موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
السبت 2 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل11 ماي 2024


الآية [232] من سورة  

وَالْوَٰلِدَٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِۖ لِمَنَ اَرَادَ أَنْ يُّتِمَّ اَ۬لرَّضَٰعَةَۖ وَعَلَي اَ۬لْمَوْلُودِ لَهُۥ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِۖ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ اِلَّا وُسْعَهَاۖ لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٞ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦۖ وَعَلَي اَ۬لْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَۖ فَإِنَ اَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٖ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٖ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَاۖ وَإِنَ اَرَدتُّمُۥٓ أَن تَسْتَرْضِعُوٓاْ أَوْلَٰدَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمُۥٓ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَاعْلَمُوٓاْ أَنَّ اَ۬للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٞ


ركن التفسير

233 - (والوالدات يرضعن) أي ليرضعن (أولادهن حولين) عامين (كاملين) صفة مؤكدة ، ذلك (لمن أراد أن يتم الرضاعة) ولا زيادة عليه (وعلى المولود له) أي الأب (رزقهن) إطعام الوالدات (وكسوتهن) على الإرضاع إذا كن مطلقات (بالمعروف) بقدر طاقته (لا تكلف نفس إلا وسعها) طاقتها (لا تضار والدة بولدها) أي بسببه بأن تكره على إرضاعه إذا امتنعت (ولا) يضار (مولود له بولده) أي بسببه بأن يكلف فوق طاقته وإضافة الولد إلى كل منهما في الموضعين للاستعطاف (وعلى الوارث) أي وارث الأب وهو الصبي أي على وَلِّيه في ماله (مثل ذلك) الذي على الأب للوالدة من الرزق والكسوة (فإن أرادا) أي الوالدان (فصالا) فطاما له قبل الحولين صادرا (عن تراض) اتفاق (منهما وتشاور) بينهما لتظهر مصلحة الصبي فيه (فلا جناح عليهما) في ذلك (وإن أردتم) خطاب للآباء (أن تسترضعوا أولادكم) مراضع غير الوالدات (فلا جناح عليكم) فيه (إذا سلمتم) إليهن (ما آتيتم) أي أردتم إيتاءه لهن من الأجرة (بالمعروف) بالجميل كطيب النفس (واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) لا يخفى عليه شيء منه

هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ولهذا قال "لمن أراد أن يتم الرضاعة" وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم قال الترمذي: "باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين" حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام وهي امرأة هشام بن عروة. "قلت" تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ورجاله على شرط الصحيحين ومعنى قوله "إلا ما كان في الثدي" أي في محل الرضاعة قبل الحولين كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن وكيع وغندر عن شعبة عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال "إن ابني مات في الثدي إن له مرضعا في الجنة" وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة وإنما قال عليه السلام ذلك لأن ابنه إبراهيم عليه السلام مات وله سنة وعشرة أشهر فقال إن له مرضعا يعني تكمل رضاعه ويؤيده ما رواه الدارقطني من طريق الهيثم بن جميل عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين" ثم قال ولم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ. "قلت" وقد رواه الإمام مالك في الموطأ عن ثور بن زيد عن ابن عباس مرفوعا ورواه الدراوردي عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس وزاد "وما كان بعد الحولين فليس بشيء" وهذا أصح. وقال أبو داود الطيالسي عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام" وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله تعالى "وفصاله في عامين أن اشكر لي" وقال "وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين يروى عن علي وابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي هريرة وابن عمر وأم سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء والجمهور وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحق والثوري وأبي يوسف ومحمد ومالك في رواية وعنه أن مدته سنتان وشهران وفي رواية وثلاثة أشهر. وقال أبو حنيفة سنتان وستة أشهر وقال زفر بن الهذيل ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين وهذا رواية عن الأوزاعي قال مالك: ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد فصاله لم يحرم لأنه قد صار بمنزلة الطعام وهو رواية عن الأوزاعي وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا: لا رضاع بعد فصال فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور سواء فطم أو لم يفطم ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك والله أعلم. وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم وهو قول عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال ببعض نسائها فترضعه وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حنيفة حيث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيرا فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة وأبى ذلك سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ورأين ذلك من الخصائص وهو قول الجمهور وحجة الجمهور وهم الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة والأكابر من الصحابة وسائر أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى عائشة ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة" وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع وفيما يتعلق برضاع الكبير عند قوله تعالى "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" وقوله "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف" أي وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى "لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا" قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف. وقوله "لا تضار والدة بولدها" أي بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالبا ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ولهذا قال "ولا مولود له بولده" أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارا بها قاله مجاهد وقتادة والضحاك والزهري والسدي والثوري وابن زيد وغيرهم. وقوله تعالى "وعلى الوارث مثل ذلك" قيل في عدم الضرار لقريبه قاله مجاهد والشعبي والضحاك وقيل عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها وهو قول الجمهور وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف ويرشح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعا "من ملك ذا رحم محرم عتق عليه" وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو عقله وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه رأى امرأة ترضع بعد الحولين فقال لا ترضعيه. وقوله "فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما" أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما في ذلك فيؤخذ منه إن انفرد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر. قاله الثوري وغيره وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه كما قال في سورة الطلاق "فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى". وقوله تعالى "وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف" أي إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها أو لعذر له فلا جناح عليهما في بذله ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف قاله غير واحد. وقوله "واتقوا الله" أي في جميع أحوالكم "واعلموا أن الله بما تعملون بصير" أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.

(p-٤٢٩)﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَن أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَها لا تُضارُّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ولا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وعَلى الوارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإنْ أرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنهُما وتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكم فَلا جُناحَ عَلَيْكم إذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ انْتِقالٌ مِن أحْكامِ الطَّلاقِ والبَيْنُونَةِ؛ فَإنَّهُ لَمّا نَهى عَنِ العَضْلِ، وكانَتْ بَعْضُ المُطَلَّقاتِ لَهُنَّ أوْلادٌ في الرَّضاعَةِ ويَتَعَذَّرُ عَلَيْهِنَّ التَّزَوُّجُ وهُنَّ مُرْضِعاتٌ؛ لِأنَّ ذَلِكَ قَدْ يَضُرُّ بِالأوْلادِ، ويُقَلِّلُ رَغْبَةَ الأزْواجِ فِيهِنَّ، كانَتْ تِلْكَ الحالَةُ مَثارَ خِلافٍ بَيْنِ الآباءِ والأُمَّهاتِ، فَلِذَلِكَ ناسَبَ التَّعَرُّضُ لِوَجْهِ الفَصْلِ بَيْنَهم في ذَلِكَ، فَإنَّ أمْرَ الإرْضاعِ مُهِمٌّ، لِأنَّ بِهِ حَياةَ النَّسْلِ، ولِأنَّ تَنْظِيمَ أمْرِهِ مِن أهَمِّ شُئُونِ أحْكامِ العائِلَةِ. واعْلَمْ أنَّ اسْتِخْلاصَ مَعانِي هَذِهِ الآيَةِ مِن أعْقَدِ ما عُرِضَ لِلْمُفَسِّرِينَ. فَجُمْلَةُ ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وإذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٢] والمُناسَبَةُ غَيْرُ خَفِيَّةٍ. والوالِداتُ عامٌّ، لِأنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللّامِ، وهو هَنا مُرادٌ بِهِ خُصُوصُ الوالِداتِ مِنَ المُطَلَّقاتِ بِقَرِينَةِ سِياقِ الآيِ الَّتِي قَبْلَها مِن قَوْلِهِ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨] ولِذَلِكَ وُصِلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ بِالعَطْفِ لِلدَّلالَةِ عَلى اتِّحادِ السِّياقِ، فَقَوْلُهُ: والوالِداتُ مَعْناهُ: والوالِداتُ مِنهُنَّ، أيْ مِنَ المُطَلَّقاتِ المُتَقَدِّمِ الإخْبارُ عَنْهُنَّ في الآيِ الماضِيَةِ، أيِ المُطَلَّقاتِ اللّائِي لَهُنَّ أوْلادٌ في سِنِّ الرَّضاعَةِ، ودَلِيلُ التَّخْصِيصِ أنَّ الخِلافَ في مُدَّةِ الإرْضاعِ لا يَقَعُ بَيْنَ الأبِ والأُمِّ، إلّا بَعْدَ الفِراقِ، ولا يَقَعُ في حالَةِ العِصْمَةِ؛ إذْ مِنَ العادَةِ المَعْرُوفَةِ عِنْدَ العَرَبِ ومُعْظَمِ الأُمَمِ أنَّ الأُمَّهاتَ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ في مُدَّةِ العِصْمَةِ، وأنَّهُنَّ لا تَمْتَنِعُ مِنهُ مَن تَمْتَنِعُ إلّا لِسَبَبِ طَلَبِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ جَدِيدٍ، بَعْدَ فِراقِ والِدِ الرَّضِيعِ؛ فَإنَّ المَرْأةَ المُرْضِعَ لا يَرْغَبُ الأزْواجُ فِيها؛ لِأنَّها تَشْتَغِلُ بِرَضِيعِها عَنْ زَوْجِها في أحْوالٍ كَثِيرَةٍ. (p-٤٣٠)وجُمْلَةُ يُرْضِعْنَ خَبَرٌ مُرادٌ بِهِ التَّشْرِيعُ، وإثْباتُ حَقِّ الِاسْتِحْقاقِ، ولَيْسَ بِمَعْنى الأمْرِ لِلْوالِداتِ والإيجابِ عَلَيْهِنَّ؛ لِأنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ أحْكامِ المُطَلَّقاتِ، ولِأنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ ﴿وإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا﴾ فَإنَّ الضَّمِيرَ شامِلٌ لِلْآباءِ والأُمَّهاتِ، عَلى وجْهِ التَّغْلِيبِ، كَما يَأْتِي، فَلا دَلالَةَ في الآيَةِ عَلى إيجابِ إرْضاعِ الوَلَدِ عَلى أُمِّهِ، ولَكِنْ تَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَها، وقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ في سُورَةِ الطَّلاقِ بِقَوْلِهِ ﴿وإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى﴾ [الطلاق: ٦] ولِأنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ ﴿وعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ وذَلِكَ أجْرُ الرَّضاعَةِ، والزَّوْجَةُ في العِصْمَةِ لَيْسَ لَها نَفَقَةٌ وكِسْوَةٌ لِأجْلِ الرَّضاعَةِ، بَلْ لِأجْلِ العِصْمَةِ. وقَوْلُهُ أوْلادَهُنَّ صَرَّحَ بِالمَفْعُولِ، مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا، إيماءً إلى أحَقِّيَّةِ الوالِداتِ بِذَلِكَ وإلى تَرْغِيبِهِنَّ فِيهِ؛ لِأنَّ في قَوْلِهِ أوْلادَهُنَّ تَذاكيرَ لَهُنَّ بِداعِي الحَنانِ والشَّفَقَةِ، فَعَلى هَذا التَّفْسِيرِ، وهو الظّاهِرُ مِنَ الآيَةِ، والَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ: لَيْسَتِ الآيَةُ وارِدَةً إلّا لِبَيانِ إرْضاعِ المُطَلَّقاتِ أوْلادَهُنَّ، فَإذا رامَتِ المُطَلَّقَةُ إرْضاعَ ولَدِها، فَهي أوْلى بِهِ، سَواءٌ كانَتْ بِغَيْرِ أجْرٍ أمْ طَلَبَتْ أجْرَ مِثْلِها، ولِذَلِكَ كانَ المَشْهُورُ عَنْ مالِكٍ: أنَّ الأبَ إذا وجَدَ مَن تُرْضِعَ لَهُ غَيْرَ الأُمِّ بِدُونِ أجْرٍ، وبِأقَلَّ مِن أجْرِ المِثْلِ، لَمْ يُجَبْ إلى ذَلِكَ، كَما سَنُبَيِّنُهُ، ومِنَ العُلَماءِ مَن تَأوَّلَ الوالِداتُ عَلى العُمُومِ، سَواءٌ كُنَّ في العِصْمَةِ، أوْ بَعْدَ الطَّلاقِ كَما في القُرْطُبِيِّ، والبَيْضاوِيِّ ويَظْهَرُ مِن كَلامِ ابْنِ الفُرْسِ في أحْكامِ القُرْآنِ: أنَّ هَذا قَوْلُ مالِكٍ. وقالَ ابْنُ رُشْدٍ في البَيانِ والتَّحْصِيلِ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ مَحْمُولٌ عَلى عُمُومِهِ في ذاتِ الزَّوْجِ وفي المُطَلَّقَةِ مَعَ عُسْرِ الأبِ، ولَمْ يَنْسُبْهُ إلى مالِكٍ، ولِذَلِكَ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ يُرْضِعْنَ خَبَرٌ مَعْناهُ الأمْرُ عَلى الوُجُوبِ لِبَعْضِ الوالِداتِ، والأمْرُ عَلى النَّدْبِ والتَّخْيِيرِ لِبَعْضِهِنَّ وتَبِعَهُ البَيْضاوِيُّ: وفي هَذا اسْتِعْمالُ صِيغَةِ الأمْرِ في القَدْرِ المُشْتَرَكِ، وهو مُطْلَقُ الطَّلَبِ، ولا داعِي إلَيْهِ. والظّاهِرُ أنَّ حُكْمَ إرْضاعِ الأُمِّ ولَدَها في العِصْمَةِ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِغَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ الوالِداتِ اللّائِي في العِصْمَةِ، قَوْلُهُ تَعالى ﴿وعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ الآيَةَ، فَإنَّ اللّائِي في العِصْمَةِ لَهُنَّ النَّفَقَةُ والكِسْوَةُ بِالأصالَةِ. والحَوْلُ في كَلامِ العَرَبِ: العامُ، وهو مُشْتَقٌّ مِن تَحَوُّلِ دَوْرَةِ القَمَرِ أوِ الشَّمْسِ في فَلَكِهِ مِن مَبْدَأٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهِ، إلى أنْ يَرْجِعَ إلى السَّمْتِ الَّذِي ابْتَدَأ مِنهُ، فَتِلْكَ المُدَّةُ الَّتِي ما بَيْنَ المَبْدَأِ والمَرْجَعِ تُسَمّى حَوْلًا. (p-٤٣١)وحَوْلُ العَرَبِ قَمَرِيٌّ وكَذَلِكَ أقَرَّهُ الإسْلامُ. ووَصْفُ الحَوْلَيْنِ بِكامِلَيْنِ، تَأْكِيدٌ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أنْ يَكُونَ المُرادُ حَوْلًا وبَعْضَ الثّانِي؛ لِأنَّ إطْلاقَ التَّثْنِيَةِ والجَمْعِ، في الأزْمانِ والأسْنانِ، عَلى بَعْضِ المَدْلُولِ، إطْلاقٌ شائِعٌ عِنْدَ العَرَبِ، فَيَقُولُونَ: هو ابْنُ سَنَتَيْنِ: ويُرِيدُونَ سَنَةً وبَعْضَ الثّانِيَةِ، كَما مَرَّ في قَوْلِهِ الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ. وقَوْلُهُ ﴿لِمَن أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ﴾، قالَ في الكَشّافِ: بَيانٌ لِمَن تَوَجَّهَ إلَيْهِ الحُكْمُ كَقَوْلِهِ: هَيْتَ لَكَ، فَلَكَ بَيانٌ لِلْمُهَيَّتِ لَهُ أيْ هَذا الحُكْمُ لِمَن أرادَ أنْ يُتِمَّ الإرْضاعَ أيْ فَهو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَما أشارَ إلَيْهِ، بِتَقْدِيرِ هَذا الحُكْمِ لِمَن أرادَ. قالَ التَّفْتازانِيُّ: وقَدْ يُصَرَّحُ بِهَذا المُبْتَدَأُ في بَعْضِ التَّراكِيبِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ العَنَتَ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٢٥] وماصَدَقَ ”مَن“ هُنا مَن يُهِمُّهُ ذَلِكَ: وهو الأبُ، والأُمُّ، ومَن يَقُومُ مَقامَهُما، مِن ولِيِّ الرَّضِيعِ، وحاضِنِهِ والمَعْنى: أنَّ هَذا الحُكْمَ يَسْتَحِقُّهُ مَن أرادَ إتْمامَ الرَّضاعَةِ، وأباهُ الآخَرُ، فَإنْ أرادا مَعًا عَدَمَ إتْمامِ الرَّضاعَةِ فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِن قَوْلِهِ ﴿فَإنْ أرادا فِصالًا﴾ الآيَةَ. وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الرَّضاعَ حَوْلَيْنِ، رَعْيًا لِكَوْنِهِما أقْصى مُدَّةٍ يَحْتاجُ فِيها الطِّفْلُ لِلرَّضاعِ إذا عَرَضَ لَهُ ما اقْتَضى زِيادَةَ إرْضاعِهِ، فَأمّا بَعْدَ الحَوْلَيْنِ فَلَيْسَ في نَمائِهِ ما يَصْلُحُ لَهُ الرَّضاعَ بَعْدُ، ولَمّا كانَ خِلافُ الأبَوَيْنِ في مُدَّةِ الرَّضاعِ لا يَنْشَأُ إلّا عَنِ اخْتِلافِ النَّظَرِ في حاجَةِ مِزاجِ الطِّفْلِ إلى زِيادَةِ الرَّضاعِ، جَعَلَ اللَّهُ القَوْلَ لِمَن دَعا إلى الزِّيادَةِ، احْتِياطًا لِحِفْظِ الطِّفْلِ. وقَدْ كانَتِ الأُمَمُ في عُصُورِ قِلَّةِ التَّجْرِبَةِ، وانْعِدامِ الأطِبّاءِ، لا يَهْتَدُونَ إلى ما يَقُومُ لِلطِّفْلِ مَقامَ الرَّضاعِ؛ لِأنَّهم كانُوا إذا أفَطَمُوهُ أعْطَوْهُ الطَّعامَ، فَكانَتْ أمْزِجَةُ بَعْضِ الأطْفالِ بِحاجَةٍ إلى تَطْوِيلِ الرَّضاعِ، لِعَدَمِ القُدْرَةِ عَلى هَضْمِ الطَّعامِ وهَذِهِ عَوارِضُ تَخْتَلِفُ. وفي عَصْرِنا أصْبَحَ الأطِبّاءُ يَعْتاضُونَ لِبَعْضِ الصِّبْيانِ بِالإرْضاعِ الصِّناعِيِّ، وهم مَعَ ذَلِكَ مُجْمِعُونَ عَلى أنَّهُ لا أصْلَحَ لِلصَّبِيِّ مِن لَبَنِ أُمِّهِ، ما لَمْ تَكُنْ بِها عاهَةٌ أوْ كانَ اللَّبَنُ غَيْرَ مُسْتَوْفٍ الأجْزاءَ الَّتِي بِها تَغْذِيَةُ أجْزاءِ بَدَنِ الطِّفْلِ، ولِأنَّ الإرْضاعَ الصِّناعِيَّ يَحْتاجُ إلى فَرْطِ حَذَرٍ في سَلامَةِ اللَّبَنِ مِنَ العُفُونَةِ: في قِوامِهِ، وإنائِهِ. وبِلادُ العَرَبِ شَدِيدَةُ الحَرارَةِ في غالِبِ السَّنَةِ؛ ولَمْ يَكُونُوا يُحْسِنُونَ حِفْظَ أطْعِمَتِهِمْ مِنَ التَّعَفُّنِ بِالمُكْثِ، فَرُبَّما كانَ فِطامُ الأبْناءِ في العامِ أوْ ما يَقْرُبُ مِنهُ يَجُرُّ مَضارَّ لِلرُّضَعاءِ، (p-٤٣٢)ولِلْأمْزِجَةِ في ذَلِكَ تَأْثِيرٌ أيْضًا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ التَّقْدِيرَ بِالحَوْلَيْنِ لِلْوَلَدِ الَّذِي يَمْكُثُ في بَطْنِ أُمِّهِ سِتَّةَ أشْهُرٍ، فَإنْ مَكَثَ سَبْعَةَ أشْهُرٍ، فَرَضاعُهُ ثَلاثَةٌ وعِشْرُونَ شَهْرًا، وهَكَذا بِزِيادَةِ كُلِّ شَهْرٍ في البَطْنِ يَنْقُصُ شَهْرٌ مِن مُدَّةِ الرَّضاعَةِ. حَتّى يَكُونَ لِمُدَّةِ الحَمْلِ والرَّضاعِ ثَلاثُونَ شَهْرًا؛ لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥]، وفي هَذا القَوْلِ مَنزَعٌ إلى تَحْكِيمِ أحْوالِ الأمْزِجَةِ؛ لِأنَّهُ، بِمِقْدارِ ما تَنْقُصُ مُدَّةُ مُكْثِهِ في البَطْنِ، تَنْقُصُ مُدَّةُ نُضْجِ مِزاجِهِ. والجُمْهُورُ عَلى خِلافِ هَذا وأنَّ الحَوْلَيْنِ غايَةٌ لِإرْضاعِ كُلِّ مَوْلُودٍ. وأخَذُوا مِنَ الآيَةِ أنَّ الرَّضاعَ المُعْتَبَرَ هو ما كانَ في الحَوْلَيْنِ، وأنَّ ما بَعْدَهُما لا حاجَةَ إلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لا يُجابُ إلَيْهِ طالِبُهُ. وعَبَّرَ عَنِ الوالِدِ بِالمَوْلُودِ لَهُ، إيماءً إلى أنَّهُ الحَقِيقُ بِهَذا الحُكْمِ؛ لِأنَّ مَنافِعَ الوَلَدِ مُنْجَزَةٌ إلَيْهِ، وهو لاحِقٌ بِهِ ومُعْتَزٌّ بِهِ في القَبِيلَةِ، حَسَبَ مُصْطَلَحِ الأُمَمِ، فَهو الأجْدَرُ بِإعاشَتِهِ، وتَقْوِيمِ وسائِلِها. والرِّزْقُ: النَّفَقَةُ، والكِسْوَةُ: اللِّباسُ، والمَعْرُوفُ: ما تَعارَفَهُ أمْثالُهم وما لا يُجْحِفُ بِالأبِ. والمُرادُ بِالرِّزْقِ والكِسْوَةِ هُنا، ما تَأْخُذُهُ المُرْضِعُ، أجْرًا عَنْ رَضاعَتِها، مِن طَعامٍ ولِباسٍ لِأنَّهم كانُوا يَجْعَلُونَ لِلْمَراضِعِ كِسْوَةً ونَفَقَةً، وكَذَلِكَ غالِبُ إجاراتِهِمْ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ أكْثَرُ قَبائِلِ العَرَبِ أهْلَ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ، بَلْ كانُوا يَتَعامَلُونَ بِالأشْياءِ، وكانَ الأُجَراءُ لا يَرْغَبُونَ في الدِّرْهَمِ والدِّينارِ، وإنَّما يَطْلُبُونَ كِفايَةَ ضَرُوراتِهِمْ، وهي الطَّعامُ والكِسْوَةُ، ولِذَلِكَ أحالَ اللَّهُ تَقْدِيرَهُما عَلى المَعْرُوفِ عِنْدَهم مِن مَراتِبِ النّاسِ وسَعَتِهِمْ، وعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ ﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَها﴾ وجُمَلُ: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَها - إلى قَوْلِهِ: ﴿ولا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ مُعْتَرَضاتٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿وعَلى المَوْلُودِ﴾ وجُمْلَةِ ﴿وعَلى الوارِثِ﴾ فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ ﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَها﴾ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ بِالمَعْرُوفِ، ومَوْقِعُ جُمْلَةِ لا تُضارُّ والِدَةٌ إلى آخِرِها مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ أيْضًا، وهو اعْتِراضٌ يُفِيدُ أُصُولًا عَظِيمَةً لِلتَّشْرِيعِ ونِظامِ الِاجْتِماعِ. والتَّكْلِيفُ تَفْعِيلٌ: بِمَعْنى جَعَلَهُ ذا كُلْفَةٍ، والكُلْفَةُ: المَشَقَّةُ، والتَّكَلُّفُ: التَّعَرُّضُ لِما فِيهِ مَشَقَّةٌ، ويُطْلَقُ التَّكْلِيفُ عَلى الأمْرِ بِفِعْلٍ فِيهِ كُلْفَةٌ، وهو اصْطِلاحٌ شَرْعِيٌّ جَدِيدٌ. والوُسْعُ، بِتَثْلِيثِ الواوِ، الطّاقَةُ، وأصْلُهُ مِن وسِعَ الإناءُ الشَّيْءَ إذا حَواهُ ولَمْ يَبْقَ مِنهُ شَيْءٌ، وهو ضِدُّ ضاقَ عَنْهُ، والوُسْعُ هو ما يَسَعُهُ الشَّيْءُ فَهو بِمَعْنى المَفْعُولِ، وأصْلُهُ اسْتِعارَةٌ؛ (p-٤٣٣)لِأنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ في الأساسِ ذَكَرَ هَذا المَعْنى في المَجازِ، فَكَأنَّهم شَبَّهُوا تَحَمُّلَ النَّفْسِ عَمَلًا ذا مَشَقَّةٍ بِاتِّساعِ الظَّرْفِ لِلْمُحْوى، لِأنَّهم ما احْتاجُوا لِإفادَةِ ذَلِكَ إلّا عِنْدَما يَتَوَهَّمُ النّاظِرُ أنَّهُ لا يَسَعُهُ، فَمِن هُنا اسْتُعِيرَ لِلشّاقِّ البالِغِ حَدَّ الطّاقَةِ. فالوِسْعُ إنْ كانَ بِكَسْرِ الواوِ فَهو فِعْلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ كَذِبْحٍ، وإنْ كانَ بِضَمِّها فَهو مَصْدَرٌ كالصُّلْحِ والبُرْءِ صارَ بِمَعْنى المَفْعُولِ، وإنْ كانَ بِفَتْحِها فَهو مَصْدَرٌ كَذَلِكَ بِمَعْنى المَفْعُولِ كالخَلْقِ والدَّرْسِ. والتَّكْلِيفُ بِما فَوْقَ الطّاقَةِ مَنفِيٌّ في الشَّرِيعَةِ. وبَنى فِعْلَ تُكَلَّفُ لِلنّائِبِ: لِيُحْذَفَ الفاعِلُ، فَيُفِيدُ حَذْفُهُ عُمُومَ الفاعِلِينَ، كَما يُفِيدُ وُقُوعُ نَفْسٍ، وهو نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ، عُمُومَ المَفْعُولِ الأوَّلِ لِفِعْلِ تُكَلَّفُ: وهو الأنْفَسُ المُكَلَّفَةُ، وكَما يُفِيدُ حَذْفُ المُسْتَثْنى في قَوْلِهِ إلّا وُسْعَها عُمُومَ المَفْعُولِ الثّانِي لِفِعْلِ تُكَلَّفُ، وهو الأحْكامُ المُكَلَّفُ بِها، أيْ لا يُكَلِّفُ أحَدٌ نَفْسًا إلّا وُسْعها، وذَلِكَ تَشْرِيعٌ مِنَ اللَّهِ لِلْأُمَّةِ بِأنْ لَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يُكَلِّفَ أحَدًا إلّا بِما يَسْتَطِيعُهُ، وذَلِكَ أيْضًا وعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِأنَّهُ لا يُكَلِّفُ في التَّشْرِيعِ الإسْلامِيِّ إلّا بِما يُسْتَطاعُ: في العامَّةِ، والخاصَّةِ، فَقَدْ قالَ في آياتِ خِتامِ هَذِهِ السُّورَةِ ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] . والآيَةُ تَدُلُّ عَلى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ، في شَرِيعَةِ الإسْلامِ، وسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ المَسْألَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] في آخِرِ السُّورَةِ. وجُمْلَةُ ﴿لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها﴾ اعْتِراضٌ ثانٍ، ولَمْ تُعْطَفْ عَلى الَّتِي قَبْلَها تَنْبِيهًا عَلى أنَّها مَقْصُودَةٌ لِذاتِها، فَإنَّها تَشْرِيعٌ مُسْتَقِلٌّ، ولَيْسَ فِيها مَعْنى التَّعْلِيلِ الَّذِي في الجُمْلَةِ قَبْلَها بَلْ هي كالتَّفْرِيعِ عَلى جُمْلَةِ ﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَها﴾؛ لِأنَّ إدْخالَ الضُّرِّ عَلى أحَدٍ، بِسَبَبِ ما هو بِضْعَةٌ مِنهُ، يَكادُ يَخْرُجُ عَنْ طاقَةِ الإنْسانِ؛ لِأنَّ الضِّرارَ تَضِيقُ عَنْهُ الطّاقَةُ، وكَوْنُهُ بِسَبَبِ مَن يَتَرَقَّبُ مِنهُ أنْ يَكُونَ سَبَبَ نَفْعٍ أشَدَّ ألَمًا عَلى النَّفْسِ، فَكانَ ضُرُّهُ أشَدَّ. ولِذَلِكَ اخْتِيرَ لَفْظُ الوالِدَةِ هَنا، دُونَ الأُمِّ: كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ وكَذَلِكَ القَوْلُ في ولا مَوْلُودٌ بِوَلَدِهِ وهَذا الحُكْمُ عامٌّ في جَمِيعِ الأحْوالِ مِن فِراقٍ، أوْ دَوامِ عِصْمَةٍ، فَهو كالتَّذْيِيلِ، وهو نَهْيٌ لَهُما عَنْ أنْ يُكَلِّفَ أحَدُهُما الآخَرَ ما هو فَوْقَ طاقَتِهِ، ويَسْتَغِلَّ ما يَعْلَمُهُ مِن شَفَقَةِ الآخَرِ عَلى ولَدِهِ فَيَفْتَرِصُ ذَلِكَ لِإحْراجِهِ، والإشْقاقِ عَلَيْهِ. (p-٤٣٤)وفِي المُدَوَّنَةِ: عَنِ ابْنِ وهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ خالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها﴾ الآيَةَ: يَقُولُ لَيْسَ لَها أنْ تُلْقِيَ ولَدَها عَلَيْهِ، ولا يَجِدُ مَن يُرْضِعُهُ، ولَيْسَ لَهُ أنْ يَنْتَزِعَ مِنها ولَدَها، وهي تُحِبُّ أنْ تُرْضِعَهُ. وهو يُؤَيِّدُ ما ذَكَرْناهُ. وقِيلَ: الباءُ في قَوْلِهِ بِوَلَدِها وبِوَلَدِهِ باءُ الإلْصاقِ وهي لِتَعْدِيَةِ تُضارُّ فَيَكُونُ مَدْخُولُ الباءِ مَفْعُولًا في المَعْنى لِفِعْلِ تُضارُّ وهو مَسْلُوبُ المُفاعَلَةِ مُرادٌ مِنهُ أصْلُ الضُّرِّ، فَيَصِيرُ المَعْنى: لا تَضُرُّ الوالِدَةُ ولَدَها ولا المَوْلُودُ لَهُ ولَدَهُ أيْ لا يَكُنْ أحَدُ الأبَوَيْنِ بِتَعَنُّتِهِ وتَحْرِيجِهِ سَبَبًا في إلْحاقِ الضُّرِّ بِوَلَدِهِ أيْ سَبَبًا في إلْجاءِ الآخَرِ إلّا الِامْتِناعَ مِمّا يُعِينُ عَلى إرْضاعِ الأُمِّ ولَدَها فَيَكُونُ في اسْتِرْضاعِ غَيْرِ الأُمِّ تَعْرِيضُ المَوْلُودِ إلى الضُّرِّ ونَحْوِ هَذا مِن أنْواعِ التَّفْرِيطِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: لا تُضارَّ بِفَتْحِ الرّاءِ مُشَدَّدَةً عَلى أنَّ ”لا“ حَرْفُ نَهْيٍ وتُضارَّ مَجْزُومٌ بِلا النّاهِيَةِ والفَتْحَةُ لِلتَّخَلُّصِ مِنِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ الَّذِي نَشَأ عَنْ تَسْكِينِ الرّاءِ الأوْلى لِيَتَأتّى الإدْغامُ وتَسْكِينُ الرّاءِ الثّانِيَةِ لِلْجَزْمِ وحُرِّكَ بِالفَتْحَةِ لِأنَّها أخَفُّ الحَرَكاتِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِرَفْعِ الرّاءِ عَلى أنَّ ”لا“ حَرْفُ نَفْيٍ والكَلامُ خَبَرٌ في مَعْنى النَّهْيِ، وكِلْتا القِراءَتَيْنِ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ عَلى نِيَّةِ بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ: لا تُضارِرْ بِكَسْرِ الرّاءِ الأوْلى وبِنائِهِ لِلنّائِبِ بِتَقْدِيرِ فَتْحِ الرّاءِ الأوْلى، وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ بِسُكُونِ الرّاءِ مُخَفَّفَةً مَعَ إشْباعِ المَدِّ كَذا نُقِلَ عَنْهُ في كُتُبِ القِراءاتِ والظّاهِرِ أنَّهُ جَعَلَهُ مِن ضارَ يَضِيرُ لا مِن ضارَّ المُضاعَفِ. ووَقَعَ الكَشّافُ أنَّهُ قَرَأ بِالسُّكُونِ مَعَ التَّشْدِيدِ عَلى نِيَّةِ الوَقْفِ أيْ إجْراءٍ لِلْوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ ولِذَلِكَ اغْتُفِرَ التِقاءُ السّاكِنَيْنِ. وقَوْلُهُ ﴿وعَلى الوارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿وعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ ولَيْسَ مَعْطُوفًا عَلى جُمْلَةِ لا تُضارُّ والِدَةٌ لِأنَّ جُمْلَةَ لا تُضارُّ مُعْتَرِضَةٌ، فَإنَّها جاءَتْ عَلى الأُسْلُوبِ الَّذِي جاءَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ ﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَها﴾ الَّتِي هي مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الأحْكامِ لا مَحالَةَ لِوُقُوعِها مَوْقِعَ الِاسْتِئْنافِ مِن قَوْلِهِ بِالمَعْرُوفِ، ولَمّا جاءَتْ جُمْلَةُ لا تُضارُّ بِدُونِ عَطْفٍ عَلِمْنا أنَّها اسْتِئْنافٌ ثانٍ مِمّا قَبْلَهُ ثُمَّ وقَعَ الرُّجُوعُ إلى بَيانِ الأحْكامِ بِطَرِيقِ العَطْفِ، ولَوْ كانَ المُرادُ العَطْفَ عَلى المُسْتَأْنَفاتِ المُعْتَرِضاتِ لَجِئَ بِالجُمْلَةِ الثّالِثَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنافِ. وحَقِيقَةُ الوارِثِ هو مَن يَصِيرُ إلَيْهِ مالُ البَيْتِ بَعْدَ المَوْتِ بِحَقِّ الإرْثِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ (ذَلِكَ) إلى الحُكْمِ المُتَقَدِّمِ وهو الرِّزْقُ والكِسْوَةُ بِقَرِينَةِ دُخُولِ عَلى عَلَيْهِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ عَدِيلٌ لِقَوْلِهِ ﴿وعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ﴾ وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ ”ذَلِكَ“ إشارَةً إلى النَّهْيِ عَنِ الإضْرارِ المُسْتَفادِ (p-٤٣٥)مِن قَوْلِهِ ﴿لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها﴾ كَما سَيَأْتِي، وهو بَعِيدٌ عَنِ الِاسْتِعْمالِ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَ الفاعِلُ مَحْذُوفًا وحُكْمُ الفِعْلِ في سِياقِ النَّهْيِ كَما هو في سِياقِ النَّفْيِ عُلِمَ أنَّ جَمِيعَ الإضْرارِ مَنهِيٌّ عَنْهُ أيًّا ما كانَ فاعِلُهُ، عَلى أنَّ الإضْرارَ مَنهِيٌّ عَنْهُ فَلا يَحْسُنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظِ ”عَلى“ الَّذِي هو مِن صِيَغِ الإلْزامِ والإيجابِ، عَلى أنَّ ظاهِرَ المَثَلِ إنَّما يَنْصَرِفُ لِمُماثَلَةِ الذَّواتِ وهي النَّفَقَةُ والكِسْوَةُ لا لِمُماثَلَةِ الحُكْمِ وهو التَّحْرِيمُ. وقَدْ عُلِمَ مِن تَسْمِيَةِ المَفْرُوضِ عَلَيْهِ الإنْفاقُ والكِسْوَةُ أنَّ الَّذِي كانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ماتَ، وهَذا إيجازٌ. والمَعْنى: فَإنْ ماتَ المَوْلُودُ لَهُ فَعَلى وارِثِهِ مِثْلُ ما كانَ عَلَيْهِ فَإنَّ ”عَلى“ الواقِعَةَ بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ هُنا ظاهِرَةٌ في أنَّها مِثْلُ ”عَلى“ الَّتِي في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فالظّاهِرُ أنَّ المُرادَ وارِثُ الأبِ وتَكُونُ ”ال“ عِوَضًا عَنِ المُضافِ كَما هو الشَّأْنُ في دُخُولِ ”ال“ عَلى اسْمٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ ولا مَقْصُودٍ جِنْسُهُ وكانَ ذَلِكَ الِاسْمُ مَذْكُورًا بَعْدَ اسْمٍ يَصْلُحُ لِأنْ يُضافَ إلَيْهِ كَما قالَ تَعالى ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ﴾ [العلق: ١٥] وكَما قالَ ﴿وأمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ ونَهى النَّفْسَ عَنِ الهَوى فَإنَّ الجَنَّةَ هي المَأْوى﴾ [النازعات: ٤٠] أيْ نَهى نَفْسَهُ؛ فَإنَّ الجَنَّةَ هي مَأْواهُ، وقَوْلِ إحْدى نِساءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِي: المَسُّ أرْنَبٌ والرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ» وما سَمّاهُ اللَّهُ تَعالى وارِثًا إلّا لِأنَّهُ وارِثٌ بِالفِعْلِ لا مَن يَصْلُحُ لِأنْ يَكُونَ وارِثًا عَلى تَقْدِيرِ مَوْتِ غَيْرِهِ؛ لِأنَّ اسْمَ الفاعِلِ إنَّما يُطْلَقُ عَلى الحالِ ما لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلى خِلافِهِ فَما قالَ وعَلى الوارِثِ إلّا لِأنَّ الكَلامَ عَلى الحَقِّ تَعْلِيقٌ بِهَذا الشَّخْصِ في تَرِكَةِ المَيِّتِ وإلّا لَقالَ: وعَلى الأقارِبِ أوِ الأوْلِياءِ مِثْلُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ يَكُونُ كَلامًا تَأْكِيدًا حِينَئِذٍ؛ لِأنَّ تَحْرِيمَ الإضْرارِ المَذْكُورَ قَبْلَهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ خاصٌّ؛ فَإنَّ فاعِلَ ”تُضارَّ“ مَحْذُوفٌ. والنَّهْيُ دالٌّ عَلى مَنعِ كُلِّ إضْرارٍ يَحْصُلُ لِلْوالِدَةِ فَما فائِدَةُ إعادَةِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلى الوارِثِ كَما قَدَّمْناهُ آنِفًا. واتَّفَقَ عُلَماءُ الإسْلامِ عَلى أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ غَيْرُ مُرادٍ؛ إذْ لا قائِلَ بِوُجُوبِ نَفَقَةِ المُرْضِعِ عَلى وارِثِ الأبِ سَواءٌ كانَ إيجابُها عَلى الوارِثِ في المالِ المَوْرُوثِ بِأنْ يَكُونَ مَبْدَأةً عَلى المَوارِيثِ لِلْإجْماعِ عَلى أنَّهُ لا يَبْدَأُ إلّا بِالتَّجْهِيزِ ثُمَّ الدَّيْنِ ثُمَّ الوَصِيَّةِ، ولِأنَّ الرَّضِيعَ لَهُ حَظُّهُ في المالِ المَوْرُوثِ وهو إذا صارَ ذا مالٍ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلى غَيْرِهِ أمْ كانَ إيجابُها عَلى الوارِثِ لَوْ لَمْ يَسَعْها المالُ المَوْرُوثُ فَيَكْمُلُ مِن يَدِهِ، ولِذَلِكَ طَرَقُوا في هَذا بابَ التَّأْوِيلِ إمّا تَأْوِيلُ مَعْنًى الوارِثِ وإمّا تَأْوِيلُ مَرْجِعِ الإشارَةِ وإمّا كِلَيْهِما. فَقالَ الجُمْهُورُ: المُرادُ وارِثُ الطِّفْلِ أيْ مَن لَوْ ماتَ (p-٤٣٦)الطِّفْلُ: لَوَرِثَهُ هو. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وقَتادَةَ والسُّدِّيِّ والحَسَنِ ومُجاهِدٍ وعَطاءٍ وإسْحاقَ وابْنِ أبِي لَيْلى وأبِي حَنِيفَةَ وأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَيَتَقَرَّرُ بِالآيَةِ، أنَّ النَّفَقَةَ واجِبَةٌ عَلى قَرابَةِ الرَّضِيعِ وهم بِالضَّرُورَةِ قَرابَةُ أبِيهِ أيْ إذا ماتَ أبُوهُ ولَمْ يَتْرُكْ مالًا: تَجِبُ نَفَقَةُ الرَّضِيعِ عَلى الأقارِبِ. عَلى حَسَبِ قُرْبِهِمْ في الإرْثِ ويَجْرِي ذَلِكَ عَلى الخِلافِ في تَوْرِيثِ ذِي الرَّحِمِ المُحَرَّمِ فَهَؤُلاءِ يَرَوْنَ حَقًّا عَلى القَرابَةِ إنْفاقَ العاجِزِ في مالِهِمْ كَما أنَّهم يَرِثُونَهُ إذا تَرَكَ مالًا فَهو مِنَ المُواساةِ الواجِبَةِ مِثْلُ الدِّيَةِ، وقالَ الضَّحّاكُ وقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وبَشِيرُ بْنُ نَصْرٍ قاضِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ: المُرادُ وارِثُ الأبِ وأُرِيدَ بِهِ نَفْسُ الرَّضِيعِ. فالمَعْنى: أنَّهُ إذا ماتَ أبُوهُ وتَرَكَ مالًا فَنَفَقَتُهُ مِن إرْثِهِ. ويَتَّجِهُ عَلى هَذا أنْ يُقالَ: ما وجْهُ العُدُولِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِالوَلَدِ إلى التَّعْبِيرِ بِالوارِثِ ؟ فَنُجِيبُ بِأنَّهُ لِلْإيماءِ إلى أنَّ الأبَ إنَّما وجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الرَّضِيعِ لِعَدَمِ مالٍ لِلرَّضِيعِ، فَلِهَذا لَمّا اكْتَسَبَ مالًا وجَبَ عَلَيْهِ في مالِهِ؛ لِأنَّ غالِبَ أحْوالِ الصِّغارِ ألّا تَكُونَ لَهم أمْوالٌ مُكْتَسَبَةٌ سِوى المِيراثِ، وهَذا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ؛ لِأنَّ الآيَةَ تَكُونُ قَدْ تَرَكَتْ حُكْمَ مَن لا مالَ لَهُ. وقِيلَ: أُرِيدَ بِالوارِثِ المَعْنى المَجازِيُّ وهو الَّذِي يَبْقى بَعْدَ انْعِدامِ غَيْرِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ونَحْنُ الوارِثُونَ يَعْنِي بِهِ أُمَّ الرَّضِيعِ قالَهُ سُفْيانُ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلى الأُمِّ قالَ التَّفْتازانِيُّ في شَرْحِ الكَشّافِ: وهَذا قَلَقٌ في هَذا المَقامِ إذْ لَيْسَ لِقَوْلِنا: فالنَّفَقَةُ عَلى الأبِ وعَلى مَن بَقِيَ مِنَ الأبِ والأُمِّ مَعْنًى يُعْتَدُّ بِهِ. يَعْنِي أنَّ إرادَةَ الباقِي تَشْمَلُ صُورَةَ ما إذا كانَ الباقِي الأبَ ولا مَعْنى لِعَطْفِهِ عَلى نَفْسِهِ بِهَذا الِاعْتِبارِ. وفِي المُدَوَّنَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ ورَبِيعَةَ: أنَّ الوارِثَ هو ولِيُّ الرَّضِيعِ عَلَيْهِ مِثْلُ ما عَلى الأبِ مِن عَدَمِ المُضارَّةِ، هَذا كُلُّهُ عَلى أنَّ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ لا مَنسُوخَةٌ وأنَّ المُشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ مِثْلُ ذَلِكَ هو الرِّزْقُ والكِسْوَةُ. وقالَ جَماعَةٌ: الإشارَةُ بِقَوْلِهِ مِثْلُ ذَلِكَ راجِعَةٌ إلى النَّهْيِ عَنِ المُضارَّةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو لِمالِكٍ وجَمِيعِ أصْحابِهِ والشَّعْبِيِّ والزُّهْرِيِّ والضَّحّاكِ اهـ: وفِي المُدَوَّنَةِ في تَرْجَمَةِ ما جاءَ فِيمَن تَلْزَمُ النَّفَقَةُ مِن كِتابِ إرْخاءِ السُّتُورِ عَنِ ابْنِ القاسِمِ قالَ مالِكٌ: وعَلى الوارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ أيْ ألّا يُضارَّ. واخْتارَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ بِأنَّهُ الأصْلُ فَقالَ القُرْطُبِيُّ: يَعْنِي في الرُّجُوعِ إلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ، ورَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأنَّ الأُمَّةَ أجْمَعَتْ عَلى ألّا يُضارَّ الوارِثُ. واخْتَلَفُوا: هَلْ عَلَيْهِ رِزْقٌ وكِسْوَةٌ. اهـ. يَعْنِي مَوْرِدَ الآيَةِ بِما هو مُجْمَعٌ عَلى حُكْمِهِ ويَتْرُكُ ما فِيهِ الخِلافُ، وهُنالِكَ تَأْوِيلٌ بِأنَّها مَنسُوخَةٌ. ورَواهُ أسَدُ بْنُ الفُراتِ عَنِ ابْنِ القاسِمِ (p-٤٣٧)عَنْ مالِكٍ قالَ وقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿وعَلى الوارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ هو مَنسُوخٌ فَقالَ النَّحّاسُ: وما عَلِمْتُ أحَدًا مِن أصْحابِ مالِكٍ بَيَّنَ ما النّاسِخُ، والَّذِي يُبَيِّنُهُ أنْ يَكُونَ النّاسِخُ لَها عِنْدَ مالِكٍ أنَّهُ لَمّا أوْجَبَ اللَّهُ لِلْمُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها نَفَقَةَ حَوْلٍ، والسُّكْنى مِن مالِ المُتَوَفّى، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ نَسْخٌ أيْضًا عَنِ الوارِثِ يُرِيدُ أنَّ اللَّهَ لَمّا نَسَخَ وُجُوبَ ذَلِكَ في تَرِكَةِ المَيِّتِ نَسَخَ كُلَّ حَقٍّ في التَّرِكَةِ بَعْدَ المِيراثِ، فَيَكُونُ النّاسِخُ هو المِيراثَ، فَإنَّهُ نَسَخَ كُلَّ حَقٍّ في المالِ عَلى أوْلِياءِ المَيِّتِ. وعِنْدِي أنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي في مُدَوَّنَةِ سَحْنُونٍ بَعِيدٌ، لِما تَقَدَّمَ آنِفًا، وأنَّ ما نَحاهُ مالِكٌ في رِوايَةِ أسَدِ بْنِ الفُراتِ عَنِ ابْنِ القاسِمِ هو التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ، وأنَّ النَّسْخَ عَلى ظاهِرِ المُرادِ مِنهُ، والنّاسِخَ لِهَذا الحُكْمِ هو إجْماعُ الأُمَّةِ عَلى أنَّهُ لا حَقَّ في مالِ المَيِّتِ، بَعْدَ جِهازِهِ وقَضاءِ دَيْنِهِ، وتَنْفِيذِ وصِيَّتِهِ، إلّا المِيراثَ فَنَسَخَ بِذَلِكَ كُلَّ ما كانَ مَأْمُورًا بِهِ أنْ يُدْفَعَ مِن مالِ المَيِّتِ مِثْلَ الوَصِيَّةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ١٨٠] الآيَةَ، ومِثْلَ الوَصِيَّةِ بِسُكْنى الزَّوْجَةِ وإنْفاقِها في قَوْلِهِ تَعالى ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا وصِيَّةٌ لِأزْواجِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٠] ونُسِخَ مِنهُ حُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّ اللَّهَ أعْطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ألّا لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ» هَذا إذا حُمِلَ الوارِثُ في الآيَةِ عَلى وارِثِ المَيِّتِ أيْ إنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلى جَمِيعِ الوَرَثَةِ أيًّا كانُوا بِمَعْنى أنَّهُ مَبْدَأُ المَوارِيثِ. وإذا حُمِلَ الوارِثُ عَلى مَن هو بِحَيْثُ يَرِثُ المَيِّتَ لَوْ تَرَكَ المَيِّتُ مالًا، أعْنِي قَرِيبَهُ، بِمَعْنى أنَّ عَلَيْهِ إنْفاقَ ابْنِ قَرِيبِهِ، فَذَلِكَ مَنسُوخٌ بِوَضْعِ بَيْتِ المالِ وذَلِكَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ شَرَعَتْ هَذا الحُكْمَ، في وقْتِ ضَعْفِ المُسْلِمِينَ، لِإقامَةِ أوَدِ نِظامِهِمْ بِتَرْبِيَةِ أطْفالِ فُقَرائِهِمْ، وكانَ أوْلى المُسْلِمِينَ بِذَلِكَ أقْرَبَهم مِنَ الطِّفْلِ فَكَما كانَ يَرِثُ قَرِيبَهُ، لَوْ تَرَكَ مالًا ولَمْ يَتْرُكْ ولَدًا، فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ أنْ يُقَوَّمَ بِبَيِّنَةٍ، كَما كانَ حُكْمُ القَبِيلَةِ في الجاهِلِيَّةِ، في ضَمِّ أيْتامِهِمْ، ودَفْعِ دِياتِهِمْ، فَلَمّا اعْتَزَّ الإسْلامُ وصارَ لِجامِعَةِ المُسْلِمِينَ مالٌ، كانَ حَقًّا عَلى جَماعَةِ المُسْلِمِينَ القِيامُ بِتَرْبِيَةِ أبْناءِ فُقَرائِهِمْ. وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَن تَرَكَ كَلًّا، أوْ ضَياعًا، فَعَلَيَّ، ومَن تَرَكَ مالًا، فَلِوارِثِهِ» ولا فَرْقَ بَيْنَ إطْعامِ الفَقِيرِ وبَيْنَ إرْضاعِهِ، وما هو إلّا نَفَقَةٌ، ولِمَثَلِهِ وُضِعَ بَيْتُ المالِ. وقَوْلُهُ ﴿فَإنْ أرادا فِصالًا﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَن أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ﴾ لِأنَّهُ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الوالِدَةِ والمَوْلُودِ لَهُ: الواقِعَيْنِ في الجُمَلِ قَبْلَ هَذِهِ. (p-٤٣٨)والفِصالُ: الفِطامُ عَنِ الإرْضاعِ، لِأنَّهُ فُصِلَ عَنْ ثَدْيِ مُرْضِعِهِ. وعَنْ في قَوْلِهِ عَنْ تَراضٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِأرادا أيْ إرادَةٌ ناشِئَةٌ عَنِ التَّراضِي، إذْ قَدْ تَكُونُ إرادَتُهُما صُورِيَّةً أوْ يَكُونُ أحَدُهُما في نَفْسِ الأمْرِ مُرْغَمًا عَلى الإرادَةِ، بِخَوْفٍ، أوِ اضْطِرارٍ. وقَوْلُهُ وتَشاوُرٍ هو مَصْدَرُ شاوَرَ إذا طَلَبَ المَشُورَةَ. والمَشُورَةُ قِيلَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الإشارَةِ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المُتَشاوِرِينَ يُشِيرُ بِما يَراهُ نافِعًا فَلِذَلِكَ يَقُولُ المُسْتَشِيرُ لِمَن يَسْتَشِيرُهُ بِماذا تُشِيرُ عَلَيَّ كَأنَّ أصْلَهُ أنَّهُ يُشِيرُ لِلْأمْرِ الَّذِي فِيهِ النَّفْعُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الإشارَةِ بِاليَدِ، لِأنَّ النّاصِحَ المُدَبِّرَ كالَّذِي يُشِيرُ إلى الصَّوابِ ويُعِينُهُ لَهُ مَن لَمْ يَهْتَدِ إلَيْهِ، ثُمَّ عُدِّيَ بِعَلى لَمّا ضُمِّنَ مَعْنى التَّدْبِيرِ، وقالَ الرّاغِبُ: إنَّها مُشْتَقَّةٌ مِن شارَ العَسَلَ إذا اسْتَخْرَجَهُ، وأيّامًا كانَ اشْتِقاقُها فَمَعْناها إبْداءُ الرَّأْيِ في عَمَلٍ يُرِيدُ أنْ يَعْمَلَهُ مَن يُشاوِرُ وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ﴾ [البقرة: ٣٠] خَلِيفَةً وسَيَجِيءُ الكَلامُ عَلَيْها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وشاوِرْهم في الأمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، وعَطَفَ التَّشاوُرَ عَلى التَّراضِي تَعْلِيمًا لِلزَّوْجَيْنِ شُئُونَ تَدْبِيرِ العائِلَةِ، فَإنَّ التَّشاوُرَ يُظْهِرُ الصَّوابَ ويَحْصُلُ بِهِ التَّراضِي. وأفادَ بِقَوْلِهِ ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما﴾ [البقرة: ٢٢٩] أنَّ ذَلِكَ مُباحٌ، وأنَّ حَقَّ إرْضاعِ الحَوْلَيْنِ مُراعًى فِيهِ حَقُّ الأبَوَيْنِ وحَقُّ الرَّضِيعِ، ولَمّا كانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أمْزِجَةِ الرُّضَعاءِ جَعَلَ اخْتِلافَ الأبَوَيْنِ دَلِيلًا عَلى تَوَقُّعِ حاجَةِ الطِّفْلِ إلى زِيادَةِ الرَّضاعِ، فَأعْمَلَ قَوْلَ طالِبِ الزِّيادَةِ مِنهُما، كَما تَقَدَّمَ، فَإذا تَشاوَرَ الأبَوانِ وتَراضَيا، بَعْدَ ذَلِكَ، عَلى الفِصالِ كانَ تَراضِيهُما دَلِيلًا عَلى أنَّهُما رَأيا مِن حالِ الرَّضِيعِ ما يُغْنِيهِ عَنِ الزِّيادَةِ، إذْ لا يُظَنُّ بِهِما التَّمالُؤُ عَلى ضُرِّ الوَلَدِ، ولا يُظَنُّ إخْفاءُ المَصْلَحَةِ عَلَيْهِما، بَعْدَ تَشاوُرِهِما، إذْ لا يَخْفى عَلَيْهِما حالُ ولَدِهِما. وقَوْلُهُ ﴿وإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ انْتِقالٌ إلى حالَةِ إرْضاعِ الطِّفْلِ غَيْرُ والِدَتِهِ، إذا تَعَذَّرَ عَلى الوالِدَةِ إرْضاعُهُ، لِمَرَضِها، أوْ تَزَوُّجِها أوْ إنْ أبَتْ ذَلِكَ حَيْثُ يَجُوزُ لَها الإباءُ، كَما تَقَدَّمَ في الآيَةِ السّابِقَةِ، أيْ إنْ أرَدْتُمْ أنْ تَطْلُبُوا الإرْضاعَ لِأوْلادِكم فَلا إثْمَ في ذَلِكَ، والمُخاطَبُ بِأرَدْتُمْ: الأبَوانِ بِاعْتِبارِ تَعَدُّدِ الأبَوَيْنِ في الأُمَّةِ ولَيْسَ المُخاطَبُ خُصُوصَ الرِّجالِ، لِقَوْلِهِ تَعالى فِيما سَبَقَ ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ فَعَلِمَ السّامِعُ أنَّ هَذا الحُكْمَ خاصٌّ بِحالَةِ تَراضِي الأبَوَيْنِ عَلى ذَلِكَ لِعُذْرِ الأُمِّ، وبِحالَةِ فَقْدِ الأُمِّ. وقَدْ عُلِمَ مِن قَوْلِهِ ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ أنَّ حالَةَ التَّراضِي هي المَقْصُودَةُ أوَّلًا، لِأنَّ نَفْيَ الجُناحِ مُؤْذِنٌ بِتَوَقُّعِهِ، (p-٤٣٩)وإنَّما يُتَوَقَّعُ ذَلِكَ إذا كانَتِ الأُمُّ مَوْجُودَةً، وأُرِيدَ صَرْفُ الِابْنِ عَنْها إلى مُرْضِعٍ أُخْرى، لِسَبَبٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهِ، وهُما لا يُرِيدانِ ذَلِكَ إلّا حَيْثُ يَتَحَقَّقُ عَدَمُ الضُّرِّ لِلِابْنِ، فَلَوْ عُلِمَ ضُرُّ الوَلَدِ لَمْ يَجُزْ، وقَدْ كانَتِ العَرَبُ تَسْتَرْضِعُ لِأوْلادِها، لا سِيَّما أهْلَ الشَّرَفِ. وفي الحَدِيثِ واسْتُرْضِعْتُ في بَنِي سَعْدٍ. والِاسْتِرْضاعُ أصْلُهُ طَلَبُ إرْضاعِ الطِّفْلِ، أيْ طَلَبُ أنْ تُرْضِعَ الطِّفْلَ غَيْرُ أُمِّهِ، فالسِّينُ والتّاءُ في تَسْتَرْضِعُوا لِلطَّلَبِ ومَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، وأصْلُهُ أنْ تَسْتَرْضِعُوا مَراضِعَ لِأوْلادِكم، لِأنَّ الفِعْلَ يُعَدّى بِالسِّينِ والتّاءِ - الدّالَّيْنِ عَلى الطَّلَبِ - إلى المَفْعُولِ المَطْلُوبِ مِنهُ الفِعْلُ فَلا يَتَعَدّى إلّا إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، وما بَعْدَهُ يُعَدّى إلَيْهِ بِالحَرْفِ وقَدْ يُحْذَفُ الحَرْفُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، كَما حُذِفَ في اسْتَرْضَعَ واسْتَنْجَحَ، فَعُدِّيَ الفِعْلُ إلى المَجْرُورِ عَلى الحَذْفِ والإيصالِ، وفي الحَدِيثِ «واسْتُرْضِعْتُ في بَنِي سَعْدٍ» ووَقَعَ في الكَشّافِ ما يَقْتَضِي أنَّ السِّينَ والتّاءَ دَخَلَتا عَلى الفِعْلِ المَهْمُوزِ المُتَعَدِّي إلى واحِدٍ فَزادَتاهُ تَعْدِيَةً لِثانٍ، وأصْلُهُ أرْضَعَتِ المَرْأةُ الوَلَدَ، فَإذا قُلْتَ: اسْتَرْضَعْتُها صارَ مُتَعَدِّيًا إلى مَفْعُولَيْنِ، وكَأنَّ وجْهَهُ أنَّنا نَنْظُرُ إلى الحَدَثِ المُرادِ طَلَبُهُ، فَإنْ كانَ حَدَثًا قاصِرًا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ السِّينُ والتّاءُ، عُدِّيَ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، نَحْوَ اسْتَنْهَضْتُهُ فَنَهَضَ، وإنْ كانَ مُتَعَدِّيًا فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ السِّينُ والتّاءُ، عُدِّيَ إلى مَفْعُولَيْنِ، نَحْوَ اسْتَرْضَعْتُها فَأرْضَعَتْ، والتَّعْوِيلُ عَلى القَرِينَةِ، إذْ لا يُطْلَبُ أصْلُ الرَّضاعِ لا مِنَ الوَلَدِ ولا مِنَ الأُمِّ، وكَذا: اسْتَنْجَحْتُ اللَّهَ سَعْيِي، إذْ لا يُطْلَبُ مِنَ اللَّهِ إلّا إنْجاحُ السَّعْيِ، ولا مَعْنى لِطَلَبِ نَجاحِ اللَّهِ، فَبِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الفِعْلِ تَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، أوْ إلى الثّانِي بِحَذْفِ الحَرْفِ، نَرى أنَّهُ لا مَعْنى لِتَسَلُّطِ الطَّلَبِ عَلى الفِعْلِ هُنا أصْلًا، عَلى أنَّهُ لَوْلا هَذا الِاعْتِبارُ، لَتَعَذَّرَ طَلَبُ وُقُوعِ الفِعْلِ المُتَعَدِّي بِالسِّينِ والتّاءِ، وهو قَدْ يَطْلُبُ حُصُولَهُ فَما أوْرَدُوهُ عَلى الكَشّافِ: مِن أنَّ حُرُوفَ الزِّيادَةِ إنَّما تَدْخُلُ عَلى المُجَرَّدِ لا المَزِيدِ مَدْفُوعٌ بِأنَّ حُرُوفَ الزِّيادَةِ إذا تَكَرَّرَتْ، وكانَتْ لِمَعانٍ مُخْتَلِفَةٍ جازَ اعْتِبارُ بَعْضِها داخِلًا بَعْدَ بَعْضٍ، وإنْ كانَ مَدْخُولُها كُلِّها هو الفِعْلَ المُجَرَّدَ. وقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ ﴿وإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ عَلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِقَوْلِهِ يُرْضِعْنَ تَشْرِيعَ وُجُوبِ الإرْضاعِ عَلى الأُمَّهاتِ، بَلِ المَقْصُودُ تَحْدِيدُ مُدَّةِ الإرْضاعِ، وواجِباتُ المُرْضِعِ عَلى الأبِ، وأمّا إرْضاعُ الأُمَّهاتِ فَمَوْكُولٌ إلى ما تَعارَفَهُ النّاسُ، فالمَرْأةُ الَّتِي في العِصْمَةِ، إذا كانَ مِثْلُها يُرْضِعُ، يُعْتَبَرُ إرْضاعُها أوْلادَها مِن حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَيْها في العِصْمَةِ، (p-٤٤٠)إذِ العُرْفُ كالشَّرْطِ. والمَرْأةُ المُطَلَّقَةُ لا حَقَّ لِزَوْجِها عَلَيْها، فَلا تُرْضِعُ لَهُ إلّا بِاخْتِيارِها. ما لَمْ يَعْرِضْ في الحالَيْنِ مانِعٌ أوْ مُوجِبٌ، مِثْلُ عَجْزِ المَرْأةِ في العِصْمَةِ عَنِ الإرْضاعِ لِمَرَضٍ، ومِثْلُ امْتِناعِ الصَّبِيِّ مِن رَضاعِ غَيْرِها، إذا كانَتْ مُطَلَّقَةً بِحَيْثُ يُخْشى عَلَيْهِ، والمَرْأةُ الَّتِي لا يُرْضِعُ مِثْلُها وهي ذاتُ القَدْرِ، قَدْ عَلِمَ الزَّوْجُ حِينَما تَزَوَّجَها أنَّ مِثْلَها لا يُرْضِعُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْها حَقُّ الإرْضاعِ. هَذا قَوْلُ مالِكٍ، إذِ العُرْفُ كالشَّرْطِ، وقَدْ كانَ ذَلِكَ عُرْفًا مِن قَبْلِ الإسْلامِ وتَقَرَّرَ في الإسْلامِ، وقَدْ جَرى في كَلامِ المالِكِيَّةِ، في كُتُبِ الأُصُولِ: أنَّ مالِكًا خَصَّصَ عُمُومَ الوالِداتِ بِغَيْرِ ذَواتِ القَدْرِ، وأنَّ المُخَصَّصَ هو العُرْفُ، وكُنّا نُتابِعُهم عَلى ذَلِكَ، ولَكِنِّي الآنَ لا أرى ذَلِكَ مُتَّجِهًا ولا أرى مالِكًا عَمَدَ إلى التَّخْصِيصِ أصْلًا، لِأنَّ الآيَةَ غَيْرُ مَسُوقَةٍ لِإيجابِ الإرْضاعِ، كَما تَقَدَّمَ. وقَوْلُهُ ﴿إذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ﴾ أيْ إذا سَلَّمْتُمْ إلى المَراضِعِ أُجُورَهُنَّ. فالمُرادُ بِما آتَيْتُمُ: الأجْرُ، ومَعْنى آتى في الأصْلِ دَفَعَ؛ لِأنَّهُ مُعَدّى أتى بِمَعْنى وصَلَ، ولَمّا كانَ أصْلُ ”إذا“ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ، مُضَمَّنًا مَعْنى الشَّرْطِ، لَمْ يَلْتَئِمْ أنْ يَكُونَ مَعَ فِعْلِ آتَيْتُمُ الماضِي. وتَأوَّلَ في الكَشّافِ آتَيْتُمْ بِمَعْنى: أرَدْتُمْ إيتاءَهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦] تَبَعًا لِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ﴾، والمَعْنى: إذا سَلَّمْتُمْ أُجُورَ المَراضِعِ بِالمَعْرُوفِ، دُونَ إجْحافٍ ولا مَطْلٍ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ (أتَيْتُمْ) بِتَرْكِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. فالمَعْنى عَلَيْهِ: إذا سَلَّمْتُمْ ما جِئْتُمْ، أيْ ما قَصَدْتُمْ، فالإتْيانُ حِينَئِذٍ مَجازٌ عَنِ القَصْدِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٤] وقالَ زُهَيْرٌ: ؎وما كانَ مِن خَيْرٍ أتَوْهُ فَإنَّما تَوارَثَهُ آباءُ آبائِهِمْ قَبْلُ وقَوْلُهُ واتَّقَوُا اللَّهَ تَذْيِيلٌ لِلتَّخْوِيفِ، والحَثِّ عَلى مُراقَبَةِ ما شَرَعَ اللَّهُ، مِن غَيْرِ مُحاوَلَةٍ ولا مُكايَدَةٍ، وقَوْلُهُ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ تَذْكِيرٌ لَهم بِذَلِكَ، وإلّا فَقَدَ عَلِمُوهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا.


ركن الترجمة

The mothers should suckle their babies for a period of two years for those (fathers) who wish that they should complete the suckling, in which case they should feed them and clothe them in a befitting way; but no soul should be compelled beyond capacity, neither the mother made to suffer for the child nor the father for his offspring. The same holds good for the heir of the father (if he dies). If they wish to wean the child by mutual consent there is no harm. And if you wish to engage a wet nurse you may do so if you pay her an agreed amount as is customary. But fear God, and remember that God sees all that you do.

Et les mères, qui veulent donner un allaitement complet, allaiteront leurs bébés deux ans complets. Au père de l'enfant de les nourrir et vêtir de manière convenable. Nul ne doit supporter plus que ses moyens. La mère n'a pas à subir de dommage à cause de son enfant, ni le père, à cause de son enfant. Même obligation pour l'héritier. Et si, après s'être consultés, tous deux tombent d'accord pour décider le sevrage, nul grief à leur faire. Et si vous voulez mettre vos enfants en nourrice, nul grief à vous faire non plus, à condition que vous acquittiez la rétribution convenue, conformément à l'usage. Et craignez Allah, et sachez qu'Allah observe ce que vous faites.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :