِيبَ عَنِ القَوْلِ المَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ بِأنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الصِّحَّةِ، وهَذِهِ مَسْألَةٌ مِن أُصُولِ الدِّينِ لا يُكْتَفى فِيها إلّا بِالدَّلِيلِ القاطِعِ. واعْلَمْ أنَّ الأحادِيثَ الصَّحِيحَةَ في حُكْمِ أطْفالِ المُشْرِكِينَ مُتَعارِضَةٌ، فَرَوى البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ أوْلادِ أوْ ذَرارِيِّ المُشْرِكِينَ فَقالَ: اللَّهُ أعْلَمُ بِما كانُوا عامِلِينَ» . وهَذا الجَوابُ يَحْتَمِلُ الوَقْفَ عَنِ الجَوابِ، أيِ: اللَّهُ أعْلَمُ بِحالِهِمْ، كَقَوْلِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي في كِتابٍ﴾ [طه: ٥٢] جَوابًا لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ ﴿فَما بالُ القُرُونِ الأُولى﴾ [طه: ٥١] . ويُحْتَمَلُ أنَّ المَعْنى: اللَّهُ أعْلَمُ بِحالِ كُلِّ واحِدٍ مِنهم لَوْ كَبَرَ ماذا يَكُونُ عامِلًا مِن كُفْرٍ أوْ إيمانٍ، أيْ: فَيُعامِلُهُ بِما عَلِمَ مِن حالِهِ. (p-١٤٨)وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ - بِبَعْضِ اخْتِلافٍ في اللَّفْظِ - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ» الحَدِيثَ. زادَ في رِوايَةِ مُسْلِمٍ ثُمَّ يَقُولُ - أيْ أبُو هُرَيْرَةَ -: اقْرَؤُوا ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ [الروم: ٣٠] . فَيَقْتَضِي أنَّهم يُولَدُونَ عَلى فِطْرَةِ الإسْلامِ حَتّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ مِن أبَوَيْهِ أوْ قَرِيبِهِ أوْ قَرِينِهِ ما يُغَيِّرُهُ عَنْ ذَلِكَ، وهَذا أظْهَرُ ما يُسْتَدَلُّ بِهِ في هَذِهِ المَسْألَةِ. قالَ المازِرِيُّ في المُعَلِّمِ: فاضْطَرَبَ العُلَماءُ فِيهِمْ. والأحادِيثُ ورَدَتْ ظَواهِرُها مُخْتَلِفَةً واخْتِلافُ هَذِهِ الظَّواهِرِ سَبَبُ اضْطِرابِ العُلَماءِ في ذَلِكَ والقَطْعُ ها هُنا يَبْعُدُ اهـ. وقَوْلُ أبِي هُرَيْرَةَ: واقْرَؤُوا ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ [الروم: ٣٠] إلَخْ مِصْباحٌ يُنِيرُ وجْهَ الجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الأخْبارِ: وقَدْ ورَدَ في حَدِيثِ الرُّؤْيا عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ ما هو صَرِيحٌ في ذَلِكَ، إذْ «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وأمّا الرَّجُلُ الَّذِي في الرَّوْضَةِ فَإنَّهُ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وأمّا الوِلْدانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ ماتَ عَلى الفِطْرَةِ. قالَ سَمُرَةُ: فَقالَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، وأوْلادُ المُشْرِكِينَ ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وأوْلادُ المُشْرِكِينَ» . واخْتَلَفَتْ أقْوالُ العُلَماءِ في أوْلادِ المُشْرِكِينَ، فَقالَ ابْنُ المُبارَكِ، وحَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وحَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ، والشّافِعِيُّ: هم في مَشِيئَةِ اللَّهِ. والصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ المُحَقِّقُونَ والجُمْهُورُ أنَّهم في الجَنَّةِ، وهو ظاهِرُ قَوْلِ أبِي هُرَيْرَةَ. وذَهَبَ الأزارِقَةُ إلى أنَّ أوْلادَ المُشْرِكِينَ تَبَعٌ لِآبائِهِمْ، وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: سَألْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الحَسَنِ عَنْ حَدِيثِ «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ» فَقالَ: كانَ ذَلِكَ أوَّلَ الإسْلامِ قَبْلَ أنْ تَنْزِلَ الفَرائِضُ وقَبْلَ أنْ يُفْرَضَ الجِهادُ. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: كَأنَّهُ يَعْنِي أنَّهُ لَوْ وُلِدَ عَلى الفِطْرَةِ لَمْ يَرِثاهُ لِأنَّهُ مُسْلِمٌ وهُما كافِرانِ، فَلَمّا فُرِضَتِ الفَرائِضُ عَلى خِلافِ ذَلِكَ جازَ أنْ يُسَمّى كافِرًا وعُلِمَ أنَّهُ يُولَدُ عَلى دِينِهِما. وهُنالِكَ أقْوالٌ أُخْرى كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَعْزُوَّةٍ إلى مُعَيَّنٍ ولا مُسْتَنِدَةٍ لِأثَرٍ صَحِيحٍ. وذَكَرَ المازِرِيُّ أنَّ أطْفالَ الأنْبِياءِ في الجَنَّةِ بِإجْماعٍ، وأنَّ جُمْهُورَ العُلَماءِ عَلى أنَّ أطْفالَ بَقِيَّةِ المُؤْمِنِينَ في الجَنَّةِ، وبَعْضُ العُلَماءِ وقَفَ فِيهِمْ، وقالَ النَّوَوِيُّ: أجْمَعَ مَن يُعْتَدُّ بِهِ مِن عُلَماءِ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّ مَن ماتَ مِن أطْفالِ المُسْلِمِينَ فَهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ. (p-١٤٩)وقَرَأ الجُمْهُورُ قُتِلَتْ بِتَخْفِيفِ المُثَنّاةِ الأُولى، وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِها، وهي تُفِيدُ مَعْنى أنَّهُ قَتْلٌ شَدِيدٌ فَظِيعٌ. ونَشْرُ الصُّحُفِ حَقِيقَتُهُ: فَتْحُ طَيّاتِ الصَّحِيفَةِ، أوْ إطْلاقُ التِفافِها لِتُقْرَأ كِتابَتُها وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ يُؤْتى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ [المدثر: ٥٢] في سُورَةِ المُدَّثِّرِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿كِتابًا يَلْقاهُ مَنشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] في سُورَةِ الإسْراءِ. والمُرادُ: صُحُفُ الأعْمالِ، وهي إمّا صُحُفٌ حَقِيقِيَّةٌ مُخالِفَةٌ لِلصُّحُفِ المَأْلُوفَةِ، وإمّا مَجازِيَّةٌ أُطْلِقَتْ عَلى أشْياءَ فِيها إحْصاءُ أعْمالِ النّاسِ، وقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، ويَعْقُوبُ ﴿نُشِرَتْ﴾ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ. وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ لِلتَّكْثِيرِ لِكَثْرَةِ الصُّحُفِ المَنشُورَةِ. والكَشْطُ: إزالَةُ الإهابِ عَنِ الحَيَوانِ المَيِّتِ وهو أعَمُّ مِنَ السَّلْخِ؛ لِأنَّ السَّلْخَ لا يُقالُ إلّا في إزالَةِ إهابِ البَقَرِ والغَنَمِ دُونَ إزالَةِ إهابِ الإبِلِ، فَإنَّهُ كَشْطٌ ولا يُقالُ سَلْخٌ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ إزالَةٌ تَقَعُ في يَوْمِ القِيامَةِ لِأنَّها ذُكِرَتْ في أثْناءِ أحْداثِ يَوْمِ القِيامَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ ﴿وإذا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿وإذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ . فالظّاهِرُ أنَّ السَّماءَ تَبْقى مُنْشَقَّةً مُنْفَطِرَةً تَعْرُجُ المَلائِكَةُ بَيْنَها وبَيْنَ أرْضِ المَحْشَرِ حَتّى يَتِمَّ الحِسابُ، فَإذا قُضِيَ الحِسابُ أُزِيلَتِ السَّماءُ مِن مَكانِها، فالسَّماءُ مَكْشُوطَةٌ والمَكْشُوطُ عَنْهُ هو عالَمُ الخُلُودِ، ويَكُونُ ﴿كُشِطَتْ﴾ اسْتِعارَةً لِلْإزالَةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا مِنَ الأحْداثِ الَّتِي جُعِلَتْ أشْراطًا لِلسّاعَةِ وأُخِّرَ ذِكْرُهُ لِمُناسَبَةِ ذِكْرِ نَشْرِ الصُّحُفِ؛ لِأنَّ الصُّحُفَ تَنْشُرُها المَلائِكَةُ وهم مِن أهْلِ السَّماءِ فَيَكُونُ هَذا الكَشْطُ مِن قَبِيلِ الِانْشِقاقِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ [الإنشقاق: ١] والِانْفِطارِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الإنفطار: ١] إلى قَوْلِهِ: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وأخَّرَتْ﴾ [الإنفطار: ٥] فَيَكُونُ الكَشْطُ لِبَعْضِ أجْزاءِ السَّماءِ والمَكْشُوطُ عَنْهُ بَعْضٍ آخَرَ، فَيَكُونُ مِن قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تُفَتَّحُ لَهم أبْوابُ السَّماءِ ولا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ﴾ [الأعراف: ٤٠] ومِن قَبِيلِ الطَّيِّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] لِأنَّ ظاهِرَهُ اتِّصالُ طَيِّ (p-١٥٠)السَّماءِ بِإعادَةِ الخَلْقِ، وتَصِيرُ الأشْراطُ الَّتِي تَحْصُلُ قَبْلَ البَعْثِ سَبْعَةً والأحْداثُ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ البَعْثِ خَمْسَةً. والجَحِيمُ أصْلُهُ: النّارُ ذاتُ الطَّبَقاتِ مِنَ الوَقُودِ مِن حَطَبٍ ونَحْوِهِ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، وصارَ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى جَهَنَّمَ دارِ العَذابِ في الآخِرَةِ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ. وتَسْعِيرُها أوْ إسْعارُها: إيقادُها، أيْ: هُيِّئَتْ لِعَذابِ مَن حَقَّ عَلَيْهِمُ العَذابُ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، ورُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ (سُعِّرَتْ) بِتَشْدِيدِ العَيْنِ مُبالَغَةً في الإسْعارِ. وقَرَأهُ الباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. وقُوبِلَتْ بِالجَنَّةِ دارِ النَّعِيمِ، واسْمُ الجَنَّةِ عَلَمٌ بِالغَلَبَةِ عَلى دارِ النَّعِيمِ، وأُزْلِفَتْ قُرِّبَتْ، والزُّلْفى: القُرْبُ، أيْ: قُرِّبَتِ الجَنَّةُ مِن أهْلِها، أيْ: جُعِلَتْ بِالقُرْبِ مِن مَحْشَرِهِمْ بِحَيْثُ لا تَعَبَ عَلَيْهِمْ في الوُصُولِ إلَيْها وذَلِكَ كَرامَةً لَهم. واعْلَمْ أنَّ تَقْدِيمَ المُسْنَدِ إلَيْهِ في الجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ المُفْتَتَحاتِ بِكَلِمَةِ (إذا) مِن قَوْلِهِ: ﴿إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ إلى هُنا، والإخْبارَ عَنْهُ بِالمُسْنَدِ الفِعْلِيِّ مَعَ إمْكانِ أنْ يُقالَ: إذا كُوِّرَتِ الشَّمْسُ وإذا انْكَدَرَتِ النُّجُومُ، وهَكَذا كَما قالَ: ﴿فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ ورْدَةً كالدِّهانِ﴾ [الرحمن: ٣٧] أنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيمَ لِإفادَةِ الِاهْتِمامِ بِتِلْكَ الأخْبارِ المَجْعُولَةِ عَلاماتٍ لِيَوْمِ البَعْثِ تَوَسُّلًا بِالِاهْتِمامِ بِأشْراطِهِ إلى الِاهْتِمامِ بِهِ وتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وإنَّ إطالَةَ ذِكْرِ تِلْكَ الجُمَلِ تَشْوِيقٌ لِلْجَوابِ الواقِعِ بَعْدَها بِقَوْلِهِ: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أحْضَرَتْ﴾ . وجُمْلَةُ ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أحْضَرَتْ﴾ يَتَنازَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ كَلِماتُ إذا المُتَكَرِّرَةُ. وعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ قَرَأ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَمّا بَلَغَ ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أحْضَرَتْ﴾ قالَ: لِهَذا أُجْرِيَتِ القِصَّةُ أيْ: هو جَوابُ القَسَمِ ومَعْنى عَلِمَتْ أنَّها تُعْلَمُ بِما أحْضَرَتْ فَتَعْلَمُهُ. وقَوْلُهُ: نَفْسٌ نَكِرَةٌ في سِياقِ الشَّرْطِ مُرادٌ بِها العُمُومُ، أيْ: عَلِمَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما أحْضَرَتْ، واسْتِفادَةُ العُمُومِ مِنَ النَّكِرَةِ في سِياقِ الإثْباتِ تَحْصُلُ مِنَ القَرِينَةِ الدّالَّةِ عَلى عَدَمِ القَصْدِ إلى واحِدٍ مِنَ الجِنْسِ، والقَرِينَةُ هُنا وُقُوعُ لَفْظِ (نَفْسٌ) في جَوابِ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي لا يَخْطُرُ بِالبالِ أنْ تَكُونَ شُرُوطًا لِشَخْصٍ واحِدٍ، وقَدْ (p-١٥١)قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ﴾ [آل عمران: ٣٠] . والإحْضارُ: جَعْلُ الشَّيْءِ حاضِرًا. ومَعْنى ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أحْضَرَتْ﴾ حُصُولُ اليَقِينِ بِما لَمْ يَكُنْ لَها بِهِ عِلْمٌ مِن حَقائِقِ الأعْمالِ الَّتِي كانَ عِلْمُها بِها أشْتاتًا: بَعْضُهُ مَعْلُومٌ عَلى غَيْرِ وجْهِهِ، وبَعْضُهُ مَعْلُومٌ صُورَتُهُ مَجْهُولَةٌ عَواقِبُهُ، وبَعْضُهُ مَغْفُولٌ عَنْهُ. فَنُزِّلَ العِلْمُ الَّذِي كانَ حاصِلًا لِلنّاسِ في الحَياةِ الدُّنْيا مَنزِلَةَ عَدَمِ العِلْمِ، وأثْبَتَ العِلْمُ لَهم في ذَلِكَ اليَوْمِ عِلْمَ أعْمالِهِمْ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ فَيَعْلَمُ ما لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ مِمّا يُحَقِّرُهُ مِن أعْمالِهِ ويَتَذَكَّرُ ما كانَ قَدْ عَلِمَهُ مِن قَبْلُ، وتَذَكُّرُ المَنسِيِّ والمَغْفُولِ عَنْهُ نَوْعٌ مِنَ العِلْمِ. وما أحْضَرَتْهُ هو ما أسْلَفَتْهُ مِنَ الأعْمالِ، ولَمّا كانَتِ الأعْمالُ تَظْهَرُ آثارُها مِن ثَوابٍ وعِقابٍ يَوْمَئِذٍ عُبِّرَ عَنْ ظُهُورِ آثارِها بِالإحْضارِ لِشَبَهِهِ بِهِ كَما يُحْضَرُ الزّادُ لِلْمُسافِرِ فَفي فِعْلِ أحْضَرَتِ اسْتِعارَةٌ. ويُطْلَقُ عَلى ذَلِكَ الإعْدادِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ لِلَّذِي سَألَهُ مَتى السّاعَةُ ؟ ماذا أعْدَدْتَ لَها. وأُسْنِدَ الإحْضارُ إلى النُّفُوسِ لِأنَّها الفاعِلَةُ لِلْأعْمالِ الَّتِي يَظْهَرُ جَزاؤُها يَوْمَئِذٍ فَهَذا الإسْنادُ مِن إسْنادِ فِعْلِ الشَّيْءِ إلى سَبَبِ فِعْلِهِ، فَحَصَلَ هُنا مَجازانِ: مَجازٌ لُغَوِيٌّ، ومَجازٌ عَقْلِيٌّ، وحَقِيقَتُهُما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ﴾ [آل عمران: ٣٠] . وجُعِلَتْ مَعْرِفَةُ النُّفُوسِ لِجَزاءِ أعْمالِها حاصِلَةً عِنْدَ حُصُولِ مَجْمُوعِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ في الجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ؛ لِأنَّ بَعْضَ الأحْوالِ الَّتِي تَضَمَّنَتْها الشُّرُوطُ مُقارَنٌ لِحُصُولِ عِلْمِ النُّفُوسِ بِأعْمالِها وهي الأحْوالُ السِّتَّةُ المَذْكُورَةُ أخِيرًا، وبَعْضَ الأحْوالِ حاصِلٌ مِن قَبْلُ بِقَلِيلٍ وهي الأحْوالُ السِّتَّةُ المَذْكُورَةُ أوَّلًا، فَنَزَلَ القَرِيبُ مَنزِلَةَ المُقارَنِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ الجَمِيعُ شُرُوطًا لِ إذا.


ركن الترجمة

When the oceans surge and swell,

et les mers allumées,

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :