موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
السبت 2 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل11 ماي 2024


الآية [101] من سورة  

وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ اُ۬لشَّيَٰطِينُ عَلَيٰ مُلْكِ سُلَيْمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَٰنُ وَلَٰكِنَّ اَ۬لشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ اَ۬لنَّاسَ اَ۬لسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَي اَ۬لْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَۖ وَمَا يُعَلِّمَٰنِ مِنَ اَحَدٍ حَتَّيٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٞ فَلَا تَكْفُرْۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيْنَ اَ۬لْمَرْءِ وَزَوْجِهِۦۖ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنَ اَحَدٍ اِلَّا بِإِذْنِ اِ۬للَّهِۖ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْۖ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اِ۪شْتَر۪يٰهُ مَا لَهُۥ فِے اِ۬لَاخِرَةِ مِنْ خَلَٰقٖۖ وَلَبِيسَ مَا شَرَوْاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَۖ


ركن التفسير

102 - (واتبعوا) عطف على نبذ (ما تتلوا) أي تلت (الشياطين على) عهد (مُلْك سليمان) من السحر وكانت دفنتْه تحت كرسيه لما نزع ملكه أو كانت تسترق السمع وتضم إليه أكاذيب وتلقيه إلى الكهنة فيدوِّنونه وفشا ذلك وشاع أن الجن تعلم الغيب فجمع سليمان الكتب ودفنها فلما مات دلت الشياطين عليها الناس فاستخرجوها فوجدوا فيها السحر فقالوا إنما ملككم بهذا فتعلموه فرفضوا كتب أنبيائهم. قال تعالى تبرئة لسليمان وردَّاً على اليهود في قولهم انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً : (وما كفر سليمان) أي لم يعمل السحر لأنه كفر (ولكنَّ) بالتشديد والتخفيف (الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) الجملة حال من ضمير كفروا (و) يعلمونهم (ما أنزل على المَلَكين) أي ألهماه من السحر وقرئ بكسر اللام الكائنين (ببابل) بلد في سواد العراق (هاروت وماروت) بدل أو عطف بيان للملكين ، قال ابن عباس : هما ساحران كانا يعلمان السحر وقيل ملكان أنزلا لتعليمه ابتلاء من الله للناس (وما يعلمان من) زائدة (أحد حتى يقولا) له نصحاً (إنما نحن فتنة) بلية من الله إلى الناس ليمتحنهم بتعليمه فمن تعلمه كفر ومن تركه فهو مؤمن (فلا تكفر) بتعلمه فإن أبى إلا التعلم علماه (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) بأن يبغض كلا إلى الآخر (وما هم) أي السحرة (بضارِّين به) بالسحر (من) زائدة (أحد إلا بإذن الله) بإرادته (ويتعلمون ما يضرهم) في الآخرة (ولا ينفعهم) وهو السحر (ولقد) لام قسم (علموا) أي اليهود (لمن) لام ابتداء معلقة لما قبلها ومن موصولة (اشتراه) اختاره أو استبدله بكتاب الله (ما له في الآخرة من خلاق) نصيب في الجنة (ولبئس ما) شيئا (شروا) باعوا (به أنفسهم) أي الشارين : أي حظها من الآخرة إن تعلموه حيث أوجب لهم النار (لو كانوا يعلمون) حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلموه

قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين" الآية وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين كما كان وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه وتوفي سليمان عليه السلام حدثان ذلك فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان وقالوا هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينا فأنزل الله تعالى "ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم" الآية واتبعوا الشهوات التي كانت تتلو الشياطين وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الأسم الأعظم وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال: فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماء الناس فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلمة بن جنادة السوائي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة وهي امرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال هاتي خاتمي فأخذه ولبسه فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال فجاءها سليمان فقال لها هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان قال فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال فانطلقت الشياطين فتكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها وقرؤبوها على الناس وقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب قال: فبرئ الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فأنزل عليه "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن حصين بن عبدالرحمن عن عمران وهو ابن الحرث قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له من أين جئت قال من العراق قال من أيه؟ قال من الكوفة قال فما الخبر؟ قال تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم ففزع ثم قال ما تقول لا أبا لك؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه أما إني سأحدثكم عن ذلك إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها فإذا جرت منه وصدق كذب معها سبعين كذبة قال فتشربها قلوب الناس قال فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام فدفنها تحت كرسيه فلما توفي سليمان عليه السلام قام شيطان الطريق فقال هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه فقال هذا سحر فتناسخا الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق فأنزل الله عز وجل "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" الآية وروى الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبدالسلام عن إسحق بن إبراهيم عن جرير به وقال السدي في قوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" أي على عهد سليمان قال كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون فى الأرض من موت أو غيب أو أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق وقال لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان وخلف من بعد ذلك خلف تمثل الشيطان في صورة إنسان ثم أتى نفرا من بني إسرائيل فقال لهم هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا قالوا نعم قال فاحفروا تحت الكرسي فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته فقالوا له: فادن فقال لا ولكنني ههنا في أيديكم فإن لم تجدوه فاقتلوني فحفروا فوجدوا تلك الكتب: فلما أخرجوها قال الشيطان إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وقال الربيع بن أنس إن اليهود سألوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - زمانا عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه فأنزل الله عز وجل "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر" وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان وكان عليه السلام لا يعلم الغيب فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسده الناس عليه فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد خرجوا وقد أدحض الله حجتهم. وقال مجاهد فى قوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" قال كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته للناس وهو السحر وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا نعم قالوا فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستثار به الإنس واستخرجوه وعملوا به فقال أهل الحجاز كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر فأنزل الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" وقال محمد بن إسحق بن يسار: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام فكتبوا أصناف السحر من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا فلما عثروا عليه قالوا والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله فلما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عد من المرسلين قال من كان بالمدينة من اليهود ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا. وأنزل الله في ذلك من قولهم "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" الآية وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا حسين بن حجاج عن أبي بكر عن شهر بن حوشب قال لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان فكتبت من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنته تحت كرسيه فلما مات سليمان عليه السلام قام إبليس لعنه الله خطيبا فقال يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا إنما كان ساحرا فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا هذا سحره بهذا تعبدنا وبهذا قهرنا فقال المؤمنون بل كان نبيا مؤمنا. فلما بعث الله النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - وذكر داود وسليمان فقالت اليهود انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحرا يركب الريح فأنزل الله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان" الآية وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني: حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت عمران بن جرير عن أبي مجلز قال أخذ سليمان عليه السلام من كل دابة عهدا فإذا أصيب رجل فسأله بذلك العهد خلى عنه فزاد الناس السجع والسحر فقالوا هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما السلام فقال الله تعالى "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المسعودي عن زياد مولى ابن مصعب عن الحسن "واتبعوا ما تتلو الشياطين" قال ثلث الشعر وثلث السحر وثلث الكهانة وقال حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن بشار الواسطي حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" وتبعته اليهود على ملكه وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفهم والله الهادي. وقوله تعالى "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان عداه بعلى لأنه تضمن تتلو تكذب وقال ابن جرير "على" ههنا بمعنى في أن تتلو في ملك سليمان ونقله عن ابن جريج وابن إسحق " قلت "والتضمن أحسن وأولى والله أعلم. وقول الحسن البصري رحمه الله وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود - صحيح لا شك فيه لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى "ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى" الآية ثم ذكر القصة بعدها وفيها "وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة" وقال قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام لنبيهم صالح إنما "أنت من المسحرين" أي المسحورين على المشهور قوله تعالى "وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" اختلف الناس في هذا المقام فذهب بعضهم إلى أن "ما" نافية أعني التي في قوله "وما أنزل على الملكين" قال القرطبي ما نافية ومعطوف في قوله "وما كفر سليمان" ثم قال "ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين" وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله وجعل قوله "هاروت وماروت" بدلا من الشياطين قال وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى "فإن كان له إخوة" أو لكونهما لهما أتباع أو ذكرا من بينهم لتمردهما تقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. ثم قال وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله "وما أنزل على الملكين ببابل" الآية يقول لم ينزل الله السحر وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله "وما أنزل على الملكين" قال: ما أنزل الله عليهما السحر. قال ابن جرير فتأويل الآية على هذا "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فيكون قوله "ببابل هاروت وماروت" من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل كيف وجه تقديم ذلك قيل وجه تقديمه أن يقال "واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان" من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل وهاروت وماروت فيكون معني بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر وأخبرهم أن السحر عن عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردا عليهم. هذا لفظه بحروفه وقد قال ابن أبي حاتم حدثت عن عبيد الله بن موسى أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية "وما أنزل على الملكين" قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر قال ابن أبي حاتم وأخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا يعلى يعني ابن أسد أخبرنا بكر يعني ابن مصعب أخبرنا الحسن بن أبي جعفر أن عبدالرحمن بن أبزى كان يقرؤها "وما أنزل على الملكين داود وسليمان" وقال أبو العالية لم ينزل عليهما السحر يقول علما الإيمان والكفر فالسحر من الكفر فهما ينهيان عنه أشد النهي رواه ابن أبي حاتم ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول وأن ما بمعنى الذي وأطال القول في ذلك وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختبارا لعباده وامتحانا بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به وهذا الذي سلكه غريب جدا وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم وروى ابن أبي حزم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها "وما أنزل على الملِكين" ويقول هما علجان من أهل بابل ووجه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الإيحاء في قوله تعالى "وما أنزل على الملكين" كما قال تعالى "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" "وينزل لكم من السماء رزقا" وفي الحديث "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء" وكما يقال "أنزل الله الخير والشر" وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرءوا "وما أنزل على الملِكين" بكسر اللام قال ابن أبزى وهما داود وسليمان قال القرطبي فعلى هذا تكون ما نافية أيضا وذهب آخرون إلى الوقف على قوله "يعلمون الناس السحر" وما نافية: قال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله "يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت" فقال الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت ثم روي عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة لا أبالي أي ذلك كان إني آمنت به وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده إن شاء الله وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا فيكون تخصيصا لهما فلا تعارض حينئذ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق وفي قول إنه كان من الملائكة: لقوله تعالى "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى" إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى. وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي. "ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه" قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده أخبرنا يحيى بن بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة أي رب "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله تعالى للملائكة هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان قالوا ربنا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك فقالا والله لا نشرك بالله شيئا أبدا فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تقتلا هذا الصبي فقالا لا والله لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تشربا هذا الخمر فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن عن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير - به وهذا حديث غريب من هذا الوجه ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء وروي عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبدالله بن كعب بن مالك وروى عنه ابنه عبدالسلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبدالله بن لهيعة وعمرو بن الحرث ويحيى بن أيوب وروى له أبو داود وابن ماجه وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك شيئا من هذا ولا هذا فهو مستور الحال وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي له متابع من وجه آخر عن نافع كما قال ابن مردويه حدثنا دملج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبدالله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فذكره بطوله وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله حدثنا القاسم أخبرنا الحسين وهو سنيد بن داود صاحب التفسير أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال سافرت مع ابن عمر فلما كان من آخر الليل قال يا نافع انظر طلعت الحمراء؟ قلت لا مرتين أو ثلاثا ثم قلت قد طلعت قال لا مرحبا بها ولا أهلا قلت سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب قال إني ابتليتهم وعافيتكم قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك قال فاختاروا ملكين منكم قال فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت" وهذان أيضا غريبان جدا. وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبدالله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال عبدالرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب فقيل لهم اختاروا منكم اثنين فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول انزلا لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر قال كعب فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه رواه ابن جرير من طريقين عن عبدالرزاق به ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به ورواه ابن جرير أيضا حدثني المثنى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عبدالعزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبدالله يحدث عن كعب الأحبار فذكره فهذا أصح وأثبت إلى عبدالله بن عمر من الإسنادين المتقدمين وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع فدار الحديث ورجع إلى نقل الأحبار عن كتب بني إسرائيل والله أعلم. " ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين" قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد قال: سمعت عليا - رضي الله عنه - يقول كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء فمسخت كوكبا - وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جدا - وقال ابن أبي حاتم أخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن أبي خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال هما ملكان من ملائكة السماء يعني "وما أنزل على الملكين" ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعا وهذا لا يثبت من هذا الوجه. ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت" وهذا أيضا لا يصح وهو منكر جدا والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعا لما كثر بنو آدم وعصوا دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال: ربنا لا تمهلهم فأوحى الله إلى الملائكة إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم ولو نزلتم لفعلتم أيضا. قال فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت قال فوقعا بالخطيئة فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا عبدالله بن جعفر الرقي أخبرنا عبدالله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد قال كنت نازلا على عبدالله بن عمر في سفر فلما كان ذات ليلة قال لغلامه انظر هل طلعت الحمراء لا مرحبا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين قالت الملائكة يا رب كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض. قال إني ابتليتهم فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون قالوا لا قال: فاختاروا من خياركم اثنين فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا فأهبطا إلى الأرض وألقى عليهما الشهوة وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله قالا: وما دينك قالت المجوسية قالا: الشرك هذا شيء لا نقربه فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى. ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت ما شئتما غير أن لي زوجا وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ثم صعدا بها إلى السماء فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا: لو أتينا فلانا فسألناه فطلب لنا التوبة فأتياه فقال: رحمكما الله كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء قالا: إنا قد ابتلينا قال ائتياني يوم الجمعة فأتياه فقال: ما أجبت فيكما بشيء ائتياني في الجمعة الثانية فأتياه فقال: اختارا فقد خيرتما إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله فقال أحدهما إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل. وقال الآخر ويحك إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال إننا يوم القيامة على حكم الله فأخاف أن يعذبنا قال لا: إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة أن لا يجمعهما علينا قال: فاختارا عذاب الدنيا فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليهما سافلهما - وهذا إسناد جيد إلى عبدالله بن عمر- وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه وهذا أثبت وأصح إسنادا ثم هو والله أعلم من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه وقوله إن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء وكذا فى المروي عن علي فيه غرابة جدا. وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم أخبرنا عصام بن رواد أخبرنا آدم أخبرنا أبو جعفر حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله قالت الملائكة في السماء يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام والزنا والسرقة وشرب الخمر فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم فقيل إنهم في غيب فلم يعذروهم فقيل لهم اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئا ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمن إدريس عليه السلام وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها فسألاها عن دينها فأخرجت لهما صنما فقالت: هذا أعبده فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا فذهبا فعبرا ما شاء الله ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ففعلت مثل ذلك فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم. قالت: لهما اختارا أحد الخلال الثلاث إما أن تعبدا هذا الصنم وإما أن تقتلا هذه النفس وأما أن تشربا هذه الخمر فقالا: كلا هذا لا ينبغي وأهون هذا شرب الخمر فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبين ذلك وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض فنزل في ذلك "والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض" فقيل لهما اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما يعذبان. وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبدالسلام عن إسحق بن راهويه عن حكام بن سلم الرازي وكان ثقة عن أبي جعفر الرازي به: ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا سلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي فقالوا: يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي فقال الله أنتم معي وهم في غيب عني فقيل لهم اختاروا منكم ثلاثة فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض جعل فيهم شهوة الآدميين فأمروا أن لا يشربوا خمرا ولا يقتلوا نفسا ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثن فاستقال منهم واحد فأقيل فأهبط اثنان إلى الأرض فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها مناهية فهوياها جميعا ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها فقالت: لهما لا حتى تشربا خمري وتقتلا ابن جاري وتسجدا لوثني فقالا: لا نسجد ثم شربا من الخمر ثم قتلا ثم سجدا فأشرف أهل السماء عليهما وقالت: لهما أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما فأخبراها فطارت فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض وهذا السياق فيه زيادة كثيرة وإغراب ونكارة والله أعلم بالصواب. وقال عبدالرزاق: قال معمر قال قتادة والزهري عن عبيد الله بن عبدالله "وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت" كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. وقال معمر: قال قتادة فكانا يعلمان الناس السحر فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وقال أسباط عن السدي أنه قال كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم فقيل لهما إني أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني قال: هاروت وماروت: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل فقال: لهما انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس فنزلا ببابل ديناوند فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية الزهرة وبالنبطية بيدخت وبالفارسية أناهيد. فقال أحدهما لصاحبه إنها لتعجبني قال الآخر قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك. فقال الآخر هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال نعم ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر إنا لنرجو رحمة الله فلما جاءت تخاصم زوجها ذكر إليها نفسها فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي فقضيا لها على زوجها ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها فأتياها لذلك فلما أراد الذي يواقعها قالت ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء وبأي كلام تنزلان منها فأخبراها فتكلمت فصعدت فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مكانها وجعلها الله كوكبا فكان عبدالله بن عمر كلما رآها لعنها وقال هذه التي فتنت هاروت وماروت فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فعلقا ببابل وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض فاختاروا فلم يألوا هاروت وماروت فقال لهما حين أنزلهما أعجبتم من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء. وإنكما ليس بيني وبينكما رسول فافعلا كذا وكذا ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمور ونهاهما ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما فحكما فعدلا فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة منزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم فقضيا عليها فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه فقال أحدهما لصاحبه وجدت مثل الذي وجدت؟ قال نعم فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك فلما رجعت قالا وقضيا لها فأتتهما فكشفا لها عن عورتيهما وإنما كانت سوآتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها فلما بلغا ذلك واستحلا افتتنا فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه فقالا ادع لنا ربك فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء فوعدهما يوما وغدا يدعو لهما فدعا لهما فاستجيب له فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد وفي الدنيا تسع مرات مثلها؟ فأمرا أن ينزلا ببابل فثم عذابهما وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما. وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال. وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه قال: الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: قدمت على امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته حداثة ذلك تسأله أشياء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به وقالت: عائشة رضي الله عنها لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشفيها فكانت تبكي حتى إني لأرحمها وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت: كان لي زوح فغاب عني فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن شيء حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا ما جاء بك؟ قلت: نتعلم السحر فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي فأبيت وقلت: لا قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما قالا: أفعلت؟ فقلت: نعم فقالا: هل رأيت شيئا؟ فقلت: لم أر شيئا فقالا. لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت فاقشعررت وخفت ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا فقالا: كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فأرببت وأبيت فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه فجئتهما فقلت: قد فعلت فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسا مقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه فقالا: صدقت ذلك إيمانك خرج منك. اذهبي فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا فقالت: بلى لم تريدي شيئا إلا كان خذي هذا القمح فابذري فبذرت وقلت: اطلعي فاطلع وقلت: احقلي فأحقلت ثم قلت: افركي فأفركت ثم قلت: ايبسي فأيبست ثم قلت: اطحني فأطحنت ثم قلت: اخبزي فأخبزت فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا ولا أفعله أبدا ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولا كما تقدم وزاد بعد قولها ولا أفعله أبدا فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حداثة وفاة رسول الله وهم يومئذ متوافرون فما دروا ما يقولون لها وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده لو كان أبواك حيين أو أحدهما. قال هشام: فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا أهل الورع والخشية من الله ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم. فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها. وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال. وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل كما قال تعالى "سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم" وقال تعالى "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مر ببابل وهو يسير فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال: إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي بأرض المقبرة ونهاني أن أصلي ببابل فإنها ملعونة. وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري: أن عليا مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال: إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى حديث سليمان بن داود قال: خرج منها برز وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود لأنه رواه وسكت عليه ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل وهي من أقليم العراق عن البحر المحيط الغربي ويقال له أوقيانوس سبعون درجة ويسمون هذا طولا وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب وهو المسامت لخط الاستواء اثنان وثلاثون درجة والله أعلم. وقوله تعالى "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر قال: فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه فإذا علمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعا في السماء فيقول: يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع. وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر رواه ابن أبي حاتم. وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء وذلك غضب الله فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر فذلك قول الله تعالى "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" الآية وقال سعيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية لا يجترئ على السحر إلا كافر وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار ومنه قول الشاعر: وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شرا طويلا وكذلك قوله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام حيث قال "إن هي إلا فتنتك" أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك "تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء" وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن عبدالله قال: " من أتى كاهن أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -" وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر وقوله تعالى "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئا ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيقربه يدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت" وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان والله أعلم. وقوله تعالى "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" قال سفيان الثوري إلا بقضاء الله وقال محمد بن إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد وقال الحسن البصري "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" قال نعم من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله كما قال الله تعالى وفي رواية عن الحسن أنه قال لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه وقوله تعالى "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم" أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره "ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق" أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق قال ابن عباس ومجاهد والسدي من نصيب وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة ما له في الآخرة من جهة عند الله وقال عبدالرزاق وقال الحسن ليس له دين وقال سعد عن قتادة "ما له في الآخرة من خلاق" قال ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة وقوله تعالى "ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون".

﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وما كَفَرَ سُلَيْمانُ ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ قَوْلُهُ ”واتَّبَعُوا“ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وجَوابُهُ في قَوْلِهِ ﴿ولَمّا جاءَهم رَسُولٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠١] الآيَةَ بِذِكْرِ خَصْلَةٍ لَهم عَجِيبَةٍ وهي أخْذُهم بِالأباطِيلِ بَعْدَ ذِكْرِ خَصْلَةٍ أُخْرى وهي نَبْذُهم لِلْكِتابِ الحَقِّ فَذَلِكَ هو مُناسَبَةُ عَطْفِ هَذا الخَبَرِ عَلى الَّذِي قَبْلَهُ. فَإنْ كانَ المُرادُ بِكِتابِ اللَّهِ في قَوْلِهِ ”﴿كِتابَ اللَّهِ وراءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٠١]“ القُرْآنَ فالمَعْنى أنَّهم لَمّا جاءَهم رَسُولُ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم نَبَذُوا كِتابَهُ بِعِلَّةِ أنَّهم مُتَمَسِّكُونَ بِالتَّوْراةِ فَلا يَتَّبِعُونَ ما خالَفَ أحْكامَها وقَدِ اتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وهو مُخالِفٌ لِلتَّوْراةِ لِأنَّها تَنْهى عَنِ السِّحْرِ والشِّرْكِ فَكَما قِيلَ لَهم فِيما مَضى أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ يُقالُ لَهم أفَتُؤْمِنُونَ بِالكِتابِ تارَةً وتَكْفُرُونَ بِهِ تارَةً أُخْرى. (p-٦٢٧)وإنْ كانَ المُرادُ بِكِتابِ اللَّهِ التَّوْراةَ فالمَعْنى لَمّا جاءَهم رَسُولُ اللَّهِ نَبَذُوا ما في التَّوْراةِ مِن دَلائِلِ صِدْقِ هَذا الرَّسُولِ وهم مَعَ ذَلِكَ قَدْ نَبَذُوها مِن قَبْلُ حِينَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ مَعَ أنَّ ذَلِكَ مُخالِفٌ لِأحْكامِ التَّوْراةِ. قالَ القُرْطُبِيُّ قالَ ابْنُ إسْحاقَ لَمّا ذَكَرَ النَّبِيءُ ﷺ سُلَيْمانَ في الأنْبِياءِ قالَتِ اليَهُودُ إنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أنَّ سُلَيْمانَ نَبِيٌّ وما هو بِنَبِيٍّ ولَكِنَّهُ ساحِرٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. ‌‌‌ و”الشَّياطِينُ“ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونُوا شَياطِينَ مِنَ الجِنِّ وهو الإطْلاقُ المَشْهُورُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ ناسٌ تَمَرَّدُوا وكَفَرُوا وأتَوْا بِالفَظائِعِ الخَفِيَّةِ فَأطْلَقَ عَلَيْهِمُ الشَّياطِينَ عَلى وجْهِ التَّشْبِيهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنِّ﴾ [الأنعام: ١١٢] وقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ”يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ“ فَإنَّهُ ظاهِرٌ في أنَّهم يُدَرِّسُونَهُ لِلنّاسِ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: (ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) إذْ هَذا الِاسْتِدْراكُ في الإخْبارِ يَدُلُّ عَلى أنَّهم مِنِ الإنْسِ لِأنَّ كُفْرَ الشَّياطِينِ مِنَ الجِنِّ أمْرٌ مُقَرَّرٌ لا يَحْتاجُ لِلْإخْبارِ عَنْهُ. وعَنِ ابْنِ إسْحاقَ أيْضًا أنَّهُ لَمّا ماتَ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَمَدَتِ الشَّياطِينُ فَكَتَبُوا أصْنافًا مِنَ السِّحْرِ وقالُوا: مَن أحَبَّ أنْ يَبْلُغَ كَذا وكَذا فَلْيَفْعَلْ كَذا لِأصْنافٍ مِنَ السِّحْرِ وخَتَمُوهُ بِخاتَمٍ يُشْبِهُ نَقْشَ خاتَمِ سُلَيْمانَ ونَسَبُوهُ إلَيْهِ ودَفَنُوهُ وزَعَمُوا أنَّ سُلَيْمانَ دَفَنَهُ وأنَّهم يَعْلَمُونَ مَدْفِنَهُ ودَلُّوا النّاسَ عَلى ذَلِكَ المَوْضِعِ فَأخْرَجُوهُ، فَقالَتِ اليَهُودُ: ما كانَ سُلَيْمانُ إلّا ساحِرًا وما تَمَّ لَهُ المُلْكُ إلّا بِهَذا. وقِيلَ كانَ آصَفُ بْنُ بَرَخْيا كاتِبُ سُلَيْمانَ يَكْتُبُ الحِكْمَةَ بِأمْرِ سُلَيْمانَ ويَدْفِنُ كُتُبَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمانَ لِتَجِدَها الأجْيالُ فَلَمّا ماتَ سُلَيْمانُ أغَرْتِ الشَّياطِينُ النّاسَ عَلى إخْراجِ تِلْكَ الكُتُبِ وزادُوا في خِلالِ سُطُورِها سِحْرًا وكُفْرًا ونَسَبُوا الجَمِيعَ لِسُلَيْمانَ فَقالَتِ اليَهُودُ: كَفَرَ سُلَيْمانُ. والمُرادُ مِنَ الآيَةِ مَعَ سَبَبِ نُزُولِها إنْ نَزَلَتْ عَنْ سَبَبٍ أنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ماتَ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةُ إسْرائِيلَ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ إلى مَمْلَكَتَيْنِ إحْداهُما مَمْلَكَةُ يَهُوذا ومَلِكُها رَحْبَعامُ بْنُ سُلَيْمانَ جَعَلُوهُ مَلِكًا بَعْدَ أبِيهِ وكانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ قَدْ سَئِمَتْ مُلْكَ سُلَيْمانَ لِحَمْلِهِ إيّاهم عَلى (p-٦٢٨)ما يُخالِفُ هَواهم فَجاءَتْ أعْيانُهم وفي مُقَدِّمَتِهِمْ يَرْبَعامُ بْنُ نَباطَ مَوْلى سُلَيْمانَ لِيُكَلِّمُوا رَحْبَعامَ قائِلِينَ إنَّ أباكَ قاسٍ عَلَيْنا وأمّا أنْتَ فَخَفِّفْ عَنّا مِن عُبُودِيَّةِ أبِيكَ لِنُطِيعَكَ فَأجابَهُمُ اذْهَبُوا ثُمَّ ارْجِعُوا إلَيَّ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ واسْتَشارَ رَحْبَعامُ أصْحابَ أبِيهِ ووُزَراءَهُ فَأشارُوا عَلَيْهِ بِمُلايَنَةِ الأُمَّةِ لِتُطِيعَهُ. واسْتَشارَ أصْحابَهُ مِنَ الفِتْيانِ فَأشارُوا عَلَيْهِ أنْ يَقُولَ لِلْأُمَّةِ إنَّ خِنْصَرِي أغْلَظُ مِن مَتْنِ أبِي فَإذا كانَ أبِي قَدْ أدَّبَكم بِالسِّياطِ فَأنا أُؤَدِّبُكم بِالعَقارِبِ فَلَمّا رَجَعَ إلَيْهِ شُيُوخُ بَنِي إسْرائِيلَ في اليَوْمِ الثّالِثِ وأجابَهم بِما أشارَ بِهِ الأحْداثُ خَلَعَتْ بَنُو إسْرائِيلَ طاعَتَهُ ومَلَّكُوا عَلَيْهِمْ يَرْبَعامَ ولَمْ يَبْقَ عَلى طاعَةِ رَحْبَعامَ إلّا سِبْطا يَهُوذَ وبِنْيامِينَ واعْتَصَمَ رَحْبَعامُ بِأُورَشْلِيمَ وكُلُّ أُمَّتِهِ لا تَزِيدُ عَلى مِائَةٍ وثَمانِينَ ألْفَ مُحارِبٍ يَعْنِي رِجالًا قادِرِينَ عَلى حَمْلِ السِّلاحِ وانْقَسَمَتِ المَمْلَكَةُ مِن يَؤْمِئِذٍ إلى مَمْلَكَتَيْنِ مَمْلَكَةُ يَهُوذا وقاعِدَتُها أُورَشْلِيمُ. ومَمْلَكَةُ إسْرائِيلَ ومَقَرُّها السّامِرَةُ. وذَلِكَ سَنَةَ ٩٧٥ قَبْلَ المَسِيحِ كَما قَدَّمْناهُ عِنْدَ الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى (﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والنَّصارى والصّابِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٢]) الآيَةَ ولا يَخْفى ما تَكُونُ عَلَيْهِ حالَةُ أُمَّةٍ في هَذا الِانْتِقالِ فَإنَّ خُصُومَ رَحْبَعامَ لَمّا سَلَبُوا مِنهُ القُوَّةَ المادِّيَّةَ لَمْ يَغْفُلُوا عَمّا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنَ القُوَّةِ الأدَبِيَّةِ وهي كَوْنُهُ ابْنَ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ مِن بَيْتِ المُلْكِ والنُّبُوءَةِ والسُّمْعَةِ الحَسَنَةِ فَلَمْ يَأْلُ أعْداؤُهُ جُهْدَهم مِن إسْقاطِ هاتِهِ القُوَّةِ الأدَبِيَّةِ وذَلِكَ بِأنِ اجْتَمَعَ مُدَبِّرُو الأمْرِ عَلى أنْ يَضَعُوا أكاذِيبَ عَنْ سُلَيْمانَ يَبُثُّونَها في العامَّةِ لِيَقْضُوا بِها وطَرَيْنِ: أحَدُهُما نِسْبَةُ سُلَيْمانَ إلى السِّحْرِ والكُفْرِ لِتَنْقِيصِ سُمْعَةِ ابْنِهِ رَحْبَعامَ كَما صَنَعَ دُعاةُ الدَّوْلَةِ العَبّاسِيَّةِ فِيما وضَعُوهُ مِنَ الأخْبارِ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ والثّانِي: تَشْجِيعُ العامَّةِ الَّذِينَ كانُوا يَسْتَعْظِمُونَ مُلْكَ سُلَيْمانَ وابْنِهِ عَلى الخُرُوجِ عَنْ طاعَةِ ابْنِهِ بِأنَّ سُلَيْمانَ ما تَمَّ لَهُ المُلْكُ إلّا بِتِلْكَ الأسْحارِ والطَّلاسِمِ وأنَّهم لَمّا ظَفِرُوا بِها فَإنَّهم يَسْتَطِيعُونَ أنْ يُؤَسِّسُوا مُلْكًا يُماثِلُ مُلْكَ سُلَيْمانَ كَما صَنَعَ دُعاةُ انْقِلابِ الدُّوَلِ في تارِيخِ الإسْلامِ مِن وضْعِ أحادِيثِ انْتِظارِ المَهْدِيِّ وكَما يَفْعَلُونَهُ مِن بَثِّ أخْبارٍ عَنِ الصّالِحِينَ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ زَوالِ الدَّوْلَةِ. ولا يَخْفَي ما تُثِيرُهُ هَذِهِ الأوْهامُ في نُفُوسِ العامَّةِ مِنَ الجَزْمِ بِنَجاحِ السَّعْيِ وجَعْلِهِمْ في مَأْمَنٍ مِن خَيْبَةِ أعْمالِهِمْ ولَحاقِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ فَإذا قُضِيَ الوَطَرُ بِذَلِكَ الخَبَرِ التَصَقَ أثَرُهُ في النّاسِ فَيَبْقى ضُرُّ ضَلالِهِ بَعْدَ اجْتِناءِ ثِمارِهِ. والِاتِّباعُ في الأصْلِ هو المَشْيُ وراءَ الغَيْرِ ويَكُونُ مَجازًا في العَمَلِ بِقَوْلِ الغَيْرِ وبِرَأْيهِ وفي الِاعْتِقادِ بِاعْتِقادِ الغَيْرِ تَقُولُ: اتَّبَعَ مَذْهَبَ مالِكٍ واتَّبَعَ عَقِيدَةَ الأشْعَرِيِّ، والِاتِّباعُ هُنا مَجازٌ (p-٦٢٩)لا مَحالَةَ لِوُقُوعِ مَفْعُولِهِ مِمّا لا يَصِحُّ اتِّباعُهُ حَقِيقَةً. والتِّلاوَةُ قِراءَةُ المَكْتُوبِ والكِتابِ وعَرْضِ المَحْفُوظِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وفِعْلُها يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ ”يَتْلُونَ عَلَيْكم آياتِي“ فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ يَدُلُّ عَلى تَضَمُّنِهِ مَعْنى تَكْذِبُ أيْ تَتْلُو تِلاوَةَ كَذِبٍ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ كَما يُقالُ، تَقُولُ عَلى فُلانٍ أيْ قالَ عَلَيْهِ ما لَمْ يَقُلْهُ، وإنَّما فُهِمَ ذَلِكَ مِن حَرْفِ (عَلى) . والمُرادُ بِالمُلْكِ هُنا مُدَّةُ المُلْكِ أوْ سَبَبُ المُلْكِ بِقَرِينَةِ أنَّ التِّلاوَةَ لا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ المُلْكِ، وحَذْفُ المُضافِ مَعَ ما يَدُلُّ عَلى تَعْيِينِ الوَقْتِ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ كَقَوْلِهِمْ وقَعَ هَذا في حَياةِ رَسُولِ اللَّهِ أوْ في خِلافَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وقَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: ؎وما هي إلّا في إزارٍ وعِلْقَةٍ مُغارَ ابْنِ هَمّامٍ عَلى حَيِّ خَثْعَما يُرِيدُ أزْمانَ مُغارِ ابْنِ هَمّامٍ. وكَذَلِكَ حَذَفَ المُضافَ إذا أُرِيدَ بِهِ الحَوادِثَ أوِ الأسْبابَ كَما تَقُولُ تَكَلَّمَ فُلانٌ عَلى خِلافَةِ عُمَرَ أوْ هَذا كِتابٌ في مُلْكِ العَبّاسِيِّينَ، وذَلِكَ أنَّ الِاسْمَ إذا اشْتُهِرَ بِصِفَةٍ أوْ قِصَّةٍ صَحَّ إطْلاقُهُ وإرادَةُ تِلْكَ الصِّفَةِ أوِ القِصَّةِ بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَتْ لَكانَتْ مُضافَةً إلى الِاسْمِ، قالَ النّابِغَةُ: ؎ولَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَواكِبِ أرادَ مَتاعِبَ لَيْلٍ لِأنَّ اللَّيْلَ قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ أهْلِ الغَرامِ بِأنَّهُ وقْتُ الشَّوْقِ والأرَقِ. والشَّياطِينُ قِيلَ أُرِيدَ بِها شَياطِينَ الإنْسِ أيِ المُضَلِّلُونَ وهو الظّاهِرُ. وقِيلَ أُرِيدَتْ شَياطِينَ الجِنِّ وألْ لِلْجِنْسِ عَلى الوَجْهَيْنِ. وعِنْدِي أنَّ المُرادَ بِالشَّياطِينِ أهْلُ الحِيَلِ والسَّحَرَةُ كَما يَقُولُونَ: فُلانٌ مِن شَياطِينِ العَرَبِ وقَدْ عُدَّ مِن أُولَئِكَ ناشِبٌ الأعْوَرُ أحَدُ رِجالِ يَوْمِ الوَقِيطِ. وقَوْلُهُ ”تَتْلُو“ جاءَ بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِحِكايَةِ الحالِ الماضِيَةِ عَلى ما قالَهُ الجَماعَةُ. أوْ هو مُضارِعٌ عَلى بابِهِ عَلى ما اخْتَرْناهُ مِن أنَّ الشَّياطِينَ هم أحْبارُهم فَإنَّهم لَمْ يَزالُوا يَتْلُونَ ذَلِكَ فَيَكُونُ المَعْنى أنَّهُمُ اتَّبَعُوا أيِ اعْتَقَدُوا ما تَلَتْهُ الشَّياطِينُ ولَمْ تَزَلْ تَتْلُوهُ. وسُلَيْمانُ هو النَّبِيءُ سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ بْنِ يَسِي مِن سِبْطِ يَهُوذا وُلِدَ سَنَةَ ١٠٣٢ اثْنَتَيْنِ وثَلاثِينَ وألْفٍ قَبْلَ المَسِيحِ وتُوُفِّيَ في أُورَشْلِيمَ سَنَةَ ٩٧٥ خَمْسٍ وسَبْعِينَ وتِسْعِمِائَةٍ قَبْلَ المَسِيحِ ووَلِيَ (p-٦٣٠)مُلْكَ إسْرائِيلَ سَنَةَ ١٠١٤ أرْبَعَ عَشْرَةَ وألْفٍ قَبْلَ المَسِيحِ بَعْدَ وفاةِ أبِيهِ داوُدَ النَّبِيءِ مَلِكِ إسْرائِيلَ، وعَظُمَ مُلْكُ بَنِي إسْرائِيلَ في مُدَّتِهِ وهو الَّذِي أمَرَ بِبِناءِ مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ وكانَ نَبِيًّا حَكِيمًا شاعِرًا، وجَعَلَ لِمَمْلَكَتِهِ أُسْطُولًا بَحْرِيًّا عَظِيمًا كانَتْ تَمْخُرُ سُفُنُهُ البِحارَ إلى جِهاتٍ قاصِيَةٍ مِثْلَ شَرْقِ إفْرِيقْيا. وقَوْلُهُ: (﴿وما كَفَرَ سُلَيْمانُ﴾) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ أثارَ اعْتِراضُها ما أشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ ﴿ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ مِن مَعْنى أنَّهم كَذَبُوا عَلى سُلَيْمانَ ونَسَبُوهُ إلى الكُفْرِ، فَهي مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ”واتَّبَعُوا“ وبَيْنَ قَوْلِهِ ”وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ“ إنَّ كانَ ”وما أُنْزِلَ“ مَعْطُوفًا عَلى (ما تَتْلُو) وبَيْنَ ”اتَّبَعُوا“ وبَيْنَ ”ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ“ إلَخْ إنْ كانَ ”وما أُنْزِلَ“ مَعْطُوفًا عَلى السِّحْرِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلى ”واتَّبَعُوا“ إذا كانَ المُرادُ مِنَ الشَّياطِينِ أحْبارَ اليَهُودِ لِأنَّ هَذا الحُكْمَ حِينَئِذٍ مِن جُمْلَةِ أحْوالِ اليَهُودِ لِأنَّ مَآلَهُ (واتَّبَعُوا وكَفَرُوا) وما كَفَرَ سُلَيْمانُ ولَكِنَّهُ قَدَّمَ نَفْيَ كُفْرِ سُلَيْمانَ لِأنَّهُ الأهَمُّ تَعْجِيلًا بِإثْباتِ نَزاهَتِهِ وعِصْمَتِهِ ولِأنَّ اعْتِقادَ كُفْرِهِ كانَ سَبَبَ ضَلالٍ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا ما كَتَبَتْهُ الشَّياطِينُ، فَلا شَكَّ أنَّ حُكْمَ الأتْباعِ وحُكْمَ المَتْبُوعِينَ واحِدٌ، فَكانَ خَبَرًا عَنِ اليَهُودِ كَذَلِكَ. وقَدْ كانَ اليَهُودُ يَعْتَقِدُونَ كُفْرَ سُلَيْمانَ في كُتُبِهِمْ فَقَدْ جاءَ في سِفْرِ المُلُوكِ الأوَّلِ أنَّ سُلَيْمانَ في زَمَنِ شَيْخُوخَتِهِ أمالَتْ نِساؤُهُ المِصْرِيّاتُ والصَّيْدَوِنِيّاتُ والعَمُونِيّاتُ قَلْبَهُ إلى آلِهَتِهِنَّ مِثْلَ عَشْتَرُوتَ إلَهِ الصَّيدَوَنِيِّينَ (ومُولُوكَ) إلَهِ العَمُونِيِّينَ (الفِينِيقِيِّينَ) وبَنى لِهاتِهِ الآلِهَةِ هَياكِلَ فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِأنَّ قَلْبَهُ مالَ عَنْ إلَهِ إسْرائِيلَ الَّذِي أوْصاهُ أنْ لا يَتَّبِعَ آلِهَةً أُخْرى. وقَوْلُهُ ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ كَفَرُوا والمَقْصِدُ مِنهُ تَشْنِيعُ حالِ كُفْرِهِمْ إذْ كانَ مَصْحُوبًا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ فَهي حالٌ مُؤَسِّسَةٌ. والسِّحْرُ الشَّعْوَذَةُ وهي تَمْوِيهُ الحِيَلِ بِإخْفائِها تَحْتَ حَرَكاتٍ وأحْوالٍ يَظُنُّ الرّائِي أنَّها هي المُؤَثِّرَةُ مَعَ أنَّ المُؤَثِّرَ خَفِيَ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر: ١٤] ولِذَلِكَ أُطْلِقَ السِّحْرُ عَلى الخَدِيعَةِ تَقُولُ: سَحَرْتُ الصَّبِيَّ إذا عَلَلْتَهُ بِشَيْءٍ. قالَ لَبِيدٌ: ؎فَإنْ تَسْألِينا فِيمَ نَحْنُ فِإنَّنا ∗∗∗ عَصافِيرُ مِن هَذا الأنامِ المُسَحَّرِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى ما عُلِمَ ظاهِرُهُ وخَفِيَ سَبَبُهُ وهو التَّمْوِيهُ والتَّلْبِيسُ وتَخَيُّيلُ غَيْرِ الواقِعِ واقِعًا (p-٦٣١)وتَرْوِيجُ المُحالِ، تَقُولُ العَرَبُ: عَنْزٌ مَسْحُورَةٌ إذا عَظُمَ ضَرْعُها وقَلَّ لَبَنُها، وأرْضٌ مَسْحُورَةٌ لا تَنْبُتُ قالَ أبُو عَطاءٍ: ؎فَواللَّهِ ما أدْرِي وإنِّي لَصادِقٌ ∗∗∗ أداءٌ عَرانِي مِن حُبابِكِ أمْ سِحْرُ أيْ: شَيْءٌ لا يُعْرَفُ سَبَبُهُ. والعَرَبُ تَزْعُمُ أنَّ الغِيلانَ سَحَرَةُ الجِنِّ لِما تَتَشَكَّلُ بِهِ مِنَ الأشْكالِ وتَعْرِضُها لِلْإنْسانِ. والسِّحْرُ مِنَ المَعارِفِ القَدِيمَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ في مَنبَعِ المَدِينَةِ الأُولى أعْنِي بِبِلادِ المَشْرِقِ فَإنَّهُ ظَهَرَ في بِلادِ الكَلْدانِ والبابِلِيِّنَ وفي مِصْرَ في عَصْرٍ واحِدٍ وذَلِكَ في القَرْنِ الأرْبَعِينَ قَبْلَ المَسِيحِ مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّها كانَتْ في تَيْنِكَ الأُمَّتَيْنِ مِن تَعالِيمِ قَوْمٍ نَشَئُوا قَبْلَهُما فَقَدْ وُجِدَتْ آثارٌ مِصْرِيَّةٌ سِحْرِيَّةٌ في عَصْرِ العائِلَةِ الخامِسَةِ مِنَ الفَراعِنَةِ والعائِلَةِ السّادِسَةِ ٣٩٥١ - ٣٧٠٣ ق. م. ولِلْعَرَبِ في السِّحْرِ خَيالٌ واسِعٌ وهو أنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّ السِّحْرَ يُقَلِّبُ الأعْيانَ ويُقَلِّبُ القُلُوبَ ويُطَوِّعُ المَسْحُورَ لِلسّاحِرِ ولِذَلِكَ كانُوا يَقُولُونَ إنَّ الغُولَ ساحِرَةُ الجِنِّ ولِذَلِكَ تَتَشَكَّلُ لِلرّائِي بِأشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ. وقالَتْ قُرَيْشٌ لَمّا رَأوْا مُعْجِزاتِ رَسُولِ اللَّهِ: إنَّهُ ساحِرٌ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ [القمر: ٢] وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ [الحجر: ١٤] ﴿لَقالُوا إنَّما سُكِّرَتْ أبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر: ١٥] وفي حَدِيثِ البُخارِيِّ عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أنَّ القَوْمَ عَطِشُوا في سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَطَلَبُوا الماءَ فَوَجَدُوا امْرَأةً عَلى بَعِيرٍ لَها مَزاداتانِ مِن ماءٍ فَأتَيا بِها رَسُولَ اللَّهِ فَسَقى رَسُولُ اللَّهِ جَمِيعَ الجَيْشِ ثُمَّ رَدَّ إلَيْها مَزادَتَيْها كامِلَتَيْنِ فَقالَتْ لِقَوْمِها: فَواللَّهِ إنَّهُ لَأسْحَرُ مَن بَيْنَ هَذِهِ وهَذِهِ، تَعْنِي السَّماءَ والأرْضَ» وفي الحَدِيثِ «إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا» . ولَمْ أرَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ العَرَبَ كانُوا يَتَعاطَوْنَ السِّحْرَ فَإنَّ السِّحْرَ مُسْتَمَدٌّ مِن خَصائِصِ الأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ والتَّرْكِيبِ ولَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ ضَلاعَةٌ في الأُمُورِ اليَدَوِيَّةِ بَلْ كانَتْ ضَلاعَتُهم فِكْرِيَّةً مَحْضَةً، وكانَ العَرَبُ يَزْعُمُونَ أنَّ أعْلَمُ النّاسِ بِالسِّحْرِ اليَهُودَ والصّابِئَةَ وهم أهْلُ بابِلَ، ومَساقُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى شُهْرَةِ هَؤُلاءِ بِالسِّحْرِ عِنْدَ العَرَبِ. وقَدِ اعْتَقَدَ المُسْلِمُونَ أنَّ اليَهُودَ في يَثْرِبَ سَحَرُوهم فَلا يُولَدُ لَهم فَلِذَلِكَ اسْتَبْشَرُوا لَمّا وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وهو أوَّلُ مَوْلُودٍ لِلْمُهاجِرِينَ بِالمَدِينَةِ كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ. ولِذَلِكَ لَمْ يَكْثُرْ ذِكْرُ السِّحْرِ بَيْنَ (p-٦٣٢)العَرَبِ المُسْلِمِينَ إلّا بَعْدَ أنْ هاجَرُوا إلى المَدِينَةِ إذْ قَدْ كانَ فِيها اليَهُودُ وكانُوا يُوهِمُونَ بِأنَّهم يَسْحَرُونَ النّاسَ. ويُداوِي مِنَ السِّحْرِ العَرّافُ ودَواءُ السِّحْرِ السَّلْوَةُ وهي خَرَزاتٌ مَعْرُوفَةٌ تُحَكُّ في الماءِ ويُشْرَبُ ماؤُها. ووَرَدَ في التَّوْراةِ النَّهْيُ عَنِ السِّحْرِ فَهو مَعْدُودٌ مِن خِصالِ الشِّرْكِ وقَدْ وصَفَتِ التَّوْراةُ بِهِ أهْلَ الأصْنامِ فَقَدْ جاءَ في سِفْرِ التَّثْنِيَةِ في الإصْحاحِ ١٨ إذا دَخَلْتَ الأرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ لا تَتَعَلَّمْ أنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولَئِكَ الأُمَمِ لا يُوجَدُ فِيكَ مَن يَزُجُّ ابْنَهُ أوِ ابْنَتَهُ في النّارِ ولا مَن يَعْرُفُ عِرافَةً ولا عائِفٌ ولا مُتَفائِلٌ ولا ساحِرٌ ولا مَن يَرْقى رُقْيَةً ولا مَن يَسْألُ جانًّا أوْ تابِعَةً ولا مَن يَسْتَشِيرُ المَوْتى لِأنَّ كُلَّ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الرَّبِّ. وفِي سِفْرِ اللّاوِيِّينَ الإصْحاحِ ٢٠ ”(٦) والنَّفْسُ الَّتِي تَلْتَفِتُ إلى الجانِّ وإلى التَّوابِعِ لِتَزْنِيَ وراءَهم أجْعَلُ وجْهِي ضِدَّ تِلْكَ النَّفْسِ وأقْطَعُها مِن شِعْبِها (٢٧) وإذا كانَ في رَجُلٍ أوِ امْرَأةٍ جانٌّ أوْ تابِعَةٌ فَإنَّهُ يُقْتَلُ بِالحِجارَةِ يَرْجُمُونَهُ دَمُهُ عَلَيْهِ. وكانُوا يَجْعَلُونَهُ أصْلًا دِينِيًّا لِمُخاطَبَةِ أرْواحِ المَوْتى وتَسْخِيرِ الشَّياطِينِ وشِفاءِ الأمْراضِ وقَدِ اسْتَفْحَلَ أمْرُهُ في بَلَدِ الكَلْدانِ وخَلَطُوهُ بِعُلُومِ النُّجُومِ وعِلْمِ الطِّبِّ. وأرْجَعَ المِصْرِيُّونَ المَعارِفَ السِّحْرِيَّةَ إلى جُمْلَةِ العُلُومِ الرِّياضِيَّةِ الَّتِي أفاضَها عَلَيْهِمْ“ طُوطٌ ”الَّذِي يَزْعُمُونَ أنَّهُ إدْرِيسُ وهو هَرْمَسَ عِنْدَ اليُونانِ. وقَدِ اسْتَخْدَمَ الكَلْدانُ والمِصْرِيُّونَ فِيهِ أسْرارًا مِنَ العُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ والفَلْسَفِيَّةِ والرُّوحِيَّةِ قَصْدًا لِإخْراجِ الأشْياءِ في أبْهَرِ مَظاهِرِها حَتّى تَكُونَ فاتِنَةً أوْ خادِعَةً وظاهِرَةً، كَخَوارِقِ عاداتٍ، إلّا أنَّهُ شاعَ عِنْدَ عامَّتِهِمْ وبَعْدَ ضَلالِهِمْ عَنِ المَقْصِدِ العِلْمِيِّ مِنهُ فَصارَ عِبارَةً عَنِ التَّمْوِيهِ والتَّضْلِيلِ وإخْراجِ الباطِلِ في صُورَةِ الحَقِّ، أوِ القَبِيحِ في صُورَةٍ حَسَنَةٍ أوِ المُضِرِّ في صُورَةِ النّافِعِ. وقَدْ صارَ عِنْدَ الكَلْدانِ والمِصْرِيِّينَ خاصِّيَّةً في يَدِ الكَهَنَةِ وهم يَوْمَئِذٍ أهْلُ العِلْمِ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ في ذَواتِهِمُ الرِّئاسَةَ الدِّينِيَّةَ والعِلْمِيَّةَ فاتَّخَذُوا قَواعِدَ العُلُومِ الرِّياضِيَّةِ والفَلْسَفِيَّةِ والأخْلاقِيَّةِ لِتَسْخِيرِ العامَّةِ إلَيْهِمْ وإخْضاعِهِمْ بِما يُظْهِرُونَهُ مِنَ المَقْدِرَةِ عَلى عِلاجِ الأمْراضِ والِاطِّلاعِ عَلى الضَّمائِرِ بِواسِطَةِ الفِراسَةِ والتَّأْثِيرِ بِالعَيْنِ وبِالمَكائِدِ. وقَدْ نَقَلَتْهُ الأُمَمُ عَنْ هاتَيْنِ الأُمَّتَيْنِ وأكْثَرُ ما نَقَلُوهُ عَنِ الكَلْدانِيِّينَ فاقْتَبَسَهُ مِنهُمُ السُّرْيانُ (الأشُورِيُّونَ) واليَهُودُ والعَرَبُ وسائِرُ الأُمَمِ المُتَدَيِّنَةِ والفُرْسُ واليُونانُ والرُّومانُ. (p-٦٣٣)وأُصُولُ السِّحْرِ ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ زَجْرُ النُّفُوسِ بِمُقْدِماتٍ تَوْهِيمِيَّةٍ وإرْهابِيَّةٍ بِما يَعْتادُهُ السّاحِرُ مِنَ التَّأْثِيرِ النَّفْسانِيِّ في نَفْسِهِ ومِنَ الضَّعْفِ في نَفْسِ المَسْحُورِ ومِن سَوابِقَ شاهَدَها المَسْحُورُ واعْتَقَدَها فَإذا تَوَجَّهَ إلَيْهِ السّاحِرُ سُخِّرَ لَهُ وإلى هَذا الأصْلِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى في ذِكْرِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ ﴿سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ [الأعراف: ١١٦] . الثّانِي اسْتِخْدامُ مُؤَثِّراتٍ مِن خَصائِصِ الأجْسامِ مِنَ الحَيَوانِ والمَعْدِنِ وهَذا يَرْجِعُ إلى خَصائِصَ طَبِيعِيَّةٍ كَخاصِّيَّةِ الزِّئْبَقِ ومِن ذَلِكَ العَقاقِيرُ المُؤَثِّرَةُ في العُقُولِ صَلاحًا أوْ فَسادًا والمُفْتِرَةُ لِلْعَزائِمِ والمُخَدِّراتُ والمُرْقِداتُ عَلى تَفاوُتِ تَأْثِيرِها وإلى هَذا الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى في سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ ﴿إنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ﴾ [طه: ٦٩] . الثّالِثُ: الشَّعْوَذَةُ واسْتِخْدامُ خَفايا الحَرَكَةِ والسُّرْعَةِ والتَّمَوُّجِ حَتّى يُخَيَّلَ الجَمادُ مُتَحَرِّكًا وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمُ أنَّها تَسْعى﴾ [طه: ٦٦] . هَذِهِ أصُولُ السِّحْرِ بِالِاسْتِقْراءِ وقَدْ قَسَّمَها الفَخْرُ في التَّفْسِيرِ إلى ثَمانِيَةِ أقْسامٍ لا تَعْدُو هَذِهِ الأُصُولَ الثَّلاثَةَ وفي بَعْضِها تَداخَلٌ. ولِعُلَماءِ الإفْرِنْجِ تَقْسِيمٌ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ جَدْوى. وهَذِهِ الأُصُولُ الثَّلاثَةُ كُلُّها أعْمالٌ مُباشِرَةٌ لِلْمَسْحُورِ ومُتَّصِلَةٌ بِهِ ولَها تَأْثِيرٌ عَلَيْهِ بِمِقْدارِ قابِلِيَّةِ نَفْسِهِ الضَّعِيفَةِ وهو لا يَتَفَطَّنُ لَها، ومَجْمُوعُها هو الَّذِي أشارَتْ إلَيْهِ الآيَةُ، وهو الَّذِي لا خِلافَ في إثْباتِهِ عَلى الجُمْلَةِ دُونَ تَفْصِيلٍ، وما عَداها مِنَ الأوْهامِ والمَزاعِمِ هو شَيْءٌ لا أثَرَ لَهُ وذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ لا مُباشَرَةَ لَهُ بِذاتِ مَن يُرادُ سِحْرُهُ ويَكُونُ غائِبًا عَنْهُ فَيَدَّعِي أنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيهِ، وهَذا مِثْلَ رَسْمِ أشْكالٍ يُعَبَّرُ عَنْها بِالطَّلاسِمِ، أوْ عَقْدِ خُيُوطٍ والنَّفْثُ عَلَيْها بَرُقْياتٍ مُعَيَّنَةٍ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِنْجادَ بِالكَواكِبِ أوْ بِأسْماءِ الشَّياطِينِ والجِنِّ وآلِهَةِ الأقْدَمِينَ، وكَذا كِتابَةُ اسْمِ المَسْحُورِ في أشْكالٍ. أوْ وضْعِ صُورَتِهِ أوْ بَعْضِ ثِيابِهِ وعَلائِقِهِ وتَوْجِيهِ كَلامٍ إلَيْها بِزَعْمِ أنَّهُ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ في حَقِيقَةِ ذاتِ المَسْحُورِ، أوْ يَسْتَعْمِلُونَ إشاراتٍ خاصَّةً نَحْوَ جِهَتِهِ أوْ نَحْوَ بَلَدِهِ وهو ما يُسَمُّونَهُ بِالأرْصادِ وذَكَرَ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ في القَبَسِ أنَّ قُرَيْشًا لَمّا أشارَ النَّبِيءُ ﷺ بِأُصْبُعِهِ في التَّشَهُّدِ قالُوا: هَذا مُحَمَّدٌ يَسْحَرُ النّاسَ، أوْ جَمْعِ أجْزاءٍ مُعَيَّنَةٍ وضَمِّ بَعْضِها إلى بَعْضٍ مَعَ نِيَّةٍ أنَّ ذَلِكَ الرَّسْمَ أوِ الجَمْعَ لِتَأْثِيرِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِضُرٍّ أوْ خَيْرٍ أوْ مَحَبَّةٍ أوْ بُغْضَةٍ (p-٦٣٤)أوْ مَرَضٍ أوْ سَلامَةٍ، ولا سِيَّما إذا قُرِنَ بِاسْمِ المَسْحُورِ وصُورَتِهِ أوْ بِطالِعِ مِيلادِهِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ التَّوَهُّماتِ ولَيْسَ عَلى تَأْثِيرِها دَلِيلٌ مِنَ العَقْلِ ولا مِنَ الطَّبْعِ ولا ما يُثْبِتُهُ مِنَ الشَّرْعِ، وقَدِ انْحَصَرَتْ أدِلَّةُ إثْباتِ الحَقائِقِ في هَذِهِ الأدِلَّةِ، ومِنَ العَجائِبِ أنَّ الفَخْرَ في التَّفْسِيرِ حاوَلَ إثْباتَهُ بِما لَيْسَ بِمُقْنِعٍ. وقَدْ تَمَسَّكَ جَماعَةٌ لِإثْباتِ تَأْثِيرِ هَذا النَّوْعِ مِنَ السِّحْرِ بِما رُوِيَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «قَوْلِ عائِشَةَ أنَّ لَبِيدَ بْنَ الأعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيءَ ﷺ ورُؤْيا النَّبِيءِ ﷺ أنَّ مَلَكَيْنِ أخْبَراهُ بِذَلِكَ السِّحْرِ»، وفي النَّسائِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ مِثْلَهُ مُخْتَصَرًا، ويَنْبَغِي التَّثَبُّتُ في عِباراتِهِ ثُمَّ في تَأْوِيلِهِ، ولا شَكَّ أنَّ لَبِيدًا حاوَلَ أنْ يَسْحَرَ النَّبِيءَ ﷺ فَقَدْ كانَ اليَهُودُ سَحَرَةً في المَدِينَةِ وأنَّ اللَّهَ أطْلَعَ رَسُولَهُ عَلى ما فَعَلَهُ لَبِيدٌ لِتَكُونَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيءِ ﷺ في إبْطالِ سِحْرِ لَبِيدٍ ولِيَعْلَمَ اليَهُودُ أنَّهُ نَبِيءٌ لا تَلْحَقُهُ أضْرارُهم وكَما لَمْ يُؤَثِّرْ سِحْرُ السَّحَرَةِ عَلى مُوسى كَذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ سِحْرُ لَبِيدٍ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإنَّما عَرَضَ لِلنَّبِيءِ ﷺ عارِضٌ جَسَدِيٌّ شَفاهُ اللَّهُ مِنهُ فَصادَفَ أنْ كانَ مُقارَنًا لِما عَمِلَهُ لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ مِن مُحاوَلَةِ سِحْرِهِ وكانَتْ رُؤْيا النَّبِيءِ ﷺ إنْباءً مِنَ اللَّهِ لَهُ بِما صَنَعَ لَبِيدٌ، والعِبارَةُ عَنْ صُورَةِ تِلْكَ الرُّؤْيا كانَتْ مُجْمَلَةً فَإنَّ الرَّأْيَ رُمُوزٌ ولَمْ يَرِدْ في الخَبَرِ تَعْبِيرُ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَلا تَكُونُ أصْلًا لِتَفْصِيلِ القِصَّةِ. ثُمَّ إنَّ لِتَأْثِيرِ هاتِهِ الأسْبابِ أوِ الأُصُولِ الثَّلاثَةِ شُرُوطًا وأحْوالًا بَعْضُها في ذاتِ السّاحِرِ وبَعْضُها في ذاتِ المَسْحُورِ، فَيَلْزَمُ في السّاحِرِ أنْ يَكُونَ مُفْرِطَ الذَّكاءِ مُنْقَطِعًا لِتَجْدِيدِ المُحاوَلاتِ السِّحْرِيَّةِ جَسُورًا قَوِيَّ الإرادَةِ كَتُومًا لِلسِّرِّ قَلِيلَ الِاضْطِرابِ لِلْحَوادِثِ سالِمَ البِنْيَةِ مُرْتاضَ الفِكْرِ خَفِيَّ الكَيْدِ والحِيلَةِ، ولِذَلِكَ كانَ غالِبُ السَّحَرَةِ رِجالًا ولَكِنْ كانَ الحَبَشَةُ يَجْعَلُونَ السَّواحِرَ نِساءً وكَذَلِكَ كانَ الغالِبُ في الفُرْسِ والعَرَبِ، قالَ تَعالى ﴿ومِن شَرِّ النَّفّاثاتِ في العُقَدِ﴾ [الفلق: ٤] فَجاءَ بِجَمْعِ الإناثِ وكانَتِ الجاهِلِيَّةُ تَقُولُ: إنَّ الغِيلانَ عَجائِزُ مِنَ الجِنِّ ساحِراتٌ فَلِذَلِكَ تَسْتَطِيعُ التَّشَكُّلَ بِأشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وكانَ مُعَلِّمُو السِّحْرِ يَمْتَحِنُونَ صَلاحِيَةَ تَلامِذَتِهِمْ لِهَذا العِلْمِ بِتَعْرِيضِهِمْ لِلْمَخاوِفِ وأمْرِهِمْ بِارْتِكابِ المَشاقِّ تَجْرِبَةً لِمِقْدارِ عَزائِمِهِمْ وطاعَتِهِمْ. وأمّا ما يَلْزَمُ في المَسْحُورِ فَخَوْرُ العَقْلِ، وضَعْفُ العَزِيمَةِ، ولَطافَةُ البِنْيَةِ، وجَهالَةُ العَقْلِ (p-٦٣٥)ولِذَلِكَ كانَ أكْثَرَ النّاسِ قابِلِيَّةً لَهُ النِّساءُ والصِّبْيانُ والعامَّةُ ومَن يَتَعَجَّبُ في كُلِّ شَيْءٍ. ولِذَلِكَ كانَ مِن أصُولِ السِّحْرِ إلْقاءُ أقْوالٍ كاذِبَةٍ عَلى المَسْحُورِ لِاخْتِبارِ مِقْدارِ عَقْلِهِ في التَّصْدِيقِ بِالأشْياءِ الواهِيَةِ والثِّقَةِ بِالسّاحِرِ، قالَ تَعالى ﴿ولَئِنْ قُلْتَ إنَّكم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: ٧] فَجَعَلُوا ذَلِكَ القَوْلَ الغَرِيبَ سِحْرًا. ثُمَّ تَحُفُّ بِالسِّحْرِ أعْمالٌ القَصْدُ مِنها التَّمْوِيهُ وهَذِهِ الأعْمالُ أنْواعٌ. نَوْعٌ الغَرَضُ مِنهُ تَقْوِيَةُ اعْتِقادِ السّاحِرِ في نَجاحِ عَمَلِهِ لِتَقْوى عَزِيمَتُهُ فَيَشْتَدُّ تَأْثِيرُهُ عَلى النُّفُوسِ وهَذا مِثْلُ تَلْقِينِ مُعَلِّمِي هَذا الفَنِّ تَلامِذَتَهم عِبادَةَ كَواكِبَ ومُناجاتِها لِاسْتِخْدامِ أرْواحِها والِاسْتِنْجادِ بِتِلْكَ الأرْواحِ عَلى اسْتِخْدامِ الجِنِّ والقُوى المُتَعاصِيَةِ لِيَعْتَقِدَ المُتَعَلِّمُ أنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نَجاحِ عَمَلِهِ فَيُقْدِمَ عَلَيْهِ بِعَزْمٍ، وفي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ نَفْسانِيٌّ عَجِيبٌ، ولِذَلِكَ يُسَمُّونَ تِلْكَ الأقْوالَ والمُناجاةَ عَزائِمَ جَمْعُ عَزِيمَةٍ، ويَقُولُونَ فُلانٌ يَعْزِمُ إذا كانَ يَسْحَرُ، ثُمَّ هو إذا اسْتَكْمَلَ المَعْرِفَةَ قَدْ يَتَفَطَّنُ لِقِلَّةِ جَدْوى تِلْكَ العَزائِمِ وقَدْ لا يَتَفَطَّنُ وعَلى كِلْتا الحالَتَيْنِ فَمُعَلِّمُوهُ لا يَتَعَرَّضُونَ لَهُ في نِهايَةِ التَّعْلِيمِ بِالتَّنْبِيهِ عَلى فَسادِ ذَلِكَ لِئَلّا يُدْخِلُوا عَلَيْهِ الشُّكُوكَ في مَقْدِرَتِهِ، فَلِذَلِكَ بَقِيَتْ تِلْكَ الأوْهامُ يَتَلَقّاها الأخْلافُ عَنْ أسْلافِهِمْ، ومِن هَذا النَّوْعِ ضُرُوبٌ هي في الأصْلِ تَجارِبُ لِمِقْدارِ طاعَةِ المُتَعَلِّمِ لِمُعَلِّمِهِ، بَقِيَتْ مُتَلَقّاةً عِنْدَهم عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِثْلَ ارْتِكابِ الخَبائِثِ وإهانَةِ الصّالِحاتِ والأُمُورِ المُقَدَّسَةِ إيهامًا بِأنَّها تُبَلِّغُ إلى مَرْضاةِ الشَّياطِينِ وتَسْخِيرِها، وذَلِكَ في الواقِعِ اخْتِبارٌ لِمِقْدارِ خُضُوعِ المُتَعَلِّمِ، لِأنَّ أكْبَرَ شَيْءٍ عَلى النَّفْسِ نَبْذُ أعَزِّ الأشْياءِ وهو الدِّينُ، ولِأنَّ السَّحَرَةَ لَيْسُوا مِنَ المِلِّيِّينَ فَهم يَبْلُغُونَ بِمُرِيدِيهِمْ إلى مَبالِغِهِمُ السّافِلَةِ، وقَدْ سَمِعْنا أنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعاطَوْنَ السِّحْرَ في المُسْلِمِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم لا يَتَأتّى لَهم نَجاحٌ إلّا بَعْدَ أنْ يُلَطِّخُوا أيْدِيَهم بِالنَّجاساتِ أوْ نَحْوٍ مِن هَذا الضَّلالِ. ونَوْعٌ الغَرَضُ مِنهُ إخْفاءُ الأسْبابِ الحَقِيقِيَّةِ لِتَمْوِيهاتِهِمْ حَتّى لا يَطَّلِعَ النّاسُ عَلى كُنْهِها، فَيَسْتَنِدُونَ في تَعْلِيلِ أعْمالِهِمْ إلى أسْبابٍ كاذِبَةٍ كَنِدائِهِمْ بِأسْماءٍ سَمَّوْها لا مُسَمَّياتِ لَها، ووَضْعِهِمْ أشْكالًا عَلى الوَرَقِ أوْ في الجُدْرانِ يَزْعُمُونَ أنَّ لَها خَصائِصَ التَّأْثِيرِ، واسْتِنادِهِمْ لِطَوالِعِ كَواكِبَ في أوْقاتٍ مُعَيَّنَةٍ لا سِيَّما القَمَرِ، ومِن هَذا تَظاهُرُهم لِلنّاسِ بِمَظْهَرِ الزُّهْدِ والهِمَّةِ. ونَوْعٌ يُسْتَعانُ بِهِ عَلى نُفُوذِ السِّحْرِ وهو التَّجَسُّسُ والتَّطَلُّعُ عَلى خَفايا الأشْياءِ وأسْرارِ النّاسِ بِواسِطَةِ السَّعْيِ بِالنَّمِيمَةِ وإلْقاءِ العَداواتِ بَيْنَ الأقارِبِ والأصْحابِ والأزْواجِ (p-٦٣٦)حَتّى يُفْشِيَ كُلٌّ مِنهم سِرَّ الآخَرِ فَيَتَّخِذَ السّاحِرُ تِلْكَ الأسْرارَ وسِيلَةً يُلْقِي بِها الرُّعْبَ في قُلُوبِ أصْحابِها بِإظْهارِ أنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ والضَّمائِرَ، ثُمَّ هو يَأْمُرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ أرْهَبَهم ويَسْتَخْدِمُهم بِما يَشاءُ فَيُطِيعُونَهُ فَيَأْمُرُ المَرْأةَ بِمُغاضَبَةِ زَوْجِها وطَلَبِ فِراقِهِ ويَأْمُرُ الزَّوْجَ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ وهَكَذا، وفي هَذا القِسْمِ تَظْهَرُ مَقْدِرَةُ السّاحِرِ الفِكْرِيَّةُ وبِهِ تَكْثُرُ أضْرارُهُ وأخْطارُهُ عَلى النّاسِ وجُرْأتُهُ عَلى ارْتِكابِ المُرْعِباتِ والمُطَوِّعاتِ بِاسْتِئْصالِ الأمْوالِ بِالسَّرِقَةِ يَسْرِقُها مَن لا يَتَّهِمُهُ المَسْرُوقُ، ومِنهُ أنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِن خاصَّتِهِ وأبْنائِهِ وزَوْجِهِ الَّذِينَ يَسْتَهْوِيهِمُ السَّحَرَةُ ويُسَخِّرُونَهم لِلْإخْلاصِ لَهم، ويَنْتَهِي فِعْلُ السَّحَرَةِ في هَذا إلى حَدِّ إزْهاقِ النُّفُوسِ الَّتِي يَشْعُرُونَ بِأنَّها تَفَطَّنَتْ لِخَدِيعَتِهِمْ أوِ الَّتِي تَعاصَتْ عَنِ امْتِثالِ أوامِرِهِمْ يُغْرُونَ بِها مَن هي آمَنُ النّاسِ مِنهُ، ثُمَّ اسْتِطْلاعُ ضَمائِرِ النّاسِ بِتَقْرِيراتٍ خَفِيَّةٍ وأسْئِلَةٍ تَدْرِيجِيَّةٍ يُوهِمُهُ بِها أنَّهُ يَسْألُهُ عَنْها لِيُعْلِمَهُ بِمُسْتَقْبَلِهِ. ونَوْعٌ يُجْعَلُ اخْتِبارًا لِمِقْدارِ مَراتِبِ أذْهانِ النّاسِ في قابِلِيَّةِ سِحْرِهِ، وذَلِكَ بِوَضْعِ أشْياءَ في الأطْعِمَةِ خِيفَةَ الظُّهُورِ لِيَرى هَلْ يَتَفَطَّنُ لَها مَن وضَعَها، وبِإبْرازِ خَيالاتٍ أوْ أشْباحٍ يُوهِمُ بِها النّاظِرَ أنَّها جِنٌّ أوْ شَياطِينُ أوْ أرْواحٌ، وما هي إلّا أشْكالٌ مُمَوَّهَةٌ أوْ أعْوانٌ مِن أعْوانِهِ مُتَنَكِّرَةٌ، لِيَنْظُرَ هَلْ يَقْتَنِعُ رائِيها بِما أخْبَرَهُ السّاحِرُ عَنْها أمْ يَتَطَلَّبُ كَشْفَ حَقِيقَتِها أوِ اسْتِقْصاءَ أثَرِها. فَكانَ السِّحْرُ قَرِينَ خَباثَةِ نَفْسِ، وفَسادِ دِينٍ، وشَرِّ عَمَلٍ، وإرْعابٍ وتَهْوِيلٍ عَلى النّاسِ، مِن أجْلِ ذَلِكَ ما فَتِئَتِ الأدْيانُ الحَقَّةُ تُحَذِّرُ النّاسَ مِنهُ وتَعُدُّ الِاشْتِغالَ بِهِ مُرُوقًا عَنْ طاعَةِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى اعْتِقادِ تَأْثِيرِ الآلِهَةِ والجِنِّ المَنسُوبِينَ إلى الآلِهَةِ في عَقائِدِ الأقْدَمِينَ، وقَدْ حَذَّرَ مُوسى قَوْمَهُ مِنَ السِّحْرِ وأهْلِهِ فَفي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الإصْحاحِ ١٨ أنَّ مِمّا خاطَبَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قَوْمَهُ“ مَتى دَخَلْتَ الأرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ لا تَتَعَلَّمْ أنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولَئِكَ الأُمَمِ لا يُوجَدْ فِيكَ مَن يُجِيزُ ابْنَهُ أوِ ابْنَتَهُ في النّارِ ولا مَن يَعْرُفُ عِرافَةً ولا عائِفٌ ولا مُتَفائِلٌ ولا ساحِرٌ ولا مَن يَرْقِي رُقْيَةً ولا مَن يَسْألُ جانًّا أوْ تابِعَةً ولا مَن يَسْتَثِيرُ المَوْتى ”. وجَعَلَتِ التَّوْراةُ جَزاءَ السَّحَرَةِ القَتْلَ، فَفي سِفْرِ اللّاوِيِّينَ الإصْحاحَيْنِ ٢٠ - ٢٧“ وإذا كانَ في رَجُلٍ أوِ امْرَأةٍ جانٌّ أوْ تابِعَةٌ فَإنَّهُ يُقْتَلُ ”. (p-٦٣٧)وذَكَرُوا عَنْ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: الأسْماءُ الَّتِي يَكْتُبُها السَّحَرَةُ في التَّمائِمِ أسْماءُ أصْنامٍ. وقَدْ حَذَّرَ الإسْلامُ مِن عَمَلِ السِّحْرِ وذَمَّهُ في مَواضِعَ ولَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضِي إثْباتِ حَقِيقَةٍ وُجُودِيَّةٍ لِلسِّحْرِ عَلى الإطْلاقِ ولَكِنَّهُ تَحْذِيرٌ مِن فَسادِ العَقائِدِ وخَلْعِ قُيُودِ الدِّيانَةِ ومِن سَخِيفِ الأخْلاقِ. وقَدِ اخْتَلَفَ عُلَماءُ الإسْلامِ في إثْباتِ حَقِيقَةِ السِّحْرِ وإنْكارِها وهو اخْتِلافٌ في الأحْوالِ فِيما أراهُ، فَكُلُّ فَرِيقٍ نَظَرَ إلى صِنْفٍ مِن أصْنافِ ما يُدْعى بِالسِّحْرِ. وحَكى عِياضٌ في إكْمالِ العِلْمِ أنَّ جُمْهُورَ أهْلِ السُّنَّةِ ذَهَبُوا إلى إثْباتِ حَقِيقَتِهِ. قُلْتُ: ولَيْسَ في كَلامِهِمْ وصْفُ كَيْفِيَّةِ السِّحْرِ الَّذِي أثْبَتُوا حَقِيقَتَهُ فَإنَّما أثْبَتُوهُ عَلى الجُمْلَةِ. وذَهَبَ عامَّةُ المُعْتَزِلَةِ إلى أنَّ السِّحْرَ لا حَقِيقَةَ لَهُ، وإنَّما هو تَمْوِيهٌ وتَخَيُّلٌ وأنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الخِفَّةِ والشَّعْوَذَةِ ووافَقَهم عَلى ذَلِكَ بَعْضُ أهْلِ السُّنَّةِ كَما اقْتَضَتْهُ حِكايَةُ عِياضٍ في الإكْمالِ، قُلْتُ: ومِمَّنْ سُمِّيَ مِنهم أبُو إسْحاقَ الِإسْتِرابادِيُّ مِنَ الشّافِعِيَّةِ. والمَسْألَةُ بِحَذافِرِها مِن مَسائِلِ الفُرُوعِ الفِقْهِيَّةِ تَدْخُلُ في عِقابِ المُرْتَدِّينَ والقاتِلِينَ والمُتَحَيِّلِينَ عَلى الأمْوالِ، ولا تَدَخُلُ في أُصُولِ الدِّينِ. وهو وإنْ أنْكَرَهُ المَلاحِدَةُ لا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ إنْكارُهُ إلْحادًا. وهَذِهِ الآيَةُ غَيْرُ صَرِيحَةٍ. وأمّا الحَدِيثُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ آنِفًا. وشَدَّدَ الفُقَهاءُ العُقُوبَةَ في تَعاطِيهِ. قالَ مالِكٌ: يُقْتَلُ السّاحِرُ ولا يُسْتَتابُ إنْ كانَ مُسْلِمًا وإنْ كانَ ذِمِّيًّا لا يُقْتَلُ بَلْ يُؤَدَّبُ إلّا إذا أدْخَلَ بِسِحْرِهِ أضْرارًا عَلى مُسْلِمٍ فَإنَّهُ يُقْتَلُ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ ناقِضًا لِلْعَهْدِ لِأنَّ مِن جُمْلَةِ العَهْدِ أنْ لا يَتَعَرَّضُوا لِلْمُسْلِمِينَ بِالأذى، قالَ الباجِيُّ في المُنْتَقى: رَأى مالِكٌ أنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وشِرْكٌ ودَلِيلٌ عَلَيْهِ، وإنَّهُ لَمّا كانَ يَسْتَتِرُ صاحِبُهُ بِفِعْلِهِ فَهو كالزَّنْدَقَةِ لِأجْلِ إظْهارِ الإسْلامِ وإبِطانِ الكُفْرِ ولِذَلِكَ قالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ وابْنُ المَوّازِ وأصْبَغُ هو كالزِّنْدِيقِ إنْ أسَرَّ السِّحْرَ لا يُسْتَتابُ وإنْ أظْهَرَهُ اسْتُتِيبَ وهو تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ مالِكٍ لا خِلافٌ لَهُ قالَ الباجِيُّ فَلا يُقْتَلُ حَتّى يَثْبُتَ أنَّ ما يَفْعَلُهُ مِنَ السِّحْرِ هو الَّذِي وصَفَهُ اللَّهُ بِأنَّهُ كُفْرٌ قالَ أصْبَغُ يَكْشِفُ ذَلِكَ مَن يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ ويُثْبِتُ ذَلِكَ عِنْدَ الإمامِ. وفِي الكافِي لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ إذا عَمِلَ السِّحْرَ لِأجْلِ القَتْلِ وقَتَلَ بِهِ قُتِلَ وإنْ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا، وقَدْ أدْخَلَ مالِكٌ في المُوَطَّأِ السِّحْرَ في بابِ الغِيلَةِ، فَقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في القَبَسِ: وجْهُ ذَلِكَ أنَّ المَسْحُورَ لا يَعْلَمُ بِعَمَلِ السِّحْرِ حَتّى يَقَعَ فِيهِ، قُلْتُ: لا شَكَّ أنَّ السِّحْرَ الَّذِي جُعِلَ جَزاؤُهُ القَتْلُ هو ما كانَ كُفْرًا صَرِيحًا مَعَ الِاسْتِتارِ بِهِ أوْ حَصَلَ بِهِ إهْلاكُ النُّفُوسِ وذَلِكَ أنَّ السّاحِرَ كانَ يَعِدُ مَن يَأْتِيهِ لِلسِّحْرِ بِأنَّ فُلانًا يَمُوتُ اللَّيْلَةَ أوْ غَدًا أوْ يُصِيبُهُ جُنُونٌ ثُمَّ يَتَحَيَّلُ في إيصالِ (p-٦٣٨)سُمُومٍ خَفِيَّةٍ مِنَ العَقاقِيرِ إلى المَسْحُورِ تُلْقى لَهُ في الطَّعامِ بِواسِطَةِ أُناسٍ مِن أهْلِ المَسْحُورِ فَيُصْبِحُ المَسْحُورُ مَيِّتًا أوْ مُخْتَلَّ العَقْلِ فَهَذا هو مُرادُ مالِكٍ بِأنَّ جَزاءَهُ القَتْلُ أيْ إنْ قَتَلَ، ولِذَلِكَ قالَ: لا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وبِدُونِ هَذا التَّأْوِيلِ لا يَصِحُّ فِقْهُ هَذِهِ المَسْألَةِ، فَقَوْلُ مالِكٍ في السِّحْرِ لَيْسَ اسْتِنادًا لِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ في خُصُوصِ السِّحْرِ ولَكِنَّهُ مِن بابِ تَحْقِيقِ المُناطِ بِتَطْبِيقِ قَواعِدِ التَّعْزِيرِ والإضْرارِ، ولِبَعْضِ فُقَهاءِ المَذْهَبِ في حِكايَةِ هَذِهِ المَسْألَةِ إطْلِاقاتٌ عَجِيبٌ صُدُورُها مِن أمْثالِهِمْ، عَلى أنَّ السِّحْرَ أكْثَرُ ما يُتَطَلَّبُ لِأجْلِ تَسْخِيرِ المُحِبِّينَ مَحْبِوبِيهِمْ، فَهو وسِيلَةٌ في الغالِبِ لِلزِّنا أوْ لِلِانْتِقامِ مِنَ المَحْبُوبِ أوِ الزَّوْجِ. سُئِلَ مالِكٌ عَمَّنْ يَعْقِدُ الرِّجالَ عَنِ النِّساءِ، وعَنِ الجارِيَةِ تُطْعِمُ رَجُلًا شَيْئًا فَيَذْهَبُ عَقْلُهُ فَقالَ: لا يُقْتَلانِ، فَأمّا الَّذِي يَعْقِدُ فَيُؤَدَّبُ، وأمّا الجارِيَةُ فَقَدْ أتَتْ أمْرًا عَظِيمًا قِيلَ أفَتُقْتَلُ ؟ فَقالَ: لا، قالَ ابْنُ رُشْدٍ في البَيانِ: رَأى أنَّ فِعْلَها لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ اهـ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ السّاحِرُ ولا يُسْتَتابُ، وأمّا المَرْأةُ فَتُحْبَسُ حَتّى تَتْرُكَهُ فَجَعَلَ حُكْمَهُ حُكْمَ المُرْتَدِّ، ووَجَّهَ أبُو يُوسُفَ بِأنَّهُ جَمَعَ مَعَ كُفْرِهِ السَّعْيَ في الأرْضِ بِالفَسادِ. وعَنِ الشَّيْخِ أبِي مَنصُورٍ أنَّ القَوْلَ بِأنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلى الإطْلاقِ خَطَأٌ بَلْ يَجِبُ البَحْثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَإنْ كانَ في ذَلِكَ رَدُّ ما لَزِمَ مِن شَرْطِ الإيمانِ فَهو كُفْرٌ وإلّا فَلا، وما لَيْسَ بِكُفْرٍ وفِيهِ إهْلاكُ النَّفْسِ فَفِيهِ حُكْمُ قُطّاعِ الطَّرِيقِ، ويَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ والإناثُ، وتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إذا تابَ، ومَن قالَ لا تُقْبَلُ فَقَدْ خَلَطَ، فَإنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمُ اهـ. وهَذا اسْتِدْلالٌ بِشَرْعِ مَن قَبْلَنا. وقالَ الشّافِعِيُّ يُسْألُ السّاحِرُ عَنْ سِحْرِهِ فَإنْ ظَهَرَ مِنهُ ما هو كُفْرٌ فَهو كالمُرْتَدِّ يُسْتَتابُ، فَإنْ أصَرَّ قُتِلَ، وإنْ ظَهَرَ مِنهُ تَجْوِيزُ تَغْيِيرِ الأشْكالِ لِأسْبابِ قِراءَةِ تِلْكَ الأساطِيرِ أوْ تَدْخِينِ الأدْوِيَةِ وعُلِمَ أنَّهُ يَفْعَلُ مُحَرَّمًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الجِنايَةِ، فَإنِ اعْتَرَفَ بِسَحْرِ إنْسانٍ وأنَّ سِحْرَهُ يَقْتُلُ غالِبًا قُتِلَ قَوَدًا، يَعْنِي إذا ثَبَتَ أنَّهُ ماتَ بِسَبَبِهِ وإنْ قالَ إنَّ سِحْرِي قَدْ يَقْتُلُ وقَدْ لا يَقْتُلُ فَهو شِبْهُ عَمْدٍ، وإنْ كانَ سِحْرُهُ لِغَيْرِ القَتْلِ فَماتَ مِنهُ فَهو قَتْلٌ خَطَأٌ تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِ مُخَفَّفَةً في مالِهِ. ويَجِبُ أنْ يُسْتَخْلَصَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ ومِن مُفْتَرَقِ أقْوالِهِمْ ما يَكُونُ فِيهِ بَصِيرَةٌ لِإجْراءِ أعْمالِ ما يُسَمّى بِالسِّحْرِ وصاحِبُهُ بِالسّاحِرِ مَجْرى جِناياتِ أمْثالِهِ ومِقْدارِ ما أثَّرَهُ مِنَ (p-٦٣٩)الِاعْتِداءِ دُونَ مُبالَغَةٍ ولا أوْهامٍ، وقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ السّاحِرِ اليَوْمَ عَلى اللّاعِبِ بِالشَّعْوَذَةِ في الأسْمارِ، وذَلِكَ مِن أصْنافِ اللَّهْوِ فَلا يَنْبَغِي عَدُّ ذَلِكَ جِنايَةً. * * * ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ ومارُوتَ وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ يَتَعَيَّنُ أنَّ ما مَوْصُولَةٌ وهو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ مُلْكِ سُلَيْمانَ أيْ وما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى ما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ، والمُرادُ بِما أُنْزِلَ ضَرْبٌ مِنَ السِّحْرِ لَكِنَّهُ سِحْرٌ يَشْتَمِلُ عَلى كُفْرٍ عَظِيمٍ وتَعْلِيمِ الخُضُوعِ لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَ الِاسْتِخْفافِ بِالدِّينِ ومَعَ الإضْرارِ بِالنّاسِ، كَما بَيَّناهُ آنِفًا، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلى“ ما تَتْلُو ”الَّذِي هو صادِقٌ عَلى السِّحْرِ فَعُطِفَ“ ما أُنْزِلَ ”عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ نَوْعٌ مِنهُ أشَدُّ مِمّا تَتْلُوهُ الشَّياطِينُ الَّذِينَ كانُوا يُعَلِّمُونَهُ النّاسَ مَعَ السِّحْرِ المَوْضُوعِ مِنهم، فالعَطْفُ لِتَغايُرِ الِاعْتِبارِ أوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ أصْلَ السِّحْرِ مُقْتَبَسٌ مِمّا ظَهَرَ بِبابِلَ في زَمَنِ هَذَيْنِ المُعَلِّمَيْنِ، وعَطْفُ شَيْءٍ عَلى نَفْسِهِ بِاعْتِبارِ تَغايُرِ المَفْهُومِ والِاعْتِبارِ وارِدٌ في كَلامِهِمْ، كَقَوْلِ الشّاعِرِ (وهو مِن شَواهِدِ النَّحْوِ): ؎إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُما مِ ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمِ وقِيلَ أُرِيدَ مِنَ السِّحْرِ أخَفُّ مِمّا وضَعَتْهُ الشَّياطِينُ عَلى عَهْدِ سُلَيْمانَ لِأنَّ غايَةَ ما وُصِفَ بِهِ هَذا الَّذِي ظَهَرَ بِبابِلَ في زَمَنِ هَذَيْنِ المُعَلِّمَيْنِ أنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ، وذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ وفِيهِ ضَعْفٌ. والقِراءَةُ المُتَواتِرَةُ“ المَلَكَيْنِ ”بِفَتْحِ لامِ المَلَكَيْنِ وقَرَأهُ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ والحَسَنُ وابْنُ أبْزى بِكَسْرِ اللّامِ. وكُلُّ هاتِهِ الوُجُوهِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ نُزُولِ شَيْءٍ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ وذَلِكَ هو الَّذِي يَعْنِيهِ سِياقُ الآيَةِ إذا فَصَّلْتَ كَيْفِيَّةَ تَعْلِيمِ هَذَيْنِ المُعَلِّمَيْنِ عِلْمَ السِّحْرِ. فالوَجْهُ أنَّ قَوْلَهُ“ وما أُنْزِلَ ”عُطِفَ عَلى“ مُلْكِ سُلَيْمانَ ”فَهو مَعْمُولٌ لِتَتْلُو الَّذِي هو بِمَعْنى تَكْذِبُ فَيَكُونُ المُرادُ عَدَمَ صِحَّةِ هَذا الخَبَرِ، أيْ ما تَكْذِبُهُ الشَّياطِينُ عَلى ما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ، أيْ يَنْسُبُونَ بَعْضَ السِّحْرِ إلى ما أُنْزِلَ بِبابِلَ. قالَ الفَخْرُ وهو اخْتِيارُ أبِي (p-٦٤٠)مُسْلِمٍ ٥٥، وأنْكَرَ أبُو مُسْلِمٍ أنْ يَكُونَ السِّحْرُ نازِلًا عَلى المَلَكَيْنِ إذْ لا يَجُوزُ أمْرُ اللَّهِ بِهِ، وكَيْفَ يَتَوَلّى المَلائِكَةُ تَعْلِيمَهُ مَعَ أنَّهُ كُفْرٌ أوْ فِسْقٌ، وقِيلَ ما نافِيَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى (ما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أيْ وما كَفَرَ سُلَيْمانُ بِوَضْعِ السِّحْرِ كَما يَزْعُمُ الَّذِينَ وضَعُوهُ، ولا أُنْزِلَ السِّحْرُ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ. وتَعْرِيفُ المَلَكَيْنِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، أوْ هو تَعْرِيفُ العَهْدِ بِأنْ يَكُونَ المَلَكانِ مَعْهُودَيْنِ لَدى العارِفِينَ بِقِصَّةِ ظُهُورِ السِّحْرِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ هارُوتَ ومارُوتَ بَدَلٌ مِنَ الشَّياطِينِ وأنَّ المُرادَ بِالشَّياطِينِ شَيْطانانِ وضَعا السِّحْرَ لِلنّاسِ هُما هارُوتُ ومارُوتُ عَلى أنَّهُ مِن إطْلاقِ الجَمْعِ عَلى المُثَنّى كَقَوْلِهِ“ قُلُوبُكُما ”وهَذا تَأْوِيلٌ خَطَأٌ إذْ يَصِيرُ قَوْلُهُ“ عَلى المَلَكَيْنِ ”كَلامًا حَشْوًا. وعَلى ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ إشْكالٌ مِن أرْبَعَةِ وُجُوهٍ: أحَدُها: كَوْنُ السِّحْرِ مُنْزَلًا إنَّ حُمِلَ الإنْزالُ عَلى المَعْرُوفِ مِنهُ وهو الإنْزالُ مِنَ اللَّهِ، الثّانِي: كَوْنُ المُباشِرِ لِذَلِكَ مَلَكَيْنِ مِنَ المَلائِكَةِ عَلى القِراءَةِ المُتَواتِرَةِ، الثّالِثُ: كَيْفَ يَجْمَعُ المَلَكانِ بَيْنَ قَوْلِهِما (نَحْنُ فِتْنَةٌ) وقَوْلِهِما (فَلا تَكْفُرْ) فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ قَصْدُ الفِتْنَةِ مَعَ التَّحْذِيرِ مِنَ الوُقُوعِ فِيها. الرّابِعُ: كَيْفَ حَصَرا حالَهُما في الِاتِّصافِ بِأنَّهُما فِتْنَةٌ، فَما هي الحِكْمَةُ في تَصَدِّيهِما لِذَلِكَ ؟ لِأنَّهُما إنْ كانا مَلَكَيْنِ فالإشْكالُ ظاهِرٌ، وإنْ كانا مَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللّامِ فَهُما قَدْ عَلِما مَضَّرَةَ الكُفْرِ بِدَلِيلِ نَهْيِهِما عَنْهُ، وعَلِما مَعْنى الفِتْنَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِما (﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾) فَلِماذا تَوَرَّطا في هَذِهِ الحالَةِ ؟ ودَفْعُ هَذا الإشْكالِ بِرُمَّتِهِ أنَّ الإنْزالَ هو الإيصالُ وهو إذا تَعَدّى بِعَلى دَلَّ عَلى إيصالٍ مِن عُلُوٍّ، واشْتُهِرَ ذَلِكَ في إيصالِ العِلْمِ مِن وحْيٍ أوْ إلْهامٍ أوْ نَحْوِهِما، فالإنْزالُ هُنا بِمَعْنى الإلْهامِ وبِمَعْنى الإيداعِ في العَقْلِ، أوْ في الخِلْقَةِ بِأنْ يَكُونَ المَلَكانِ قَدْ بَرَعا في هَذا السِّحْرِ وابْتَكَرا مِنهُ أسالِيبَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُما تَلَقِّيها مِن مُعَلِّمٍ شَأْنُ العَلّامَةِ المُتَصَرِّفِ في عِلْمِهِ المُبْتَكِرِ لِوُجُوهِ المَسائِلِ وعِلَلِها وتَصارِيفِها وفُرُوعِها، والظّاهِرُ عِنْدِي أنْ لَيْسَ المُرادُ بِالإنْزالِ إنْزالَ السِّحْرِ، إذِ السِّحْرُ أمْرٌ مَوْجُودٌ مِن قَبْلُ ولَكِنَّهُ إنْزالُ الأمْرِ لِلْمَلَكَيْنِ أوْ إنْزالُ الوَحْيِ أوِ الإلْهامِ لِلْمَلَكَيْنِ، بِأنْ يَتَصَدَّيا لِبَثِّ خَفايا السِّحْرِ بَيْنَ المُتَعَلِّمِينَ لِيَبْطُلَ انْفِرادُ شِرْذِمَةٍ بِعِلْمِهِ فَيَنْدَفِعُ الوَجْهانِ الأوَّلُ والثّانِي. ثُمَّ إنَّ الحِكْمَةَ مِن تَعْمِيمِ تَعْلِيمِهِ أنَّ السَّحَرَةَ في بابِلَ كانُوا اتَّخِذُوا السِّحْرَ وسِيلَةً لِتَسْخِيرِ العامَّةِ لَهم في أبْدانِهِمْ وعُقُولِهِمْ وأمْوالِهِمْ، ثُمَّ تَطَلَّعُوا مِنهُ إلى تَأْسِيسِ عِبادَةِ الأصْنامِ والكَواكِبِ وزَعَمُوا أنَّهم - أيِ السَّحَرَةُ - مُتَرْجِمُونَ عَنْهم وناطِقُونَ بِإرادَةِ الآلِهَةِ فَحَدَثَ فَسادٌ عَظِيمٌ، وعَمَّتِ الضَّلالَةُ، فَأرادَ اللَّهُ عَلى مُعْتادِ حِكْمَتِهِ إنْقاذَ الخَلْقِ مِن ذَلِكَ فَأرْسَلَ (p-٦٤١)أوْ أوْحى أوْ ألْهَمَ هارُوتَ ومارُوتَ أنْ يَكْشِفا دَقائِقَ هَذا الفَنِّ لِلنّاسِ حَتّى يَشْتَرِكَ النّاسُ كُلُّهم في ذَلِكَ فَيَعْلَمُوا أنَّ السَّحَرَةَ لَيْسُوا عَلى ذَلِكَ ويَرْجِعَ النّاسُ إلى صَلاحِ الحالِ، فانْدَفَعَ الوَجْهُ الثّالِثُ. وأمّا الوَجْهُ الرّابِعُ فَسَتَعْرِفُ دَفْعَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾ الآيَةَ. وفي قِراءَةِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ (المَلِكَيْنِ) بِكَسْرِ اللّامِ وهي قِراءَةٌ صَحِيحَةُ المَعْنى، فَمَعْنى ذَلِكَ أنَّ مَلِكَيْنِ كانا يَمْلِكانِ بِبابِلَ قَدْ عَلِما عِلْمَ السِّحْرِ. وعَلى قِراءَةِ فَتْحِ اللّامِ فالأظْهَرُ في تَأْوِيلِهِ أنَّهُ اسْتِعارَةٌ، وأنَّهُما رَجُلانِ صالِحانِ كانَ حَكَما مَدِينَةَ بابِلَ وكانا قَدِ اطَّلَعا عَلى أسْرارِ السِّحْرِ الَّتِي كانَتْ تَأْتِيها السَّحَرَةُ بِبابِلَ أوْ هُما وضَعا أصْلَهُ ولَمْ يَكُنْ فِيهِ كُفْرٌ، فَأدْخَلَ عَلَيْهِ النّاسُ الكُفْرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وقِيلَ هُما مَلَكانِ أنْزَلَهُما اللَّهُ تَعالى تَشَكَّلا لِلنّاسِ يُعَلِّمانِهِمُ السِّحْرَ لِكَشْفِ أسْرارِ السَّحَرَةِ لِأنَّ السَّحَرَةَ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّهم آلِهَةٌ أوْ رُسُلٌ، فَكانُوا يُسَخِّرُونَ العامَّةَ لَهم، فَأرادَ اللَّهُ تَكْذِيبَهم ذَبّا عَنْ مَقامِ النُّبُوءَةِ فَأنْزَلَ مَلَكَيْنِ لِذَلِكَ. وقَدْ أُجِيبُ بِأنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ في زَمَنِ هارُوتَ ومارُوتَ جائِزٌ عَلى جِهَةِ الِابْتِلاءِ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ، فالطّائِعُ لا يَتَعَلَّمُهُ والعاصِي يُبادِرُ إلَيْهِ وهو فاسِدٌ لِمُنافاتِهِ عُمُومَ قَوْلِهِ“ يُعَلِّمُونَ النّاسَ ”قالُوا: كَما امْتَحَنَ اللَّهُ قَوْمَ طالُوتَ بِالنَّهْرِ إلَخْ ولا يَخْفى فَسادُ التَّنْظِيرِ. وبابِلُ بَلَدٌ قَدِيمٌ مِن مُدُنِ العالَمِ وأصْلُ الِاسْمِ بِاللُّغَةِ الكَلْدانِيَّةِ بابُ إيلُو أيْ بابُ اللَّهِ ويُرادِفُهُ بِالعِبْرانِيَّةِ بابُ إيلَ وهو بَلَدٌ كائِنٌ عَلى ضَفَّتَيِ الفُراتِ بِحَيْثُ يَخْتَرِقُهُ الفُراتُ يَقْرُبُ مَوْضِعُهُ مِن مَوْقِعِ بَلَدِ الحِلَّةِ الآنَ عَلى بُعْدِ أمْيالٍ مِن مُلْتَقى الفُراتِ والدِّجْلَةِ. كانَتْ مِن أعْظَمِ مُدُنِ العالَمِ القَدِيمِ بَناها أوَّلًا أبْناءُ نُوحٍ بَعْدَ الطُّوفانِ فِيما يُقالُ ثُمَّ تَوالى عَلَيْها اعْتِناءُ أصْحابِ الحَضارَةِ بِمُواطِنِ العِراقِ في زَمَنِ المَلِكِ النَّمْرُوذِ في الجِيلِ الثّالِثِ مِن أبْناءِ نُوحٍ ولَكِنَّ ابْتِداءَ عَظَمَةِ بابِلَ كانَ في حُدُودِ سَنَةِ ٣٧٥٥ ثَلاثَةِ آلافٍ وسَبْعِمِائَةٍ وخَمْسٍ وخَمْسِينَ قَبْلَ المَسِيحِ فَكانَتْ إحْدى عَواصِمَ أرْبَعَةٍ لِمَمْلَكَةِ الكَلْدانِيِّينَ وهي أعْظَمُها وأشْهَرُها ولَمْ تَزَلْ هِمَمُ مُلُوكِ الدَّوْلَتَيْنِ الكَلْدانِيَّةِ والأشُورِيَّةِ مُنْصَرِفَةً إلى تَعْمِيرِ هَذا البَلَدِ وتَنْمِيقِهِ فَكانَ بَلَدَ العَجائِبِ مِنَ الأبْنِيَةِ والبَساتِينِ ومَنبَعِ المَعارِفِ الأسْيَوِيَّةِ والعَجائِبِ السِّحْرِيَّةِ وقَدْ نَسَبُوا إلَيْها قَدِيمًا الخَمْرَ المُعَتَّقَةَ والسِّحْرَ قالَ أبُو الطَّيِّبِ:(p-٦٤٢) ؎سَقى اللَّهُ أيّامَ الصِّبا ما يَسُرُّها ∗∗∗ ويَفْعَلُ فِعْلَ البابِلِيِّ المُعَتَّقِ ولِاشْتِهارِ بابِلَ عِنْدَ الأُمَمِ القَدِيمَةِ بِمَعارِفِ السِّحْرِ كَما قَدَّمْنا في تَعْرِيفِ السِّحْرِ صَحَّ جَعْلُ صِلَةِ المَوْصُولِ قَوْلُهُ ﴿أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ﴾ إشارَةً إلى قِصَّةٍ يَعْلَمُونَها. وهارُوتَ ومارُوتَ بَدَلٌ مِنَ المَلَكَيْنِ وهُما اسْمانِ كَلْدانِيّانِ دَخَلَهُما تَغْيِيرُ التَّعْرِيفِ لِإجْرائِهِما عَلى خِفَّةِ الأوْزانِ العَرَبِيَّةِ، والظّاهِرُ أنَّ هارُوتَ مُعَرَّبُ (هارُوكا) وهو اسْمُ القَمَرِ عِنْدَ الكَلْدانِيِّينَ وأنَّ مارُوتَ مُعَرَّبُ (ما رُوداخَ) وهو اسْمُ المُشْتَرِي عِنْدَهم وكانُوا يَعُدُّونَ الكَواكِبَ السَّيّارَةَ مِنَ المَعْبُوداتِ المُقَدَّسَةِ الَّتِي هي دُونَ الآلِهَةِ لا سِيَّما القَمَرِ فَإنَّهُ أشَدُّ الكَواكِبِ تَأْثِيرًا عِنْدَهم في هَذا العالَمِ وهو رَمْزُ الأُنْثى، وكَذَلِكَ المُشْتَرِي فَهو أشْرَفُ الكَواكِبِ السَّبْعَةِ عِنْدَهم ولَعَلَّهُ كانَ رَمْزَ الذَّكَرِ عِنْدَهم كَما كانَ بَعْلٌ عِنْدَ الكَنْعانِيِّينَ الفِنِيقِيِّينَ. ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ إسْنادَ هَذا التَّقْدِيسِ لِلْكَواكِبِ ناشِئٌ عَنِ اعْتِقادِهِمْ أنَّهم كانُوا مِنَ الصّالِحِينَ المُقَدَّسِينَ وأنَّهم بَعْدَ مَوْتِهِمْ رُفِعُوا لِلسَّماءِ في صُورَةِ الكَواكِبِ، فَيَكُونُ (هارُوكا ومارُوداخُ) قَدْ كانا مِن قُدَماءِ عُلَمائِهِمْ وصالِحِيهِمْ والحاكِمَيْنِ في البِلادِ وهُما اللَّذانِ وضَعا السِّحْرَ ولَعَلَّ هَذا وجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْهُما في القِصَّةِ بِالمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللّامِ، ولِأهْلِ القِصَصِ هُنا قِصَّةٌ خُرافِيَّةٌ مِن مَوْضُوعاتِ اليَهُودِ في خُرافاتِهِمُ الحَدِيثَةِ اعْتادَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ ذِكْرَها مِنهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ والبَيْضاوِيُّ وأشارَ المُحَقِّقُونَ مِثْلُ البَيْضاوِيِّ والفَخْرِ وابْنِ كَثِيرٍ والقُرْطُبِيِّ وابْنِ عَرَفَةَ إلى كَذِبِها وأنَّها مِن مَرْوِيّاتِ كَعْبِ الأحْبارِ وقَدْ وهِمَ فِيها بَعْضُ المُتَساهِلِينَ في الحَدِيثِ فَنَسَبُوا رِوايَتَها عَنِ النَّبِيءِ ﷺ أوْ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ بِأسانِيدَ واهِيَةٍ والعَجَبُ لِلْإمامِ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى كَيْفَ أخْرَجَها مُسْنَدَةً لِلنَّبِيءِ ﷺ ولَعَلَّها مَدْسُوسَةٌ عَلى الإمامِ أحْمَدَ أوْ أنَّهُ غَرَّهُ فِيها ظاهِرُ حالِ رُواتِها، مَعَ أنَّ فِيهِمْ مُوسى بْنَ جُبَيْرٍ وهو مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، واعْتَذَرَ عَبْدُ الحَكِيمِ بِأنَّ الرِّوايَةَ صَحِيحَةٌ إلّا أنَّ المَرْوِيَّ راجِعٌ إلى أخْبارِ اليَهُودِ فَهو باطِلٌ (p-٦٤٣)فِي نَفْسِهِ ورُواتُهُ صادِقُونَ فِيما رَوَوْا وهَذا عُذْرٌ قَبِيحٌ لِأنَّ الرِّوايَةَ أُسْنِدَتْ إلى النَّبِيءِ ﷺ قالَ ابْنُ عَرَفَةَ في تَفْسِيرِهِ وقَدْ كانَ الشُّيُوخُ يُخَطِّئُونَ ابْنَ عَطِيَّةَ في هَذا المَوْضِعِ لِأجْلِ ذِكْرِهِ القِصَّةَ، ونَقَلَ بَعْضُهم عَنِ القَرافِيِّ أنَّ مالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ أنْكَرَ ذَلِكَ في حَقِّ هارُوتَ ومارُوتَ. وقَوْلُهُ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِن هارُوتَ ومارُوتَ، وما نافِيَةٌ، والتَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ لِحِكايَةِ الحالِ إشارَةٌ إلى أنَّ قَوْلَهُما لِمُتَعَلِّمِي السِّحْرِ ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ قَوْلٌ مُقارِنٌ لِوَقْتِ التَّعْلِيمِ لا مُتَأخِّرٌ عَنْهُ. وقَدْ عُلِمَ مِن هَذا أنَّهُما كانا مُعَلِّمَيْنِ وطَوى ذَلِكَ لِلِاسْتِغْناءِ عَنْهُ بِمَضْمُونِ هاتِهِ الجُمْلَةِ، فَهو مِن إيجازِ الحَذْفِ أوْ هو مِن لَحْنِ الخِطابِ مَفْهُومٌ لِلْغايَةِ. وقَوْلُهُ“ ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ ”الفِتْنَةُ لَفْظٌ يَجْمَعُ مَعْنى مَرَجٍ واضْطِرابِ أحْوالِ أحَدٍ وتَشَتُّتِ بالِهِ بِالخَوْفِ والخَطَرِ عَلى الأنْفُسِ والأمْوالِ عَلى غَيْرِ عَدْلٍ ولا نِظامٍ، وقَدْ تُخَصَّصُ وتُعَمَّمُ بِحَسَبِ ما تُضافُ إلَيْهِ أوْ بِحَسَبِ المَقامِ، يُقالُ فِتْنَةُ المالِ وفِتْنَةُ الدِّينِ. ولِما كانَتْ هَذِهِ الحالَةُ يَخْتَلِفُ ثَباتُ النّاسِ فِيها بِحَسَبِ اخْتِلافِ رَجاحَةِ عُقُولِهِمْ وصَبْرِهِمْ ومَقْدِرَتِهِمْ عَلى حُسْنِ المَخارِجِ مِنها، كانَ مِن لَوازِمِها الِابْتِلاءُ والِاخْتِبارُ فَكانَ ذَلِكَ مِنَ المَعانِي الَّتِي يُكَنّى بِالفِتْنَةِ عَنْها كَثِيرًا، ولِذَلِكَ تَسامَحَ بَعْضُ عُلَماءِ اللُّغَةِ فَفَسَّرَ الفِتْنَةَ بِالِابْتِلاءِ وجَرَّأهُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُ النّاسِ فَتَنْتُ الذَّهَبَ أوِ الفِضَّةَ إذا أذابَهُما بِالنّارِ لِتَمْيِيزِ الرَّدِيءِ مِنَ الجَيِّدِ، وهَذا الإطْلاقُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُوَلَّدًا فَإنَّ مَعْنى الِاخْتِبارِ غَيْرُ مَنظُورٍ إلَيْهِ في لَفْظِ الفِتْنَةِ، وإنَّما المَنظُورُ إلَيْهِ ما في الإذابَةِ مِنَ الِاضْطِرابِ والمَرَجِ وقَدْ سَمّى القُرْآنُ هارُوتَ ومارُوتَ فِتْنَةً وقالَ ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [البروج: ١٠] وقالَ ﴿لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ﴾ [الأعراف: ٢٧] والإخْبارُ عَنْ أنْفُسِهِمْ بِأنَّهم فِتْنَةٌ إخْبارٌ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ، وقَدْ أُكِّدَتِ المُبالَغَةُ بِالحَصْرِ الإضافِيِّ، والمَقْصِدُ مِن ذَلِكَ أنَّهُما كانا يُصَرِّحانِ أنْ لَيْسَ في عِلْمِهِما شَيْءٌ مِنَ الخَيْرِ الإلَهِيِّ، وأنَّهُ فِتْنَةٌ مَحْضَةٌ، ابْتِلاءٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبادِهِ في مِقْدارِ تَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ، وإنَّما كانا فِتْنَةً لِأنَّ كُلَّ مَن تَعَلَّمَ مِنهُما عَمِلَ بِهِ. فَلا تَكْفُرْ كَما كَفَرَ السَّحَرَةُ حِينَ نَسَبُوا التَّأْثِيراتِ لِلْآلِهَةِ وقَدْ عَلِمْتَ سِرَّها. وفي هَذا ما يُضْعِفُ أنْ يَكُونَ المَقْصِدُ مِن تَعْلِيمِهِما النّاسَ السِّحْرَ إظْهارَ كَذِبِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ نَسَبُوا أنْفُسَهم لِلْأُلُوهِيَّةِ أوِ النُّبُوءَةِ. والَّذِي يَظْهَرُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ أنَّ قَوْلَهُما“ ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ ”قَصْرٌ ادِّعائِيٌّ لِلْمُبالَغَةِ، فَجَعَلا كَثْرَةَ افْتِتانِ النّاسِ بِالسِّحْرِ الَّذِي تَصَدَّيا لِتَعْلِيمِهِ بِمَنزِلَةِ انْحِصارِ أوْصافِهِما في الفِتْنَةِ، ووَجْهُ (p-٦٤٤)ابْتِدائِهِما لِمَن يُعَلِّمانِهِ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ أنْ يُبَيِّنا لَهُ أنَّ هَذا العِلْمَ في مَبادِئِهِ يَظْهَرُ كَأنَّهُ فِتْنَةٌ وشَرٌّ فَيُوشِكُ أنْ يَكْفُرَ مُتَعَلِّمُهُ عِنْدَ مُفاجَأةِ تِلْكَ التَّعالِيمِ إيّاهُ إذا كانَتْ نَفْسُهُ قَدْ تَوَطَّنَتْ عَلى اعْتِقادِ أنَّ ظُهُورَ خَوارِقِ العاداتِ عَلّامَةٌ عَلى أُلُوهِيَّةِ مَن يُظْهِرُها، وقَوْلُهُما“ ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾ ”أيْ لا تَعْجَلْ بِاعْتِقادِ ذَلِكَ فِينا فَإنَّكَ إذا تَوَغَّلْتَ في مَعارِفِ السِّحْرِ عَلِمْتَ أنَّها مَعْلُولَةٌ لِعِلَلٍ مِن خَصائِصِ النُّفُوسِ أوْ خَصائِصِ الأشْياءِ، فالفِتْنَةُ تَحْصُلُ لِمَن يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ حِينَ يَرى ظَواهِرَهُ وعَجائِبَهُ عَلى أيْدِي السَّحَرَةِ ولِمَن كانَ في مَبْدَأِ التَّعْلِيمِ، فَإذا تَحَقَّقَ في عِلْمِهِ انْدَفَعَتِ الفِتْنَةُ فَذَلِكَ مَعْنى قَوْلِهِما“ ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾ ”بِمَنزِلَةِ فَلا تَفْتَتِنْ وقَدِ انْدَفَعَ الإشْكالُ الرّابِعُ المُتَقَدِّمُ. * * * ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهُمْ﴾ تَفْرِيعٌ عَمّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا﴾ المُقْتَضِي أنَّ التَّعْلِيمَ حاصِلٌ فَيَتَعَلَّمُونَ، والضَّمِيرُ في فَيَتَعَلَّمُونَ راجِعٌ لِأحَدِ الواقِعِ في حَيِّزِ النَّفْيِ مَدْخُولًا لِـ (مِن) الِاسْتِغْراقِيَّةِ في قَوْلِهِ تَعالى“ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾ ”فَإنَّهُ بِمَعْنى كُلُّ أحَدٍ، فَصارَ مَدْلُولُهُ جَمْعًا. قَوْلُهُ ﴿ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ﴾ إشارَةٌ إلى جُزْئِيٍّ مِن جُزْئِيّاتِ السِّحْرِ وهو أقْصى تَأْثِيراتِهِ إذْ فِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ طَرَفِي آصِرَةٍ مَتِينَةٍ إذْ هي آصِرَةُ مَوَدَّةٍ ورَحْمَةٍ، قالَ تَعالى ﴿ومِن آياتِهِ أنْ خَلَقَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١] فَإنَّ المَوَدَّةَ وحْدَها آصِرَةٌ عَظِيمَةٌ وهي آصِرَةُ الصَّداقَةِ والأُخُوَّةِ وتَفارِيعِهِما: والرَّحْمَةُ وحْدَها آصِرَةٌ مِنها الأُبُوَّةٌ والبُنُوَّةٌ، فَما ظَنُّكم بِآصِرَةٍ جَمَعَتِ الأمْرَيْنِ وكانَتْ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعالى وما هو بِجَعْلِ اللَّهِ فَهو في أقْصى دَرَجاتِ الإتْقانِ، وقَدْ كانَ يُشِيرُ إلى هَذا المَعْنى شَيْخُنا الجَلِيلُ سالِمٌ أبُو حاجِبٍ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١] وهَذا التَّفْرِيقُ يَكُونُ إمّا بِاسْتِعْمالِ مُفْسِداتٍ لِعَقْلِ أحَدِ الزَّوْجَيْنِ حَتّى يُبْغِضَ زَوْجَهُ، وإمّا بِإلْقاءِ الحِيَلِ والتَّمْوِيهاتِ والنَّمِيمَةِ حَتّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُما. وقَوْلُهُ ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وضَمِيرُ هم عائِدٌ إلى أحَدٍ مِن قَوْلِهِ“ ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ﴾ ”لِوُقُوعِهِ في سِياقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ أحَدٍ مِنَ المُتَعَلِّمِينَ أيْ وما المُتَعَلِّمُونَ بِضارِّينَ بِالسِّحْرِ أحَدًا. وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ السِّحْرَ لا تَأْثِيرَ لَهُ بِذاتِهِ وإنَّما يَخْتَلِفُ (p-٦٤٥)تَأْثِيرُ حِيَلِهِ بِاخْتِلافِ قابِلِيَّةِ المَسْحُورِ، وتِلْكَ القابِلِيَّةُ مُتَفاوِتَةٌ ولَها أحْوالٌ كَثِيرَةٌ أجْمَلَتْها الآيَةُ بِالِاسْتِثْناءِ مِن قَوْلِهِ: ﴿إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾، أيْ يَجْعَلُ اللَّهُ أسْبابَ القابِلِيَّةِ لِأثَرِ السِّحْرِ في بَعْضِ النُّفُوسِ فَهَذا إجْمالٌ حَسَنٌ مُناسِبٌ لِحالِ المُسْلِمِينَ المُوَجَّهِ إلَيْهِمُ الكَلامُ لِأنَّهم تَخَلَّقُوا بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ، ولَيْسَ المَقامُ مَقامَ تَفْصِيلِ الأسْبابِ والمُؤَثِّراتِ، ولَكِنَّ المَقْصُودَ إبْطالُ أنْ تَكُونَ لِلسِّحْرِ حالَةٌ ذاتِيَّةٌ وقَواعِدُ غَيْرُ مُمَوَّهَةٍ، فالباءُ في قَوْلِهِ بِإذْنِ اللَّهِ لِلْمُلابَسَةِ. وأصْلُ الإذْنِ في اللُّغَةِ هو إباحَةُ الفِعْلِ، واسْتَأْذَنَ طَلَبَ الإذْنَ في الفِعْلِ أوْ في الدُّخُولِ لِلْبَيْتِ وقَدِ اسْتَعْمَلَهُ القُرْآنُ مَجازًا في مَعْنى التَّمْكِينِ إمّا بِخَلْقِ أسْبابِ الفِعْلِ الخارِقَةِ لِلْعادَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿وتُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ بِإذْنِي﴾ [المائدة: ١١٠] وإمّا بِاسْتِمْرارِ الأسْبابِ المُودَعَةِ في الأشْياءِ والقُوى، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما أصابَكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٦٦] فَقَوْلُهُ ﴿وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ إلّا بِما أعَدَّ اللَّهُ في قابِلِ السِّحْرِ مِنِ اسْتِعْدادٍ لِأنْ يُضَرَّ بِهِ فَإنَّ هَذا الِاسْتِعْدادَ وإمْكانَ التَّأثُّرِ مَخْلُوقٌ في صاحِبِهِ فَهو بِإذْنِ اللَّهِ ومَشِيئَتِهِ كَذا قَرَّرَهُ الرّاغِبُ وهو يَرْجِعُ إلى اسْتِعْمالِ مِمّا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَلِمَةُ إذَنْ ( ومِن هَذا القَبِيلِ ونَظِيرِهِ لَفْظَةُ الأمْرِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: ١١] أيْ مِمّا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تُلْحِقُ أضْرارَها لِلنّاسِ وقَدِ اشْتُهِرَ هَذا الِاسْتِعْمالُ في لِسانِ الشَّرْعِ حَتّى صارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً في مَعْنى المَشِيئَةِ والإرادَةِ فَيَنْبَغِي أنْ يَلْحَقَ بِالألْفاظِ الَّتِي فَرَّقَ المُتَكَلِّمُونَ بَيْنَ مَدْلُولاتِها وهي الرِّضا والمَحَبَّةُ والأمْرُ والمَشِيئَةُ والإرادَةُ. فَلَيْسَ المَعْنى أنَّ السِّحْرَ قَدْ يَضُرُّ وقَدْ لا يَضُرُّ بَلِ المَعْنى أنَّهُ لا يَضُرُّ مِنهُ إلّا ما كانَ إيصالُ أشْياءَ ضارٌّ بِطَبْعِها وقَوْلُهُ ﴿ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهُمْ﴾ يَعْنِي: ما يَضُرُّ النّاسَ ضُرًّا آخَرَ غَيْرَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ فَضَمِيرُ يَضُرُّهم عائِدٌ عَلى غَيْرِ ما عادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ يَتَعَلَّمُونَ والمَعْنى: أنَّ أُمُورَ السِّحْرِ لا يَأْتِي مِنها إلّا الضُّرُّ أيْ في الدُّنْيا فالسّاحِرُ لا يَسْتَطِيعُ سِحْرَ أحَدٍ لِيَصِيرَ ذَكِيًّا بَعْدَ أنْ كانَ بَلِيدًا أوْ لِيَصِيرَ غَنِيًّا بَعْدَ الفَقْرِ وهَذا زِيادَةُ تَنْبِيهٍ عَلى سَخافَةِ عُقُولِ المُشْتَغِلِينَ بِهِ وهو مَقْصِدُ الآيَةِ وبِهَذا التَّفْسِيرِ يَكُونُ عَطْفُ قَوْلِهِ ولا يَنْفَعُهم تَأْسِيسًا لا تَأْكِيدًا والمُلاحَظُ في هَذا الضُّرِّ والنَّفْعِ هو ما يَحْصُلُ في الدُّنْيا وأمّا حالُهم في الآخِرَةِ فَسَيُفِيدُهُ قَوْلُهُ ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ وقَدْ أفادَتِ الآيَةُ بِجَمْعِها بَيْنَ إثْباتِ الضُّرِّ ونَفْيِ النَّفْعِ الَّذِي هو ضِدُّهُ مُفادَ الحَصْرِ كَأنَّهُ قِيلَ: ويَتَعَلَّمُونَ ما لَيْسَ إلّا ضُرًّا كَقَوْلِ السَّمَوْألِ وعَبْدِ المَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الحارِثِيِّ:(p-٦٤٦) ؎تَسِيلُ عَلى حَدِّ الظُّباتِ نُفُوسُنا ولَيْسَ عَلى غَيْرِ الظُّباتِ تَسِيلُ وعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ القَصْرِ لِتِلْكَ النُّكْتَةِ المُتَقَدِّمَةِ وهي التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ ضُرٌّ. وإعادَةُ فِعْلِ يَتَعَلَّمُونَ مَعَ حَرْفِ العَطْفِ لِأجْلِ ما وقَعَ مِنَ الفَصْلِ بِالجُمْلَةِ المُعْتَرِضَةِ. * * * ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ﴾ أيِ اتَّبَعُوا ذَلِكَ كُلَّهُ وهم قَدْ عَلِمُوا إلَخْ والضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ تَبَعًا لِضَمِيرِ واتَّبَعُوا، أوِ الواوُ لِلْحالِ أيْ في حالِ أنَّهم تَحَقَّقَ عِلْمُهم. واللّامُ في لَقَدْ عَلِمُوا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لامَ القَسَمِ وهي اللّامُ الَّتِي مِن شَأْنِها أنْ تَدْخُلَ عَلى جَوابِ القَسَمِ لِرَبْطِهِ بِالقَسَمِ ثُمَّ يَحْذِفُونَ القَسَمَ كَثِيرًا اسْتِغْناءً لِدَلالَةِ الجَوابِ عَلَيْهِ دَلالَةً التِزامِيَّةً؛ لِأنَّهُ لا يَنْتَظِمُ جَوابٌ بِدُونِ مُجابٍ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لامَ الِابْتِداءِ، وهي لامٌ تُفِيدُ تَأْكِيدَ القَسَمِ ويَكْثُرُ دُخُولُها في صَدْرِ الكَلامِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَها لامُ الِابْتِداءِ والِاحْتِمالانِ حاصِلانِ في كُلِّ كَلامٍ صالِحٍ لِلْقَسَمِ ولَيْسَ فِيهِ قَسَمٌ، فَإنَّ حَذْفَ لَفْظِ القَسَمِ مُشْعِرٌ في المَقامِ الخَطابِيِّ بِأنَّ المُتَكَلِّمَ غَيْرُ حَرِيصٍ عَلى مَزِيدِ التَّأْكِيدِ كَما كانَ ذِكْرُ إنَّ وحْدَها في تَأْكِيدِ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أضْعَفَ تَأْكِيدًا مِنَ الجَمْعِ بَيْنَها وبَيْنَ لامِ الِابْتِداءِ؛ لِأنَّهُما أداتا تَأْكِيدٍ. قالَ الرَّضِيُّ إنَّ مَواقِعَ لامِ القَسَمِ في نَظَرِ الجُمْهُورِ هي كُلُّها لاماتُ الِابْتِداءِ. والكُوفِيُّونَ لا يُثْبِتُونَ لامَ الِابْتِداءِ ويَحْمِلُونَ مَواقِعَها عَلى مَعْنى القَسَمِ المَحْذُوفِ، والخِلافُ في هَذا مُتَقارِبٌ. واللّامُ في قَوْلِهِ“ ﴿لَمَنِ اشْتَراهُ﴾ ”يَجُوزُ كَوْنُها لامَ قَسَمٍ أيْضًا تَأْكِيدًا لِلْمَعْلُومِ أيْ عَلِمُوا تَحْقِيقَ أنَّهُ لا خَلاقَ لِمُشْتَرِي السِّحْرِ ويَجُوزُ كَوْنُها لامَ ابْتِداءٍ. والِاشْتِراءُ هو اكْتِسابُ شَيْءٍ بِبَذْلِ غَيْرِهِ فالمَعْنى أنَّهُمُ اكْتَسَبُوهُ بِبَذْلِ إيمانِهِمُ المُعَبِّرِ عَنْهُ فِيما يَأْتِي بِقَوْلِهِ“ أنْفُسَهم ”. والخَلاقُ الحَظُّ مِنَ الخَيْرِ خاصَّةً. فَفِي الحَدِيثِ ( «إنَّما يَلْبَسُ هَذا مِن لا خَلاقَ لَهُ» ( وقالَ البُعَيْثُ بْنُ حُرَيْثٍ: ؎ولَسْتُ وإنْ قَرُبْتُ يَوْمًا بِبائِعٍ خَلاقِي ولا دِينِي ابْتِغاءَ التَّحَبُّبِ ونَفْيُ الخَلاقِ وهو نَكِرَةٌ مَعَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بِمِنَ الِاسْتِغْراقِيَّةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ تَعاطِيَ هَذا السِّحْرِ جُرْمُ كُفْرٍ أوْ دُونَهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمُتَعاطِيهِ حَظٌّ مِنَ الخَيْرِ في الآخِرَةِ وإذا انْتَفى كُلُّ (p-٦٤٧)حَظٍّ مِنَ الخَيْرِ ثَبَتَ الشَّرُّ كُلُّهُ لِأنَّ الرّاحَةَ مِنَ الشَّرِّ خَيْرٌ وهي حالَةُ الكَفافِ وقَدْ تَمَنّاها الفُضَلاءُ أوْ دُونَهُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى. قَوْلُهُ ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى“ ولَقَدْ عَلِمُوا ”عَطْفُ الإنْشاءِ عَلى الخَبَرِ و“ شَرَوْا ”بِمَعْنى: باعُوا بِمَعْنى بَذَلُوا وهو مُقابِلُ قَوْلِهِ“ لَمَنِ اشْتَراهُ ”ومَعْنى بَذْلِ النَّفْسِ هو التَّسَبُّبُ لَها في الخَسارِ والبَوارِ. وقَوْلُهُ“ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ”مُقْتَضٍ لِنَفْيِ العِلْمِ بِطَرِيقِ لَوِ الِامْتِناعِيَّةِ. والعِلْمُ المَنفِيُّ عَنْهم هُنا هو غَيْرُ العِلْمِ المُثْبَتِ لَهم في قَوْلِهِ“ ولَقَدْ عَلِمُوا ”إلّا أنَّ الَّذِي عَلِمُوهُ هو أنَّ مُكْتَسِبَ السِّحْرِ ما لَهُ خَلاقٌ في الآخِرَةِ والَّذِي جَهِلُوهُ هُنا هو أنَّ السِّحْرَ شَيْءٌ مَذْمُومٌ وفِيهِ تَجْهِيلٌ لَهم حَيْثُ عَلِمُوا أنَّ صاحِبَهُ لا خَلاقَ لَهُ ولَمْ يَهْتَدُوا إلى أنَّ نَفْيَ الخَلاقِ يَسْتَلْزِمُ الخُسْرانَ إذْ ما بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ وهَذا هو الوَجْهُ لِأنَّ“ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ”ذُيِّلَ بِهِ قَوْلُهُ ﴿ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ دَلِيلُ مَفْعُولِهِ، وبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ الإشْكالُ عَنْ إثْباتِ العِلْمِ ونَفْيِهِ في مَعْلُومٍ واحِدٍ بِناءً عَلى أنَّ العِلْمَ بِأنَّهُ لا خَلاقَ لِصاحِبِ السِّحْرِ عَيْنُ مَعْنى كَوْنِ السِّحْرِ مَذْمُومًا، فَكَيْفَ يُعَدُّونَ غَيْرَ عالِمَيْنِ بِذَمِّهِ ؟ وقَدْ عَلِمْتَ وجْهَهُ وهَذا هو الَّذِي تُحْمَلُ عَلَيْهِ الآيَةُ. ولَهم في الجَوابِ عَنْ دَفْعِ الإشْكالِ وُجُوهٌ أُخْرى أحَدُها ما ذَهَبَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشّافِ وتَبِعَهُ صاحِبُ المِفْتاحِ مِن أنَّ المُرادَ مِن نَفْيِ العِلْمِ هو أنَّهم لَمّا كانُوا في عِلْمِهِمْ كَمَن لا يَعْلَمُ بِعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِهِ نَفْيُ العِلْمِ عَنْهم لِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِهِ، أيْ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالعِلْمِ المَنفِيِّ هو عِلْمُ كَوْنِ ما يَتَعاطَوْنَهُ مِن جُمْلَةِ السِّحْرِ المَنهِيِّ عَنْهُ، فَكَأنَّهم عَلِمُوا مَذَمَّةَ السِّحْرِ عِلْمًا كُلِّيًّا، ولَمْ يَتَفَطَّنُوا لِكَوْنِ صَنِيعِهِمْ مِنهُ كَما قالُوا: إنَّ الفَقِيهَ يَعْلَمُ كُبْرى القِياسِ والقاضِيَ والمُفْتِيَ يَعْلَمانِ صُغْراهُ وأنَّ الفَقِيهَ كالصَّيْدَلانِيِّ والقاضِيَ والمُفْتِيَ كالطَّبِيبِ وهَذا الوَجْهُ الَّذِي اخْتَرْناهُ. الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ“ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ”ما يَتْبَعُهُ مِنَ العَذابِ في الآخِرَةِ أيْ فَهم ظَنُّوا أنَّ عَدَمَ الخِلافِ لا يَسْتَلْزِمُ العَذابَ وهَذا قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي ذَكَرْناهُ. الرّابِعُ: أنَّ المُرادَ مِنَ العِلْمِ المَنفِيِّ التَّفَكُّرُ ومِنَ المُثْبَتِ العِلْمُ الغَرِيزِيُّ وهَذا وجْهٌ بَعِيدٌ جِدًّا إذْ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ عِلْمُهم بِأنَّ مَنِ اكْتَسَبَ السِّحْرَ لا خَلاقَ لَهُ عِلْمًا غَرِيزِيًّا فَلَوْ قِيلَ العِلْمُ التَّصَوُّرِيُّ والعِلْمُ التَّصْدِيقِيُّ. وفي الجَمْعِ بَيْنَ لَقَدْ عَلِمُوا ولَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ طِباقٌ عَجِيبٌ. (p-٦٤٨)وهُنالِكَ جَوابٌ آخَرُ مَبْنِيٌّ عَلى اخْتِلافِ مُعادِ ضَمِيرِ“ عَلِمُوا ”وضَمِيرَيِّ“ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ”فَضَمِيرُ“ لَقَدْ عَلِمُوا ”راجِعٌ إلى الجِنِّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ السِّحْرَ وضَمِيرا“ ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ " راجِعانِ إلى الإنْسِ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا السِّحْرَ وشَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم، قالَهُ قُطْرُبٌ والأخْفَشُ وبِذَلِكَ صارَ الَّذِينَ أُثْبِتَ لَهُمُ العِلْمُ غَيْرَ المَنفِيِّ عَنْهم.


ركن الترجمة

And they follow what devilish beings used to chant against the authority of Solomon, though Solomon never disbelieved and only the devils denied, who taught sorcery to men, which, they said, had been revealed to the angels of Babylon, Harut and Marut, who, however, never taught it without saying: "We have been sent to deceive you, so do not renounce (your faith)." They learnt what led to discord between husband and wife. Yet they could not harm any one or without the dispensation of God. And they learnt what harmed them and brought no gain. They knew indeed whoever bought this had no place in the world to come, and that surely they had sold themselves for something that was vile. If only they had sense!

Et ils suivirent ce que les diables racontent contre le règne de Solayman. Alors que Solayman n'a jamais été mécréant mais bien les diables: ils enseignent aux gens la magie ainsi que ce qui est descendu aux deux anges Hârout et Mârout, à Babylone; mais ceux-ci n'enseignaient rien à personne, qu'ils n'aient dit d'abord: «Nous ne sommes rien qu'une tentation: ne sois pas mécréant» ils apprennent auprès d'eux ce qui sème la désunion entre l'homme et son épouse. Or ils ne sont capables de nuire à personne qu'avec la permission d'Allah. Et les gens apprennent ce qui leur nuit et ne leur est pas profitable. Et ils savent, très certainement, que celui qui acquiert [ce pouvoir] n'aura aucune part dans l'au-delà. Certes, quelle détestable marchandise pour laquelle ils ont vendu leurs âmes! Si seulement ils savaient!

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :