موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الأحد 25 شوال 1445 هجرية الموافق ل05 ماي 2024


الآية [23] من سورة  

إِنِّى وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ


ركن التفسير

23 - (إني وجدت امرأة تملكهم) اسمها بلقيس (وأوتيت من كل شيء) يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة (ولها عرش) سرير (عظيم) طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذرراعا وارتفاعه ثلاثون ذراعا مضروب من الذهب والفضة مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرد عليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق

"إني وجدت امرأة تملكهم" قال الحسن البصري وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ وقال قتادة: كانت أمها جنية وكأن مؤخر قدميها مثل حافر الدابة من بيت مملكة وقال زهير بن محمد وهي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان وأمها فارغة الجنية وقال ابن جريج بلقيس بنت ذي شرخ وأمها بلتعة وقال ابن أبى حاتم حدثنا علي بن الحسن حدثنا مسدد حدثنا سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عباس قال: كان مع صاحبة سليمان مائه الف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وقال الأعمش عن مجاهد: كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: "إني وجدت امرأة تملكهم" كانت من بيت مملكة وكان أولو مشورتها ثلثمائة واثني عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل وكانت بأرض يقال لها مأرب على ثلاثة أميال من صنعاء وهذا القول هو أقرب على أنه كثير على مملكة اليمن والله أعلم وقوله " وأوتيت من كل شيء" أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن "ولها عرش عظيم" يعني سرير تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ قال زهير بن محمد كان من ذهب وصفحاته مرمولة بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وقال محمد بن إسحاق كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ وكان إنما يخدمها النساء ولها ستمائة امرأة تلي الخدمة قال علماء التاريخ: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة وتغرب من مقابلتها فيسجدون لها صباحا ومساء.

﴿فَمَكُثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ﴾ ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهم وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿وجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [النمل: ٢٤] . الفاءُ لِتَفْرِيعِ الحِكايَةِ عُطِفَتْ جُمْلَةٌ عَلى جُمْلَةٍ وضَمِيرُ (﴿مَكَثَ﴾ [الإسراء: ١٠٦]) لِلْهُدْهُدِ. والمُكْثُ: البَقاءُ في المَكانِ ومُلازَمَتُهُ زَمَنًا ما وفِعْلُهُ مِن بابِ كَرَمَ ونَصَرَ. وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِالأوَّلِ. وقَرَأهُ عاصِمٌ ورَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالثّانِي. وأُطْلِقَ المُكْثُ هُنا عَلى البُطْءِ؛ لِأنَّ الهُدْهُدَ لَمْ يَكُنْ ماكِثًا بِمَكانٍ، ولَكِنَّهُ كانَ يَطِيرُ ويَنْتَقِلُ، فَإطْلاقُ المُكْثِ عَلى البُطْءِ مَجازٌ مُرْسَلٌ؛ لِأنَّ المُكْثَ يَسْتَلْزِمُ زَمَنًا. و(﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾) صِفَةٌ لِاسْمِ زَمَنٍ أوِ اسْمِ مَكانٍ مَحْذُوفٍ مَنصُوبٍ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، أيْ: مَكَثَ زَمَنًا غَيْرَ بَعِيدٍ، أوْ في مَكانٍ غَيْرِ بَعِيدٍ. وكِلا المَعْنَيَيْنِ يَقْتَضِي أنَّهُ رَجَعَ إلى سُلَيْمانَ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ. و(﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾) قَرِيبٌ قُرْبًا يُوصَفُ بِضِدِّ البُعْدِ، أيْ: يُوشِكُ أنْ يَكُونَ بَعِيدًا. وهَذا وجْهُ إيثارِ التَّعْبِيرِ بِ (﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾)؛ لِأنَّ (غَيْرَ) تُفِيدُ دَفْعَ تَوَهُّمِ أنْ يَكُونَ بَعِيدًا وإنَّما يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ إذا كانَ القُرْبُ يُشْبِهُ البُعْدَ. والبُعْدُ والقُرْبُ حَقِيقَتُهُما مِن أوْصافِ المَكانِ ويُسْتَعارانِ لِقِلَّةِ الحِصَّةِ بِتَشْبِيهِ (p-٢٤٩)الزَّمَنِ القَصِيرِ بِالمَكانِ القَرِيبِ وشاعَ ذَلِكَ حَتّى ساوى الحَقِيقَةَ قالَ تَعالى: ﴿وما قَوْمُ لُوطٍ مِنكم بِبَعِيدٍ﴾ [هود: ٨٩] . والفاءُ في (فَقالَ) عاطِفَةٌ عَلى (﴿مَكَثَ﴾ [الإسراء: ١٠٦]) . وجُعِلَ القَوْلُ عَقِيبَ المُكْثِ؛ لِأنَّهُ لَمّا حَضَرَ صَدَرَ القَوْلُ مِن جِهَتِهِ فالتَّعْقِيبُ حَقِيقِيٌّ. والقَوْلُ المُسْنَدُ إلى الهُدْهُدِ إنْ حُمِلَ عَلى حَقِيقَةِ القَوْلِ وهو الكَلامُ الَّذِي مِن شَأْنِهِ أنْ يَنْطِقَ بِهِ النّاسُ فَقَوْلُ الهُدْهُدِ هَذا لَيْسَ مِن دَلالَةِ مَنطِقِ الطَّيْرِ الَّذِي عَلِمَهُ سُلَيْمانُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ هو المَنطِقُ الدّالُّ عَلى ما في نُفُوسِ الطَّيْرِ مِنَ المُدْرَكاتِ وهي مَحْدُودَةٌ كَما قَدَّمْنا بَيانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل: ١٦] . ولَيْسَ لِلْهُدْهُدِ قِبَلٌ بِإدْراكِ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ القَوْلُ المَنسُوبُ إلَيْهِ ولا بِاسْتِفادَةِ الأحْوالِ مِن مُشاهَدَةِ الأقْوامِ والبُلْدانِ حَتّى تَخْطُرَ في نَفْسِهِ وحَتّى يُعَبِّرَ عَنْها بِمَنطِقِهِ الَّذِي عُلِّمَ سُلَيْمانُ دَلالَتَهُ كَما قَدَّمْناهُ. فَهَذا وحْيٌ لِسُلَيْمانَ أجْراهُ اللَّهُ عَلى لِسانِ الهُدْهُدِ. وأمّا قَوْلُ سُلَيْمانَ: ﴿سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ [النمل: ٢٧] فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ سُلَيْمانُ خَشِيَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الكَلامُ الَّذِي سَمِعَهُ مِن تِلْقاءِ الهُدْهُدِ كَلامًا ألْقاهُ الشَّيْطانُ مِن جانِبِ الهُدْهُدِ لِيُضَلِّلَ سُلَيْمانَ ويَفْتِنَهُ بِالبَحْثِ عَنْ مَمْلَكَةٍ مَوْهُومَةٍ لِيَسْخَرَ بِهِ كَما يَسْخَرُ بِالمُتَثائِبِ، فَعَزَمَ سُلَيْمانُ عَلى اسْتِثْباتِ الخَبَرِ بِالبَحْثِ الَّذِي لا يَتْرُكُ رِيبَةً في صِحَّتِهِ خِزْيًا لِلشَّيْطانِ. ولْنَشْتَغِلِ الآنَ بِما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذا الكَلامُ فابْتِداؤُهُ بِ ﴿أحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ تَنْبِيهٌ لِسُلَيْمانَ بِأنَّ في مَخْلُوقاتِ اللَّهِ مَمالِكَ ومُلُوكًا تُدانِي مُلْكَهُ أوْ تَفُوقُهُ في بَعْضِ أحْوالِ المُلْكِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَثَلًا لَهُ، كَما جَعَلَ عِلْمَ الخَضِرِ مَثَلًا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِئَلّا يَغْتَرَّ بِانْتِهاءِ الأمْرِ إلى ما بَلَغَهُ هو. وفِيهِ اسْتِدْعاءٌ لِإقْبالِهِ عَلى ما سَيُلْقى إلَيْهِ بِشَراشِرِهِ لِأهَمِّيَّةِ هَذا المَطْلَعِ في الكَلامِ، فَإنَّ مَعْرِفَةَ أحْوالِ المَمالِكِ والأُمَمِ مِن أهَمِّ ما يُعْنى بِهِ مُلُوكُ الصَّلاحِ لِيَكُونُوا عَلى اسْتِعْدادٍ بِما يُفاجِئُهم مِن تِلْقائِها، ولِتَكُونَ مِن دَواعِي الِازْدِيادِ مِنَ العَمَلِ النّافِعِ لِلْمَمْلَكَةِ بِالِاقْتِداءِ بِالنّافِعِ مِن أحْوالِ غَيْرِها والِانْقِباضِ عَمّا في أحْوالِ المَمْلَكَةِ مِنَ الخَلَلِ بِمُشاهَدَةِ آثارِ مِثْلِهِ في غَيْرِها. (p-٢٥٠)ومِن فَقَراتِ الوَزِيرِ ابْنِ الخَطِيبِ الأنْدَلُسِيِّ: فَأخْبارُ الأقْطارِ مِمّا تُنْفِقُ فِيهِ المُلُوكُ أسْمارَها، وتُرَقِّمُ بِبَدِيعِ هالاتِهِ أقْمارَها، وتَسْتَفِيدُ مِنهُ حُسْنَ السِّيَرِ، والأمْنَ مِنَ الغِيَرِ، فَتَسْتَعِينُ عَلى الدَّهْرِ بِالتَّجارِبِ. وتَسْتَدِلُّ بِالشّاهِدِ عَلى الغائِبِ اهـ. والإحاطَةُ: الِاشْتِمالُ عَلى الشَّيْءِ وجَعْلُهُ في حَوْزَةِ المُحِيطِ، وهي هُنا مُسْتَعارَةٌ لِاسْتِيعابِ العِلْمِ بِالمَعْلُوماتِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ [الكهف: ٦٨] فَماصَدَقَ (﴿ما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ [الكهف: ٦٨]) مَعْلُوماتٌ لَمْ يُحِطْ بِها عِلْمُ سُلَيْمانَ. وسَبَأٌ: بِهَمْزَةٍ في آخِرِهِ وقَدْ يُخَفَّفُ اسْمُ رَجُلٍ هو عَبَّشَمْسُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ. لُقِّبَ بِسَبَأٍ. قالُوا: لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَبى في غَزْوِهِ. وكانَ الهَمْزُ فِيهِ لِتَغْيِيرِهِ العِلْمِيَّةَ عَنِ المَصْدَرِ. وهو جَدُّ جِذِمَ عَظِيمٍ مِن أجْذامِ العَرَبِ. وذُرِّيَّتُهُ كانُوا بِاليَمَنِ ثُمَّ تَفَرَّقُوا كَما سَيَأْتِي في سُورَةِ سَبَأٍ. وأُطْلِقَ هَذا الِاسْمُ هُنا عَلى دِيارِهِمْ؛ لِأنَّ (مِن) ابْتِدائِيَّةٌ وهي لِابْتِداءِ الأمْكِنَةِ غالِبًا. فاسْمُ (سَبَأٍ) غَلَبَ عَلى القَبِيلَةِ المُتَناسِلَةِ مِن سَبَأٍ المَذْكُورِ وهم مِنَ الجِذْمِ القَحْطانِيِّ المَعْرُوفِ بِالعَرَبِ المُسْتَعْرِبَةِ أيْ: الَّذِينَ لَمْ يَنْشَئُوا في بِلادِ العَرَبِ ولَكِنَّهم نَزَحُوا مِنَ العِراقِ إلى بِلادِ العَرَبِ، وأوَّلُ نازِحٍ مِنهم هو يَعْرُبُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وضَمِّ الرّاءِ ابْنُ قَحْطانَ (وبِالعِبْرانِيَّةِ يَقْطانَ) بْنِ عابِرِ بْنِ شالِخَ بْنِ أرْفَخَشْدَ (وبِالعِبْرانِيَّةِ أرْفَكْشادَ) بْنِ سامِ بْنِ نُوحٍ. وهَذا النَّسَبُ يَتَّفِقُ مَعَ ما في سِفْرِ التَّكْوِينِ مِن سامٍ إلى عابِرٍ فَمِن عابِرٍ يَفْتَرِقُ نَسَبُ القَحْطانِيِّينَ مِن نَسَبِ العِبْرانِيِّينَ، فَأمّا أهْلُ أنْسابِ العَرَبِ فَيَجْعَلُونَ لِعابِرٍ ابْنَيْنِ: أحَدُهُما اسْمُهُ قَحْطانُ، والآخَرُ اسْمُهُ فالغُ. وأمّا سِفْرُ التَّكْوِينِ فَيَجْعَلُ أنَّ أحَدَهُما اسْمُهُ يَقْطُنُ. ولا شَكَّ أنَّهُ المُسَمّى عِنْدَ العَرَبِ قَحْطانُ، والآخَرُ اسْمُهُ فالِجُ بِفاءٍ في أوَّلِهِ وجِيمٍ في آخِرِهِ فَوَقَعَ تَغْيِيرٌ في بَعْضِ حُرُوفِ الِاسْمَيْنِ لِاخْتِلافِ اللُّغَتَيْنِ. ولَمّا انْتَقَلَ يَعْرُبُ سَكَنَ جَنُوبَ البِلادِ العَرَبِيَّةِ اليَمَنَ فاسْتَقَرَّ بِمَوْضِعٍ بَنى فِيهِ مَدِينَةَ ظَفارِ بِفَتْحِ الظّاءِ المُشالَةِ المُعْجَمَةِ وكَسْرِ الرّاءِ فَهي أوَّلُ مَدِينَةٍ في بِلادِ اليَمَنِ (p-٢٥١)وانْتَشَرَ أبْناؤُهُ في بِلادِ الجَنُوبِ الَّذِي عَلى البَحْرِ وهو بِلادُ حَضْرَمَوْتَ ثُمَّ بَنى ابْنُهُ يَشْجُبُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وضَمِّ الجِيمِ مَدِينَةُ صَنْعاءَ وسَمّى البِلادَ بِاليَمَنِ، ثُمَّ خَلَفَهُ ابْنُهُ عَبَّشَمْسُ بِتَشْدِيدِ المُوَحَّدَةِ ومَعْناهُ ضَوْءُ الشَّمْسِ وسادَ قَوْمَهُ ولُقِّبِ سَبَأٌ بِفَتْحَتَيْنِ وهَمْزَةٍ في آخِرِهِ واسْتَقَلَّ بِأهْلِهِ فَبَنى مَدِينَةَ مَأْرِبَ حاضِرَةَ سَبَأٍ قالَ النّابِغَةُ الجَعْدِيُّ: ؎مِن سَبَأِ الحاضِرِينَ مَأْرِبُ إذْ يَبْنُونَ مِن دُونِ سَيْلِهِ العَرِما وبَيْنَ مَأْرِبَ وصَنْعاءَ مَسِيرَةُ ثَلاثِ مَراحِلَ خَفِيفَةٍ. ثُمَّ جاءَ بَعْدَ سَبَأٍ ابْنُهُ حِمْيَرُ ويُلَقَّبُ العَرَنْجَحَ (أيِ: العَتِيقُ)، ويَظْهَرُ أنَّهُ جَعَلَ بِلادَهُ ظَفارِ بَعْدَ أنِ انْتَقَلَ أبْناءُ يَشْجُبَ مِنها إلى صَنْعاءَ. وفي المَثَلِ: مَن ظَفَرَ حَمَّرَ، أيْ: مَن دَخَلَ ظَفارِ فَلْيَتَكَلَّمْ بِالحِمْيَرِيَّةِ، ولِهَذا المَثَلِ قِصَّةٌ. فَكانَتِ البِلادُ اليَمَنِيَّةُ أوِ القَحْطانِيَّةُ مُنْقَسِمَةً إلى ثَلاثِ قَبائِلَ: اليَمَنِيَّةِ، والسَّبَئِيَّةِ، والحِمْيَرِيَّةِ. وكانَ عَلى كُلِّ قَبِيلَةِ مَلِكٌ مِنها، واسْتَقَلَّتْ أفْخاذُهم بِمَواقِعَ أطْلَقُوا عَلى الواحِدِ مِنها اسْمَ مِخْلافٍ (بِكَسْرِ المِيمِ) وكانَ لِكُلِّ مِخْلافٍ رَئِيسٌ يُلَقَّبُ بِالقِيلِ ويُقالُ لَهُ: ذُو كَذا، بِالإضافَةِ إلى اسْمِ مِخْلافِهِ، مِثْلُ ذُو رُعَيْنٍ. والمَلِكُ الَّذِي تَتْبَعُهُ الأقْيالُ كُلُّها ويَحْكُمُ اليَمَنَ كُلَّها يُلَقَّبُ تُبَّعَ؛ لِأنَّهُ مَتْبُوعٌ بِأُمَراءَ كَثِيرِينَ. وقَدِ انْفَرَدَتْ سَبَأٌ بِالمُلْكِ في حُدُودِ القَرْنِ السّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الهِجْرَةِ وكانَ أشْهَرُ مُلُوكِهِمْ أوْ أوَّلُهُمُ الهِدْهادُ بْنُ شُرَحْبِيلَ ويُلَقَّبُ اليَشَرَّحَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وفَتْحِ الشِّينِ المُعْجَمَةِ وفَتْحِ الرّاءِ مُشَدَّدَةً وبِحاءٍ مُهْمَلَةٍ في آخِرِهِ. ثُمَّ ولِيَتْ بَعْدَهُ بِلْقِيسُ ابْنَةُ شُرَحْبِيلَ أيْضًا أوْ شَراحِيلَ ولَمْ تَكُنْ ذاتَ زَوْجٍ فِيما يَظْهَرُ مِن سِياقِ القُرْآنِ. وقِيلَ كانَتْ مُتَزَوِّجَةً شَدَدَ بْنَ زَرْعَةَ فَإنْ صَحَّ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ لَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فَماتَ. وكانَ أهْلُ سَبَأٍ صابِئَةً يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. وبَقِيَّةُ ذِكْرِ حَضارَتِهِمْ تَأْتِي في تَفْسِيرِ سُورَةِ سَبَأٍ. و(﴿أحَطْتُ﴾) يُقْرَأُ بِطاءٍ مُشَدَّدَةٍ؛ لِأنَّهُ التِقاءُ طاءِ الكَلِمَةِ وتاءِ المُتَكَلِّمِ فَقُلِبَتْ هَذِهِ التّاءُ طاءً وأُدْغِمَتا. (p-٢٥٢)والباءُ في قَوْلِهِ (بِنَبَأٍ) لِلْمُصاحَبَةِ؛ لِأنَّ النَّبَأ كانَ مُصاحِبًا لِلْهُدْهُدِ حِينَ مَجِيئِهِ والنَّبَأُ: الخَبَرُ المُهِمُّ. وبَيْنَ (بِسَبَأٍ) و(بِنَبَأٍ) الجِناسُ المُزْدَوَجُ. وفِيهِ أيْضًا جِناسُ الخَطِّ وهو أنْ تَكُونَ صُورَةُ الكَلِمَتَيْنِ واحِدَةً في الخَطِّ وإنَّما تَخْتَلِفانِ في النُّطْقِ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٩] ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠] . ووَصْفُهُ بِ (﴿يَقِينٍ﴾) تَحْقِيقٌ لَكَوْنِ ما سَيُلْقى إلَيْهِ شَيْءٌ مُحَقَّقٌ لا شُبْهَةَ فِيهِ فَوُصِفَ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ. وجُمْلَةُ (﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً﴾) بَيانٌ لِ (نَبَأٍ) فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ. وإدْخالُ (إنَّ) في صَدْرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ لِأهَمِّيَّةِ الخَبَرِ إذْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا في بَنِي إسْرائِيلَ أنْ تَكُونَ المَرْأةُ مَلِكًا. وفِعْلُ (﴿تَمْلِكُهُمْ﴾) هُنا مُشْتَقٌّ مِنَ المُلْكِ بِضَمِّ المِيمِ وفِعْلُهُ كَفِعْلِ مِلْكِ الأشْياءِ. ورَوِيَ حَدِيثُ هِرَقْلَ (هَلْ كانَ في آبائِهِ مِن مَلَكٍ) بِفَتْحِ اللّامِ، أيْ: كانَ مَلِكًا، ويُفَرَّقُ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ بِالمَصْدَرِ فَمَصْدَرُ هَذا مُلْكٌ بِضَمِّ المِيمِ، والآخَرُ بِكَسْرِها، وضَمِيرُ الجَمْعِ راجِعٌ إلى سَبَأٍ. وهَذِهِ المَرْأةُ أُرِيدَ بِها بِلْقِيسُ بِكَسْرِ المُوَحَّدَةِ وسُكُونِ اللّامِ وكَسْرِ القافِ ابْنَةُ شَراحِيلَ وفي تَرْتِيبِها مَعَ مُلُوكِ سَبَأٍ وتَعْيِينِ اسْمِها واسْمِ أبِيها اضْطِرابٌ لِلْمُؤَرِّخِينَ. والمَوْثُوقُ بِهِ أنَّها كانَتْ مُعاصِرَةً سُلَيْمانَ في أوائِلِ القَرْنِ السّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الهِجْرَةِ وكانَتِ امْرَأةً عاقِلَةً. ويُقالُ: هي الَّتِي بَنَتْ سَدَّ مَأْرِبَ. وكانَتْ حاضِرَةُ مُلْكِها مَأْرِبَ مَدِينَةً عَظِيمَةً بِاليَمَنِ بَيْنَها وبَيْنَ صَنْعاءَ مَسِيرَةَ ثَلاثِ مَراحِلَ وسَيَأْتِي ذِكْرُها في سُورَةِ سَبَأٍ. وتَنْكِيرُ (امْرَأةً) وهو مَفْعُولٌ أوَّلُ لِ (﴿وجَدْتُ﴾) لَهُ حُكْمُ المُبْتَدَأِ فَهو كالِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ إذا أُرِيدَ بِالنَّكِرَةِ التَّعَجُّبُ مِن جِنْسِها كَقَوْلِهِمْ: بَقَرَةٌ تَكَلَّمَتْ؛ لِأنَّ المُرادَ حِكايَةُ أمْرٍ عَجِيبٍ عِنْدَهم أنْ تَكُونَ امْرَأةٌ مَلِكَةً عَلى قَوْمٍ. ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وجَدْتُهم تَمْلِكُهُمُ امْرَأةٌ. والإيتاءُ: الإعْطاءُ، وهو مُشْعِرٌ بِأنَّ المُعْطى مَرْغُوبٌ فِيهِ وهو مُسْتَعْمَلٌ في لازَمِهِ وهو النَّوْلُ. (p-٢٥٣)ومَعْنى (﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾) نالَتْ مَن كُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ مِن شُئُونِ المُلْكِ. فَعُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ مِن جِهَتَيْنِ يُفَسِّرُهُ المَقامُ كَما فَسَّرَ قَوْلُ سُلَيْمانَ: ﴿وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ١٦]، أيْ: أُوتِيتُ مِن خِصالِ المُلُوكِ ومِن ذَخائِرِهِمْ وعَدَدِهِمْ وجُيُوشِهِمْ وثَراءِ مَمْلَكَتِهِمْ وزُخْرُفِها ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ المَحامِدِ والمَحاسِنِ. وبِناءُ فِعْلِ (﴿أُوتِيَتْ﴾ [طه: ٣٦]) إلى المَجْهُولِ إذْ لا يَتَعَلَّقُ الغَرَضُ بِتَعْيِينِ أسْبابِ ما نالَتْهُ بَلِ المَقْصُودُ ما نالَتْهُ عَلى أنَّ الوَسائِلَ والأسْبابَ شَتّى فَمِنهُ ما كانَ إرْثًا مِنَ المُلُوكِ الَّذِينَ سَلَفُوها، ومِنهُ ما كانَ كَسْبًا مِن كَسْبِها واقْتِنائِها، ومِنهُ ما وهَبَها اللَّهُ مِن عَقْلٍ وحِكْمَةٍ، وما مُنِحَ بِلادُها مِن خِصْبٍ ووَفْرَةِ مِياهٍ. وقَدْ كانَ اليُونانُ يُلَقِّبُونَ مَمْلَكَةَ اليَمَنِ بِالعَرَبِيَّةِ السَّعِيدَةِ أخْذًا مِن مَعْنى اليُمْنِ في العَرَبِيَّةِ وقالَ تَعالى (﴿لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ في مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وشِمالٍ كُلُوا مِن رِزْقِ رَبِّكم واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ورَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبإ: ١٥]) . وأمّا رَجاحَةُ العُقُولِ فَفي الحَدِيثِ «أتاكم أهْلُ اليَمَنِ» هم أرَقُّ أفْئِدَةً، الإيمانُ يَمانٍ، والحِكْمَةُ يَمانِيَّةٌ. فَلَيْسَ المُرادُ خُصُوصَ ما آتاها اللَّهُ في أصْلِ خِلْقَتِها وخِلْقَةِ أُمَّتِها وبِلادِها، ولِذا فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الفاعِلُ عُرْفًا. وكُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ. وخَصَّ مِن نَفائِسَ الأشْياءِ عَرْشَها؛ إذْ كانَ عَرْشًا بَدِيعًا، ولَمْ يَكُنْ لِسُلَيْمانَ عَرْشٌ مِثْلُهُ. وقَدْ جاءَ في الإصْحاحِ العاشِرِ مِن سِفْرِ المُلُوكِ الأوَّلِ ما يَقْتَضِي أنَّ سُلَيْمانَ صَنَعَ كُرْسِيَّهُ البَدِيعَ بَعْدَ أنْ زارَتْهُ مَلِكَةُ سَبَأٍ. وسَنُشِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها﴾ [النمل: ٣٨] . والعَظِيمُ: مُسْتَعْمَلٌ في عَظَمَةِ القَدْرِ والنَّفاسَةِ في ضَخامَةِ الهَيْكَلِ والذّاتِ. وأعْقَبَ التَّنْوِيهَ بِشَأْنِها بِالحَطِّ مِن حالِ اعْتِقادِهِمْ إذْ هم يَسْجُدُونَ، أيْ: يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. ولِأجْلِ الِاهْتِمامِ بِهَذا الخَبَرِ أُعِيدَ فِعْلُ وجَدْتُها إنْكارًا لِكَوْنِهِمْ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ. فَذَلِكَ مِن انْحِطاطِ العَقْلِيَّةِ الِاعْتِقادِيَّةِ فَكانَ انْحِطاطُهم في الجانِبِ الغَيْبِيِّ مِنَ التَّفْكِيرِ وهو ما يَظْهَرُ فِيهِ تَفاوَتُ عِوَضِ العُقُولِ عَلى الحَقائِقِ؛ لِأنَّهُ جانِبٌ مُتَمَحِّضٌ لِعَمَلِ الفِكْرِ لا يُسْتَعانُ فِيهِ بِالأدِلَّةِ المَحْسُوسَةِ، فَلا جَرَمَ أنْ تَضِلَّ فِيهِ عُقُولُ كَثِيرٍ مِن أهْلِ العُقُولِ الصَّحِيحَةِ في الشُّئُونِ الخاضِعَةِ لِلْحَواسِّ. قالَ تَعالى في المُشْرِكِينَ: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾ [الروم: ٧] ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ﴾ [الروم: ٨] (p-٢٥٤)وكانَ عَرَبُ اليَمَنِ أيّامَئِذٍ مِن عَبَدَةِ الشَّمْسِ ثُمَّ دَخَلَتْ فِيهِمُ الدِّيانَةُ اليَهُودِيَّةُ في زَمَنِ تُبَّعَ أسْعَدَ مِن مُلُوكِ حِمْيَرَ، ولِكَوْنِهِمْ عَبَدَةَ شَمْسٍ كانُوا يُسَمَّوْنَ عَبْدَ شَمْسٍ كَما تَقَدَّمَ في اسْمِ سَبَأٍ. وقَدْ جَمَعَ هَذا القَوْلُ الَّذِي أُلْقِيَ إلى سُلَيْمانَ أُصُولَ الجُغْرافِيَّةِ السِّياسِيَّةِ مِن صِفَةِ المَكانِ والأدْيانِ وصِبْغَةِ الدَّوْلَةِ وثَرْوَتِها، ووَقَعَ الِاهْتِمامُ بِأخْبارِ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أهَمُّ لِمُلْكِ سُلَيْمانَ إذْ كانَتْ مُجاوِرَةً لِمَمْلَكَتِهِ يَفْصِلُ بَيْنَهُما البَحْرُ الأحْمَرُ، فَأُمُورُ هَذِهِ المَمْلَكَةِ أجْدى بِعَمَلِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (مِن سَبَأٍ) بِالصَّرْفِ. وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو والبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِفَتْحَةٍ غَيْرَ مَصْرُوفٍ عَلى تَأْوِيلِ البِلادِ أوِ القَبِيلَةِ. وقَرَأهُ قُنْبُلُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِسُكُونِ الهَمْزَةِ عَلى اعْتِبارِ الوَقْفِ إجْراءً لِلْوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ.


ركن الترجمة

I found a woman reigning over them, and she has been favoured with everything; and she has a throne that is magnificent.

J'ai trouvé qu'une femme est leur reine, que de toute chose elle a été comblée et qu'elle a un trône magnifique.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :