ركن التفسير
58 - (قل) لهم (لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم) بأن أعجله لكم وأستريح ولكنه عند الله (والله أعلم بالظالمين) متى يعاقبهم
وقوله "قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم" أي لو كان مرجع ذلك إلي لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك "والله أعلم بالظالمين" فإن قيل فما الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا وهذا لفظ مسلم فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأنى بهم وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية "قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين" فالجواب والله أعلم أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم.
﴿قُلْ لَوْ أنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وبَيْنَكم واللَّهُ أعْلَمُ بِالظّالِمِينَ﴾ . اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥٧] يُثِيرُ سُؤالًا في نَفْسِ السّامِعِ أنْ يَقُولَ: فَلَوْ كانَ بِيَدِكَ إنْزالُ العَذابِ بِهِمْ ماذا تَصْنَعُ، فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ ﴿لَوْ أنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ الآيَةَ. وإذْ قَدْ كانَ قَوْلُهُ ﴿لَوْ أنَّ عِنْدِي﴾ إلخ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا فالأمْرُ بِأنْ يَقُولَهُ في قُوَّةِ الِاسْتِئْنافِ البَيانِيِّ لِأنَّ الكَلامَ لَمّا بُنِيَ كُلُّهُ عَلى تَلْقِينِ الرَّسُولِ ما يَقُولُهُ لَهم فالسّائِلُ يَتَطَلَّبُ مِنَ المُلَقِّنِ ماذا سَيُلَقَّنُ بِهِ رَسُولُهُ إلَيْهِمْ. ومَعْنى ﴿عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: ٥٧] تَقَدَّمَ آنِفًا، أيْ لَوْ كانَ في عِلْمِي حِكْمَتُهُ وفي قُدْرَتِي فِعْلُهُ. وهَذا كِنايَةٌ عَنْ مَعْنى لَسْتُ إلَهًا ولَكِنَّنِي عَبْدٌ أتَّبِعُ ما يُوحى إلَيَّ. وقَوْلُهُ ﴿لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ جَوابُ (لَوْ) . فَمَعْنى قُضِيَ تَمَّ وانْتَهى. والأمْرُ مُرادٌ بِهِ النِّزاعُ والخِلافُ. فالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وبُنِيَ قُضِيَ الأمْرُ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أنَّ قاضِيَهُ هو مَن بِيَدِهِ ما يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. وتَرْكِيبُ قُضِيَ الأمْرُ شاعَ فَجَرى مَجْرى المَثَلِ، فَحُذِفَ الفاعِلُ لِيَصْلُحَ التَّمَثُّلُ بِهِ في كُلِّ مَقامٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ ﴿قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ﴾ [يوسف: ٤١] وقَوْلُهُ ﴿ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: ٢١] وقَوْلُهُ ﴿وأنْذِرْهم يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ﴾ [مريم: ٣٩]؛ ولِذَلِكَ إذا جاءَ في غَيْرِ طَرِيقَةِ المَثَلِ يُصَرَّحُ بِفاعِلِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَضَيْنا إلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ﴾ [الحجر: ٦٦] . وذَلِكَ القَضاءُ يَحْتَمِلُ أُمُورًا: مِنها أنْ يَأْتِيَهم بِالآيَةِ المُقْتَرَحَةِ فَيُؤْمِنُوا، أوْ أنْ يَغْضَبَ فَيُهْلِكَهم، أوْ أنْ يَصْرِفَ قُلُوبَهم عَنْ طَلَبِ ما لا يُجِيبُهم إلَيْهِ فَيَتُوبُوا ويَرْجِعُوا. (p-٢٧٠)وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِالظّالِمِينَ﴾ تَذْيِيلٌ، أيِ اللَّهُ أعْلَمُ مِنِّي ومِن كُلِّ أحَدٍ بِحِكْمَةِ تَأْخِيرِ العَذابِ وبِوَقْتِ نُزُولِهِ، لِأنَّهُ العَلِيمُ الخَبِيرُ الَّذِي عِنْدَهُ ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. والتَّعْبِيرُ بِالظّالِمِينَ إظْهارٌ في مَقامِ ضَمِيرِ الخِطابِ لِإشْعارِهِمْ بِأنَّهم ظالِمُونَ في شِرْكِهِمْ إذِ اعْتَدَوْا عَلى حَقِّ اللَّهِ، وظالِمُونَ في تَكْذِيبِهِمْ إذِ اعْتَدَوْا عَلى حَقِّ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وظالِمُونَ في مُعامَلَتِهِمُ الرَّسُولَ ﷺ .