موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
السبت 2 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل11 ماي 2024


الآية [123] من سورة  

وَإِذِ اِ۪بْتَل۪يٰٓ إِبْرَٰهِـيمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّے جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماٗۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِےۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِيَ اَ۬لظَّٰلِمِينَۖ


ركن التفسير

124 - (و) اذكر (إذ ابتلى) اختبر (إبراهيمَ) وفي قراءة إبراهام (ربُّه بكلمات) بأوامر ونواه كلفه بها ، قيل هي مناسك الحج ، وقيل المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الشعر وقلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء (فأتمهن) أداهن تامات (قال) تعالى له (إني جاعلك للناس إماما) قدوة في الدين (قال ومن ذريتي) أولادي اجعل أئمة (قال لا ينال عهديْ) بالإمامة (الظالمين) الكافرين منهم دل على أنه ينال غير الظالم

يقول تعالى منبها على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي ولهذا قال "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليهم وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين اذكر لهؤلاء ابتلاء اللّه إبراهيم أي اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي "فأتمهن" أي قام بهن كلهن كما قال تعالى "وإبراهيم الذي وفى" أي وفى جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه وقال تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقال تعالى "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقال تعالى "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا واللّه ولي المؤمنين" وقوله تعالى "بكلمات" أي بشرائع وأوامر ونواهٍ فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام "وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين" وتطلق يراد بها الشرعية كقوله تعالى "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" أي كلماته الشرعية وهي إما خبر صدق وإما طلب عدل إن كان أمرا أو نهي ومن ذلك هذه الآية الكريمة "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" أي قام بهن قال "إني جاعلك للناس إماما" أي جزاء على ما فعل كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله اللّه للناس قدوة وإماما يقتدى به ويحتذى حذوه. وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام فروي عن ابن عباس في ذلك روايات فقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال ابن عباس: ابتلاه اللّه بالمناسك وكذا رواه أبو إسحق السبيعي عن التميمي عن ابن عباس وقال عبدالرزاق أيضا أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس "وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك "قلت" وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء" قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط" ولفظه لمسلم. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن ابن حنش بن عبد اللّه الصنعاني عن ابن عباس أنه كان يقول في تفسير هذه الآية"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"قال عشر ست في الإنسان وأربع في المشاعر. فأما التي في الإنسان حلق العانة ونتف الإبط والختان وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة. وتقليم الأظفار وقص الشارب والسواك وغسل يوم الجمعة والأربعة التي في المشاعر الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والإفاضة. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم قال الله تعالى "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قلت له وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال: الإسلام ثلاثون سهما منها عشر آيات في براءة "التائبون العابدون" إلى آخر الآية وعشر آيات في أول سورة "قد أفلح المؤمنون" و "سأل سائل بعذاب واقع" وعشر آيات في الأحزاب "إن المسلمين والمسلمات" إلى آخر الآية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة قال الله "وإبراهيم الذي وفى" هكذا. رواه الحاكم وأبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند به وهذا لفظ ابن أبي حاتم وقال محمد ابن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه فلما مضى على ذلك كله وأخلصه للبلاء قال الله له "أسلم قال أسلمت لرب العالمين" على ما كان من خلاف الناس وفراقهم. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن يعني البصري "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال ابتلاه بالكوكب فرضي عنه وابتلاه بالقمر فرضي عنه وابتلاه بالشمس فرضي عنه وابتلاه بالهجرة فرضي عنه وابتلاه بالختان فرضي عنه وابتلاه بابنه فرضي عنه. وقال ابن جرير أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا سعيد عن قتادة قال كان الحسن يقول: أي والله لقد ابتلاه بأمر فصبر عليه - ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فأحسن في ذلك وعرف أن ربه دائم لا يزول فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك وابتلاه الله بذبح ابنه والختان فصبر على ذلك وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في قوله "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه الله بذبح ولده وبالنار والكوكب والقمر والشمس وقال: أبو جعفر بن جرير أخبرنا ابن بشار أخبرنا سلم بن قتيبة أخبرنا أبو هلال عن الحسن "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فوجده صابرا: وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" فمنهن "قال إني جاعلك للناس إماما" ومنهن "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" ومنهن الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم والرزق الذي رزق ساكنو البيت ومحمد بعث في دينهما: وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال الله لإبراهيم إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما؟ قال: نعم قال: ومن ذريتي؟ "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم قال: وأَمْنا؟ قال نعم: قال وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك قال: نعم قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله؟ قال نعم: قال ابن أبي نجيح سمعته من عكرمة فعرضته على مجاهد فلم ينكره وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال ابتلي بالآيات التي بعدها "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال الكلمات "إني جاعلك للناس إماما وقوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" الآية. قوله "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الآية. قال فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قال السدي الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" وقال القرطبي: وفي الموطأ وغيره عن يحيى ابن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن وأول من ضاف الضيف وأول من قلم أظفاره وأول من قص الشارب وأول من شاب فلما رأى الشيب قال: يا رب ما هذا؟ قال وقار قال: يا رب زدني وقارا وذكر ابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال أول من خطب على المنابر إبراهيم عليه السلام قال غيره وأول من برد البريد وأول من ضرب بالسيف وأول من استاك وأول من استنجى بالماء وأول من لبس السراويل وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وأن اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" "قلت": هذا الحديث لا يثبت والله أعلم ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية. قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع قال ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. قال غير أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران أحدهما ما حدثنا به أبو كريب أخبرنا راشد بن سعد حدثني زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: "سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون" إلى آخر الآية قال والآخر منهما ما حدثنا به أبو كريب أخبرنا الحسن عن عطية أخبرنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإبراهيم الذي وفى" قال أتدرون ما وفى قالوا الله ورسوله أعلم؟ قال "وفي عمل يومه أربع ركعات في النهار" ورواه آدم في تفسيره عن حماد بن سلمة وعبد بن حميد عن يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن جعفر بن الزبير به ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين وهو كما قال فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما وضعفهما من وجوه عديدة فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه والله أعلم. ثم قال ابن جرير ولو قال قائل إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبا لأن قوله "إني جاعلك للناس إماما" وقوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" الآية وسائر الآيات التي هى نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم "قلت" والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم. وقوله قال "ومن ذريتي" قال "لا ينال عهدي الظالمين" لما جعل الله إبراهيم إماما سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تعالى في سورة العنكبوت "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه وأما قوله تعالى قال "لا ينال عهدي الظالمين" فقد اختلفوا في ذلك فقال خصيف عن مجاهد في قوله "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال إنه سيكون في ذريتك ظالمون وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا يكون لي إمام ظالم وفي رواية لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال لا يكون إمام ظالم يقتدى به. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا مالك بن إسماعيل أخبرنا شريك عن منصور عن مجاهد في قوله "ومن ذريتي" قال أما من كان منهم صالحا فأجعله إماما يقتدى به وأما من كان ظالما فلا ولا نعمة عين وقال سعيد بن جبير "لا ينال عهدي الظالمين" المراد به المشرك لا يكون إمام ظالم يقول لا يكون إمام مشرك. وقال ابن جريج عن عطاء قال "إني جاعلك للناس إماما" قال ومن ذريتي فأبى أن يجعل من ذريته إماما ظالما قلت لعطاء ما عهده قال أمره. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إلي أخبرنا الفريابي حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال الله لإبراهيم "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي" فأبى أن يفعل ثم قال "لا ينال عهدي الظالمين" وقال محمد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله ومحسن ستنفذ فيه دعوته وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته وقال العوفي عن ابن عباس "لا ينال عهدي الظالمين" قال يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه وقال ابن جرير حدثنا إسحق أخبرنا عبدالرحمن بن عبداللّه عن إسرائيل عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال لا ينال عهدي الظالمين عهد وإن عاهدته وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحو ذلك: وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال ليس لظالم عهد وقال: عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وعاش وكذا قال: إبراهيم النخعي وعطاء والحسن وعكرمة وقال الربيع بن أنس عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه يقول لا ينال دينه الظالمين ألا ترى أنه قال "وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين" يقول ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق وكذا روي عن أبي العالية وعطاء ومقاتل بن حيان وقال: جويبر عن الضحاك لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني: وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه أخبرنا عبدالرحمن بن محمد بن حامد أخبرنا أحمد بن عبدالله بن سعيد الدامغاني أخبرنا وكيع عن الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا ينال عهدي الظالمين" قال " لا طاعة إلا في المعروف وقال السدي "لا ينال عهدي الظالمين" يقول عهدي نبوتي - فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل عليه السلام أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه كما تقدم عن مجاهد وغيره والله أعلم وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا شاهدا ولا راويا.

﴿وإذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا قالَ ومِن ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِيَ الظّالِمِينَ﴾ لَمّا كَمُلَتِ الحُجَجُ نُهُوضًا عَلى أهْلِ الكِتابَيْنِ ومُشْرِكِي العَرَبِ في عَمِيقِ ضَلالِهِمْ بِإعْراضِهِمْ عَنِ الإسْلامِ، وتَبْيِنِ سُوءِ نَواياهُمُ الَّتِي حالَتْ دُونَ الِاهْتِداءِ بِهَدْيِهِ والِانْتِفاعِ بِفَضْلِهِ، وسَجَّلَ ذَلِكَ عَلى زُعَماءِ المُعانِدِينَ أعْنِي اليَهُودَ ابْتِداءً بِقَوْلِهِ يا بَنِي إسْرائِيلَ مَرَّتَيْنِ، وأدْمَجَ مَعَهُمُ النَّصارى اسْتِطْرادًا مَقْصُودًا، ثُمَّ أُنْصِفَ المُنْصِفُونَ مِنهُمُ الَّذِينَ يَتْلُونَ الكِتابَ حَقَّ تِلاوَتِهِ، انْتَقَلَ إلى تَوْجِيهِ التَّوْبِيخِ والتَّذْكِيرِ إلى العَرَبِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم أفْضَلُ ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ وأنَّهم يَتَعَلَّقُونَ بِمِلَّتِهِ، وأنَّهم زَرْعُ إسْماعِيلَ وسَدَنَةُ البَيْتِ الَّذِي بَناهُ، وكانُوا قَدْ وُخِزُوا بِجانِبٍ مِنَ التَّعْرِيضِ في خِلالِ المُحاوَراتِ الَّتِي جَرَتْ مَعَ أهْلِ الكِتابِ لِلصِّفَةِ الَّتِي جَمَعَتْهم وإيّاهم مِن حَسَدِ النَّبِيءِ والمُسْلِمِينَ عَلى ما أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِن خَيْرٍ، ومِن قَوْلِهِمْ: لَيْسَ المُسْلِمُونَ عَلى شَيْءٍ، ومِن قَوْلِهِمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا، ومِن قَوْلِهِمْ: لَوْلا يُكَلِّمُنا اللَّهُ. فَلَمّا أخَذَ اليَهُودُ والنَّصارى حَظَّهم مِنَ الإنْذارِ والمَوْعِظَةِ كامِلًا فِيما اخْتَصُّوا بِهِ، وأخَذُوا مَعَ المُشْرِكِينَ حَظَّهم مِن ذَلِكَ فِيما اشْتَرَكُوا فِيهِ تَهَيَّأ المَقامُ لِلتَّوَجُّهِ إلى مُشْرِكِي العَرَبِ لِإعْطائِهِمْ حَظَّهم مِنَ المَوْعِظَةِ كامِلًا فِيما (p-٧٠٠)اخْتَصُّوا بِهِ، فَمُناسَبَةُ ذِكْرِ فَضائِلِ إبْراهِيمَ ومَنزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ ودَعْوَتِهِ لِعَقِبِهِ عَقِبَ ذِكْرِ أحْوالِ بَنِي إسْرائِيلَ، هي الِاتِّحادُ في المَقْصِدِ، فَإنَّ المَقْصُودَ مِن تَذْكِيرِ بَنِي إسْرائِيلَ بِالنِّعَمِ، والتَّخْوِيفِ، تَحْرِيضُهم عَلى الإنْصافِ في تَلَقِّي الدَّعْوَةِ الإسْلامِيَّةِ والتَّجَرُّدِ مِنَ المُكابَرَةِ والحَسَدِ وتَرْكِ الحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِنَيْلِ السَّعادَةِ الأُخْرَوِيَّةِ. والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِ قِصَّةِ إبْراهِيمَ مَوْعِظَةُ المُشْرِكِينَ ابْتِداءً وبَنِي إسْرائِيلَ تَبَعًا لَهُ، لِأنَّ العَرَبَ أشَدُّ اخْتِصاصًا بِإبْراهِيمَ مِن حَيْثُ إنَّهم يَزِيدُونَ عَلى نَسَبِهِمْ إلَيْهِ بِكَوْنِهِمْ حَفَظَةَ حَرَمِهِ، ومُنْتَمِينَ قَدِيمًا لِلْحَنِيفِيَّةِ ولَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِمْ دِينٌ يُخالِفُ الحَنِيفِيَّةَ بِخِلافِ أهْلِ الكِتابَيْنِ. فَحَقِيقٌ أنْ نَجْعَلَ قَوْلَهُ ”﴿وإذِ ابْتَلى﴾“ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] كَما دَلَّ عَلَيْهِ افْتِتاحُهُ بِإذْ عَلى نَحْوِ افْتِتاحِ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ بِقَوْلِهِ ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] فَإنَّ الأوَّلَ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ الخَلْقِ الأوَّلِ وقَدْ وقَعَ عَقِبَ التَّعَجُّبِ مِن كُفْرِ المُشْرِكِينَ بِالخالِقِ في قَوْلِهِ ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] ثُمَّ عُقِّبَتْ تِلْكَ التَّذْكِرَةُ بِإنْذارِ مَن يَكْفُرُ بِآياتِ اللَّهِ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِقَوْلِهِ ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى﴾ [البقرة: ٣٨] الآيَةَ، ثُمَّ خُصَّ مِن بَيْنِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بَنُو إسْرائِيلَ الَّذِينَ عُهِدَ إلَيْهِمْ عَلى لِسانِ مُوسى عَهْدُ الإيمانِ وتَصْدِيقُ الرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِما مَعَهم، لِأنَّهم صارُوا بِمَنزِلَةِ الشُّهَداءِ عَلى ذُرِّيَّةِ آدَمَ. فَتَهَيَّأ المَقامُ لِتَذْكِيرِ الفَرِيقَيْنِ بِأبِيهِمُ الأقْرَبِ وهو إبْراهِيمُ أيُّ وجْهٍ يَكُونُ المَقْصُودُ بِالخِطابِ فِيهِ ابْتِداءً العَرَبَ، ويَضُمُّ الفَرِيقَ الآخَرَ مَعَهم في قَرَنٍ، ولِذَلِكَ كانَ مُعْظَمُ الثَّناءِ عَلى إبْراهِيمَ بِذِكْرِ بِناءِ البَيْتِ الحَرامِ وما تَبِعَهُ إلى أنْ ذُكِرَتِ القِبْلَةُ وسَطَ ذَلِكَ، ثُمَّ طَوى بِالِانْتِقالِ إلى ذِكْرِ سَلَفِ بَنِي إسْرائِيلَ بِقَوْلِهِ ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ﴾ [البقرة: ١٣٣] لِيُفْضِيَ إلى قَوْلِهِ ﴿وقالُوا كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى تَهْتَدُوا﴾ [البقرة: ١٣٥] فَيَرْجِعُ إلى تَفْضِيلِ الحَنِيفِيَّةِ والإعْلامِ بِأنَّها أصْلُ الإسْلامِ وأنَّ المُشْرِكِينَ لَيْسُوا في شَيْءٍ مِنها وكَذَلِكَ اليَهُودَ والنَّصارى. وقَدِ افْتَتَحَ ذِكْرَ هَذَيْنِ الطَّوْرَيْنِ بِفَضْلِ ذِكْرِ فَضْلِ الأبَوَيْنِ آدَمَ وإبْراهِيمَ، فَجاءَ الخَبَرانِ عَلى أُسْلُوبٍ واحِدٍ عَلى أبْدَعِ وجْهٍ وأحْكَمِ نَظْمٍ. فَتَعَيَّنَ أنَّ تَقْدِيرَ الكَلامِ واذْكُرْ إذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ. ومِنَ النّاسِ مَن زَعَمَ أنَّ قَوْلَهُ ”﴿وإذِ ابْتَلى﴾“ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ ”نِعْمَتِي“ أيِ اذْكُرُوا نِعْمَتِي وابْتِلائِي (p-٧٠١)إبْراهِيمَ، ويَلْزَمُهُ تَخْصِيصُ هاتِهِ المَوْعِظَةِ بِبَنِي إسْرائِيلَ، وتَخَلَّلَ ”﴿واتَّقُوا يَوْمًا﴾ [البقرة: ١٢٣]“ بَيْنَ المَعْطُوفَيْنِ وذَلِكَ يُضَيِّقُ شُمُولَ الآيَةِ، وقَدْ أُدْمِجَ في ذَلِكَ قَوْلُهُ ”﴿ومِن ذُرِّيَّتِي﴾“ وقَوْلُهُ ﴿لا يَنالُ عَهْدِيَ الظّالِمِينَ﴾ وفي هَذِهِ الآيَةِ مَقْصِدٌ آخَرُ وهو تَمْهِيدُ الِانْتِقالِ إلى فَضائِلِ البَلَدِ الحَرامِ والبَيْتِ الحَرامِ، لِإقامَةِ الحُجَّةِ عَلى الَّذِينَ عَجِبُوا مِن نَسْخِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ وتَذَرَّعُوا بِذَلِكَ إلى الطَّعْنِ في الإسْلامِ بِوُقُوعِ النَّسْخِ فِيهِ، وإلى تَنْفِيرِ عامَّةِ أهْلِ الكِتابِ مِنِ اتِّباعِهِ لِأنَّهُ غَيَّرَ قِبْلَتَهم لِيُظْهِرَ لَهم أنَّ الكَعْبَةَ هي أجْدَرُ بِالِاسْتِقْبالِ وأنَّ اللَّهَ اسْتَبْقاها لِهَذِهِ الأُمَّةِ تَنْبِيهًا عَلى مَزِيَّةِ هَذا الدِّينِ. والِابْتِلاءُ افْتِعالٌ مِنَ البَلاءِ، وصِيغَةُ الِافْتِعالِ هُنا لِلْمُبالَغَةِ، والبَلاءُ الِاخْتِبارُ وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿وفِي ذَلِكم بَلاءٌ مِن رَبِّكم عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٤٩] وهو مَجازٌ مَشْهُورٌ فِيهِ لِأنَّ الَّذِي يُكَلِّفُ غَيْرَهُ بِشَيْءٍ يَكُونُ تَكْلِيفُهُ مُتَضَمِّنًا انْتِظارَ فِعْلِهِ أوْ تَرْكِهِ فَيَلْزَمُهُ الِاخْتِبارُ فَهو مَجازٌ عَلى مَجازٍ، والمُرادُ هُنا التَّكْلِيفُ لِأنَّ اللَّهَ كَلَّفَهُ بِأوامِرَ ونَواهٍ إمّا مِنَ الفَضائِلِ والآدابِ وإمّا مِنَ الأحْكامِ التَّكْلِيفِيَّةِ الخاصَّةِ بِهِ، ولَيْسَ في إسْنادِ الِابْتِلاءِ إلى اللَّهِ تَعالى إشْكالٌ بَعْدَ أنْ عَرَفْتَ أنَّهُ مَجازٌ في التَّكْلِيفِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ اسْتِعارَةً تَمْثِيلِيَّةً، وكَيْفَما كانَ فَطَرِيقُ التَّكْلِيفِ وحْيٌ لا مَحالَةَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ إبْراهِيمَ أُوحِيَ إلَيْهِ بِنُبُوءَةٍ لِتَتَهَيَّأ نَفْسُهُ لِتَلَقِّي الشَّرِيعَةِ فَلَمّا امْتَثَلَ ما أُمِرَ بِهِ أُوحِيَ إلَيْهِ بِالرِّسالَةِ وهي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا﴾ فَتَكُونُ جُمْلَةُ ”﴿إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا﴾“ بَدَلَ بَعْضٍ مِن جُمْلَةِ ”وإذِ ابْتَلى“ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِابْتِلاءُ هو الوَحْيُ بِالرِّسالَةِ ويَكُونُ قَوْلُهُ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا تَفْسِيرًا لِابْتَلى. والإمامُ الرَّسُولُ والقُدْوَةُ. وإبْراهِيمُ اسْمُ الرَّسُولِ العَظِيمِ المُلَقَّبِ بِالخَلِيلِ وهو إبْراهِيمُ بْنُ تارَحَ وتُسَمِّي العَرَبُ تارَحَ آزَرَ بْنَ ناحُورَ بْنِ سُرُوجِ، بْنِ رَعْوِ، بْنِ فالِحَ، بْنِ عابِرَ بْنِ شالِحَ بْنِ أرْفِكْشادَ، بْنِ سامِ بْنِ نُوحٍ هَكَذا تَقُولُ التَّوْراةُ، ومَعْنى إبْراهِيمَ في لُغَةِ الكَلْدانِيِّينَ: أبٌ رَحِيمٌ أوْ أبٌ راحِمٌ قالَهُ السُّهَيْلِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ، وفي التَّوْراةِ أنَّ اسْمَ إبْراهِيمَ إبْرامُ وأنَّ اللَّهَ لَمّا أوْحى إلَيْهِ وكَلَّمَهُ أمَرَهُ أنْ يُسَمّى إبْراهِيمَ لِأنَّهُ يَجْعَلُهُ أبا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ، فَمَعْنى إبْراهِيمَ عَلى هَذا أبُو أُمَمٍ كَثِيرَةٍ. وُلِدَ في أُورِ الكَلْدانِيِّينَ سَنَةَ ١٩٩٦ سِتٍّ وتِسْعِينَ وتِسْعِمِائَةٍ وألْفٍ قَبْلَ مِيلادِ المَسِيحِ، ثُمَّ انْتَقَلَ بِهِ والِدُهُ إلى أرْضِ كَنْعانَ وهي أرْضُ الفِنِيقِيِّينَ فَأقامُوا بِحارانَ (هي حَوْرانُ) (p-٧٠٢)ثُمَّ خَرَجَ مِنها لِقَحْطٍ أصابَ حارانَ فَدَخَلَ مِصْرَ وزَوْجُهُ سارَّةُ وهُنالِكَ رامَ مَلِكُ مِصْرَ افْتِكاكَ سارَّةَ فَرَأى آيَةً صَرَفَتْهُ عَنْ مَرامِهِ فَأكْرَمَها وأهْداها جارِيَةً مِصْرِيَّةً اسْمُها هاجَرُ وهي أُمُّ ولَدِهِ إسْماعِيلَ، وسَمّاهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إبْراهِيمَ، وأسْكَنَ ابْنَهُ إسْماعِيلَ وأُمَّهُ هاجَرَ بِوادِي مَكَّةَ ثُمَّ لَمّا شَبَّ إسْماعِيلُ بَنى إبْراهِيمُ البَيْتَ الحَرامَ هُنالِكَ. وتُوُفِّيَ إبْراهِيمُ سَنَةَ ١٧٧٣ ثَلاثٍ وسَبْعِينَ وسَبْعِمِائَةٍ وألْفٍ قَبْلَ مِيلادِ المَسِيحِ، وفي اسْمِهِ لُغاتٌ لِلْعَرَبِ: إحْداها إبْراهِيمُ وهي المَشْهُورَةُ وقَرَأ بِها الجُمْهُورُ، والثّانِيَةُ: إبْراهامُ وقَعَتْ في قِراءَةِ هِشامٍ عَنِ ابْنِ عامِرٍ حَيْثُما وقَعَ اسْمُ إبْراهِيمَ، الثّالِثَةُ: إبْراهِمُ وقَعَتْ في رَجَزٍ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: ؎عُذْتُ بِما عاذَ بِهِ إبْراهِمْ مُسْتَقْبِلَ الكَعْبَةِ وهو قائِمْ وذَكَرَ أبُو شامَةَ في شَرْحِ حِرْزِ الأمانِيِّ عَنِ الفَرّاءِ في إبْراهِيمَ سِتَّ لُغاتٍ: إبْراهِيمُ، إبْراهامُ، إبْراهُومُ، إبْراهِمُ، بِكَسْرِ الهاءِ، إبْراهَمُ بِفَتْحِ الهاءِ، إبْراهُمُ بِضَمِّ الهاءِ. ولَمْ يَقْرَأْ جُمْهُورُ القُرّاءِ العَشَرَةِ إلّا بِالأُولى، وقَرَأ بَعْضُهم بِالثّانِيَةِ في ثَلاثَةٍ وثَلاثِينَ مَوْضِعًا سَيَقَعُ التَّنْبِيهُ عَلَيْها في مَواضِعِها، ومَعَ اخْتِلافِ هَذِهِ القِراءاتِ فَهو لَمْ يُكْتَبْ في مُعْظَمِ المَصاحِفِ الأصْلِيَّةِ إلّا إبْراهِيمُ بِإثْباتِ الياءِ، قالَ أبُو عَمْرٍو الدّانِيُّ لَمْ أجِدْ في مَصاحِفِ العِراقِ والشّامِ مَكْتُوبًا إبْراهَمَ بِمِيمٍ بَعْدَ الهاءِ ولَمْ يُكْتَبْ في شَيْءٍ مِنَ المَصاحِفِ إبْراهامُ بِالألْفِ بَعْدِ الهاءِ عَلى وفْقِ قِراءَةِ هِشامٍ، قالَ أبُو زُرْعَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ذَكْوانَ قالَ: سَمِعْتُ أبا خُلَيْدٍ القارِئَ يَقُولُ في القُرْآنِ سِتَّةٌ وثَلاثُونَ مَوْضِعًا إبْراهامُ قالَ أبُو خُلَيْدٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمالِكِ بْنِ أنَسٍ فَقالَ عِنْدَنا مُصْحَفٌ قَدِيمٌ فَنَظَرَ فِيهِ ثُمَّ أعْلَمَنِي أنَّهُ وجَدَها فِيهِ كَذَلِكَ، وقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ مِهْرانَ رُوِيَ عَنْ مالِكِ بْنِ أنَسٍ أنَّهُ قِيلَ لَهُ إنَّ أهْلَ دِمَشْقَ يَقْرَءُونَ إبْراهامَ ويَدَّعُونَ أنَّها قِراءَةُ عُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقالَ مالِكٌ ها مُصْحَفُ عُثْمانَ عِنْدِي ثُمَّ دَعا بِهِ فَإذا فِيهِ كَما قَرَأ أهْلُ دِمَشْقَ. وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ وهو لَفْظُ إبْراهِيمُ لِأنَّ المَقْصُودَ تَشْرِيفُ إبْراهِيمَ بِإضافَةِ اسْمِ رَبٍّ إلى اسْمِهِ مَعَ مُراعاةِ الإيجازِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ وإذِ ابْتَلى اللَّهُ إبْراهِيمَ. (p-٧٠٣)والكَلِماتُ الكَلامُ الَّذِي أوْحى اللَّهُ بِهِ إلى إبْراهِيمَ إذِ الكَلِمَةُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلى مَعْنًى والمُرادُ بِها هُنا الجُمَلُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿كَلّا إنَّها كَلِمَةٌ هو قائِلُها﴾ [المؤمنون: ١٠٠] وأجْمَلَها هُنا إذْ لَيْسَ الغَرَضُ تَفْصِيلَ شَرِيعَةِ إبْراهِيمَ ولا بَسْطَ القِصَّةِ والحِكايَةِ وإنَّما الغَرَضُ بَيانُ فَضْلِ إبْراهِيمَ بِبَيانِ ظُهُورِ عَزْمِهِ وامْتِثالِهِ لِتَكالِيفٍ فَأتى بِها كامِلَةً فَجُوزِيَ بِعَظِيمِ الجَزاءِ، وهَذِهِ عادَةُ القُرْآنِ في إجْمالِ ما لَيْسَ بِمَحَلِّ الحاجَةِ، ولَعَلَّ جَمْعَ الكَلِماتِ جَمْعُ السَّلامَةِ يُؤْذِنُ بِأنَّ المُرادَ بِها أُصُولُ الحَنِيفِيَّةِ وهي قَلِيلَةُ العَدَدِ كَثِيرَةُ الكُلْفَةِ، فَلَعَلَّ مِنها الأمْرَ بِذَبْحِ ولَدِهِ، وأمَرَهُ بِالِاخْتِتانِ، وبِالمُهاجَرَةِ بِهاجَرَ إلى شَقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وأعْظَمُ ذَلِكَ أمْرُهُ بِذَبْحِ ولَدِهِ إسْماعِيلَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إلَيْهِ في الرُّؤْيا، وقَدْ سُمِّيَ ذَلِكَ بَلاءٌ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ هَذا لَهو البَلاءُ المُبِينُ﴾ [الصافات: ١٠٦] وقَوْلُهُ ”فَأتَمَهُنَّ“ جِيءَ فِيهِ بِالفاءِ لِلدَّلالَةِ عَلى الفَوْرِ في الِامْتِثالِ وذَلِكَ مِن شِدَّةِ العَزْمِ، والإتْمامُ في الأصْلِ الإتْيانُ بِنِهايَةِ الفِعْلِ أوْ إكْمالُ آخِرِ أجْزاءِ المَصْنُوعِ. وتَعْدِيَةُ فِعْلِ أتَمَّ إلى ضَمِيرِ كَلِماتٍ مَجازٌ عَقْلِيٌّ، وهو مِن تَعْلِيقِ الفِعْلِ بِحاوِي المَفْعُولِ لِأنَّهُ كالمَكانِ لَهُ وفي مَعْنى الإتْمامِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإبْراهِيمَ الَّذِي وفّى﴾ [النجم: ٣٧] وقَوْلُهُ ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾ [الصافات: ١٠٥] فالإفْعالُ هُنا بِمَعْنى إيقاعِ الفِعْلِ عَلى الوَجْهِ الأتَمِّ ولَيْسَ المُرادُ بِالهَمْزِ التَّصْيِيرَ أيْ صَيَّرَها تامَّةً بَعْدَ أنْ كانَتْ ناقِصَةً إذْ لَيْسَ المُرادُ أنَّهُ فَعَلَ بَعْضَها ثُمَّ أتى بِالبَعْضِ الآخَرِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ ”فَأتْمَهُنَّ“ مَعَ إيجازِهِ عَلى الِامْتِثالِ وإتْقانِهِ والفَوْرِ فِيهِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ هي المَقْصُودُ مِن جُزْءِ القِصَّةِ فَيَكُونُ عَطْفُها لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ ابْتُلى فامْتَثَلَ كَقَوْلِكَ دَعَوْتُ فُلانًا فَأجابَ. وجُمْلَةُ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عَمّا اقْتَضاهُ قَوْلُهُ ﴿وإذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ﴾ مِن تَعْظِيمِ الخَبَرِ والتَّنْوِيهِ بِهِ، لِما يَقْتَضِيه ظَرْفُ إذْ مِنَ الإشارَةِ إلى قِصَّةٍ مِنَ الأخْبارِ التّارِيخِيَّةِ العَظِيمَةِ فَيَتَرَقَّبُ السّامِعُ ما يَتَرَتَّبُ عَلى اقْتِصاصِها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الفَصْلُ عَلى طَرِيقَةِ المُقاوَلَةِ لِأنَّ هَذا القَوْلَ مُجاوَبَةٌ لِما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ابْتَلى والإمامُ مُشْتَقٌّ مِنَ الأمِّ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وهو القَصْدُ وهو وزْنُ فَعّالٍ مِن صِيَغِ الآلَةِ سَماعًا كالعِمادِ والنِّقابِ والإزارِ والرِّداءِ، فَأصْلُهُ ما يَحْصُلُ بِهِ الأمُّ أيِ القَصْدُ ولَمّا كانَ الدّالُّ عَلى الطَّرِيقِ يَقْتَدِي بِهِ السّايِرُ دَلَّ الإمامُ عَلى القُدْوَةِ والهادِي. والمُرادُ بِالإمامِ هُنا الرَّسُولُ فَإنَّ الرِّسالَةَ أكْمَلُ أنْواعِ الإمامَةِ والرَّسُولُ أكْمَلُ أفْرادِ هَذا النَّوْعِ. وإنَّما عَدَلَ عَنِ التَّعْيِينِ بِرَسُولًا إلى إمامًا لِيَكُونَ ذَلِكَ دالًّا عَلى أنَّ رِسالَتَهُ تَنْفَعُ (p-٧٠٤)الأُمَّةَ المُرْسَلَ إلَيْها بِطَرِيقِ التَّبْلِيغِ، وتَنْفَعُ غَيْرَهم مِنَ الأُمَمِ بِطَرِيقِ الِاقْتِداءِ، فَإنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَحَلَ إلى آفاقٍ كَثِيرَةٍ فَتَنَقَّلَ مِن بِلادِ الكَلْدانِ إلى العِراقِ وإلى الشّامِ والحِجازِ ومِصْرَ، وكانَ في جَمِيعِ مَنازِلِهِ مَحَلَّ التَّبْجِيلِ ولا شَكَّ أنَّ التَّبْجِيلَ يَبْعَثُ عَلى الِاقْتِداءِ، وقَدْ قِيلَ إنَّ دِينَ بَرْهَما المُتَّبَعَ في الهِنْدِ أصْلُهُ مَنسُوبٌ إلى اسْمِ إبْراهَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ تَحْرِيفٍ أُدْخِلَ عَلى ذَلِكَ الدِّينِ كَما أُدْخِلَ التَّحْرِيفُ عَلى الحَنِيفِيَّةِ، ولِيَتَأتّى الإيجازُ في حِكايَةِ قَوْلِ إبْراهِيمَ الآتِي ”ومِن ذُرِّيَّتِي“ فَيَكُونُ قَدْ سَألَ أنْ يَكُونَ في ذُرِّيَّتِهِ الإمامَةُ بِأنْواعِها مِن رِسالَةٍ ومُلْكٍ وقُدْوَةٍ عَلى حَسَبِ التَّهَيُّؤِ فِيهِمْ، وأقَلُّ أنْواعِ الإمامَةِ كَوْنُ الرَّجُلِ الكامِلِ قُدْوَةً لِبَنِيهِ وأهْلِ بَيْتِهِ وتَلامِيذِهِ. وقَوْلُهُ ”﴿قالَ ومِن ذُرِّيَّتِي﴾“ جَوابٌ صَدَرَ مِن إبْراهِيمَ فَلِذا حُكِيَ بِقالَ دُونَ عاطِفٍ عَلى طَرِيقِ حِكايَةِ المُحاوَراتِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] والمَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلى خِطابِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ يُسَمُّونَهُ عَطْفَ التَّلْقِينِ وهو عَطْفُ المُخاطَبِ كَلامًا عَلى ما وقَعَ في كَلامِ المُتَكَلِّمِ تَنْزِيلًا لِنَفْسِهِ في مَنزِلَةِ المُتَكَلِّمِ يُكْمِلُ لَهُ شَيْئًا تَرَكَهُ المُتَكَلِّمُ إمّا عَنْ غَفْلَةٍ وإمّا عَنِ اقْتِصارٍ فَيُلَقِّنُهُ السّامِعُ تَدارُكَهُ بِحَيْثُ يَلْتَئِمُ مِنَ الكَلامَيْنِ كَلامٌ تامٌّ في اعْتِقادِ المُخاطَبِ. وفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «قالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بايَعْتُ النَّبِيءَ عَلى شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ إلَخْ فَشَرَطَ عَلَيَّ والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»، ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِلَّذِي سَألَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ فَقالَ لَعَنَ اللَّهُ ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ فَقالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ”إنَّ وراكِبَها، وقَدْ لَقَّبُوهُ عَطْفَ التَّلْقِينِ كَما في شَرْحِ التَّفْتَزانِيِّ عَلى الكَشّافِ وذَلِكَ لِأنَّ أكْثَرَ وُقُوعِ مِثْلِهِ في مَوْقِعِ العَطْفِ، والأوْلى أنْ تُحْذَفَ كَلِمَةُ عَطْفَ ونُسَمِّي هَذا الصِّنْفَ مِنَ الكَلامِ بِاسْمِ التَّلْقِينِ وهو تَلْقِينُ السّامِعِ المُتَكَلِّمِ ما يَراهُ حَقِيقًا بِأنْ يُلْحِقَهُ بِكَلامِهِ، فَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقَةِ العَطْفِ وهو الغالِبُ كَما هُنا، وقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهامِ الِانْكارِيِّ والحالِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أوَلَوْ كانَ آباؤُهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ [البقرة: ١٧٠] فَإنَّ الواوَ مَعَ لَوِ الوَصْلِيَّةِ واوُ الحالِ ولَيْسَ واوَ العَطْفِ فَهو إنْكارٌ عَلى إلْحاقِهِمُ المُسْتَفْهَمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ ودَعْواهم، وقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِثْناءِ كَقَوْلِ العَبّاسِ «لَمّا قالَ النَّبِيءُ ﷺ في حَرَمِ مَكَّةَ“ لا يُعْضَدُ شَجَرُهُ ”فَقالَ العَبّاسُ إلّا الإذْخِرَ لِبُيُوتِنا وقَيْنِنا»، ولِلْكَلامِ المَعْطُوفِ عَطْفَ التَّلْقِينِ مِنَ الحُكْمِ حُكْمُ (p-٧٠٥)الكَلامِ المَعْطُوفِ هو عَلَيْهِ خَبَرًا وطَلَبًا، فَإذا كانَ كَما هُنا عَلى طَرِيقِ العَرْضِ عُلِمَ إمْضاءُ المُتَكَلِّمِ لَهُ إيّاهُ، بِإقْرارِهِ كَما في الآيَةِ أوِ التَّصْرِيحِ بِهِ كَما وقَعَ في الحَدِيثِ إلّا الإذْخِرَ، ثُمَّ هو في الإنْشاءِ إذا عُطِفَ مَعْمُولُ الإنْشاءِ يَتَضَمَّنُ أنَّ المَعْطُوفَ لَهُ حُكْمُ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، ولَمّا كانَ المُتَكَلِّمُ بِالعَطْفِ في الإنْشاءِ هو المُخاطَبُ بِالإنْشاءِ لَزِمَ تَأْوِيلُ عَطْفِ التَّلْقِينِ فِيهِ بِأنَّهُ عَلى إرادَةِ العَطْفِ عَلى مَعْمُولٍ لازِمِ الإنْشاءِ فَفي الأمْرِ إذا عَطَفَ المَأْمُورُ مَفْعُولًا عَلى مَفْعُولِ الآمِرِ كانَ المَعْنى زِدْنِي مِنَ الأمْرِ فَأنا بِصَدَدِ الِامْتِثالِ وكَذا في المَنهِيِّ. والمَعْطُوفُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ المَقامُ أيْ وبَعْضٌ مِن ذُرِّيَّتِي أوْ وجاعِلُ بَعْضٍ مِن ذُرِّيَّتِي. والذُّرِّيَّةُ نَسْلُ الرَّجُلِ وما تَوالَدَ مِنهُ ومِن أبْنائِهِ وبَناتِهِ، وهي مُشْتَقَّةٌ إمّا مِنَ الذَّرِّ اسْمًا وهو صِغارُ النَّمْلِ، وإمّا مِنَ الذَّرِّ مَصْدَرًا بِمَعْنى التَّفْرِيقِ، وإمّا مِنَ الذُّرى والذَّرْوِ بِالياءِ والواوِ وهو مَصْدَرُ ذَرَتِ الرِّيحُ إذا سَفَتْ، وإمّا مِنَ الذَّرْءِ بِالهَمْزِ وهو الخَلْقُ، فَوَزْنُها إمّا فُعْلِيَّةُ بِوَزْنِ النَّسَبِ إلى ذَرٍّ وضَمِّ الذّالِ في النَّسَبِ عَلى غَيْرِ قِياسٍ كَما قالُوا في النَّسَبِ إلى دَهْرٍ دُهْرِيٍّ بِضَمِّ الدّالِّ، وإمّا فُعِّيلَةٌ أوْ فُعُّولَةٌ مِنَ الذُّرى أوِ الذَّرْوِ أوِ الذَّرْءِ بِإدْغامِ اليائَيْنِ أوِ الياءِ مَعَ الواوِ أوِ الياءِ مَعَ الهَمْزَةِ بَعْدَ قَلْبِها ياءً وكُلُّ هَذا تَصْرِيفٌ لِاشْتِقاقِ الواضِعِ فَلَيْسَ قِياسَ التَّصْرِيفِ. وإنَّما قالَ إبْراهِيمُ“ ومِن ذُرِّيَّتِي ”ولَمْ يَقُلْ وذُرِّيَّتِي لِأنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ مِن هَذا العالَمِ لَمْ تَجْرِ بِأنْ يَكُونَ جَمِيعَ نَسْلِ أحَدٍ مِمَّنْ يَصْلُحُونَ لِأنْ يُقْتَدى بِهِمْ فَلَمْ يَسْألْ ما هو مُسْتَحِيلٌ عادَةً لِأنَّ سُؤالَ ذَلِكَ لَيْسَ مِن آدابِ الدُّعاءِ. وإنَّما سَألَ لِذَرِّيَّتِهِ ولَمْ يَقْصُرِ السُّؤالَ عَلى عَقِبِهِ كَما هو المُتَعارَفُ في عَصَبِيَّةِ القائِلِ لِأبْناءِ دِينِهِ عَلى الفِطْرَةِ الَّتِي لا تَقْتَضِي تَفاوُتًا فَيَرى أبْناءَ الِابْنِ وأبْناءَ البِنْتِ في القُرْبِ مِنَ الجِدِّ بَلْ هُما سَواءٌ في حُكْمِ القَرابَةِ، وأمّا مَبْنى القَبَلِيَّةِ فَعَلى اعْتِباراتٍ عُرْفِيَّةٍ تَرْجِعُ إلى النُّصْرَةِ والِاعْتِزازِ فَأمّا قَوْلُ: ؎بَنُونا بَنُو أبْنائِنا وبَناتُنا ∗∗∗ بَنُوهُنَّ أبْناءُ الرِّجالِ الأباعِدِ فَوَهْمٌ جاهِلِيٌّ، وإلّا فَإنَّ بَنِي الأبْناءِ أيْضًا بَنُوهم أبْناءُ النِّساءِ الأباعِدِ، وهَلْ يَتَكَوَّنُ نَسْلٌ إلّا مِن أبٍ وأُمٍّ. وكَذا قَوْلُ. . . . (p-٧٠٦) ؎وإنَّما أُمَّهاتُ النّاسِ أوْعِيَةٌ ∗∗∗ فِيها خُلِقْنَ ولِلْأبْناءِ أبْناءُ فَذَلِكَ سَفْسَطَةٌ. وقَدْ «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلَّذِي سَألَهُ عَنِ الأحَقِّ بِالبَرِّ مِن أبَوَيْهِ“ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أبُوكَ» وقالَ اللَّهُ تَعالى ﴿ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وهْنًا عَلى وهْنٍ﴾ [لقمان: ١٤] وقَوْلُهُ تَعالى ﴿لا يَنالُ عَهْدِيَ الظّالِمِينَ﴾ اسْتِجابَةٌ مَطْوِيَّةٌ بِإيجازٍ وبَيانٍ لِلْفَرِيقِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ فِيهِ دَعْوَةُ إبْراهِيمَ والَّذِي لا تَتَحَقَّقُ فِيهِ بِالِاقْتِصارِ عَلى أحَدِهِما لِأنَّ حُكْمَ أحَدِ الضِّدَّيْنِ يَثْبُتُ نَقِيضُهُ لِلْآخَرِ عَلى طَرِيقَةِ الإيجازِ، وإنَّما لَمْ يُذْكَرِ الصِّنْفُ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ الدَّعْوَةُ لِأنَّ المَقْصِدَ ذِكْرُ الصِّنْفِ الآخَرِ تَعْرِيضًا بِأنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ يَوْمَئِذٍ أنَّهم أوْلى النّاسِ بِإبْراهِيمَ وهم أهْلُ الكِتابِ ومُشْرِكُو العَرَبِ هُمُ الَّذِينَ يُحْرَمُونَ مَن دَعْوَتِه، قالَ تَعالى ﴿ما كانَ إبْراهِيمُ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا ولَكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: ٦٧] . ﴿إنَّ أوْلى النّاسِ بِإبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ [آل عمران: ٦٨] ولِأنَّ المُرَبِّي يَقْصِدُ التَّحْذِيرَ مِنَ المَفاسِدِ قَبْلَ الحَثِّ عَلى المَصالِحِ، فَبَيانُ الَّذِينَ لا تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الدَّعْوَةُ أوْلى مِن بَيانِ الآخَرِينَ. و”يَنالُ“ مُضارِعُ نالَ نَيْلًا بِالياءِ إذا أصابَ شَيْئًا والتَحَقَ بِهِ أيْ لا يُصِيبُ عَهْدِيَ الظّالِمِينَ أيْ لا يَشْمَلُهم، فالعَهْدُ هُنا بِمَعْنى الوَعْدِ المُؤَكَّدِ. وسُمِّيَ وعْدُ اللَّهِ عَهْدًا لِأنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ وعْدَهُ كَما أخْبَرَ بِذَلِكَ فَصارَ وعْدُهُ عَهْدًا ولِذَلِكَ سَمّاهُ النَّبِيءُ عَهْدًا في قَوْلِهِ أنْشُدُكَ عَهْدُكُ ووَعْدُكُ، أيْ لا يَنالُ وعْدِي بِإجابَةِ دَعَوْتِكَ الظّالِمِينَ مِنهم، ولا يَحْسُنُ أنْ يُفَسَّرَ العَهْدُ هُنا بِغَيْرِ هَذا وإنْ كانَ في مَواقِعَ مِنَ القُرْآنِ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ، وسَيَأْتِي ذِكْرُ العَهْدِ في سُورَةِ الأعْرافِ. ومِن دِقَّةِ القُرْآنِ اخْتِيارُ هَذا اللَّفْظِ هُنا لِأنَّ اليَهُودَ زَعَمُوا أنَّ اللَّهَ عَهِدَ لِإبْراهِيمَ عَهْدًا بِأنَّهُ مَعَ ذُرِّيَّتِهِ فَفي ذِكْرِ لَفْظِ العَهْدِ تَعْرِيضٌ بِهِمْ وإنْ كانَ صَرِيحَ الكَلامِ لِتَوْبِيخِ المُشْرِكِينَ. والمُرادُ بِالظّالِمِينَ ابْتِداءً المُشْرِكُونَ أيِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم إذْ أشْرَكُوا بِاللَّهِ قالَ تَعالى ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] والظُّلْمُ يَشْمَلُ أيْضًا عَمَلَ المَعاصِي الكَبائِرِ كَما وقَعَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِن ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: ١١٣] وقَدْ وصَفَ القُرْآنُ اليَهُودَ بِوَصْفِ الظّالِمِينَ في قَوْلِهِ ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [المائدة: ٤٥] فالمُرادُ بِالظُّلْمِ المَعاصِي الكَبِيرَةُ وأعْلاها الشِّرْكُ بِاللَّهِ تَعالى. (p-٧٠٧)وفِي الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ أهْلَ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ يَوْمئِذٍ لَيْسُوا جَدِيرِينَ بِالإمامَةِ لِاتِّصافِهِمْ بِأنْواعٍ مِنَ الظُّلْمِ كالشِّرْكِ وتَحْرِيفِ الكِتابِ وتَأْوِيلِهِ عَلى حَسَبِ شَهَواتِهِمْ والِانْهِماكِ في المَعاصِي حَتّى إذا عَرَضُوا أنْفُسَهم عَلى هَذا الوَصْفِ عَلِمُوا انْطِباقَهُ عَلَيْهِمْ. وإناطَةُ الحُكْمِ بِوَصْفِ الظّالِمِينَ إيماءً إلى عِلَّةِ نَفْيِ أنْ يَنالَهم عَهْدُ اللَّهِ فَيَفْهَمُ مِنَ العِلَّةِ أنَّهُ إذا زالَ وصْفُ الظُّلْمِ نالَهُمُ العَهْدُ. وفِي الآيَةِ أنَّ المُتَّصِفَ بِالكَبِيرَةِ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لِإسْنادِ الإمامَةِ إلَيْهِ أعَنى سائِرَ وِلاياتِ المُسْلِمِينَ: الخِلافَةُ والإمارَةُ والقَضاءُ والفَتْوى ورِوايَةُ العَلَمِ وإمامَةُ الصَّلاةِ ونَحْوَ ذَلِكَ. قالَ فَخْرُ الدِّينِ: قالَ الجُمْهُورُ مِنَ الفُقَهاءِ والمُتَكَلِّمِينَ الفاسِقُ حالَ فِسْقِهِ لا يَجُوزُ عَقْدُ الإمامَةِ لَهُ. وفي تَفْسِيرِ ابْنِ عَرَفَةَ تَسْلِيمُ ذَلِكَ ونَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ المازِرِيِّ والقُرْطُبِيُّ عَنِ الجُمْهُورِ إذا عُقِدَ لِلْإمامِ عَلى وجْهٍ صَحِيحٍ ثُمَّ فَسَقَ وجارَ فَإنْ كانَ فِسْقُهُ بِكُفْرٍ وجَبَ خَلْعُهُ وأمّا بِغَيْرِهِ مِنَ المَعاصِي فَقالَ الخَوارِجُ والمُعْتَزِلَةُ وبَعْضُ أهْلِ السُّنَّةِ يَخْلَعُ وقالَ جُمْهُورُ أهْلِ السُّنَّةِ لا يُخْلَعُ بِالفِسْقِ والظُّلْمِ وتَعْطِيلِ الحُدُودِ ويَجِبُ وعْظُهُ وتَرْكُ طاعَتِهِ فِيما لا تَجِبُ فِيهِ طاعَةٌ وهَذا مَعَ القُدْرَةِ عَلى خَلْعِهِ فَإنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ إلّا بِفِتْنَةٍ وحَرْبٍ فاتَّفَقُوا عَلى مَنعِ القِيامِ عَلَيْهِ وأنَّ الصَّبْرَ عَلى جَوْرِهِ أوْلى مِنَ اسْتِبْدالِ الأمْنِ بِالخَوْفِ وإراقَةِ الدِّماءِ وانْطِلاقِ أيْدِي السُّفَهاءِ والفُسّاقِ في الأرْضِ وهَذا حُكْمُ كُلِّ وِلايَةٍ في قَوْلِ عُلَماءِ السُّنَّةِ وما نُقِلَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ مِن جَوازِ كَوْنِ الفاسِقِ خَلِيفَةً وعَدَمِ جَوازِ كَوْنِهِ قاضِيًا قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ الجَصّاصُ هو خَطَأٌ في النَّقْلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ مِنَ العَشَرَةِ عَهْدِي بِفَتْحِ ياءِ المُتَكَلِّمِ وهو وجْهٌ مِنَ الوُجُوهِ في ياءِ المُتَكَلِّمِ وقَرَأهُ حَمْزَةُ وحَفْصٌ بِإسْكانِ الياءِ.


ركن الترجمة

Remember, when his Lord tried Abraham by a number of commands which he fulfilled, God said to him: "I will make you a leader among men." And when Abraham asked: "From my progeny too?" the Lord said: "My pledge does not include transgressors."

[Et rappelle-toi] quand ton Seigneur eut éprouvé Abraham par certains commandements, et qu'il les eut accomplis, le Seigneur lui dit: «Je vais faire de toi un exemple à suivre pour les gens». - «Et parmi ma descendance?» demanda-t-il. - «Mon engagement, dit Allah, ne s'applique pas aux injustes»

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :