ركن التفسير
10 - (تبارك) تكاثر خير (الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) الذي قالوه من الكنز والبستان (جنات تجري من تحتها الأنهار) في الدنيا لأنه شاء أن يعطيه إياها في الآخرة (ويجعل) بالجزم (لك قصورا) أيضا وفي قراءة بالرفع استئنافا
ثم قال تعالى مخبرا نبيه أنه إن شاء لأتاه خيرا مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن فقال "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك" الآية. قال مجاهد يعني في الدنيا قال وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصرا كبيرا كان أو صغيرا قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبيا قبلك ولا نعطي أحدا من بعدك ولا ينقص ذلك مما لك عند الله فقال "اجمعوها لي في الآخرة" فأنزل الله عز وجل في ذلك "تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك" الآية.
﴿تَبارَكَ الَّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ وثَنائِهِ عَلى أنْ أنْزَلَ الفَرْقانَ عَلى رَسُولِهِ، وأعْقَبَ ذَلِكَ بِما تَلَقّى بِهِ المُشْرِكُونَ هَذِهِ المَزِيَّةَ مِنَ الجُحُودِ والإنْكارِ النّاشِئِ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِما اتَّخَذُوهُ مِن آلِهَةٍ مِن صِفاتِهِمْ ما يُنافِي الإلَهِيَّةَ، ثُمَّ طَعَنُوا في القُرْآنِ والَّذِي جاءَ بِهِ بِما هو كُفْرانٌ لِلنِّعْمَةِ ومَن جاءَ بِها. فَلَمّا أُرِيدَ الإعْراضُ عَنْ باطِلِهِمْ والإقْبالُ عَلى خِطابِ الرَّسُولِ بِتَثْبِيتِهِ وتَثْبِيتِ المُؤْمِنِينَ أُعِيدَ اللَّفْظُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ عَلى طَرِيقَةِ وصْلِ الكَلامِ بِقَوْلِهِ: (﴿تَبارَكَ الَّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ﴾) . وهَذِهِ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ واقِعٌ مَوْقِعَ الجَوابِ عَنْ قَوْلِهِمْ: (﴿أوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ﴾ [الفرقان: ٨]) إلَخْ، أيْ إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ، أيْ: أفْضَلَ مِنهُ، أيْ: إنْ شاءَ عَجَّلَهُ لَكَ في الدُّنْيا، فالإشارَةُ إلى المَذْكُورِ مِن قَوْلِهِمْ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالجَنّاتِ والقُصُورِ جَنّاتٍ في الدُّنْيا وقُصُورًا فِيها، أيْ: خَيْرًا مِنَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ دَلِيلًا عَلى صِدْقِكَ في زَعْمِهِمْ بِأنْ تَكُونَ عِدَّةَ جَنّاتٍ وفِيها قُصُورٌ. وبِهَذا فَسَّرَ (p-٣٣١)جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ. وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ تَكُونُ (إنْ) الشَّرْطِيَّةُ واقِعَةً مَوْقِعَ (لَوْ)، أيْ: أنَّهُ لَمْ يَشَأْ ولَوْ شاءَهُ لَفَعَلَهُ، ولَكِنَّ الحِكْمَةَ اقْتَضَتْ عَدَمَ البَسْطِ لِلرَّسُولِ في هَذِهِ الدُّنْيا، ولَكِنَّ المُشْرِكِينَ لا يُدْرِكُونَ المَطالِبَ العالِيَةَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالجَنّاتِ والقُصُورِ لَيْسَتِ الَّتِي في الدُّنْيا، أيْ هي جَنّاتُ الخُلْدِ وقُصُورُ الجَنَّةِ فَيَكُونُ وعْدًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ. واقْتِرانُ هَذا الوَعْدِ بِشَرْطِ المَشِيئَةِ جارٍ عَلى ما تَقْتَضِيهِ العَظَمَةُ الإلَهِيَّةُ، وإلّا فَسِياقُ الوَعْدِ يَقْتَضِي الجَزْمَ بِحُصُولِهِ، فاللَّهُ شاءَ ذَلِكَ لا مَحالَةَ، بِأنْ يُقالَ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ. فَمَوْقِعُ (إنْ شاءَ) اعْتِراضٌ. وأصْلُ المَعْنى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ جَنّاتٍ إلى آخِرِهِ. ويُساعِدُ هَذا قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وابْنِ عامِرٍ، وأبِي بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ (ويَجْعَلُ لَكَ قُصُورًا) بِرَفْعِ (يَجْعَلُ) عَلى الِاسْتِئْنافِ دُونَ إعْمالِ حَرْفِ الشَّرْطِ، وقِراءَةُ الأكْثَرِ بِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى فِعْلِ الشَّرْطِ، وفِعْلُ الشَّرْطِ مُحَقَّقُ الحُصُولِ بِالقَرِينَةِ، وهَذا المَحْمِلُ أشَدُّ تَبْكِيتًا لِلْمُشْرِكِينَ وقَطْعًا لِمُجادَلَتِهِمْ، وقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: (﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ وأعْتَدْنا لِمَن كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيرًا﴾ [الفرقان: ١١])، وهو ضِدٌّ ومُقابِلٌ لِما أعَدَّهُ لِرَسُولِهِ والمُؤْمِنِينَ. والقُصُورُ: المَبانِي العَظِيمَةُ الواسِعَةُ عَلى وجْهِ الأرْضِ وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: (﴿تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِها قُصُورًا﴾ [الأعراف: ٧٤]) في سُورَةِ الأعْرافِ، وقَوْلِهِ: (﴿وقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ [الحج: ٤٥]) في سُورَةِ الحَجِّ.