ركن التفسير
179 - (ولكم في القصاص حياة) أي بقاء عظيم (يا أولي الألباب) ذوي العقول لأن القاتل إذا علم أنه يقتل ارتدع فأحيا نفسه ومن أراد قتله فشرع (لعلكم تتقون) القتل مخافة القود
وقوله "ولكم في القصاص حياة" يقول تعالى وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز "ولكم في القصاص حياة" قال أبو العالية جعل الله القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان" يا أولى الألباب لعلكم تتقون" يقول يا أولي العقول والأفهام والنهى لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه والتقوى أسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الألْبابِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ تَذْيِيلٌ لَهاتِهِ الأحْكامِ الكُبْرى طَمْأنَ بِهِ نُفُوسَ الفَرِيقَيْنِ أوْلِياءَ الدَّمِ والقاتِلِينَ في قَبُولِ أحْكامِ القِصاصِ، فَبَيَّنَ أنَّ في القِصاصِ حَياةً، والتَّنْكِيرُ في (حَياةٌ) لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ المَقامِ؛ أيْ: في القِصاصِ حَياةٌ لَكم؛ أيْ: لِنُفُوسِكم؛ فَإنَّ فِيهِ ارْتِداعَ النّاسِ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، فَلَوْ أُهْمِلَ (p-١٤٥)حُكْمُ القِصاصِ لَما ارْتَدَعَ النّاسُ؛ لِأنَّ أشَدَّ ما تَتَوَقّاهُ نُفُوسُ البَشَرِ مِنَ الحَوادِثِ هو المَوْتُ، فَلَوْ عَلِمَ القاتِلُ أنَّهُ يَسْلَمُ مِنَ المَوْتِ، لَأقْدَمَ عَلى القَتْلِ مُسْتَخِفًّا بِالعُقُوباتِ كَما قالَ سَعْدُ بْنُ ناشِبٍ لَمّا أصابَ دَمًا وهَرَبَ فَعاقَبَهُ أمِيرُ البَصْرَةِ بِهَدْمِ دارِهِ بِها: ؎سَأغْسِلُ عَنِّي العارَ بِالسَّيْفِ جالِبًا عَلِيَّ قَضاءَ اللَّهِ ما كانَ جالِبا ؎وأذْهَلُ عَنْ دارِي وأجْعَلُ هَدْمَها ∗∗∗ لِعِرْضِي مِن باقِي المَذَمَّةِ حاجِبا ؎ويَصْغُرُ في عَيْنِي تِلادِي إذا انْثَنَتْ ∗∗∗ يَمِينِي بِإدْراكِ الَّذِي كُنْتُ طالِبا ولَوْ تُرِكَ الأمْرُ لِلْأخْذِ بِالثَّأْرِ كَما كانَ عَلَيْهِ في الجاهِلِيَّةِ لَأفْرَطُوا في القَتْلِ وتَسَلْسَلَ الأمْرُ كَما تَقَدَّمَ، فَكانَ في مَشْرُوعِيَّةِ القِصاصِ حَياةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الجانِبَيْنِ، ولَيْسَ التَّرْغِيبُ في أخْذِ مالِ الصُّلْحِ والعَفْوِ بِناقِضٍ لِحِكْمَةِ القِصاصِ؛ لِأنَّ الِازْدِجارَ يَحْصُلُ بِتَخْيِيرِ الوَلِيِّ في قَبُولِ الدِّيَةِ فَلا يَطْمَئِنُّ مُضْمِرُ القَتْلِ إلى عَفْوِ الوَلِيِّ إلّا نادِرًا، وكَفى بِهَذا في الِازْدِجارِ. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أُولِي الألْبابِ﴾ تَنْبِيهٌ بِحَرْفِ النِّداءِ عَلى التَّأمُّلِ في حِكْمَةِ القِصاصِ، ولِذَلِكَ جِيءَ في التَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الإضافَةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهم مِن أهْلِ العُقُولِ الكامِلَةِ؛ لِأنَّ حِكْمَةَ القِصاصِ لا يُدْرِكُها إلّا أهْلُ النَّظَرِ الصَّحِيحِ؛ إذْ هو في بادِئِ الرَّأْيِ كَأنَّهُ عُقُوبَةٌ بِمِثْلِ الجِنايَةِ؛ لِأنَّ في القِصاصِ رَزِيَّةً ثانِيَةً لَكِنَّهُ عِنْدَ التَّأمُّلِ هو حَياةٌ لا رَزِيَّةٌ لِلْوَجْهَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ. وقالَ: (﴿لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾) إكْمالًا لِلْعِلَّةِ؛ أيْ: تَقْرِيبًا لِأنْ تَتَّقُوا فَلا تَتَجاوَزُوا في أخْذِ الثَّأْرِ حَدَّ العَدْلِ والإنْصافِ. و”لَعَلَّ“ لِلرَّجاءِ، وهي هُنا تَمْثِيلٌ أوِ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] إلى قَوْلِهِ: (﴿لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١]) في أوَّلِ السُّورَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿فِي القِصاصِ حَياةٌ﴾ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ فاقَ ما كانَ سائِرًا مَسْرى المَثَلِ عِنْدَ العَرَبِ، وهو قَوْلُهم: القَتْلُ أنْفى لِلْقَتْلِ، وقَدْ بَيَّنَهُ السَّكّاكِيُّ في مِفْتاحِ العُلُومِ وذَيَّلَهُ مَن جاءَ بَعْدَهُ مِن عُلَماءِ المَعانِي، ونَزِيدُ عَلَيْهِمْ: أنَّ لَفْظَ القِصاصِ قَدْ دَلَّ عَلى إبْطالِ التَّكايُلِ بِالدِّماءِ، وعَلى إبْطالِ قَتْلِ واحِدٍ مِن قَبِيلَةِ القاتِلِ إذا لَمْ يَظْفَرُوا بِالقاتِلِ، وهَذا لا تُفِيدُهُ كَلِمَتُهُمُ الجامِعَةُ.