موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الثلاثاء 6 شوال 1445 هجرية الموافق ل16 أبريل 2024


الآية [15] من سورة  

فَأَمَّا ٱلْإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبْتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكْرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّىٓ أَكْرَمَنِ


ركن التفسير

15 - (فأما الإنسان) الكافر (إذا ما ابتلاه) اختبره (ربه فأكرمه) بالمال وغيره. (ونعمه فيقول ربي أكرمن)

يقول تعالى منكرا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان كما قال تعالى "أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون".

(p-٣٢٤)﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أكْرَمَنِ﴾ ﴿وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أهانَنِ﴾ ﴿كَلّا﴾ [الفجر: ١٧] ) . دَلَّتِ الفاءُ عَلى أنَّ الكَلامَ الواقِعَ بَعْدَها مُتَّصِلٌ بِما قَبْلَها ومُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ لا مَحالَةَ. ودَلَّتْ (أمّا) عَلى مَعْنى: مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ، وذَلِكَ أصْلُ مَعْناها ومُقْتَضى اسْتِعْمالِها، فَقَوِيَ بِها ارْتِباطُ جَوابِها بِما قَبْلَها وقَبْلَ الفاءِ المُتَّصِلَةِ بِها، فَلاحَ ذَلِكَ بَرْقًا وامِضًا، وانْجَلى بِلَمْعِهِ ما كانَ غامِضًا، إذْ كانَ تَفْرِيعُ ما بَعْدَ هَذِهِ الفاءِ عَلى ما قَبْلَها خَفِيًّا، فَلْنُبَيِّنْهُ بَيانًا جَلِيًّا، ذَلِكَ أنَّ الكَلامَ السّابِقَ اشْتَمَلَ عَلى وصْفِ ما كانَتْ تَتَمَتَّعُ بِهِ الأُمَمُ المُمَثَّلُ بِها مِمّا أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْها بِهِ مِنَ النِّعَمِ وهم لاهُونَ عَنْ دَعْوَةِ رُسُلِ اللَّهِ، ومُعْرِضُونَ عَنْ طَلَبِ مَرْضاةِ رَبِّهِمْ، مُقْتَحِمُونَ المَناكِرَ الَّتِي نُهُوا عَنْها، بَطِرُونَ بِالنِّعْمَةِ، مُعْجَبُونَ بِعَظَمَتِهِمْ، فَعَقَّبَ ذِكْرَ ما كانُوا عَلَيْهِ وما جازاهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِن عَذابٍ في الدُّنْيا بِاسْتِخْلاصِ العِبْرَةِ، وهو تَذْكِيرُ المُشْرِكِينَ بِأنَّ حالَهم مُماثِلٌ لِحالِ أُولَئِكَ تَرَفًا وطُغْيانًا وبَطَرًا، وتَنْبِيهُهم عَلى خَطاهم، إذْ كانَتْ لَهم مِن حالِ التَّرَفِ والنِّعْمَةِ شُبْهَةٌ تَوَهَّمُوا بِها أنَّ اللَّهَ جَعَلَهم مَحَلَّ كَرامَةٍ، فَحَسِبُوا أنَّ إنْذارَ الرَّسُولِ ﷺ إيّاهم بِالعَذابِ لَيْسَ بِصِدْقٍ لِأنَّهُ يُخالِفُ ما هو واقِعٌ لَهم مِنَ النِّعْمَةِ، فَتَوَهَّمُوا أنَّ فِعْلَ اللَّهِ بِهِمْ أدَلُّ عَلى كَرامَتِهِمْ عِنْدَهُ مِمّا يُخْبِرُ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ أنَّ اللَّهَ أمَرَهم بِخِلافِ ما هم عَلَيْهِ، ونَفَوْا أنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذا العالَمِ عالَمٌ آخَرُ يُضادُّهُ، وقَصَرُوا عَطاءَ اللَّهِ عَلى ما عَلَيْهِ عِبادُهُ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا، فَكانَ هَذا الوَهْمُ مُسَوِّلًا لَهُمُ التَّكْذِيبَ بِما أُنْذِرُوا بِهِ مِن وعِيدٍ، وبِما يُسَرُّ المُؤْمِنُونَ مِن ثَوابٍ في الآخِرَةِ، فَحَصَرُوا جَزاءَ الخَيْرِ في الثَّرْوَةِ والنِّعْمَةِ، وقَصَرُوا جَزاءَ السُّوءِ عَلى الخَصاصَةِ وقَتْرِ الرِّزْقِ. وقَدْ تَكَرَّرَ في القُرْآنِ التَّعَرُّضُ لِإبْطالِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: (﴿أيَحْسَبُونَ أنَّما نُمِدُّهم بِهِ مِن مالٍ وبَنِينَ﴾ [المؤمنون: ٥٥] ﴿نُسارِعُ لَهم في الخَيْراتِ بَل لا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٦]) . وقَدْ تَضَمَّنَ هَذا الوَهَمُ أُصُولًا انْبَنى عَلَيْها إنْكارُ الجَزاءِ في الآخِرَةِ، وإنْكارُ الحَياةِ الثّانِيَةِ، وتَوَهُّمُ دَوامِ الأحْوالِ. (p-٣٢٥)فَفاءُ التَّفْرِيعِ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ (﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ [الفجر: ١٤]) بِما فِيها مِنَ العُمُومِ الَّذِي اقْتَضاهُ كَوْنُها تَذْيِيلًا. والمَعْنى: هَذا شَأْنُ رَبِّكَ الجارِي عَلى وفْقِ عِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ. فَأمّا الإنْسانُ الكافِرُ فَيَتَوَهَّمُ خِلافَ ذَلِكَ إذْ يَحْسِبُ أنَّ ما يَنالُهُ مِن نِعْمَةٍ وسَعَةٍ في الدُّنْيا تَكْرِيمٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ، وما يَنالُهُ مِن ضِيقِ عَيْشٍ إهانَةٌ أهانَهُ اللَّهُ بِها. وهَذا التَّوَهُّمُ يَسْتَلْزِمُ ظَنَّهم أفْعالَ اللَّهِ تَعالى جارِيَةً عَلى غَيْرِ حِكْمَةٍ، قالَ تَعالى: (﴿ولَئِنْ أذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذا لِي وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً ولَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا ولَنُذِيقَنَّهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ [فصلت: ٥٠]) . فَأعْلَمُ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ بِالحَقِيقَةِ الحَقِّ، ونَبَّهَهم لِتَجَنُّبِ تَخْلِيطِ الدَّلائِلِ الدَّقِيقَةِ السّامِيَةِ، وتَجَنُّبِ تَحْكِيمِ الواهِمَةِ والشّاهِيَةِ، وذَكَّرَهم بِأنَّ الأحْوالَ الدُّنْيَوِيَّةَ أعْراضٌ زائِلَةٌ ومُتَفاوِتَةُ الطُّولِ والقِصَرِ، وفي ذَلِكَ كُلِّهِ إبْطالٌ لِمُعْتَقَدِ أهْلِ الشِّرْكِ وضَلالِهِمُ الَّذِي كانَ غالِبًا عَلى أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، ولِذَلِكَ قالَ النّابِغَةُ في آلِ غَسّانَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ وكانُوا مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّصْرانِيَّةِ: ؎مَجَلَّتُهم ذاتُ الإلَهِ ودِينُهم قَوِيمٌ فَما يَرْجُونَ غَيْرَ العَواقِبِ ؎ولا يَحْسِبُونَ الخَيْرَ لا شَرَّ بَعْدَهُ ∗∗∗ ولا يَحْسِبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لازِبِ وقَدْ أعْقَبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالرَّدْعِ والإبْطالِ بِقَوْلِهِ: (كَلّا) فَمَناطُ الرَّدْعِ والإبْطالِ كِلا القَوْلَيْنِ؛ لِأنَّهُما صادِرانِ عَنْ تَأْوِيلٍ باطِلٍ وشُبْهَةٍ ضالَّةٍ كَما سَتَعْرِفُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ﴾) . واقْتِصارُ الآيَةِ عَلى تَقْتِيرِ الرِّزْقِ في مُقابَلَةِ النِّعْمَةِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العِلَلِ والآفاتِ؛ لِأنَّ غالِبَ أحْوالِ المُشْرِكِينَ المُتَحَدَّثِ عَنْهم صِحَّةُ المِزاجِ وقُوَّةُ الأبْدانِ فَلا يَهْلِكُونَ إلّا بِقَتْلٍ أوْ هَرَمٍ فِيهِمْ وفي ذَوِيهِمْ، قالَ النّابِغَةُ: ؎تَغْشى مَتالِفَ لا يُنْظِرْنَكَ الهَرَما (p-٣٢٦)ولَمْ يُعَرِّجْ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى بَيانِ نَظْمِ الآيَةِ واتِّصالِها بِما قَبْلَها عَدا الزَّمَخْشَرِيَّ وابْنَ عَطِيَّةَ. وقَدْ عُرِفَ هَذا الِاعْتِقادُ الضّالُّ مِن كَلامِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، قالَ طَرَفَةُ: ؎فَلَوْ شاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عاصِمٍ ∗∗∗ ولَوْ شاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ ؎فَأصْبَحْتُ ذا مالٍ كَثِيرٍ وطافَ بِي ∗∗∗ بَنُونَ كِرامٌ سادَةٌ لِمُسَوَّدِ وجَعَلُوا هَذا الغُرُورَ مِقْياسًا لِمَراتِبِ النّاسِ، فَجَعَلُوا أصْحابَ الكَمالِ أهْلَ المَظاهِرِ الفاخِرَةِ، ووَصَمُوا بِالنَّقْصِ أهْلَ الخَصاصَةِ وضُعَفاءَ النّاسِ، لِذَلِكَ لَمّا أتى المَلَأُ مِن قُرَيْشٍ ومِن بَنِي تَمِيمٍ وفَزارَةَ لِلنَّبِيءِ ﷺ وعِنْدَهُ عَمّارٌ، وبِلالٌ، وخَبّابٌ، وسالِمٌ، مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ، وصُبَيْحٌ مَوْلى أُسَيْدٍ، وصُهَيْبٌ، في أُناسٍ آخَرِينَ مِن ضُعَفاءِ المُؤْمِنِينَ قالُوا لِلنَّبِيءِ: اطْرُدْهم عَنْكَ فَلَعَلَّكَ إنْ طَرَدْتَهم أنْ نَتَّبِعَكَ. وقالُوا لِأبِي طالِبٍ: لَوْ أنَّ ابْنَ أخِيكَ طَرَدَ هَؤُلاءِ الأعْبُدَ والحُلَفاءَ، كانَ أعْظَمَ لَهُ في صُدُورِنا وأدْلى لِاتِّباعِنا إيّاهُ. وفي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [الأنعام: ٥٢]) الآيَةَ كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأنْعامِ. فَنَبَّهَ اللَّهُ عَلى خَطَأِ اعْتِقادِهِمْ بِمُناسَبَةِ ذِكْرِ مُماثِلِهِ مِمّا اعْتَقَدَهُ الأُمَمُ قَبْلَهُمُ الَّذِي كانَ مُوجِبًا صَبَّ العَذابِ عَلَيْهِمْ، وأعْلَمَهم أنَّ أحْوالَ الدُّنْيا تُتَّخَذُ أصْلًا في اعْتِبارِ الجَزاءِ عَلى العَمَلِ، وأنَّ الجَزاءَ المُطَّرِدَ هو جَزاءُ يَوْمِ القِيامَةِ. والمُرادُ بِالإنْسانِ الجِنْسُ وتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ أفْرادَ الجِنْسِ، ولَكِنَّهُ اسْتِغْراقٌ عُرْفِيٌّ مُرادٌ بِهِ النّاسُ المُشْرِكُونَ لِأنَّهُمُ الغالِبُ عَلى النّاسِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم، وذَلِكَ الغالِبُ في إطْلاقِ لَفْظِ الإنْسانِ في القُرْآنِ النّازِلِ بِمَكَّةَ كَقَوْلِهِ: (﴿إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ [العلق: ٦]) (﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ ألَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ﴾ [القيامة: ٣]) (﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في كَبَدٍ﴾ [البلد: ٤] ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحَدٌ﴾ [البلد: ٥]) ونَحْوِ ذَلِكَ. ويَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ [الفجر: ٢٣]) الآيَةَ. وقِيلَ: أُرِيدَ إنْسانٌ مُعَيَّنٌ، فَقِيلَ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، أوْ أبُو حُذَيْفَةَ بْنُ المُغِيرَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقِيلَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ عَنْ مُقاتِلٍ والكَلْبِيِّ، وقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ عَنِ الكَلْبِيِّ أيْضًا. وإنَّما هَؤُلاءِ المُسَمَّوْنَ أعْلامُ التَّضْلِيلِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومِن (p-٣٢٧)حَيْثُ كانَ هَذا غالِبًا عَلى الكُفّارِ جاءَ التَّوْبِيخُ في هَذِهِ الآيَةِ بِاسْمِ الجِنْسِ إذْ يَقَعُ (كَذا) بَعْضُ المُؤْمِنِينَ في شَيْءٍ مِن هَذا المَنزِعِ اهـ. واعْلَمْ أنَّ مِن ضَلالِ أهْلِ الشِّرْكِ ومِن فِتْنَةِ الشَّيْطانِ لِبَعْضِ جَهَلَةِ المُؤْمِنِينَ أنْ يُخَيِّلَ إلَيْهِمْ ما يَحْصُلُ لِأحَدٍ بِجَعْلِ اللَّهِ مِنِ ارْتِباطِ المُسَبَّباتِ بِأسْبابِها والمَعْلُولاتِ بِعِلَلِها، فَيَضَعُوا ما يُصادِفُ نَفْعَ أحَدِهِمْ مِنَ الحَوادِثِ مَوْضِعَ كَرامَةٍ مِنَ اللَّهِ لِلَّذِي صادَفَتْهُ مَنافِعُ ذَلِكَ، تَحْكِيمًا لِلشّاهِيَةِ ومَحَبَّةِ النَّفْسِ ورَجْمًا بِالغَيْبِ وافْتِياتًا عَلى اللَّهِ، وإذا صادَفَ أحَدَهم مِنَ الحَوادِثِ ما جَلَبَ لَهُ ضُرًّا تَخَيَّلَهُ بِأوْهامِهِ انْتِقامًا مِنَ اللَّهِ قَصَدَهُ بِهِ، تَشاؤُمًا مِنهم. فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا ما نالَهم مِن نِعْمَةِ اللَّهِ إكْرامًا مِنَ اللَّهِ لَهم لَيْسُوا أهْلًا لِكَرامَةِ اللَّهِ. وهَؤُلاءِ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا ما صادَفَهم مِن فُتُورِ الرِّزْقِ إهانَةً مِنَ اللَّهِ لَهم لَيْسُوا بِأحَطَّ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّ اللَّهَ أكْرَمُهم بِما هم فِيهِ مِن نِعْمَةٍ. فَذَلِكَ الِاعْتِقادُ أوْجَبَ تَغَلْغُلَ أهْلِ الشِّرْكِ في إشْراكِهِمْ وصَرَفَ أنْظارَهم عَنِ التَّدَبُّرِ فِيما يُخالِفُ ذَلِكَ، ورُبَّما جَرَتِ الوَساوِسُ الشَّيْطانِيَّةُ فِتْنَةً مِن ذَلِكَ لِبَعْضِ ضُعَفاءِ الإيمانِ وقِصارِ الأنْظارِ والجُهّالِ بِالعَقِيدَةِ الحَقِّ كَما أفْصَحَ أحْمَدُ بْنُ الرّاوَنْدِيِّ عَنْ تَزَلْزُلِ فَهْمِهِمْ وقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِقَوْلِهِ: ؎كَمْ عاقِلٍ عاقِلٍ أعْيَتْ مَذاهِبُهُ ∗∗∗ وجاهِلٍ جاهِلٍ تَلْقاهُ مَرْزُوقا ؎هَذا الَّذِي تَرَكَ الأفْهامَ حائِرَةً ∗∗∗ وصَيَّرَ العالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقا وذَلِكَ ما صَرَفَ الضّالِّينَ عَنْ تَطَلُّبِ الحَقائِقِ مِن دَلائِلِها، وصَرَفَهم عَنِ التَّدَبُّرِ فِيما يُنِيلُ صاحِبَهُ رِضى اللَّهِ وما يُوقِعُ في غَضَبِهِ، وعِلْمُ اللَّهِ واسِعٌ وتَصَرُّفاتُهُ شَتّى، وكُلُّها صادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ (﴿ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ إلّا بِما شاءَ﴾ [البقرة: ٢٥٥]) فَقَدْ يَأْتِي الضُّرُّ لِلْعَبْدِ مِن عِدَّةِ أسْبابٍ، وقَدْ يَأْتِي النَّفْعُ مِن أُخْرى. وبَعْضُ ذَلِكَ جارٍ في (p-٣٢٨)الظّاهِرِ عَلى المُعْتادِ، ومِنهُ ما فِيهِ سِمَةُ خَرْقِ العادَةِ، فَرُبَّما أتَتِ الرَّزايا مِن وُجُوهِ الفَوائِدِ، والمُوَفَّقُ يَتَيَقَّظُ لِلْأماراتِ، قالَ تَعالى: (﴿فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً فَإذا هم مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]) وقالَ: (﴿وما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِن نَبِيٍّ إلّا أخَذْنا أهْلَها بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهم يَضَّرَّعُونَ﴾ [الأعراف: ٩٤] ﴿ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا وقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنا الضَّرّاءُ والسَّرّاءُ فَأخَذْناهم بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٥]) وقالَ: (﴿أوَلا يَرَوْنَ أنَّهم يُفْتَنُونَ في كُلِّ عامٍ مَرَّةً أوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هم يَذَّكَّرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٦]) . وتَصَرُّفاتُ اللَّهِ مُتَشابِهَةٌ، بَعْضُها يَدُلُّ عَلى مُرادِهِ مِنَ النّاسِ، وبَعْضُها جارٍ عَلى ما قَدَّرَهُ مِن نِظامِ العالَمِ، وكُلٌّ قَدْ قَضاهُ وقَدَّرَهُ وسَبَقَ عَلِمُهُ بِهِ ورَبَطَ مُسَبَّباتِهِ بِأسْبابِهِ مُباشَرَةً أوْ بِواسِطَةٍ أوْ وسائِطَ، والمُتَبَصِّرُ يَأْخُذُ بِالحَيْطَةِ لِنَفْسِهِ وقَوْمِهِ، ولا يَقُولُ عَلى اللَّهِ ما يُمْلِيهِ عَلَيْهِ وهْمُهُ ولَمْ تَنْهَضْ دَلائِلُهُ، ويُفَوِّضُ ما أشْكَلَ عَلَيْهِ إلى عِلْمِ اللَّهِ. ولَيْسَ مِثْلُ هَذا المَحْكِيَّ عَنْهم مِن شَأْنِ المُسْلِمِينَ المُهْتَدِينَ بِهَدْيِ النَّبِيءِ ﷺ والمُتَبَصِّرِينَ في مَجارِي التَّصَرُّفاتِ الرَّبّانِيَّةِ. وقَدْ نَجِدُ في بَعْضِ العَوامِّ ومَن يُشْبِهُهم مِنَ الغافِلِينَ بَقايا مِنِ اعْتِقادِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ لِإيجادِ التَّخَيُّلاتِ الَّتِي تُمْلِيها عَلى عُقُولِهِمْ، فالواجِبُ عَلَيْهِمْ أنْ يَتَّعِظُوا بِمَوْعِظَةِ اللَّهِ في هَذِهِ الآيَةِ. لا جَرَمَ أنَّ اللَّهَ قَدْ يُعَجِّلُ جَزاءَ الخَيْرِ لِبَعْضِ الصّالِحِينَ مِن عِبادِهِ كَما قالَ: (﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧]) . وقَدْ يُعَجِّلُ العِقابَ لِمَن يَغْضَبُ عَلَيْهِ مِن عِبادِهِ. وقَدْ حَكى عَنْ نُوحٍ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ: (﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا﴾ [نوح: ١٠] ﴿يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ [نوح: ١١] ﴿ويُمْدِدْكم بِأمْوالٍ وبَنِينَ﴾ [نوح: ١٢]) وقالَ تَعالى: (﴿وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا﴾ [الجن: ١٦]) . ولِهَذِهِ المُعامَلَةِ عَلاماتٌ أظْهَرُها أنْ تَجْرِيَ عَلى خِلافِ المَأْلُوفِ كَما نَرى في نَصْرِ النَّبِيءِ ﷺ والخُلَفاءِ عَلى الأُمَمِ العَظِيمَةِ القاهِرَةِ، وتِلْكَ مَواعِيدُ مِنَ اللَّهِ يُحَقِّقُها أوْ وعِيدٌ مِنهُ يَحِيقُ بِمُسْتَحِقِّيهِ. وحَرْفُ (أمّا) يُفِيدُ تَفْصِيلًا في الغالِبِ، أيْ: يَدُلُّ عَلى تَقابُلٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِن ذَواتٍ وأحْوالٍ. ولِذَلِكَ قَدْ تَكَرَّرَ في الكَلامِ، فَلَيْسَ التَّفْصِيلُ المُسْتَفادُ مِنها بِمَعْنى تَبْيِينِ مُجْمَلٍ قَبْلَها، بَلْ هو تَفْصِيلٌ وتَقابُلٌ وتَوازُنٌ، وهو ضَرْبٌ مِن ضُرُوبِ (p-٣٢٩)التَّفْصِيلِ الَّذِي تَأْتِي لَهُ (أمّا)، فارْتِباطُ التَّفْصِيلِ بِالكَلامِ السّابِقِ مُسْتَفادٌ مِنَ الفاءِ الدّاخِلَةِ عَلى (أمّا)، وإنَّما تَعَلُّقُهُ بِما قَبْلَهُ تَعَلُّقُ المُفَرَّعِ بِمَنشَئِهِ لا تَفْصِيلُ بَيانٍ عَلى مُجْمَلٍ. فالمُفَصَّلُ هُنا أحْوالُ الإنْسانِ الجاهِلِ فُصِّلَتْ إلى حالِهِ في الخَفْضِ والدَّعَةِ، وحالِهِ في الضَّنْكِ والشِّدَّةِ، فالتَّوازُنُ بَيْنَ الحالَيْنِ المُعَبَّرِ عَنْهُما بِالظَّرْفَيْنِ في قَوْلِهِ: (﴿إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ﴾) إلَخْ، وفي قَوْلِهِ: (﴿وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾) إلَخْ. وهَذا التَّفْصِيلُ لَيْسَ مِن قَبِيلِ تَبْيِينِ المُجْمَلِ، ولَكِنَّهُ تَمْيِيزٌ وفَصْلٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أوْ أشْياءَ تَشْتَبِهُ أوْ تَخْتَلِطُ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ (أمّا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٢٦]) الآيَةَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. والِابْتِلاءُ: الِاخْتِبارُ ويَكُونُ بِالخَيْرِ وبِالضُّرِّ؛ لِأنَّ في كِلَيْهِما اخْتِبارًا لِثَباتِ النَّفْسِ وخُلُقِ الأناةِ والصَّبْرِ، قالَ تَعالى: (﴿ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]) وبِذِكْرِ الِابْتِلاءِ ظَهَرَ أنَّ إكْرامَ اللَّهِ إيّاهُ إكْرامُ ابْتِلاءٍ فَيَقَعُ عَلى حالَيْنِ، حالٍ مَرْضِيَّةٍ وحالٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ، وكَذَلِكَ تَقْتِيرُ الرِّزْقِ تَقْتِيرُ ابْتِلاءٍ يَقْتَضِي حالَيْنِ أيْضًا. قالَ تَعالى: (﴿لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ﴾ [النمل: ٤٠]) وقالَ: (﴿ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]) والأشْهَرُ أنَّهُ الِاخْتِبارُ بِالضُّرِّ، وقَدِ اسْتُعْمِلَ في هَذِهِ الآيَةِ في المَعْنَيَيْنِ. والمَعْنى: إذا جَعَلَ رَبُّهُ ما يَنالُهُ مِنَ النِّعْمَةِ أوْ مِنَ التَّقْتِيرِ مَظْهَرًا لِحالِهِ في الشُّكْرِ والكُفْرِ، وفي الصَّبْرِ والجَزَعِ، تَوَهَّمَ أنَّ اللَّهَ أكْرَمَهُ بِذَلِكَ أوْ أهانَهُ بِهَذا. والإكْرامُ: قالَ الرّاغِبُ: ”أنْ يُوصَلَ إلى الإنْسانِ كَرامَةٌ، وهي نَفْعٌ لا تَلْحَقُ فِيهِ غَضاضَةٌ ولا مَذَلَّةٌ، وأنْ يَجْعَلَ ما يُوصَلُ إلَيْهِ شَيْئًا كَرِيمًا، أيْ: شَرِيفًا، قالَ تَعالى: (﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦])، أيْ: جَعَلَهم كِرامًا“ . اهـ. يُرِيدُ أنَّ الإكْرامَ يُطْلَقُ عَلى إعْطاءِ المَكْرُمَةِ ويُطْلَقُ عَلى جَعْلِ الشَّيْءِ كَرِيمًا في صِنْفِهِ فَيَصْدُقُ قَوْلُهُ تَعالى: (فَأكْرَمَهُ) بِأنْ يُصِيبَ الإنْسانَ ما هو نَفْعٌ لا غَضاضَةَ فِيهِ، أوْ بِأنْ جُعِلَ كَرِيمًا سَيِّدًا شَرِيفًا. وقَوْلُهُ: (فَأكْرَمَهُ) مِنَ المَعْنى الأوَّلِ لِلْإكْرامِ، وقَوْلُهُ: (﴿فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ﴾) مِنَ المَعْنى الثّانِي لَهُ في كَلامِ الرّاغِبِ، واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: (ونَعَّمَهُ) صَرِيحٌ في أنَّ اللَّهَ يُنْعِمُ عَلى الكافِرِينَ إيقاظًا لَهم ومُعامَلَةً بِالرَّحْمَةِ، والَّذِي عَلَيْهِ المُحَقِّقُونَ مِنَ (p-٣٣٠)المُتَكَلِّمِينَ أنَّ الكافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ في الدُّنْيا، وهو قَوْلُ الماتْرِيدِيِّ والباقِلّانِيِّ. وهَذا مِمّا اخْتَلَفَ فِيهِ الأشْعَرِيُّ والماتْرِيدِيُّ، والخُلْفُ لَفْظِيٌّ. ومَعْنى (نَعَّمَهُ) جَعَلَهُ في نِعْمَةٍ، أيْ: في طِيبِ عَيْشٍ. ومَعْنى (﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾) أعْطاهُ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ، ومِنهُ التَّقْتِيرُ بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الدّالِ، وكُلُّ ذَلِكَ كِنايَةٌ عَنِ القِلَّةِ ويُقابِلُهُ بَسْطُ الرِّزْقِ، قالَ تَعالى: (﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا في الأرْضِ ولَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ﴾ [الشورى: ٢٧]) . والهاءُ في (رِزْقَهُ) يَجُوزُ أنْ تَعُودَ إلى الإنْسانِ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى المَفْعُولِ، ويَجُوزُ أنْ تَعُودَ إلى (رَبُّهُ) مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى فاعِلِهِ. والإهانَةُ: المُعامَلَةُ بِالهُونِ وهو الذُّلُّ. وإسْنادُ (﴿فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ﴾) و(﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾) إلى الرَّبِّ تَعالى؛ لِأنَّ الكَرامَةَ والنِّعْمَةَ انْساقَتْ إلى الإنْسانِ أوِ انْساقَ لَهُ قَدَرُ الرِّزْقِ بِأسْبابٍ مِن جَعْلِ اللَّهِ وسُنَنِهِ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا بِما يُصادِفُ بَعْضُ الحَوادِثِ بَعْضًا، وأسْبابُ المُقارَنَةِ بَيْنَ حُصُولِ هَذِهِ المَعانِي وبَيْنَ مَن تَقَعُ بِهِ مِنَ النّاسِ في فُرَصِها ومُناسَباتِها. والقَوْلُ مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ وهو التَّكَلُّمُ، وإنَّما يَتَكَلَّمُ الإنْسانُ عَنِ اعْتِقادٍ. فالمَعْنى: فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِي، مُعْتَقِدًا ذَلِكَ، ويَقُولُ: رَبِّي أهانَنِي، مُعْتَقِدًا ذَلِكَ؛ لِأنَّهم لا يَخْلُونَ عَنْ أنْ يَفْتَخِرُوا بِالنِّعْمَةِ، أوْ يَتَذَمَّرُوا مِنَ الضِّيقِ والحاجَةِ، ونَظِيرُ اسْتِعْمالِ القَوْلِ هَذا الِاسْتِعْمالَ ما وقَعَ في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: ٧٥]) أيِ: اعْتَقَدُوا ذَلِكَ فَقالُوهُ واعْتَذَرُوا بِهِ لِأنْفُسِهِمْ بَيْنَ أهْلِ مِلَّتِهِمْ. وتَقْدِيمُ (رَبِّي) عَلى فِعْلِ (أكْرَمَنِي) وفِعْلِ (أهانَنِي)، دُونَ أنْ يَقُولَ: أكْرَمَنِي رَبِّي أوْ أهانَنِي رَبِّي، لِقَصْدِ تَقَوِّي الحُكْمِ، أيْ: يَقُولُ ذَلِكَ جازِمًا بِهِ غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ. وجَمُلَتا (فَيَقُولُ) في المَوْضِعَيْنِ جَوابانِ لِـ (أمّا) الأُولى والثّانِيَةِ، أيْ: يَطَّرِدُ قَوْلُ الإنْسانِ هَذِهِ المَقالَةَ كُلَّما حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وكُلَّما حَصَلَ لَهُ تَقْتِيرُ رِزْقٍ. (p-٣٣١)وأُوثِرَ الفِعْلُ المُضارِعُ في الجَوابَيْنِ لِإفادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ القَوْلِ وتَجَدُّدِهِ كُلَّما حَصَلَ مَضْمُونُ الشَّرْطَيْنِ. وحَرْفُ (كَلّا) زَجْرٌ عَنْ قَوْلِ الإنْسانِ (﴿رَبِّي أكْرَمَنِ﴾) عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ، وقَوْلِهِ: (﴿رَبِّي أهانَنِي﴾) عِنْدَما يَنالُهُ تَقْتِيرٌ، فَهو رَدْعٌ عَنِ اعْتِقادِ ذَلِكَ، فَمَناطُ الرَّدْعِ كِلا القَوْلَيْنِ؛ لِأنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنهُما صادِرٌ عَنْ تَأوُّلٍ باطِلٍ، أيْ: لَيْسَتْ حالَةُ الإنْسانِ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا دَلِيلًا عَلى مَنزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وإنَّما يُعْرَفُ مُرادُ اللَّهِ بِالطُّرُقِ الَّتِي أرْشَدَ اللَّهُ إلَيْها بِواسِطَةِ رُسُلِهِ وشَرائِعِهِ، قالَ تَعالى: (﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا﴾ [الكهف: ١٠٣] ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٤]) إلى قَوْلِهِ: (﴿فَلا نُقِيمُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ وزْنًا﴾ [الكهف: ١٠٥]) في سُورَةِ الكَهْفِ. فَرُبَّ رَجُلٍ في نِعْمَةٍ في الدُّنْيا هو مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ، ورُبَّ أشْعَثَ أغْبَرَ مَطْرُودٍ بِالأبْوابِ لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ. فَمَناطُ الرَّدْعِ جَعْلُ الإنْعامِ عَلامَةً عَلى إرادَةِ اللَّهِ إكْرامَ المُنْعَمِ عَلَيْهِ وجَعْلُ التَّقْتِيرِ عَلامَةً عَلى إرادَةِ الإهانَةِ، ولَيْسَ مَناطُهُ وُقُوعُ الكَرامَةِ ووُقُوعُ الإهانَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ أهانَ الكافِرَ بِعَذابِ الآخِرَةِ، ولَوْ شاءَ إهانَتَهُ في الدُّنْيا لِأجْلِ الكُفْرِ لَأهانَ جَمِيعَ الكَفَرَةِ بِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ. وبِهَذا ظَهَرَ أنْ لا تَنافِيَ بَيْنَ إثْباتِ إكْرامِ اللَّهِ تَعالى الإنْسانَ بِقَوْلِهِ: (فَأكْرَمَهُ) وبَيْنَ إبْطالِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (كَلّا)؛ لِأنَّ الإبْطالَ وارِدٌ عَلى ما قَصَدَهُ الإنْسانُ بِقَوْلِهِ: (﴿رَبِّي أكْرَمَنِ﴾) أنَّ ما نالَهُ مِنَ النِّعْمَةِ عَلامَةٌ عَلى رِضى اللَّهِ عَنْهُ. فالمَعْنى أنَّ لِشَأْنِ اللَّهِ في مُعامَلَتِهِ النّاسَ في هَذا العالَمِ أسْرارًا وعِلَلًا لا يُحاطُ بِها، وأنَّ أهْلَ الجَهالَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ إدْراكِ سِرِّها بِأقْيِسَةٍ وهْمِيَّةٍ، والِاسْتِنادِ لِمَأْلُوفاتٍ عادِيَّةٍ، وأنَّ الأوْلى لَهم أنْ يَتَطَلَّبُوا الحَقائِقَ مِن دَلائِلِها العَقْلِيَّةِ، وأنْ يَعْرِفُوا مُرادَ اللَّهِ مِن وحْيِهِ إلى رُسُلِهِ. وأنْ يَحْذَرُوا مِن أنْ يَحِيدُوا بِالأدِلَّةِ عَنْ مَدْلُولِها، وأنْ يَسْتَنْتِجُوا الفُرُوعَ مِن غَيْرِ أُصُولِها. وأمّا أهْلُ العِلْمِ فَهم يَضَعُونَ الأشْياءَ مَواضِعَها، ويَتَوَسَّمُونَ التَّوَسُّمَ المُسْتَنِدَ إلى الهَدْيِ ولا يَخْلِطُونَ ولا يَخْبِطُونَ. (p-٣٣٢)وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو (رَبِّيَ) في المَوْضِعَيْنِ بِفَتْحِ الياءِ، وقَرَأ الباقُونَ بِسُكُونِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ (فَقَدَرَ عَلَيْهِ) بِتَخْفِيفِ الدّالِ، وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الدّالِ. وقَرَأ نافِعٌ (أكْرَمَنِ، وأهانَنِ) بِياءٍ بَعْدَ النُّونِ في الوَصْلِ وبِحَذْفِها في الوَقْفِ. وقَرَأهُما ابْنُ كَثِيرٍ بِالياءِ في الوَصْلِ والوَقْفِ، وقَرَأهُما ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ بِدُونِ ياءٍ في الوَصْلِ والوَقْفِ، وهو مَرْسُومٌ في المُصْحَفِ بِدُونِ ياءٍ بَعْدَ النُّونَيْنِ، ولا مُنافاةَ بَيْنَ الرِّوايَةِ ورَسْمِ المُصْحَفِ. و(كَلّا) رَدْعٌ عَنْ هَذا القَوْلِ أيْ: لَيْسَ ابْتِلاءُ اللَّهِ الإنْسانَ بِالنَعِيمِ وبِتَقْتِيرِ الرِّزْقِ مُسَبَّبًا عَلى إرادَةِ اللَّهِ تَكْرِيمَ الإنْسانِ ولا عَلى إرادَتِهِ إهانَتَهُ. وهَذا رَدْعٌ مُجْمَلٌ لَمْ يَتَعَرَّضِ القُرْآنُ لِتَبْيِينِهِ اكْتِفاءً بِتَذْيِيلِ أحْوالِ الأُمَمِ الثَّلاثِ في نِعْمَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: (﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ [الفجر: ١٤]) بَعْدَ قَوْلِهِ: (﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ﴾ [الفجر: ١٣]) .


ركن الترجمة

As for man, whenever his Lord tries him and then is gracious and provides good things for him, he says: "My Lord has been gracious to me."

Quant à l'homme, lorsque son Seigneur l'éprouve en l'honorant et en le comblant de bienfaits, il dit: «Mon Seigneur m'a honoré».

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :