ركن التفسير
36 - (فما أوتيتم) خطاب للمؤمنين وغيرهم (من شيء) من أثاث الدنيا (فمتاع الحياة الدنيا) يتمتع به فيها ثم يزول (وما عند الله) من الثواب (خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) ويعطف عليه
يقول تعالى محقرا لشأن الحياة الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى "فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا" أي مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة "وما عند الله خير وأبقى" أي وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باق سرمدي فلا تقدموا الفاني على الباقي ولهذا قال تعالى "للذين آمنوا" أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا "وعلى ربهم يتوكلون" أي ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.
(p-١٠٩)﴿فَما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا وما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وأبْقى لِلَّذِينِ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا﴾ [الشورى: ٢٧] إلى آخِرِها، فَإنَّها اقْتَضَتْ وُجُودَ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ ومَحْرُومٍ، فَذُكِّرُوا بِأنَّ ما أُوتُوهُ مِن رِزْقٍ هو عَرَضٌ زائِلٌ، وأنَّ الخَيْرَ في الثَّوابِ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، مَعَ المُناسَبَةِ لِما سَبَقَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٤] مِن سَلامَةِ النّاسِ مِن كَثِيرٍ مِن أهْوالِ الأسْفارِ البَحْرِيَّةِ فَإنَّ تِلْكَ السَّلامَةَ نِعْمَةٌ مِن نَعَمِ الدُّنْيا، فَفُرِّعَتْ عَلَيْهِ الذِّكْرى بِأنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ نِعْمَةٌ قَصِيرَةُ الزَّمانِ صائِرَةٌ إلى الزَّوالِ فَلا يَجْعَلُها المُوَفَّقُ غايَةَ سَعْيِهِ ولْيَسْعَ لِعَمَلِ الآخِرَةِ الَّذِي يَأْتِي بِالنَّعِيمِ العَظِيمِ الدّائِمِ وهو النَّعِيمُ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ عِنْدَهُ لِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ الصّالِحِينَ. والخِطابُ في قَوْلِهِ أُوتِيتُمْ لِلْمُشْرِكِينَ جَرْيًا عَلى نَسَقِ الخِطابِ السّابِقِ في قَوْلِهِ: ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠] وقَوْلِهِ: ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرْضِ وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ [الشورى: ٣١]، ويَنْسَحِبُ الحُكْمُ عَلى المُؤْمِنِينَ بِلَحْنِ الخِطابِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِجَمِيعِ الأُمَّةِ، فالفاءُ الأُولى لِلتَّفْرِيعِ، و(ما) مَوْصُولَةٌ ضُمِّنَتْ مَعْنى الشُّرَطِ والفاءُ الثّانِيَةُ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ داخِلَةٌ عَلى خَبَرِ (ما) المَوْصُولَةِ لِتَضَمُّنِها مَعْنى الشَّرْطِ وإنَّما لَمْ نَجْعَلْ (ما) شَرْطِيَّةً لِأنَّ المَعْنى عَلى الإخْبارِ لا عَلى التَّعْلِيقِ، وإنَّما تَضْمَنُ مَعْنى الشَّرْطِ وهو مُجَرَّدُ مُلازَمَةِ الخَبَرِ لِمَدْلُولِ اسْمِ المَوْصُولِ كَما تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا في قَوْلِهِ: ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠] في قِراءَةِ غَيْرِ نافِعٍ وابْنِ عامِرٍ. ويَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِلَّذِينِ آمَنُوا خَيْرٌ وأبْقى عَلى وجْهِ التَّنازُعِ، وأُتْبِعَتْ صِلَةُ الَّذِينَ آمَنُوا بِما يَدُلُّ عَلى عَمَلِهِمْ بِإيمانِهِمْ في اعْتِقادِهِ فَعَطَفَ عَلى الصِّلَةِ أنَّهم يَتَوَكَّلُونَ عَلى رَبِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِ. وهَذا التَّوَكُّلُ إفْرادٌ لِلَّهِ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ في كُلِّ ما تَعْجِزُ عَنْهُ قُدْرَةُ العَبْدِ، فَإنَّ التَّوَجُّهَ إلى غَيْرِهِ في ذَلِكَ يُنافِي التَّوْحِيدَ لِأنَّ المُشْرِكِينَ يَتَوَكَّلُونَ عَلى آلِهَتِهِمْ أكْثَرَ مِن تَوَكُّلِهِمْ عَلى اللَّهِ، ولِكَوْنِ هَذا مُتَمَّمًا لِمَعْنى الَّذِينَ آمَنُوا عُطِفَ عَلى الصِّلَةِ ولَمْ يُؤْتَ مَعَهُ بِاسْمٍ مَوْصُولٍ بِخِلافِ ما ورَدَ بَعْدَهُ.