موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
السبت 2 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل11 ماي 2024


الآية [141] من سورة  

سَيَقُولُ اُ۬لسُّفَهَآءُ مِنَ اَ۬لنَّاسِ مَا وَلّ۪يٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اُ۬لتِے كَانُواْ عَلَيْهَاۖ قُل لِّلهِ اِ۬لْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُۖ يَهْدِے مَنْ يَّشَآءُ اِ۪لَيٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ


ركن التفسير

142 - (سيقول السفهاء) الجهال (من الناس) اليهود والمشركين (ما ولاهم) أيُّ شيء صرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين (عن قبلتهم التي كانوا عليها) على استقبالها في الصلاة وهي بيت المقدس ، والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب (قل لله المشرق والمغرب) أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء لا اعتراض عليه (يهدي من يشاء) هدايته (إلى صراط) طريق (مستقيم) دين الإسلام أي ومنهم أنتم دل على هذا:

قيل المراد بالسفهاء ههنا مشركو العرب قاله الزجاج وقيل أحبار يهود قاله مجاهد وقيل المنافقون قاله السدي والآية عامة في هؤلاء كلهم والله أعلم قال البخاري: أخبرنا أبو نعيم سمع زهيرا عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وإنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم" انفرد به البخاري من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقال محمد بن إسحاق حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" فقال رجال من المسلمين وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس فأنزل الله "وما كان الله ليضيع إيمانكم" وقال السفهاء من الناس وهم أهل الكتاب ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله "سيقول السفهاء من الناس" إلى آخر الآية وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا الحسن بن عطية حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة فأنزل الله "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله عز وجل "فولوا وجوهكم شطره" أي نحوه فارتاب من ذلك اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس فكان بمكة يصلي بين الركنين وهو مستقبل صخرة بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره على قولين وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه السلام والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة واستمر الأمر على ذلك بعضة عشر شهرا وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبله إبراهيم عليه السلام فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر وقال كنت أنا وصاحبي أول من صلى إلى الكعبة وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك فى مسجد بني سلمة فسمي مسجد القبلتين وفي حديث نويلة بنت مسلم أنهم جاءهم الخبر بذلك وهم في صلاة الظهر قالت: فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله وإبلاغه لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك وقالوا "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" أي قالوا ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا فأنزل الله جوابهم فى قوله "قل لله المشرق والمغرب" أي الحكم والتصرف والأمر كله لله "فأينما تولوا فثم وجه الله" و "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله" أي الشأن كله في امتثال أوامر الله فحيثما وجهنا توجهنا فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده وفي تصرفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت الله في الأرض إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال: قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وقد روى الإمام أحمد عن علي بن عاصم عن حصين بن عبدالرحمن عن عمرو بن قيس عن محمد بن الأشعث عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في أهل الكتاب "إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام آمين".

(p-٥)سُورَةُ البَقَرَةِ ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ قَدْ خَفِيَ مَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ مِنَ الآيِ الَّتِي بَعْدَها لِأنَّ الظّاهِرَ مِنها أنَّها إخْبارٌ عَنْ أمْرٍ يَقَعُ في المُسْتَقْبَلِ وأنَّ القِبْلَةَ المَذْكُورَةَ فِيها هي القِبْلَةُ الَّتِي كانَتْ في أوَّلِ الهِجْرَةِ بِالمَدِينَةِ، وهي اسْتِقْبالُ بَيْتِ المَقْدِسِ وأنَّ التَّوَلِّيَ عَنْها هو نَسْخُها بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ فَكانَ الشَّأْنُ أنْ يُتَرَقَّبَ طَعْنُ الطّاعِنِينَ في هَذا التَّحْوِيلِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّسْخِ أيْ بَعْدَ الآياتِ النّاسِخَةِ لِاسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ لِما هو مَعْلُومٌ مِن دَأبِهِمْ مِنَ التَّرَصُّدِ لِلطَّعْنِ في تَصَرُّفاتِ المُسْلِمِينَ فَإنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُتَتابِعَةً، والأصْلُ مُوافَقَةُ التِّلاوَةِ لِلنُّزُولِ في السُّورَةِ الواحِدَةِ إلّا ما ثَبَتَ أنَّهُ نَزَلَ مُتَأخِّرًا ويُتْلى مُتَقَدِّمًا. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالقِبْلَةِ المُحَوَّلَةِ القِبْلَةُ المَنسُوخَةُ وهي اسْتِقْبالُ بَيْتِ المَقْدِسِ؛ أعْنِي الشَّرْقَ وهي قِبْلَةُ اليَهُودِ، ولَمْ يَشْفِ أحَدٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ وأصْحابِ أسْبابِ النُّزُولِ الغَلِيلَ في هَذا عَلى أنَّ المُناسَبَةَ بَيْنَها وبَيْنَ الآيِ الَّذِي قَبْلَها غَيْرُ واضِحَةٍ، فاحْتاجَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى تَكَلُّفِ إبْدائِها. والَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فَهْمِي أنَّ مُناسَبَةَ وُقُوعِ هَذِهِ الآيَةِ هُنا مُناسَبَةٌ بَدِيعَةٌ، وهي أنَّ الآياتِ الَّتِي قَبْلَها تَكَرَّرَ فِيها التَّنْوِيهُ بِإبْراهِيمَ ومِلَّتِهِ والكَعْبَةِ وأنَّ مَن يَرْغَبُ عَنْها قَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ، فَكانَتْ مَثارًا لِأنْ يَقُولَ المُشْرِكُونَ: ما ولّى مُحَمَّدًا وأتْباعَهُ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها بِمَكَّةَ أيِ اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ مَعَ أنَّهُ يَقُولُ إنَّهُ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ ويَأْبى عَنِ اتِّباعِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ، فَكَيْفَ تَرَكَ قِبْلَةَ إبْراهِيمَ واسْتَقْبَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ، ولِأنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَتِ الإشارَةُ في الآياتِ السّابِقَةِ إلى هَذا الغَرَضِ بِقَوْلِهِ ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ [البقرة: ١١٥] . وقَوْلِهِ. ﴿ولَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهُودُ ولا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٠] كَما ذَكَرْناهُ هُنالِكَ، وقَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنهم فَأنْبَأ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِمْ وأتى فِيهِ بِهَذا المَوْقِعِ العَجِيبِ وهو أنْ جَعَلَهُ بَعْدَ الآياتِ المُثِيرَةِ لَهُ وقَبْلَ الآياتِ الَّتِي (p-٦)أُنْزِلَتْ إلَيْهِ في نَسْخِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ والأمْرِ بِالتَّوَجُّهِ في الصَّلاةِ إلى جِهَةِ الكَعْبَةِ، لِئَلّا يَكُونَ القُرْآنُ الَّذِي فِيهِ الأمْرُ بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ نازِلًا بَعْدَ مَقالَةِ المُشْرِكِينَ فَيَشْمَخُوا بِأُنُوفِهِمْ، يَقُولُونَ غَيَّرَ مُحَمَّدٌ قِبْلَتَهُ مِن أجْلِ اعْتِراضِنا عَلَيْهِ فَكانَ لِمَوْضِعِ هَذِهِ الآيَةِ هُنا أفْضَلُ تَمَكُّنٍ وأوْثَقُ رَبْطٍ، وبِهَذا يَظْهَرُ وجْهُ نُزُولِها قَبْلَ آيَةِ النَّسْخِ وهي قَوْلُهُ ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٤٤] الآياتِ؛ لِأنَّ مَقالَةَ المُشْرِكِينَ أوْ تَوَقُّعَها حاصِلٌ قَبْلَ نَسْخِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ وناشِئٌ عَنِ التَّنْوِيهِ بِمِلَّةِ إبْراهِيمَ والكَعْبَةِ. فالمُرادُ بِالسُّفَهاءِ: المُشْرِكُونَ، ويَدُلُّ لِذَلِكَ تَبْيِينُهُ بِقَوْلِهِ ﴿مِنَ النّاسِ﴾، فَقَدْ عُرِفَ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ النّازِلِ بِمَكَّةَ أنَّ لَفْظَ ”النّاسِ“ يُرادُ بِهِ المُشْرِكُونَ، كَما رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ولا يَظْهَرُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ اليَهُودَ أوْ أهْلَ الكِتابِ لِأنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ لَناسَبَ أنْ يُقالَ ”سَيَقُولُونَ“ بِالإضْمارِ لِأنَّ ذِكْرَهم لَمْ يَزَلْ قَرِيبًا مِنَ الآيِ السّابِقَةِ إلى قَوْلِهِ ﴿ولا تُسْألُونَ﴾ [البقرة: ١٤١] الآيَةَ. ويُعَضِّدُنا في هَذا ما ذَكَرَ الفَخْرُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والبَراءِ بْنِ عازِبٍ والحَسَنِ أنَّ المُرادَ بِالسُّفَهاءِ المُشْرِكُونَ، وذَكَرَ القُرْطُبِيُّ أنَّهُ قَوْلُ الزَّجّاجِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِمُ المُنافِقِينَ وقَدْ سَبَقَ وصْفُهم بِهَذا في أوَّلِ السُّورَةِ فَيَكُونُ المَقْصُودُ المُنافِقِينَ الَّذِينَ يُبْطِنُونَ الشِّرْكَ، والَّذِي يَبْعَثُهم عَلى هَذا القَوْلِ هو عَيْنُ الَّذِي يَبْعَثُ المُشْرِكِينَ عَلَيْهِ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّ ”السُّفَهاءَ“ هُنا هُمُ المُنافِقُونَ. أمّا الَّذِينَ فَسَّرُوا السُّفَهاءَ بِاليَهُودِ فَقَدْ وقَعُوا في حَيْرَةٍ مِن مَوْقِعِ هَذِهِ الآيَةِ لِظُهُورِ أنَّ هَذا القَوْلَ ناشِئٌ عَنْ تَغْيِيرِ القِبْلَةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وذَلِكَ قَدْ وقَعَ الإخْبارُ بِهِ قَبْلَ سَماعِ الآيَةِ النّاسِخَةِ لِلْقِبْلَةِ لِأنَّ الأصْلَ مُوافَقَةُ التِّلاوَةِ لِلنُّزُولِ فَكَيْفَ يَقُولُ السُّفَهاءُ هَذا القَوْلَ قَبْلَ حُدُوثِ داعٍ إلَيْهِ لِأنَّهم إنَّما يَطْعَنُونَ في التَّحَوُّلِ عَنِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ لِأنَّهُ مَسْجِدُهم وهو قِبْلَتُهم في قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ العُلَماءِ، ولِذَلِكَ جَزَمَ أصْحابُ هَذا القَوْلِ بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نَسْخِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ ورَوَوْا ذَلِكَ عَنْ مُجاهِدٍ، ورَوى البُخارِيُّ في كِتابِ الصَّلاةِ مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجاءٍ عَنْ إسْرائِيلَ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنِ البَراءِ «حَدِيثَ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ ووَقَعَ فِيهِ: فَقالَ السُّفَهاءُ وهُمُ اليَهُودُ، ﴿ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»﴾، وأخْرَجَهُ في كِتابِ الإيمانِ مِن طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ خالِدٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنِ البَراءِ بِغَيْرِ هَذِهِ الزِّيادَةِ، ولَكِنْ قالَ عِوَضَها: وكانَتِ اليَهُودُ (p-٧)قَدْ أعْجَبَهم إذْ كانَ يُصَلّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ وأهْلُ الكِتابِ، فَلَمّا ولّى وجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ أنْكَرُوا ذَلِكَ. وأخْرَجَهُ في كِتابِ التَّفْسِيرِ مِن طَرِيقِ أبِي نُعَيْمٍ عَنْ زُهَيْرٍ بِدُونِ شَيْءٍ مِن هاتَيْنِ الزِّيادَتَيْنِ، والظّاهِرُ أنَّ الزِّيادَةَ الأُولى مُدْرَجَةٌ مِن إسْرائِيلَ عَنْ أبِي إسْحاقَ، والزِّيادَةُ الثّانِيَةُ مُدْرَجَةٌ مِن عَمْرِو بْنِ خالِدٍ لِأنَّ مُسْلِمًا والتِّرْمِذِيَّ والنَّسائِيَّ قَدْ رَوَوْا حَدِيثَ البَراءِ عَنْ أبِي إسْحاقَ مِن غَيْرِ طَرِيقِ إسْرائِيلَ ولَمْ يَكُنْ فِيهِ إحْدى الزِّيادَتَيْنِ، فاحْتاجُوا إلى تَأْوِيلِ حَرْفِ الِاسْتِقْبالِ مِن قَوْلِهِ ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ﴾ بِمَعْنى التَّحْقِيقِ لا غَيْرَ؛ أيْ قالَ السُّفَهاءُ ما ولّاهم. ووَجْهُ فَصْلِ هَذِهِ الآيَةِ عَمّا قَبْلَها بِدُونِ عَطْفٍ اخْتِلافُ الغَرَضِ عَنْ غَرَضِ الآياتِ السّابِقَةِ فَهي اسْتِئْنافٌ مَحْضٌ لَيْسَ جَوابًا عَنْ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ. والأوْلى بَقاءُ السِّينِ عَلى مَعْنى الِاسْتِقْبالِ إذْ لا داعِيَ إلى صَرْفِهِ إلى مَعْنى المُضِيِّ وقَدْ عَلِمْتُمُ الدّاعِيَ إلى الإخْبارِ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ مِنهم، وقالَ في الكَشّافِ: فائِدَةُ الإخْبارِ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ أنَّ العِلْمَ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ أبْعَدُ مِنَ الِاضْطِرابِ إذا وقَعَ، وأنَّ الجَوابَ العَتِيدَ قَبْلَ الحاجَةِ إلَيْهِ أقْطَعُ لِلْخَصْمِ وأرَدُّ لِشَغْبِهِ. وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ مِن وضْعِ المُسْتَقْبَلِ مَوْضِعَ الماضِي لِيَدُلَّ عَلى اسْتِمْرارِهِمْ فِيهِ، وقالَ الفَخْرُ: إنَّهُ مُخْتارُ القَفّالِ. وكَأنَّ الَّذِي دَعاهم إلى ذَلِكَ أنَّهم يَنْظُرُونَ إلى أنَّ هَذا القَوْلَ وقَعَ بَعْدَ نَسْخِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ وأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وهَذا تَكَلُّفٌ يَنْبَغِي عَدَمُ التَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، والإخْبارُ عَنْ أقْوالِهِمُ المُسْتَقْبَلَةِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ في القُرْآنِ مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا﴾ [الإسراء: ٥١] - ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ﴾ [الإسراء: ٥١] وإذا كانَ الَّذِي دَعاهم إلى ذَلِكَ ثُبُوتُ أنَّهم قالُوا هَذِهِ المَقالَةَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ وشُيُوعُ ذَلِكَ كانَ لِتَأْوِيلِ المُسْتَقْبَلِ بِالماضِي وجْهٌ وجِيهٌ، وكانَ فِيهِ تَأْيِيدٌ لِما أسْلَفْناهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ [البقرة: ١١٥] وقَوْلِهِ ﴿ولَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهُودُ ولا النَّصارى﴾ [البقرة: ١٢٠] . والسُّفَهاءُ: جَمْعُ سَفِيهٍ الَّذِي هو صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِن سَفُهَ بِضَمِّ الفاءِ إذا صارَ السَّفَهُ لَهُ سَجِيَّةً وتَقَدَّمَ القَوْلُ في السَّفَهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] وفائِدَةُ وصْفِهِمْ بِأنَّهم مِنَ النّاسِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا هو التَّنْبِيهُ عَلى بُلُوغِهِمُ الحَدَّ الأقْصى مِنَ السَّفاهَةِ بِحَيْثُ لا يُوجَدُ في النّاسِ سُفَهاءُ غَيْرُ هَؤُلاءِ فَإذا قُسِمَ نَوْعُ الإنْسانِ أصْنافًا كانَ هَؤُلاءِ صِنْفَ السُّفَهاءِ فَيُفْهَمُ أنَّهُ لا سَفِيهَ غَيْرُهم عَلى وجْهِ المُبالَغَةِ، والمَعْنى أنَّ كُلَّ مَن صَدَرَ مِنهُ هَذا القَوْلُ هو سَفِيهٌ سَواءٌ كانَ القائِلُ اليَهُودَ أوِ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ. (p-٨)وضَمِيرُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ ﴿ما ولّاهُمْ﴾ عائِدٌ إلى مَعْلُومٍ مِنَ المَقامِ غَيْرِ مَذْكُورٍ في اللَّفْظِ حِكايَةً لِقَوْلِ السُّفَهاءِ، وهم يُرِيدُونَ بِالضَّمِيرِ أوْ بِما يُعَبَّرُ عَنْهُ في كَلامِهِمْ أنَّهُ عائِدٌ عَلى المُسْلِمِينَ. وفِعْلُ ﴿ولّاهُمْ﴾ أصْلُهُ مُضاعَفُ ولّى إذا دَنا وقَرُبَ، فَحَقُّهُ أنْ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ بِسَبَبِ التَّضْعِيفِ، فَيُقالُ: ولّاهُ مِن كَذا أيْ قَرَّبَهُ مِنهُ ووَلّاهُ عَنْ كَذا أيْ صَرَفَهُ عَنْهُ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى هُنا: ﴿ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ﴾ وشاعَ اسْتِعْمالُهُ في الكَلامِ فَكَثُرَ أنْ يَحْذِفُوا حَرْفَ الجَرِّ الَّذِي يُعَدِّيهِ إلى مُتَعَلِّقٍ ثانٍ فَبِذَلِكَ عَدَّوْهُ إلى مَفْعُولٍ ثانٍ كَثِيرًا عَلى التَّوَسُّعِ، فَقالُوا: ولّى فُلانًا وجْهَهُ مَثَلًا دُونَ أنْ يَقُولُوا ولّى فُلانٌ وجْهَهُ مِن فُلانٍ أوْ عَنْ فُلانٍ، فَأشْبَهَ أفْعالَ كَسا وأعْطى ولِذَلِكَ لَمْ يَعْبَئُوا بِتَقْدِيمِ أحَدِ المَفْعُولَيْنِ عَلى الآخَرِ قالَ تَعالى ﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبارَ﴾ [الأنفال: ١٥] أصْلُهُ: فَلا تُوَلُّوا الأدْبارَ مِنهم، فالأدْبارُ هو الفاعِلُ في المَعْنى لِأنَّهُ لَوْ رُفِعَ لَقِيلَ ولِيَ دُبُرُهُ الكافِرِينَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿نُوَلِّهِ ما تَوَلّى﴾ [النساء: ١١٥] أيْ نَجْعَلُهُ والِيًا مِمّا تَوَلّى أيْ قَرِيبًا لَهُ أيْ مُلازِمًا لَهُ فَهَذا تَحْقِيقُ تَصْرِيفاتِ هَذا الفِعْلِ. وجُمْلَةُ ﴿ما ولّاهُمْ﴾ إلَخْ، هي مَقُولُ القَوْلِ فَضَمائِرُ الجَمْعِ كُلُّها عائِدَةٌ عَلى مُعادٍ مَعْلُومٍ مِنَ المَقامِ، وهُمُ المُسْلِمُونَ ولا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ لِئَلّا يَلْزَمَ تَشْتِيتُ الضَّمائِرِ ومُخالَفَةُ الظّاهِرِ في أصْلِ حِكايَةِ الأقْوالِ. والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ ﴿ما ولّاهُمْ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْرِيضِ بِالتَّخْطِئَةِ واضْطِرابِ العَقْلِ. والمُرادُ بِالقِبْلَةِ في قَوْلِهِ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الجِهَةُ الَّتِي يُوَلُّونَ إلَيْها وُجُوهَهم عِنْدَ الصَّلاةِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ وأخْبارُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ. والقِبْلَةُ في أصْلِ الصِّيغَةِ اسْمٌ عَلى زِنَةِ فِعْلَةٍ بِكَسْرِ الفاءِ وسُكُونِ العَيْنِ، وهي زِنَةُ المَصْدَرِ الدّالِّ عَلى هَيْئَةِ فِعْلِ الِاسْتِقْبالِ أيِ التَّوَجُّهِ، اشْتُقَّ عَلى غَيْرِ قِياسٍ بِحَذْفِ السِّينِ والتّاءِ ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلى الشَّيْءِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ المُسْتَقْبِلُ مَجازًا وهو المُرادُ هُنا لِأنَّ الِانْصِرافَ لا يَكُونُ عَنِ الهَيْئَةِ قالَ حَسّانُ في رِثاءِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ؎ألَيْسَ أوَّلَ مَن صَلّى لِقِبْلَتِكُمْ والأظْهَرُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ القِبْلَةُ اسْمَ مَفْعُولٍ عَلى وزْنِ فِعْلٍ كالذِّبْحِ والطِّحْنِ وتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبارِ الجِهَةِ كَما قالُوا: ما لَهُ في هَذا الأمْرِ قِبْلَةٌ ولا دِبْرَةٌ أيْ وِجْهَةٌ. وإضافَةُ القِبْلَةِ إلى ضَمِيرِ المُسْلِمِينَ لِلدَّلالَةِ عَلى مَزِيدِ اخْتِصاصِها بِهِمْ إذْ لَمْ يَسْتَقْبِلْها غَيْرُهم مِنَ الأُمَمِ، لِأنَّ المُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنَ المُصَلِّينَ وأهْلَ الكِتابِ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَقْبِلُونَ في صَلاتِهِمْ، (p-٩)وهَذا مِمّا يُعَضِّدُ حَمْلَ السُّفَهاءُ عَلى المُشْرِكِينَ إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِمُ اليَهُودُ، لَقِيلَ: عَنْ قِبْلَتِنا. إذْ لا يَرْضَوْنَ أنْ يُضِيفُوا تِلْكَ القِبْلَةَ إلى المُسْلِمِينَ، ومَن فَسَّرَ السُّفَهاءُ بِاليَهُودِ ونَسَبَ إلَيْهِمُ اسْتِقْبالَ بَيْتِ المَقْدِسِ حَمَلَ الإضافَةَ عَلى أدْنى مُلابَسَةٍ لِأنَّ المُسْلِمِينَ اسْتَقْبَلُوا تِلْكَ القِبْلَةَ مُدَّةَ سَنَةٍ وأشْهُرٍ فَصارَتْ قِبْلَةً لَهم. وضَمِيرُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ ﴿ما ولّاهُمْ﴾ عائِدٌ إلى مَعْلُومٍ مِنَ المَقامِ غَيْرِ مَذْكُورِ اللَّفْظِ حِكايَةً لِقَوْلِ السُّفَهاءِ، وهم يُرِيدُونَ بِالضَّمِيرِ أوْ بِمُساوِيهِ في كَلامِهِمْ عَوْدَهُ عَلى المُسْلِمِينَ. وقَوْلُهُ ﴿الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ أيْ كانُوا مُلازِمِينَ لَها فَـ ”عَلى“ هُنا لِلتَّمَكُّنِ المَجازِيِّ وهو شِدَّةُ المُلازَمَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥]، وفِيهِ زِيادَةُ تَوْجِيهٍ لِلْإنْكارِ والِاسْتِغْرابِ؛ أيْ كَيْفَ عَدَلُوا عَنْها بَعْدَ أنْ لازَمُوها ولَمْ يَكُنِ اسْتِقْبالُهم إيّاها مُجَرَّدَ صُدْفَةٍ فَإنَّهُمُ اسْتَقْبَلُوا الكَعْبَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ الهِجْرَةِ. واعْلَمْ أنَّ اليَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ ولَيْسَ هَذا الِاسْتِقْبالُ مِن أصْلِ دِينِهِمْ لِأنَّ بَيْتَ المَقْدِسِ إنَّما بُنِيَ بَعْدَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بَناهُ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلا تَجِدُ في أسْفارِ التَّوْراةِ الخَمْسَةِ ذِكْرًا لِاسْتِقْبالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ في عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى والصَّلاةِ والدُّعاءِ، ولَكِنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ هو الَّذِي سَنَّ اسْتِقْبالَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَفي سِفْرِ المُلُوكِ الأوَّلِ: أنَّ سُلَيْمانَ لَمّا أتَمَّ بِناءَ بَيْتِ المَقْدِسِ جَمَعَ شُيُوخَ إسْرائِيلَ وجُمْهُورَهم ووَقَفَ أمامَ المَذْبَحِ في بَيْتِ المَقْدِسِ وبَسَطَ يَدَيْهِ ودَعا اللَّهَ دُعاءً جاءَ فِيهِ: إذا انْكَسَرَ شَعْبُ إسْرائِيلَ أمامَ العَدُوِّ ثُمَّ رَجَعُوا واعْتَرَفُوا وصَلَّوْا نَحْوَ هَذا البَيْتِ فَأرْجِعْهم إلى الأرْضِ الَّتِي أعْطَيْتَ لِآبائِهِمْ وإذا خَرَجَ الشَّعْبُ لِمُحارَبَةِ العَدُوِّ وصَلَّوْا إلى الرَّبِّ نَحْوَ المَدِينَةِ الَّتِي اخْتَرْتَها والبَيْتِ الَّذِي بَنَيْتَهُ لِاسْمِكَ فاسْمَعْ صَلاتَهم وتَضَرُّعَهم إلَخْ، وذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَجَلّى لِسُلَيْمانَ، وقالَ لَهُ: قَدْ سَمِعْتُ صَلاتَكَ وتَضَرُّعَكَ الَّذِي تَضَرَّعْتَ بِهِ أمامِي، وهَذا لا يَدُلُّ عَلى أنَّ اسْتِقْبالَ بَيْتِ المَقْدِسِ شَرْطٌ في الصَّلاةِ في دِينِ اليَهُودِ وقُصاراهُ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ التَّوَجُّهَ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ بِالصَّلاةِ والدُّعاءِ هَيْئَةٌ فاضِلَةٌ، فَلَعَلَّ بَنِي إسْرائِيلَ التَزَمُوهُ لا سِيَّما بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ أوْ أنَّ أنْبِياءَهُمُ المَوْجُودِينَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ أمَرُوهم بِذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ. وقَدْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ: كانَ اليَهُودُ يَظُنُّونَ أنَّ مُوافَقَةَ الرَّسُولِ لَهم في القِبْلَةِ رُبَّما تَدْعُوهُ إلى أنْ يَصِيرَ مُوافِقًا لَهم بِالكُلِّيَّةِ، وجَرى كَلامُ ابْنِ العَرَبِيِّ في أحْكامِ القُرْآنِ (p-١٠)عَلى الجَزْمِ بِأنَّ اليَهُودَ كانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ بِناءً عَلى كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ، ولَمْ يَثْبُتْ هَذا مِن دِينِ اليَهُودِ كَما عَلِمْتَ، وذَكَرَ الفَخْرُ عَنْ أبِي مُسْلِمٍ ما فِيهِ أنَّ اليَهُودَ كانُوا يَسْتَقْبِلُونَ جِهَةَ المَغْرِبِ وأنَّ النَّصارى يَسْتَقْبِلُونَ المَشْرِقَ، وقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أنَّ اليَهُودَ لَمْ تَكُنْ لَهم في صَلاتِهِمْ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ يَسْتَقْبِلُونَها وأنَّهم كانُوا يَتَيَمَّنُونَ في دُعائِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إلى صَوْبِ بَيْتِ المَقْدِسِ عَلى اخْتِلافِ مَوْقِعِ جِهَتِهِ مِنَ البِلادِ الَّتِي هم بِها فَلَيْسَ لَهم جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِن جِهاتِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ ومَغْرِبِها وما بَيْنَهُما، فَلَمّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عادَةً عِنْدَهم تَوَهَّمُوهُ مِنَ الدِّينِ وتَعَجَّبُوا مِن مُخالَفَةِ المُسْلِمِينَ في ذَلِكَ. وأمّا النَّصارى فَإنَّهم لَمْ يَقَعْ في إنْجِيلِهِمْ تَغْيِيرٌ لِما كانَ عَلَيْهِ اليَهُودُ في أمْرِ الِاسْتِقْبالِ في الصَّلاةِ ولا تَعْيِينُ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ ولَكِنَّهم لَمّا وجَدُوا الرُّومَ يَجْعَلُونَ أبْوابَ هَياكِلِهِمْ مُسْتَقْبِلَةً لِمَشْرِقِ الشَّمْسِ بِحَيْثُ تَدْخُلُ أشِعَّةَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِها مِن بابِ الهَيْكَلِ عَلى الصَّنَمِ صاحِبِ الهَيْكَلِ المَوْضُوعِ في مُنْتَهى الهَيْكَلِ عَكَسُوا ذَلِكَ فَجَعَلُوا أبْوابَ الكَنائِسِ إلى الغَرْبِ وبِذَلِكَ يَكُونُ المَذْبَحُ إلى الغَرْبِ والمُصَلُّونَ مُسْتَقْبِلِينَ الشَّرْقَ، وذَكَرَ الخَفاجِيُّ أنَّ بُولِسَ الَّذِي أمَرَهم بِذَلِكَ، فَهَذِهِ حالَةُ النَّصارى في وقْتِ نُزُولِ الآيَةِ، ثُمَّ إنَّ النَّصارى مِنَ العُصُورِ الوُسْطى إلى الآنَ تَوَسَّعُوا فَتَرَكُوا اسْتِقْبالَ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلِذَلِكَ تَكُونُ كَنائِسُهم مُخْتَلِفَةَ الِاتِّجاهِ وكَذَلِكَ المَذابِحُ المُتَعَدِّدَةُ في الكَنِيسَةِ الواحِدَةِ. وأمّا اسْتِقْبالُ الكَعْبَةِ في الحَنِيفِيَّةِ فالظّاهِرُ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا بَنى الكَعْبَةَ اسْتَقْبَلَها عِنْدَ الدُّعاءِ وعِنْدَ الصَّلاةِ لِأنَّهُ بَناها لِلصَّلاةِ حَوْلَها فَإنَّ داخِلَها لا يَسَعُ الجَماهِيرَ مِنَ النّاسِ وإذا كانَ بِناؤُها لِلصَّلاةِ حَوْلَها فَهي أوَّلُ قِبْلَةٍ وُضِعَتْ لِلْمُصَلِّي تُجاهَها وبِذَلِكَ اشْتَهَرَتْ عِنْدَ العَرَبِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: عُذْتُ بِما عاذَ بِهِ إبْراهِيمُ مُسْتَقْبِلُ الكَعْبَةِ وهو قائِمٌ أمّا تَوَجُّهُهُ إلى جِهَتِها مِن بَلَدٍ بَعِيدٍ عَنْها فَلا دَلِيلَ عَلى وُقُوعِهِ فَيَكُونُ الأمْرُ بِالتِزامِ الِاسْتِقْبالِ في الصَّلاةِ مِن خَصائِصِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ ومِن جُمْلَةِ مَعانِي إكْمالِ الدِّينِ بِها كَما سَنُبَيِّنُهُ. وقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا يَسْتَقْبِلُونَ جِهَةً ثُمَّ تَحَوَّلُوا إلى جِهَةٍ أُخْرى ولَيْسَتِ الَّتِي تَحَوَّلَ إلَيْها المُسْلِمُونَ إلّا جِهَةَ الكَعْبَةِ فَدَلَّ عَلى أنَّهم كانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ وبِذَلِكَ جاءَتِ الآثارُ. والأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ في هَذا ثَلاثٌ، أوَّلُها وأصَحُّها: حَدِيثُ المُوَطَّأِ؛ عَنِ ابْنِ دِينارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «بَيْنَما النّاسُ في صَلاةِ الصُّبْحِ بِقُباءٍ إذْ جاءَهم آتٍ فَقالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ (p-١١)ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ وقَدْ أُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فاسْتَقْبِلُوها وكانَتْ وُجُوهُهم إلى الشّامِ فاسْتَدارُوا إلى الكَعْبَةِ» ورَواهُ أيْضًا البُخارِيُّ مِن طَرِيقِ مالِكٍ، ومُسْلِمٌ مِن طَرِيقِ مالِكٍ ومِن طَرِيقِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ ومُوسى بْنِ عُقْبَةَ، وفِيهِ: أنَّ نُزُولَ آيَةِ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ كانَ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في أثْناءِ الصَّلاةِ وأنَّهُ صَلّى الصُّبْحَ لِلْكَعْبَةِ، وهَذا الحَدِيثُ هو أصْلُ البابِ وهو فَصْلُ الخِطابِ، ثانِيها: حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ وفِيهِ: «فَمَرَّ رَجُلٌ مِن بَنِي سَلَمَةَ وهم رُكُوعٌ في صَلاةِ الفَجْرِ وقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنادى ألا إنَّ القِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَمالُوا كَما هم نَحْوَ القِبْلَةِ»، الثّالِثُ: حَدِيثُ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ واللَّفْظُ لِلْبُخارِيِّ في كِتابِ التَّفْسِيرِ عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ أنْ يُوَجَّهَ إلى الكَعْبَةِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٤٤] فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ ثُمَّ قالَ فَصَلّى مَعَ النَّبِيءِ رَجُلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَما صَلّى فَمَرَّ عَلى قَوْمٍ مِنَ الأنْصارِ في صَلاةِ العَصْرِ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ فَقالَ: هو يَشْهَدُ أنَّهُ صَلّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وأنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ القَوْمُ حَتّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الكَعْبَةِ»، وحُمِلَ ذِكْرُ صَلاةِ الصُّبْحِ في رِوايَتَيِ ابْنِ عُمَرَ وأنَسِ بْنِ مالِكٍ وذِكْرُ صَلاةِ العَصْرِ في رِوايَةِ البَراءِ كُلٌّ عَلى أهْلِ مَكانٍ مَخْصُوصٍ، وهُنالِكَ آثارٌ أُخْرى تُخالِفُ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُها ذَكَرَها القُرْطُبِيُّ. فَتَحْوِيلُ القِبْلَةِ كانَ في رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ وقِيلَ يَوْمَ الثُّلاثاءِ نِصْفَ شَعْبانَ مِنها. واخْتَلَفُوا في أنَّ اسْتِقْبالَهُ ﷺ بَيْتَ المَقْدِسِ هَلْ كانَ قَبْلَ الهِجْرَةِ أوْ بَعْدَها، فالجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ لَمّا فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلاةُ بِمَكَّةَ كانَ يَسْتَقْبِلُ الكَعْبَةَ فَلَمّا قَدِمَ المَدِينَةَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ تَألُّفًا لِلْيَهُودِ، قالَهُ بَعْضُهم وهو ضَعِيفٌ، وقِيلَ كانَ يَسْتَقْبِلُ بَيْتَ المَقْدِسِ وهو في مَكانٍ يَجْعَلُ الكَعْبَةَ أمامَهُ مِن جِهَةِ الشَّرْقِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا الكَعْبَةَ وبَيْتَ المَقْدِسِ مَعًا، ولَمْ يَصِحَّ هَذا القَوْلُ. واخْتَلَفُوا هَلْ كانَ اسْتِقْبالُ بَيْتِ المَقْدِسِ بِأمْرٍ مِنَ اللَّهِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ: أوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ ثُمَّ نَسَخَهُ بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ ودَلِيلُهم قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها﴾ [البقرة: ١٤٣] الآيَةَ، وقالَ الطَّبَرِيُّ: كانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الكَعْبَةِ وبَيْتِ المَقْدِسِ واخْتارَ بَيْتَ المَقْدِسِ اسْتِئْلافًا لِلْيَهُودِ، وقالَ الحَسَنُ وعِكْرِمَةُ وأبُو العالِيَةِ: كانَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهادٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلّى اللَّهُ (p-١٢)عَلَيْهِ وسَلَّمَ وعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها﴾ [البقرة: ١٤٤] دالًّا عَلى أنَّهُ اجْتَهَدَ فَرَأى أنْ يَتَّبِعَ قِبْلَةَ الدِّينَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ ومَعَ ذَلِكَ كانَ يَوَدُّ أنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ، فَلَمّا غُيِّرَتِ القِبْلَةُ قالَ السُّفَهاءُ وهُمُ اليَهُودُ أوِ المُنافِقُونَ عَلى اخْتِلافِ الرِّواياتِ المُتَقَدِّمَةِ وقِيلَ كُفّارُ قُرَيْشٍ قالُوا: اشْتاقَ مُحَمَّدٌ إلى بَلَدِهِ وعَنْ قَرِيبٍ يَرْجِعُ إلى دِينِكم، ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ ونُسِبَ إلى البَراءِ بْنِ عازِبٍ وابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ، ورَوى القُرْطُبِيُّ أنَّ أوَّلَ مَن صَلّى نَحْوَ الكَعْبَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ أبُو سَعِيدِ بْنُ المُعَلّى، وفي الحَدِيثِ ضَعْفٌ. وقَوْلُهُ ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ جَوابٌ قاطِعٌ، مَعْناهُ أنَّ الجِهاتِ كُلَّها سَواءٌ في أنَّها مَواقِعُ لِبَعْضِ المَخْلُوقاتِ المُعَظَّمَةِ، فالجِهاتُ مِلْكٌ لِلَّهِ تَبَعًا لِلْأشْياءِ الواقِعَةِ فِيها المَمْلُوكَةِ لَهُ، ولَيْسَ مُسْتَحِقَّةً لِلتَّوَجُّهِ والِاسْتِقْبالِ اسْتِحْقاقًا ذاتِيًّا. وذِكْرُ المَشْرِقُ والمَغْرِبِ مُرادٌ بِهِ تَعْمِيمُ الجِهاتِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ [البقرة: ١١٥]، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ الكِنايَةَ عَنِ الأرْضِ كُلِّها لِأنَّ اصْطِلاحَ النّاسِ أنَّهم يُقَسِّمُونَ الأرْضَ إلى جِهَتَيْنِ شَرْقِيَّةٍ وغَرْبِيَّةٍ بِحَسَبِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ ومَغْرِبِها، والمَقْصُودُ أنْ لَيْسَ لِبَعْضِ الجِهاتِ اخْتِصاصٌ بِقُرْبٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِأنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الجِهَةِ وإنَّما يَكُونُ أمْرُهُ بِاسْتِقْبالِ بَعْضِ الجِهاتِ لِحِكْمَةٍ يُرِيدُها كالتَّيَمُّنِ أوِ التَّذَكُّرِ فَلا بِدْعَ في التَّوَلِّي لِجِهَةٍ دُونَ أُخْرى حَسَبَ ما يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ تَعالى، فَقَوْلُهُ تَعالى ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾، إشارَةٌ إلى وجْهِ صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ إلى الكَعْبَةِ، وقَوْلُهُ ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ إشارَةٌ إلى وجْهِ تَرْجِيحِ التَّوْلِيَةِ إلى الكَعْبَةِ عَلى التَّوْلِيَةِ إلى غَيْرِها لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ تَعْرِيضٌ بِأنَّ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ بِهِ المُسْلِمِينَ هو الهُدى دُونَ قِبْلَةِ اليَهُودِ إلّا أنَّ هَذا التَّعْرِيضَ جِيءَ بِهِ عَلى طَرِيقَةِ الكَلامِ المُنْصِفِ مِن حَيْثُ ما في قَوْلِهِ مَن يَشاءُ مِنَ الإجْمالِ الَّذِي يُبَيِّنُهُ المَقامُ فَإنَّ المَهْدِيَّ مِن فَرِيقَيْنِ كانا في حالَةٍ واحِدَةٍ وهو الفَرِيقُ الَّذِي أمَرَهُ مَن بِيَدِهِ الهُدى بِالعُدُولِ عَنِ الحالَةِ الَّتِي شارَكَهُ فِيها الفَرِيقُ الآخَرُ إلى حالَةِ اخْتُصَّ هو بِها، فَهَذِهِ الآيَةُ بِهَذا المَعْنى فِيها إشارَةٌ إلى تَرْجِيحِ أحَدِ المَعْنَيَيْنِ مِنَ الكَلامِ المُوَجَّهِ أقْوى مِن آيَةِ ﴿وإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سبإ: ٢٤] وقَدْ سَلَكَ في هَذا الجَوابِ لَهم طَرِيقَ الإعْراضِ والتَّبْكِيتِ لِأنَّ إنْكارَهم كانَ عَنْ عِنادٍ لا عَنْ طَلَبِ الحَقِّ فَأُجِيبُوا بِما لا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الحَيْرَةَ ولَمْ يَتَبَيَّنْ لَهم حِكْمَةُ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ ولا أحَقِّيَّةُ الكَعْبَةِ بِالِاسْتِقْبالِ وذَلِكَ ما يَعْلَمُهُ المُؤْمِنُونَ. (p-١٣)فَأمّا إذا جَرَيْنا عَلى قَوْلِ الَّذِينَ نَسَبُوا إلى اليَهُودِ اسْتِقْبالَ جِهَةِ المَغْرِبِ وإلى النَّصارى اسْتِقْبالَ جِهَةِ المَشْرِقِ مِنَ المُفَسِّرِينَ فَيَأْتِي عَلى تَفْسِيرِهِمْ أنْ نَقُولَ إنَّ ذِكْرَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ إشارَةٌ إلى قِبْلَةِ النَّصارى وقِبْلَةِ اليَهُودِ، فَيَكُونُ الجَوابُ جَوابًا بِالإعْراضِ عَنْ تَرْجِيحِ قِبْلَةِ المُسْلِمِينَ لِعَدَمِ جَدْواهُ هُنا، أوْ يَكُونُ قَوْلُهُ ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إيماءً إلى قِبْلَةِ الإسْلامِ، والمُرادُ بِالصِّراطِ المُسْتَقِيمِ هُنا وسِيلَةُ الخَيْرِ وما يُوَصِّلُ إلَيْهِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] فَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ هَدْيٍ إلى خَيْرٍ ومِنهُ الهَدْيُ إلى اسْتِقْبالِ أفْضَلِ جِهَةٍ. فَجُمْلَةُ ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ حالٌ مِنَ اسْمِ الجَلالَةِ ولا يَحْسُنُ جَعْلُها بَدَلَ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ لِعَدَمِ وُضُوحِ اشْتِمالِ جُمْلَةِ ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ عَلى مَعْنى جُمْلَةِ ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ إذْ مَفادُ الأُولى أنَّ الأرْضَ جَمِيعَها لِلَّهِ أيْ فَلا تَتَفاضَلُ الجِهاتُ ومَفادُ الثّانِيَةِ أنَّ الهُدى بِيَدِ اللَّهِ. واتَّفَقَ عُلَماءُ الإسْلامِ عَلى أنَّ اسْتِقْبالَ الكَعْبَةِ أيِ التَّوَجُّهَ إلَيْها شَرْطٌ مِن شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاةِ المَفْرُوضَةِ والنّافِلَةِ إلّا لِضَرُورَةٍ في الفَرِيضَةِ كالقِتالِ والمَرِيضِ لا يَجِدُ مَن يُوَجِّهُهُ إلى جِهَةِ القِبْلَةِ أوْ لِرُخْصَةٍ في النّافِلَةِ لِلْمُسافِرِ إذا كانَ راكِبًا عَلى دابَّةٍ أوْ في سَفِينَةٍ لا يَسْتَقِرُّ بِها. فَأمّا الَّذِي هو في المَسْجِدِ الحَرامِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ اسْتِقْبالُ عَيْنِ الكَعْبَةِ مِن أحَدِ جَوانِبِها ومَن كانَ بِمَكَّةَ في مَوْضِعٍ يُعايِنُ مِنهُ الكَعْبَةَ فَعَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلى جِهَةِ الكَعْبَةِ الَّتِي يُعايِنُها فَإذا طالَ الصَّفُّ مِن أحَدِ جَوانِبِ الكَعْبَةِ وجَبَ عَلى مَن كانَ مِن أهْلِ الصَّفِّ غَيْرَ مُقابِلٍ لِرُكْنٍ مِن أرْكانِ الكَعْبَةِ أنْ يَسْتَدِيرَ بِحَيْثُ يُصَلُّونَ دائِرِينَ بِالكَعْبَةِ صَفًّا وراءَ صَفٍّ بِالِاسْتِدارَةِ، وأمّا الَّذِي تَغِيبُ ذاتُ الكَعْبَةِ عَنْ بَصَرِهِ فَعَلَيْهِ الِاجْتِهادُ بِأنْ يَتَوَخّى أنْ يَسْتَقْبِلَ جِهَتَها فَمِنَ العُلَماءِ مَن قالَ: يَتَوَخّى المُصَلِّي جِهَةَ مُصادَفَةِ عَيْنِ الكَعْبَةِ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ خَطٌّ بَيْنَهُ وبَيْنَ الكَعْبَةِ لَوَجَدَ وجْهَهُ قُبالَةَ جِدارِها، وهَذا شاقٌّ يَعْسُرُ تَحَقُّقُهُ إلّا بِطَرِيقِ إرْصادِ عِلْمِ الهَيْئَةِ، ويُعَبَّرُ عَنْ هَذا بِاسْتِقْبالِ العَيْنِ وبِاسْتِقْبالِ السَّمْتِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ القَصّارِ واخْتارَهُ أحَدُ أشْياخِ أبِي الطَّيِّبِ عَبْدِ المُنْعِمِ الكِنْدِيُّ، ونَقَلَهُ المالِكِيَّةُ عَنِ الشّافِعِيِّ، ومِنَ العُلَماءِ مَن قالَ: يَتَوَخّى المُصَلِّي أنْ يَسْتَقْبِلَ جِهَةَ أقْرَبِ ما بَيَّنَهُ وبَيْنَ الكَعْبَةِ بِحَيْثُ لَوْ مَشى بِاسْتِقامَةٍ لَوَصَلَ حَوْلَ الكَعْبَةِ، ويُعَبَّرُ عَنْ هَذا بِاسْتِقْبالِ الجِهَةِ أيْ جِهَةِ الكَعْبَةِ، وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المالِكِيَّةِ واخْتارَهُ الأبْهَرِيُّ والباجِيُّ وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وهو مِنَ التَّيْسِيرِ ورَفْعِ (p-١٤)الحَرَجِ، ومَن كانَ بِالمَدِينَةِ يَسْتَدِلُّ بِمَوْضِعِ صَلاةِ النَّبِيءِ ﷺ في مَسْجِدِهِ لِأنَّ اللَّهَ أذِنَ رَسُولَهُ بِالصَّلاةِ فِيهِ، ورَوى ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ «أنَّ جُبَيْرَ هو الَّذِي أقامَ لِلنَّبِيِّ ﷺ قِبْلَةَ مَسْجِدِهِ» . وبَيَّنَ المازِرِيُّ مَعْنى المُسامَتَةِ: بِأنْ يَكُونَ جُزْءٌ مِن سَطْحِ وجْهِ المُصَلّى وجُزْءٌ مِن سَمْتِ الكَعْبَةِ طَرَفَيْ خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ وذَلِكَ مُمْكِنٌ بِكَوْنِ صَفِّ المُصَلِّينَ كالخَطِّ المُسْتَقِيمِ الواصِلِ بَيْنَ طَرَفَيْ خَيْطَيْنِ مُتَباعِدَيْنِ خَرَجا مِنَ المَرْكَزِ إلى المُحِيطِ في جِهَتِهِ، لِأنَّ كُلَّ نُقْطَةٍ مِنهُ مَمَرٌّ لِخارِجٍ مِنَ المَرْكَزِ إلى المُحِيطِ اهـ، واسْتَبْعَدَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ هَذا الكَلامَ بِأنَّ تَكْلِيفَ البَعِيدِ اسْتِقْبالَ عَيْنِ البَيْتِ لا يُطاقُ، وبِإجْماعِهِمْ عَلى صِحَّةِ صَلاةِ ذَوِي صَفٍّ مِائَةِ ذِراعٍ وعَرْضُ البَيْتِ خَمْسَةُ أذْرُعٍ، فَبَعْضُ هَذا الصَّفِّ خارِجٌ عَنْ سِمَةِ البَيْتِ قَطْعًا ووافَقَهُ القَرافِيُّ ثُمَّ أجابَ بِأنَّ البَيْتَ لِمُسْتَقْبِلِيهِ كَمَرْكَزِ دائِرَةٍ لِمُحِيطِها والخُطُوطُ الخارِجَةُ مِن مَرْكَزٍ لِمُحِيطِهِ كُلَّما قَرُبَتْ مِنهُ اتَّسَعَتْ ولا سِيَّما في البُعْدِ. فَإذا طالَتِ الصُّفُوفُ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِمْ لِأنَّهم إنَّما يَجِبُ عَلَيْهِمْ أنْ يَكُونُوا مُتَوَجِّهِينَ نَحْوَ الجِهَةِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْها بِأنَّها قِبْلَةُ الصَّلاةِ. ومَن أخْطَأ القِبْلَةَ أوْ نَسِيَ الِاسْتِقْبالَ حَتّى فَرَغَ مِن صَلاتِهِ لا يَجِبُ عَلَيْهِ إعادَةُ صَلاتِهِ عِنْدَ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ وأحْمَدَ إلّا أنَّ مالِكًا اسْتَحَبَّ لَهُ أنْ يُعِيدَها ما لَمْ يَخْرُجِ الوَقْتُ ولَمْ يَرَ ذَلِكَ أبُو حَنِيفَةَ وأحْمَدُ وهَذا بِناءً عَلى أنَّ فَرْضَ المُكَلَّفِ هو الِاجْتِهادُ في اسْتِقْبالِ الجِهَةِ، وأمّا الشّافِعِيُّ فَأوْجَبَ عَلَيْهِ الإعادَةَ أبَدًا بِناءً عَلى أنَّهُ يَرى أنَّ فَرْضَ المُكَلَّفِ هو إصابَةُ سَمْتِ الكَعْبَةِ.


ركن الترجمة

The foolish will now ask and say: "What has made the faithful turn away from the Qiblah towards which they used to pray?" Say: "To God belong the East and the West. He guides who so wills to the path that is straight."

Les faibles d'esprit parmi les gens vont dire: «Qui les a détournés de la direction (Qibla) vers laquelle ils s'orientaient auparavant?» - Dis: «C'est à Allah qu'appartiennent le Levant et le Couchant. Il guide qui Il veut vers un droit chemin».

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :