ركن التفسير
9 - اذكر (يوم يجمعكم ليوم الجمع) يوم القيامة (ذلك يوم التغابن) يغبن المؤمنون الكافرين بأخذ منازلهم وأهليهم في الجنة لو آمنوا (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله) وفي قراءة بالنون في الفعلين (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)
وقوله تعالى "يوم يجمعكم ليوم الجمع" وهو يوم القيامة سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر كما قال تعالى "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود" وقال تعالى "قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم" وقوله تعالى ذلك يوم "التغابن" قال ابن عباس هو أسم من أسماء يوم القيامة وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار وكذا قال قتادة ومجاهد وقال مقاتل بن حيان لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة ويذهب بأولئك إلى النار.
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكم لِيَوْمِ الجَمْعِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ ﴿لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ﴾ [التغابن: ٧] الَّذِي هو كِنايَةٌ عَنْ (تُجازَوْنَ) عَلى تَكْذِيبِكم بِالبَعْثِ فَيَكُونُ مِن تَمامِ ما أُمِرَ النَّبِيءُ ﷺ بِأنْ يَقُولَهُ لَهُمُ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ بَلى ورَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن: ٧] . والضَّمِيرُ المُسْتَتِرُ في (﴿يَجْمَعُكُمْ﴾) عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [التغابن: ٨] . ومَعْنى (﴿يَجْمَعُكُمْ﴾) يَجْمَعُ المُخاطَبِينَ والأُمَمَ مِنَ النّاسِ كُلِّهِمْ، قالَ تَعالى ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْناكم والأوَّلِينَ﴾ [المرسلات: ٣٨] . ويَجُوزُ أنْ يُرادَ الجَمْعُ الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ ألَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ﴾ [القيامة: ٣]، وهَذا زِيادَةُ تَحْقِيقٍ لِلْبَعْثِ الَّذِي أنْكَرُوهُ. واللّامُ في ﴿لِيَوْمِ الجَمْعِ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، أيْ يَجْمَعُكم لِأجْلِ اليَوْمِ المَعْرُوفِ بِالجَمْعِ المَخْصُوصِ. وهو الَّذِي لِأجْلِ جَمْعِ النّاسِ، أيْ يَبْعَثُكم لِأجْلِ أنْ يَجْمَعَ النّاسَ كُلَّهم لِلْحِسابِ، فَمَعْنى الجَمْعِ هَذا غَيْرُ مَعْنى الَّذِي في ﴿يَجْمَعُكُمْ﴾ . فَلَيْسَ هَذا مِن تَعْلِيلِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ بَلْ هو مِن قَبِيلِ التَّجْنِيسِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللّامُ بِمَعْنى (في) عَلى نَحْوِ ما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلّا هُوَ﴾ [الأعراف: ١٨٧]، وقَوْلِهِ ﴿يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ [الفجر: ٢٤] وقَوْلِ العَرَبِ: مَضى لِسَبِيلِهِ، أيْ في طَرِيقِهِ وهو طَرِيقُ المَوْتِ. والأحْسَنُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ اللّامُ لِلتَّوْقِيتِ، وهي الَّتِي بِمَعْنى (عِنْدَ) كالَّتِي في قَوْلِهِمْ: كُتِبَ لِكَذا مَضَيْنَ مَثَلًا، وقَوْلِهِ تَعالى ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: ٧٨] . (p-٢٧٥)وهُوَ اسْتِعْمالٌ يَدُلُّ عَلى شِدَّةِ الِاقْتِرابِ ولِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِمَعْنى (عِنْدَ)، ويُفِيدُ هُنا: أنَّهم مَجْمُوعُونَ في الأجَلِ المُعَيَّنِ دُونَ تَأْخِيرٍ رَدًّا عَلى قَوْلِهِمْ ﴿لَنْ يُبْعَثُوا﴾ [التغابن: ٧]، فَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ ﴿لِيَوْمِ الجَمْعِ﴾ بِفِعْلِ (﴿يَجْمَعُكُمْ﴾) . فِ (﴿يَوْمَ الجَمْعِ﴾ [الشورى: ٧]) هو يَوْمُ الحَشْرِ. وفي الحَدِيثِ («يَجْمَعُ اللَّهُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ» ) إلَخْ. جُعِلَ هَذا المُرَكَّبُ الإضافِيُّ لَقَبًا لِيَوْمِ الحَشْرِ، قالَ تَعالى ﴿وتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾ [الشورى: ٧] . وقَرَأ الجُمْهُورُ (﴿يَجْمَعُكُمْ﴾) بِياءِ الغائِبِ. وقَرَأ يَعْقُوبُ بِنُونِ العَظَمَةِ. * * * ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ (﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ﴾ [التغابن: ٧]) بِمُتَعَلِّقِها وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿ومَن يُؤْمِن بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صالِحًا نُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ﴾ اعْتِراضًا يُفِيدُ تَهْوِيلَ هَذا اليَوْمَ تَعْرِيضًا بِوَعِيدِ المُشْرِكِينَ بِالخَسارَةِ في ذَلِكَ اليَوْمِ: أيْ بِسُوءِ المُنْقَلَبِ. والإتْيانُ بِاسْمِ الإشارَةِ في مَقامِ الضَّمِيرِ لِقَصْدِ الِاهْتِمامِ بِتَمْيِيزِهِ أكْمَلَ تَمْيِيزٍ مَعَ ما يُفِيدُ اسْمُ إشارَةِ البَعِيدِ مِن عُلُوِّ المَرْتَبَةِ عَلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والتَّغابُنُ: مَصْدَرُ غابَنَهُ مِن بابِ المُفاعَلَةِ الدّالَّةِ عَلى حُصُولِ الفِعْلِ مِن جانِبَيْنِ أوْ أكْثَرَ. وحَقِيقَةُ صِيغَةِ المُفاعَلَةِ أنْ تَدُلَّ عَلى حُصُولِ الفِعْلِ الواحِدِ مِن فاعِلَيْنِ فَأكْثَرَ عَلى وجْهِ المُشارَكَةِ في ذَلِكَ الفِعْلِ. والغَبْنُ أنْ يُعْطى البائِعُ ثَمَنًا دُونَ حَقِّ قِيمَتِهِ الَّتِي يُعَوِّضُ بِها مِثْلَهُ. فالغَبْنُ يَئُولُ إلى خَسارَةِ البائِعِ في بَيْعِهِ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ الغَبْنُ عَلى مُطْلَقِ الخُسْرانِ مَجازًا مُرْسَلًا كَما في قَوْلِ الأعْشى: ؎لا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ في حُكْمِهِ ولا يُبالِي غَبْنَ الخاسِرِ (p-٢٧٦)فَلَيْسَتْ مادَّةُ التَّغابُنِ في قَوْلِهِ ﴿يَوْمُ التَّغابُنِ﴾ مُسْتَعْمَلَةً في حَقِيقَتِها إذْ لا تَعارُضَ حَتّى يَكُونَ فِيهِ غِبْنٌ بَلْ هو مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الخُسْرانِ عَلى وجْهِ المَجازِ المُرْسَلِ. وأمّا صِيغَةُ التَّفاعُلِ فَحَمَلَها جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ عَلى حَقِيقَتِها مِن حُصُولِ الفِعْلِ مِن جانِبَيْنِ فَفَسَّرُوها بِأنَّ أهْلَ الجَنَّةِ غَبَنُوا أهْلَ النّارِ إذْ أهْلُ الجَنَّةِ أخَذُوا الجَنَّةَ وأهْلُ جَهَنَّمَ أخَذُوا جَهَنَّمَ قالَهُ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ والحَسَنُ. فَحَمَلَ القُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُ كَلامَ هَؤُلاءِ الأيِّمَةِ عَلى أنَّ التَّغابُنَ تَمْثِيلٌ لِحالِ الفَرِيقَيْنِ بِحالِ مُتَبايِعَيْنِ أخَذَ أحَدُهُما الثَّمَنَ الوافِي، وأخَذَ الآخَرُ الثَّمَنَ المَغْبُونَ، يَعْنِي وقَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿ومَن يُؤْمِن بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صالِحًا نُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ﴾، إلى قَوْلِهِ ﴿وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ [التحريم: ٩] قَرِينَةٌ عَلى المُرادِ مِنَ الجانِبَيْنِ وعَلى كِلا المَعْنَيَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ ﴿ومَن يُؤْمِن بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صالِحًا﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ تَفْصِيلًا لِلْفَرِيقَيْنِ، فَيَكُونُ في الآيَةِ مَجازٌ وتَشْبِيهٌ وتَمْثِيلٌ، فالمَجازُ في مادَّةِ الغَبْنِ، والتَّمْثِيلُ في صِيغَةِ التَّغابُنِ، وهو تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ بِمَنزِلَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ إذِ التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ يَوْمٌ مِثْلُ التَّغابُنِ. وحَمَلَ قَلِيلٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ (وهو ما فُسِّرَ إلَيْهِ كَلامُ الرّاغِبِ في مُفْرَداتِهِ وصَرَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ) صِيغَةَ التَّفاعُلِ عَلى مَعْنى الكَثْرَةِ وشَدَّةِ الفِعْلِ كَما في قَوْلِنا عافاكَ اللَّهُ وتَبارَكَ اللَّهُ فَتَكُونُ اسْتِعارَةً، أيْ خَسارَةٌ لِلْكافِرِينَ إذْ هم مَناطُ الإنْذارِ. وهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الصف: ١٠] الآيَةُ في سُورَةِ الصَّفِّ. فَصِيغَةُ التَّفاعُلِ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجازًا في كَثْرَةِ حُصُولِ الغَبْنِ لِلْكَثْرَةِ بِفِعْلِ مَن يَحْصُلُ مِن مُتَعَدِّدٍ. والكَلامُ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِسُوءِ حالَتِهِمْ في يَوْمِ الجَمْعِ، إذِ المَعْنى: ذَلِكَ يَوْمُ غَبْنِكُمُ الكَثِيرِ الشَّدِيدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ والنُّورِ الَّذِي أنْزَلْنا﴾ [التغابن: ٨] . والغابِنُ لَهم هو اللَّهُ تَعالى. ولَوْلا قَصْدُ ذَلِكَ لَما اقْتَصَرَ عَلى أنَّ ذَلِكَ يَوْمُ تَغابُنٍ فَإنَّ فِيهِ رِبْحًا عَظِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ (p-٢٧٧)بِاللهِ ورَسُولِهِ والقُرْآنِ، فَوِزانُ هَذا القَصْرِ وِزانُ قَوْلِهِ (﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦]) وقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: «إنَّما المُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ القِيامَةِ» . وأفادَ تَعْرِيفُ جُزْأيْ جُمْلَةِ ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ﴾ قَصْرَ المُسْنَدِ إلَيْهِ أيْ قَصْرَ جِنْسِ يَوْمِ التَّغابُنِ عَلى يَوْمِ الجُمُعَةِ المُشارِ إلَيْهِ بِاسْمِ الإشارَةِ، وهو مِن قَبِيلِ قَصْرِ الصِّفَةِ عَلى المَوْصُوفِ قَصْرًا ادِّعائِيًّا، أيْ ذَلِكَ يَوْمُ الغَبْنِ لا أيّامُ أسْواقِكم ولا غَيْرُها، فَإنَّ عَدَمَ أهَمِّيَّةِ غَبْنِ النّاسِ في الدُّنْيا جَعَلَ غَبْنَ الدُّنْيا كالعَدَمِ وجَعَلَ يَوْمَ القِيامَةِ مُنْحَصِرًا فِيهِ جِنْسُ الغَبْنِ. وأمّا لامُ التَّعْرِيفِ في قَوْلِهِ ﴿التَّغابُنِ﴾ فَهي لامُ الجِنْسِ، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى ﴿قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [الزمر: ١٥] . وقَوْلُهُ في ضِدِّهِ ﴿يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر: ٢٩] . هَذا هو المُتَعَيَّنُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ مَرَّ بِها مَرًّا. ولَمْ يَحْتَلِبْ مِنها دَرًّا. وها أنا ذا كَدَدْتُ ثِمادِي، فَعَسى أنْ يَقَعَ لِلنّاظِرِ كَوَقْعِ القَراحِ مِنَ الصّادِي، واللَّهُ الهادِي. * * * ﴿ومَن يُؤْمِن بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صالِحًا نُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ونُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ خالِدِينَ فِيها وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ . مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ( ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [التغابن: ٨] وهو تَفْصِيلٌ لِما أُجْمِلَ في قَوْلِهِ ( ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [التغابن: ٨] الَّذِي هو تَذْيِيلٌ. و(مَن) شَرْطِيَّةٌ والفِعْلُ بَعْدَها مُسْتَقْبَلٌ، أيْ مَن يُؤْمِن مِنَ المُشْرِكِينَ بَعْدَ هَذِهِ المَوْعِظَةِ نُكَفِّرْ عَنْهُ ما فَرَّطَ مِن سَيِّئاتِهِ. والمُرادُ بِالسَّيِّئاتِ: الكُفْرُ وما سَبَقَهُ مِنَ الأعْمالِ الفاسِدَةِ. وتَكْفِيرُ السَّيِّئاتِ: العَفْوُ عَنِ المُؤاخَذَةِ بِها وهو مَصْدَرُ كَفَّرَ مُبالِغَةً في كَفَرَ. (p-٢٧٨)وغَلَبَ اسْتِعْمالُهُ في العَفْوِ عَمّا سَلَفَ مِنَ السَّيِّئاتِ وأصِلُهُ: اسْتِعارَةُ السَّتْرِ لِلْإزالَةِ مِثْلَ الغُفْرانِ أيْضًا. وانْتَصَبَ (صالِحًا) عَلى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ وهو مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَمَلًا صالِحًا. وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ نُكَفِّرْ و(نُدْخِلْهُ) بِنُونِ العَظَمَةِ عَلى الِالتِفاتِ مِنَ الغَيْبَةِ إلى التَّكَلُّمِ لِأنَّ مَقامَ الوَعْدِ مَقامُ إقْبالٍ فَناسَبَهُ ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ. وقَرَأهُما الباقُونَ بِياءِ الغَيْبَةِ عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ لِأنَّ ضَمِيرَ الجَلالَةِ يُؤْذِنُ بِعِنايَةِ اللَّهِ بِهَذا الفَرِيقِ. وجُمْلَةُ (﴿ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾) تَذْيِيلٌ. وقَوْلُهُ (﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا﴾)، أيْ كَفَرُوا وكَذَّبُوا مِن قَبْلُ واسْتَمَرُّوا عَلى كُفْرِهِمْ وتَكْذِيبِهِمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ ثَبَتَ لَهم أنَّهم أصْحابُ النّارِ. ولِذَلِكَ جِيءَ في جانِبِ الخَبَرِ عَنْهم بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى الثَّباتِ لِعَراقَتِهِمْ في الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ. وجِيءَ لَهم بِاسْمِ الإشارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ تَمْيِيزًا لا يَلْتَبِسُ مَعَهُ غَيْرُهم بِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] مَعَ ما يُفِيدُهُ اسْمُ الإشارَةِ مِن أنَّ اسْتِحْقاقَهم لِمُلازَمَةِ النّارِ ناشِئٌ عَنِ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ بِآياتِ اللَّهِ وهَذا وعِيدٌ. وجُمْلَةُ (وبِئْسَ المَصِيرُ) اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ لِزِيادَةِ تَهْوِيلِ الوَعِيدِ.