ركن التفسير
175 - (أولئك الذين اشترَوا الضلالة بالهدى) أخذوها بدله في الدنيا (والعذاب بالمغفرة) المعدة لهم في الآخرة لو لم يكتموا (فما أصبرهم على النار) أي ما أشد صبرهم ، وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتهم من غير مبالاة وإلا فأيُّ صبرٍ لهم
قال تعالى مخبرا عنهم "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" أي اعتاضوا عن الهدى وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم "والعذاب بالمغفرة" أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة: وقوله تعالى "فما أصبرهم على النار" يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذا بالله من ذلك وقيل معنى قوله "فما أصبرهم على النار" أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى والعَذابَ بِالمَغْفِرَةِ فَما أصْبَرَهم عَلى النّارِ﴾ إنْ جَعَلْتَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً ثانِيًا لِجُمْلَةٍ هي خَبَرٌ ثانٍ عَنِ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ وهو اسْمُ إنَّ في قَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ﴾ [البقرة: ١٧٤] فالقَوْلُ فِيهِ كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ وهو ﴿أُولَئِكَ ما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمُ إلّا النّارَ﴾ [البقرة: ١٧٤] ونُكْتَةُ تَكْرِيرِهِ أنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ المُشارَ إلَيْهِ جَدِيرٌ بِأحْكامٍ أُخْرى (p-١٢٥)غَيْرِ الحُكْمِ السّابِقِ وأنَّ تِلْكَ الأحْكامَ لِأهَمِّيَّتِها يَنْبَغِي ألّا تُجْعَلَ مَعْطُوفَةً تابِعَةً لِلْحُكْمِ الأوَّلِ بَلْ تُفْرَدُ بِالحُكْمِيَّةِ. وإنْ جَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً مُسْتَقِلًّا مَعَ جُمْلَتِهِ فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِبَيانِ سَبَبِ انْغِماسِهِمْ في عَذابِ النّارِ؛ لِأنَّهُ وعِيدٌ عَظِيمٌ جِدًّا يَسْتَوْجِبُ أنْ يَسْألَ عَنْهُ السّائِلُ فَيُبَيَّنُ بِأنَّهم أخَذُوا الضَّلالَ ونَبَذُوا الهُدى واخْتارُوا العَذابَ ونَبَذُوا المَغْفِرَةَ، ومَجِيءُ المُسْنَدِ إلَيْهِ حِينَئِذٍ اسْمَ إشارَةٍ لِتَفْظِيعِ حالِهِمْ؛ لِأنَّهُ يُشِيرُ لَهم بِوَصْفِهِمُ السّابِقِ وهو كِتْمانُ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ. ومَعْنى اشْتِراءِ الضَّلالَةِ بِالهُدى في كِتْمانِ الكِتابِ أنَّ كُلَّ آيَةٍ أخْفَوْها أوْ أفْسَدُوها بِالتَّأْوِيلِ فَقَدِ ارْتَفَعَ مَدْلُولُها المَقْصُودُ مِنها وإذا ارْتَفَعَ مَدْلُولُها نُسِيَ العَمَلُ بِها فَأقْدَمَ النّاسُ عَلى ما حَذَّرْتَهم مِنهُ، فَفي كِتْمانِهِمْ حَقٌّ رُفِعَ وباطِلٌ وُضِعَ. ومَعْنى اشْتِراءِ العَذابِ بِالمَغْفِرَةِ أنَّهم فَعَلُوا ذَلِكَ الكِتْمانَ عَنْ عَمْدٍ وعِلْمٍ بِسُوءِ عاقِبَتِهِ، فَهم قَدْ رَضُوا بِالعَذابِ وإضاعَةِ المَغْفِرَةِ فَكَأنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا بِالمَغْفِرَةِ العَذابَ، والقَوْلُ في مَعْنى اشْتَرَوْا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١] . وقَوْلُهُ ﴿فَما أصْبَرَهم عَلى النّارِ﴾ تَعْجِيبٌ مِن شِدَّةِ صَبْرِهِمْ عَلى عَذابِ النّارِ، ولَمّا كانَ شَأْنُ التَّعْجِيبِ أنْ يَكُونَ ناشِئًا عَنْ مُشاهَدَةِ صَبْرِهِمْ عَلى العَذابِ وهَذا الصَّبْرُ غَيْرُ حاصِلٍ في وقْتِ نُزُولِ هاتِهِ الآيَةِ بَنى التَّعْجِيبَ عَلى تَنْزِيلِ غَيْرِ الواقِعِ مَنزِلَةَ الواقِعِ لِشِدَّةِ اسْتِحْضارِ السّامِعِ إيّاهُ بِما وُصِفَ بِهِ مِنَ الصِّفاتِ الماضِيَةِ، وهَذا مِن طُرُقِ جَعْلِ المُحَقَّقِ الحُصُولِ في المُسْتَقْبَلِ بِمَنزِلَةِ الحاصِلِ، ومِنهُ التَّعْبِيرُ عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الماضِي وتَنْزِيلُ المُتَخَيَّلِ مَنزِلَةَ الشّاهِدِ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ: ؎تَبَصَّرْ خَلِيلِي هَلْ تَرى مَن ظَعائِنٍ تَحَمَّلْنَ بِالعَلْياءِ مِن فَوْقِ جُرْثُمِ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ أنَّهُ وقَفَ بِالدّارِ بَعْدَ عِشْرِينَ حَجَّةً، وقَوْلِ مالِكِ بْنِ الرَّيْبِ: ؎دَعانِي الهَوى مِن أهْلِ وُدِّي وجِيرَتِي ∗∗∗ بِذِي الطَّيِّسَيْنِ فالتَفَتُّ ورائِيا وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿كَلّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾ [التكاثر: ٥] ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾ [التكاثر: ٦] عَلى جَعْلِ لَتَرَوُنَّ جَوابَ لَوْ.