موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الأحد 3 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل12 ماي 2024


الآية [194] من سورة  

وَأَنفِقُواْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمُۥٓ إِلَي اَ۬لتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوٓاْۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لْمُحْسِنِينَۖ


ركن التفسير

195 - (وأنفقوا في سبيل الله) طاعته بالجهاد وغيره (ولا تلقوا بأيديكم) أي أنفسكم والباء زائدة (إلى التهلكة) الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو تركه لأنه يقوي العدو عليكم (وأحسنوا) بالنفقة وغيرها (إن الله يحب المحسنين) أي يثيبهم

قال البخاري حدثنا إسحق أخبرنا النضر أخبرنا شعبة عن سليمان سمعت أبا وائل عن حذيفة "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال نزلت في النفقة ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن أبي معاوية عن الأعمش به مثله قال: وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدنا معه المشاهد ونصرناه فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به وقال الترمذي حسن صحيح غريب وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى أهل الشام رجل يزيد بن فضالة بن عبيد فخرج من المدينة صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها فأنزل الله هذه الآية وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا. قال الله لرسوله "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك" إنما هذه في النفقة رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل عن أبي إسحق وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحق عن البراء فذكره وقال بعد قوله "لا تكلف إلا نفسك" ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثنا عبدالرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر بن نمير بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن عبدالرحمن الأسود بن عبد يغوث أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص فأرسل إليه عمرو فرده وقال عمرو قال الله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: ليس ذلك في القتال إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة. قال حماد بن سلمة عن داود عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وقال الحسن البصري "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال هو البخل وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير في قوله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" أن يذنب الرجل الذنب فيقول لا يغفر لي فأنزل الله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" رواه ابن مردويه. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عبيدة السلماني والحسن وابن سيرين وأبي قلابة نحو ذلك يعني نحو قول النعمان بن بشير إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له فيلقي بيده إلى التهلكة أي يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس التهلكة عذاب الله. وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرني أبو صخر عن القرظي "محمد بن كعب" أنه كان يقول في هذه الآية "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: كان القوم في سبيل الله فيتزود الرجل فكان أفضل زادا من الآخر أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء أحب أن يواسي صاحبه فأنزل الله "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وبه قال ابن وهب أيضا: أخبرني عبدالله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" وذلك أن رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير نفقة فإما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي. وقال لمن بيده فضل "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده ثم عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.

﴿وأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ وأحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٠] إلَخْ، فَإنَّهم لَمّا أُمِرُوا بِقِتالِ عَدُوِّهِمْ، وكانَ العَدُوُّ أوْفَرَ مِنهم عُدَّةَ حَرْبٍ أيْقَظَهم إلى الِاسْتِعْدادِ بِإنْفاقِ الأمْوالِ في سَبِيلِ اللَّهِ، فالمُخاطَبُونَ بِالأمْرِ بِالإنْفاقِ جَمِيعُ المُسْلِمِينَ لا خُصُوصَ المُقاتِلِينَ. ووَجْهُ الحاجَةِ إلى هَذا الأمْرِ مَعَ أنَّ الِاسْتِعْدادَ لِلْحَرْبِ مَرْكُوزٌ في الطِّباعِ - تَنْبِيهُ المُسْلِمِينَ، فَإنَّهم قَدْ يُقَصِّرُونَ في الإتْيانِ عَلى مُنْتَهى الِاسْتِعْدادِ لِعَدُوٍّ قَوِيٍّ؛ لِأنَّهم قَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُهم إيمانًا بِاللَّهِ وثِقَةً بِهِ، ومُلِئَتْ أسْماعُهم بِوَعْدِ اللَّهِ إيّاهُمُ النَّصْرَ وأخِيرًا بِقَوْلِهِ: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٩٤] نُبِّهُوا عَلى أنَّ تَعَهُّدَ اللَّهِ لَهم بِالتَّأْيِيدِ والنَّصْرِ لا يُسْقِطُ عَنْهم أخْذَ العُدَّةِ المَعْرُوفَةِ، فَلا يَحْسَبُوا أنَّهم غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِبَذْلِ الوُسْعِ لِوَسائِلِ النَّصْرِ الَّتِي هي أسْبابٌ ناطَ اللَّهُ تَعالى بِها مُسَبَّباتِها عَلى حَسَبِ الحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضاها النِّظامُ الَّذِي سَنَّهُ اللَّهُ في الأسْبابِ ومُسَبَّباتِها، فَتَطَلُّبُ المُسَبَّباتِ دُونَ أسْبابِها غَلَطٌ وسُوءُ أدَبٍ مَعَ خالِقِ الأسْبابِ ومُسَبَّباتِها كَيْ لا يَكُونُوا كالَّذِينَ قالُوا لِمُوسى ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا ها هُنا قاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤] فالمُسْلِمُونَ إذا بَذَلُوا وُسْعَهم، ولَمْ يُفَرِّطُوا في شَيْءٍ ثُمَّ ارْتَبَكُوا في أمْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فاللَّهُ ناصِرُهم، ومُؤَيِّدُهم فِيما لا قِبَلَ لَهم بِتَحْصِيلِهِ، ولَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وهم أذِلَّةٌ؛ إذْ هم يَوْمَئِذٍ جُمْلَةُ المُسْلِمِينَ وإذْ لَمْ يُقَصِّرُوا في شَيْءٍ، فَأمّا أقْوامٌ يُتْلِفُونَ أمْوالَ المُسْلِمِينَ في شَهَواتِهِمْ، ويُفِيتُونَ الفُرَصَ وقْتَ الأمْنِ فَلا يَسْتَعِدُّونَ لِشَيْءٍ ثُمَّ يَطْلُبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ النَّصْرَ والظَّفَرَ، فَأُولَئِكَ قَوْمٌ مَغْرُورُونَ، ولِذَلِكَ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أعْداءَهم بِتَفْرِيطِهِمْ، ولَعَلَّهُ يَتَدارَكُهم في خِلالِ ذَلِكَ بِلُطْفِهِ فِيما يَرْجِعُ إلى اسْتِبْقاءِ الدِّينِ، والإنْفاقُ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] (p-٢١٣)وسَبِيلُ اللَّهِ طَرِيقُهُ، والطَّرِيقُ إذا أُضِيفَ إلى شَيْءٍ فَإنَّما يُضافُ إلى ما يُوصِلُ إلَيْهِ، ولَمّا عُلِمَ أنَّ اللَّهَ لا يَصِلُ إلَيْهِ النّاسُ تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الطَّرِيقِ العَمَلَ المُوصِلَ إلى مَرْضاةِ اللَّهِ وثَوابِهِ، فَهو مَجازٌ في اللَّفْظِ ومَجازٌ في الإسْنادِ، وقَدْ غَلَبَ سَبِيلُ اللَّهِ في اصْطِلاحِ الشَّرْعِ في الجِهادِ، أيِ: القِتالِ لِلذَّبِّ عَنْ دِينِهِ وإعْلاءِ كَلِمَتِهِ، و(في) لِلظَّرْفِيَّةِ لِأنَّ النَّفَقَةَ تَكُونُ بِإعْطاءِ العَتادِ والخَيْلِ والزّادِ، وكُلُّ ذَلِكَ مَظْرُوفٌ لِلْجِهادِ عَلى وجْهِ المَجازِ ولَيْسَتْ ”في“ هُنا مُسْتَعْمَلَةً لِلتَّعْلِيلِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ عَطْفُ غَرَضٍ عَلى غَرَضٍ، عُقِّبَ الأمْرُ بِالإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الأعْمالِ الَّتِي لَها عَواقِبُ ضارَّةٌ إبْلاغًا لِلنَّصِيحَةِ والإرْشادِ لِئَلّا يَدْفَعَ بِهِمْ يَقِينُهم بِتَأْيِيدِ اللَّهِ إيّاهم إلى التَّفْرِيطِ في وسائِلِ الحَذَرِ مِن غَلَبَةِ العَدُوِّ، فالنَّهْيُ عَنِ الإلْقاءِ بِالنُّفُوسِ إلى التَّهْلُكَةِ يَجْمَعُ مَعْنى الأمْرِ بِالإنْفاقِ وغَيْرِهِ مِن تَصارِيفِ الحَرْبِ وحِفْظِ النُّفُوسِ، ولِذَلِكَ فالجُمْلَةُ فِيها مَعْنى التَّذْيِيلِ، وإنَّما عُطِفَتْ ولَمْ تُفْصَلْ بِاعْتِبارِ أنَّها غَرَضٌ آخَرُ مِن أغْراضِ الإرْشادِ. والإلْقاءُ رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ اليَدِ وهو يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ بِنَفْسِهِ وإلى المَرْمِيِّ إلَيْهِ بِإلى وإلى المَرْمِيِّ فِيهِ بِفي. والظّاهِرُ أنَّ الأيْدِيَ هي المَفْعُولُ إذْ لَمْ يَذْكَرْ غَيْرَهْ، وأنَّ الباءَ زائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ اتِّصالِ الفِعْلِ بِالمَفْعُولِ كَما قالُوا لِلْمُنْقادِ (أعْطى بِيَدِهِ) أيْ: أعْطى يَدَهُ؛ لِأنَّ المُسْتَسْلِمَ في الحَرْبِ ونَحْوِهِ يَشُدُّ بِيَدِهِ، فَزِيادَةُ الباءِ كَزِيادَتِها في ﴿وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ [مريم: ٢٥] وقَوْلِ النّابِغَةِ: ؎لَكَ الخَيْرُ إنْ وارَتْ بِكَ الأرْضُ واحِدًا والمَعْنى: ولا تُعْطُوا الهَلاكَ أيْدِيَكم فَيَأْخُذَكم أخْذَ المُوثَقِ، وجَعَلَ التَّهْلُكَةَ كالآخِذِ والآسِرِ اسْتِعارَةً بِجامِعِ الإحاطَةِ بِالمُلْقِي، ويَجُوزُ أنْ تُجْعَلَ اليَدُ مَعَ هَذا مَجازًا عَنِ الذّاتِ بِعَلاقَةِ البَعْضِيَّةِ؛ لِأنَّ اليَدَ أهَمُّ شَيْءٍ في النَّفْسِ في هَذا المَعْنى، وهَذا في الأمْرَيْنِ كَقَوْلِ لَبِيَدٍ: ؎حَتّى إذا ألْقَتْ يَدًا في كافِرٍ أيْ: ألْقَتِ الشَّمْسُ نَفْسَها، وقِيلَ: الباءُ سَبَبِيَّةٌ، والأيْدِي مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْنى الذّاتِ كِنايَةً (p-٢١٤)عَنِ الِاخْتِيارِ، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: لا تُلْقُوا أنْفُسَكم إلى التَّهْلُكَةِ بِاخْتِيارِكم. والتَّهْلُكَةُ - بِضَمِّ اللّامِ - اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنى الهَلاكِ، وإنَّما كانَ اسْمَ مَصْدَرٍ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ في المَصادِرِ وزْنُ التَّفْعُلَةِ - بِضَمِّ العَيْنِ - وإنَّما في المَصادِرِ التَّفْعِلَةُ - بِكَسْرِ العَيْنِ - لَكِنَّهُ مَصْدَرُ مُضاعَفِ العَيْنِ المُعْتَلِّ اللّامِ كَزَكّى وغَطّى، أوِ المَهْمُوزُ اللّامِ كَجَزَّأ وهَيَّأ، وحَكى سِيبَوَيْهِ: لَهُ نَظِيرَيْنِ في المُشْتَقّاتِ: التَّضُرَّةَ والتَّسُرَّةَ، بِضَمِّ العَيْنِ، مِن أضَرَّ وأسَرَّ بِمَعْنى الضُّرِّ والسُّرُورِ، وفي الأسْماءِ الجامِدَةِ: التَّنْضُبَةَ والتَّتْفُلَةَ - الأوَّلُ اسْمُ شَجَرٍ، والثّانِي ولَدُ الثَّعْلَبِ - وفي تاجِ العَرُوسِ: أنَّ الخَلِيلَ قَرَأها: (التَّهْلِكَةِ) - بِكَسْرِ اللّامِ - ولا أحْسِبُ الخَلِيلَ قَرَأ كَذَلِكَ؛ فَإنَّ هَذا لَمْ يُرْوَ عَنْ أحَدٍ مِنَ القُرّاءِ في المَشْهُورِ ولا الشّاذِّ، فَإنْ صَحَّ هَذا النَّقْلُ فَلَعَلَّ الخَلِيلَ نَطَقَ بِهِ عَلى وجْهِ المِثالِ، فَلَمْ يَضْبُطْ مَن رَواهُ عَنْهُ حَقَّ الضَّبْطِ، فَإنَّ الخَلِيلَ أجَلُّ مِن أنْ يَقْرَأ القُرْآنَ بِحَرْفٍ غَيْرِ مَأْثُورٍ. ومَعْنى النَّهْيِ عَنِ الإلْقاءِ بِاليَدِ إلى التَّهْلُكَةِ: النَّهْيُ عَنِ التَّسَبُّبِ في إتْلافِ النَّفْسِ أوِ القَوْمِ عَنْ تَحَقُّقِ الهَلاكِ بِدُونِ أنْ يُجْتَنى مِنهُ المَقْصُودُ. وعَطَفَ عَلى الأمْرِ بِالإنْفاقِ لِلْإشارَةِ إلى عِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ الإنْفاقِ وإلى سَبَبِ الأمْرِ بِهِ، فَإنْ تَرَكَ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ والخُرُوجَ بِدُونِ عُدَّةٍ - إلْقاءٌ بِاليَدِ لِلْهَلاكِ كَما قِيلَ: ؎كَساعٍ إلى الهَيْجا بِغَيْرِ سِلاحٍ فَلِذَلِكَ وجَبَ الإنْفاقُ، ولِأنَّ اعْتِقادَ كِفايَةِ الإيمانِ بِاللَّهِ ونَصْرِ دِينِهِ في هَزِمِ الأعْداءِ اعْتِقادٌ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأنَّهُ كالَّذِي يُلْقِي بِنَفْسِهِ لِلْهَلاكِ ويَقُولُ سَيُنْجِينِي اللَّهُ تَعالى، فَهَذا النَّهْيُ قَدْ أفادَ المَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، وهَذا مِن أبْدَعِ الإيجازِ. وفِي البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وجَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ في مَعْنى ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ لا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ في سَبِيلِ اللَّهِ وتَخافُوا العَيْلَةَ وإنْ لَمْ يَكُنْ إلّا سَهْمٌ أوْ مِقَصٌّ فَأْتِ بِهِ. وقَدْ قِيلَ في تَفْسِيرِ ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ أقْوالٌ؛ الأوَّلُ: أنَّ (أنْفِقُوا) أمْرٌ بِالنَّفَقَةِ عَلى العِيالِ، و(التَّهْلُكَةُ) الإسْرافُ فِيها أوِ البُخْلُ الشَّدِيدُ، رَواهُ البُخارِيُّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، ويُبْعِدُهُ قَوْلُهُ: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وأنَّ إطْلاقَ التَّهْلُكَةِ عَلى السَّرَفِ بَعِيدٌ، وعَلى البُخْلِ أبْعَدُ. (p-٢١٥)الثّانِي: أنَّها النَّفَقَةُ عَلى الفُقَراءِ؛ أيِ: الصَّدَقَةُ، و(التَّهْلُكَةُ) الإمْساكُ، ويُبْعِدُهُ عَدَمُ مُناسَبَةِ العَطْفِ وإطْلاقُ التَّهْلُكَةِ عَلى الإمْساكِ. الثّالِثُ: الإنْفاقُ في الجِهادِ والإلْقاءُ إلى التَّهْلُكَةِ: الخُرُوجُ بِغَيْرِ زادٍ. الرّابِعُ: الإلْقاءُ بِاليَدِ إلى التَّهْلُكَةِ: الِاسْتِسْلامُ في الحَرْبِ؛ أيْ: لا تَسْتَسْلِمُوا لِلْأسْرِ. الخامِسُ: أنَّهُ الِاشْتِغالُ عَنِ الجِهادِ وعَنِ الإنْفاقِ فِيهِ بِإصْلاحِ أمْوالِهِمْ. رَوى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أسْلَمَ أبِي عِمْرانَ قالَ: كُنّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ القُسْطَنْطِينِيَّةِ فَأخْرَجُوا إلَيْنا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الرُّومِ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ مِثْلُهم، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلى صَفٍّ لِلرُّومِ حَتّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصاحَ النّاسُ وقالُوا: سُبْحانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إلى التَّهْلُكَةِ، فَقامَ أبُو أيُّوبَ الأنْصارِيُّ فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ إنَّكم تَتَأوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةِ هَذا التَّأْوِيلَ، وإنَّما أُنْزِلَتْ فِينا مَعاشِرَ الأنْصارِ لَمّا أعَزَّ اللَّهُ الإسْلامَ وكَثُرَ ناصِرُوهُ، وقالَ بَعْضُنا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ: إنَّ أمْوالَنا قَدْ ضاعَتْ وإنَّ اللَّهَ قَدْ أعَزَّ الإسْلامَ وكَثُرَ ناصِرُوهُ فَلَوْ أقَمْنا في أمْوالِنا فَأصْلَحْنا ما ضاعَ مِنها فَأنْزَلَ اللَّهُ عَلى نَبِيِّهِ يَرُدُّ عَلَيْنا ما قُلْنا: ﴿وأنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ فَكانَتِ التَّهْلُكَةُ الإقامَةَ عَلى الأمْوالِ وإصْلاحَها وتَرْكَنا الغَزْوَ ا هـ، والآيَةُ تَتَحَمَّلُ جَمِيعَ المَعانِي المَقْبُولَةِ. ووُقُوعُ فِعْلِ ”تُلْقُوا“ في سِياقِ النَّهْيِ يَقْتَضِي عُمُومَ كُلِّ إلْقاءٍ بِاليَدِ لِلتَّهْلُكَةِ؛ أيْ: كُلِّ تَسَبُّبٍ في الهَلاكِ عَنْ عَمْدٍ، فَيَكُونُ مَنهِيًّا عَنْهُ مُحَرَّمًا ما لَمْ يُوجَدْ مُقْتَضٍ لِإزالَةِ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ، وهو ما يَكُونُ حِفْظُهُ مُقَدَّمًا عَلى حِفْظِ النَّفْسِ مَعَ تَحَقُّقِ حُصُولِ حِفْظِهِ بِسَبَبِ الإلْقاءِ بِالنَّفْسِ إلى الهَلاكِ أوْ حِفْظِ بَعْضِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. فالتَّفْرِيطُ في الِاسْتِعْدادِ لِلْجِهادِ حَرامٌ لا مَحالَةَ؛ لِأنَّهُ إلْقاءٌ بِاليَدِ إلى التَّهْلُكَةِ، وإلْقاءٌ بِالأُمَّةِ والدِّينِ إلَيْها بِإتْلافِ نُفُوسِ المُسْلِمِينَ، وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في مِثْلِ هَذا الخَبَرِ الَّذِي رَواهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أبِي أيُّوبَ وهو اقْتِحامُ الرَّجُلِ الواحِدِ عَلى صَفِّ العَدُوِّ، فَقالَ القاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنَ التّابِعِينَ وعَبْدُ المَلِكِ بْنُ الماجَشُونِ وابْنُ خُوَيْزِ مَندادَ مِنَ المالِكِيَّةِ ومُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ صاحِبُ أبِي حَنِيفَةَ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ إذا كانَ فِيهِ قُوَّةٌ، وكانَ بِنِيَّةٍ خالِصَةٍ لِلَّهِ تَعالى وطَمَعٍ في نَجاةٍ أوْ في نِكايَةِ العَدُوِّ أوْ قَصْدِ تَجْرِئَةِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وقَدْ وقَعَ ذَلِكَ مِن بَعْضِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ بِمَرْأى النَّبِيءِ ﷺ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كانَ مِنَ الإلْقاءِ إلى التَّهْلُكَةِ. (p-٢١٦)وقَوْلُهُ تَعالى: (وأحْسِنُوا) الإحْسانُ فِعْلُ النّافِعِ المُلائِمِ، فَإذا فَعَلَ فِعْلًا نافِعًا مُؤْلِمًا لا يَكُونُ مُحْسِنًا، فَلا تَقُولَ إذا ضَرَبْتَ رَجُلًا تَأْدِيبًا: أحْسَنْتُ إلَيْهِ، ولا إذا جارَيْتَهُ في مَلَذّاتٍ مُضِرَّةٍ: أحْسَنْتُ إلَيْهِ، وكَذا إذا فَعَلَ فِعْلًا مُضِرًّا مُلائِمًا لا يُسَمّى مُحْسِنًا. وفِي حَذْفِ مُتَعَلِّقِ ”أحْسِنُوا“ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الإحْسانَ مَطْلُوبٌ في كُلِّ حالٍ ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ ﷺ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ» . وفِي الأمْرِ بِالإحْسانِ بَعْدَ ذِكْرِ الأمْرِ بِالِاعْتِداءِ عَلى المُعْتَدِي والإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ والنَّهْيِ عَنِ الإلْقاءِ بِاليَدِ إلى التَّهْلُكَةِ - إشارَةٌ إلى أنَّ كُلَّ هاتِهِ الأحْوالِ يُلابِسُها الإحْسانُ ويَحُفُّ بِها، فَفي الِاعْتِداءِ يَكُونُ الإحْسانُ بِالوُقُوفِ عِنْدَ الحُدُودِ والِاقْتِصادِ في الِاعْتِداءِ والِاقْتِناعِ بِما يَحْصُلُ بِهِ الصَّلاحُ المَطْلُوبُ، وفي الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ الإحْسانُ بِالرِّفْقِ بِالأسِيرِ والمَغْلُوبِ وبِحِفْظِ أمْوالِ المَغْلُوبِينَ ودِيارِهِمْ مِنَ التَّخْرِيبِ والتَّحْرِيقِ، والعَرَبُ تَقُولُ: مَلَكْتَ فَأسْجِحْ. والحَذَرُ مِنَ الإلْقاءِ بِاليَدِ إلى التَّهْلُكَةِ إحْسانٌ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ تَذْيِيلٌ لِلتَّرْغِيبِ في الإحْسانِ؛ لِأنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَبْدَهُ غايَةُ ما يَطْلُبُهُ النّاسُ إذْ مَحَبَّةُ اللَّهِ العَبْدَ سَبَبَ الصَّلاحِ والخَيْرِ دُنْيا وآخِرَةً، واللّامُ لِلِاسْتِغْراقِ العُرْفِيِّ، والمُرادُ المُحْسِنُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ.


ركن الترجمة

Spend in the way of God, and do not seek destruction at your own hands. So do good for God loves those who do good.

Et dépensez dans le sentier d'Allah. Et ne vous jetez pas par vos propres mains dans la destruction. Et faites le bien. Car Allah aime les bienfaisants.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :