ركن التفسير
54 - (ولوطا) منصوب باذكرر مقدرا قبله ويبدل منه (إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة) اللواط (وأنتم تبصرون) يبصر بعضكم بعضا انهماكا في المعصية
يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم وهي إتيان الذكور دون الإناث وذلك فاحشة عظيمة استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء فقال "أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون" أي يرى بعضكم بعضا.
﴿ولُوطًا إذْ قالَ لِقَوْمِهِ أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ ﴿أيِنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ . عَطَفَ (لُوطًا) عَلى (صالِحًا) في قَوْلِهِ السّابِقِ: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا إلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا﴾ [النمل: ٤٥] . ولا يَمْنَعُ مِنَ العَطْفِ أنَّ العامِلَ في المَعْطُوفِ تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: (﴿إلى ثَمُودَ﴾ [النمل: ٤٥])؛ لِأنَّ المَجْرُورَ لَيْسَ قَيْدًا لِمُتَعَلَّقِهِ، ولَكِنَّهُ كَواحِدٍ مِنَ المَفاعِيلِ فَلا ارْتِباطَ لَهُ بِالمَعْطُوفِ عَلى مَفْعُولٍ آخَرَ. فَإنَّ الإتْباعَ في الإعْرابِ يُمَيِّزُ المَعْطُوفَ عَلَيْهِ مِن غَيْرِهِ. وقَدْ سَبَقَ نَظِيرُ هَذا في سُورَةِ الأعْرافِ. ولَمْ يُذْكَرِ المُرْسَلَ إلَيْهِمْ هُنا كَما ذُكِرَ في قِصَّةِ ثَمُودَ لِعَدَمِ تَمامِ المُشابَهَةِ بَيْنَ قَوْمِ لُوطٍ وبَيْنَ قُرَيْشٍ فِيما عَدا التَّكْذِيبَ والشِّرْكَ. ويَجُوزُ أنْ يُنْصَبَ (ولُوطًا) بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ لُوطًا؛ لِأنَّ وُجُودَ (إذْ) بَعْدَهُ يُقَرِّبُهُ مِن نَحْوِ ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾ [البقرة: ٣٠] . وتَعْقِيبُ قِصَّةِ ثَمُودَ بِقِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ جارٍ عَلى مُعْتادِ القُرْآنِ في تَرْتِيبِ قِصَصِ هَذِهِ الأُمَمِ، فَإنَّ قَوْمَ لُوطٍ كانُوا مُتَأخِّرِينَ في الزَّمَنِ عَنْ ثَمُودَ. وإنَّما الَّذِي يَسْتَثِيرُ سُؤالًا هُنا هو. الِاقْتِصارُ عَلى قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ دُونَ قِصَّةِ عادٍ وقِصَّةِ مَدْيَنَ. وقَدْ بَيَّنْتُهُ آنِفًا أنَّهُ لِمُناسَبَةٍ مُجاوِرَةِ دِيارِ قَوْمِ لُوطٍ لِمَمْلَكَةِ سُلَيْمانَ ووُقُوعِها بَيْنَ دِيارِ ثَمُودَ وبَيْنَ فِلَسْطِينَ، وكانَتْ دِيارُهم مَمَرَّ قُرَيْشٍ إلى بِلادِ الشّامِ قالَ (p-٢٨٨)تَعالى: ﴿وإنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ [الحجر: ٧٦] وقالَ: ﴿وإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧] ﴿وبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: ١٣٨] . وظَرْفُ (إذْ) يَتَعَلَّقُ بِ (أرْسَلْنا) أوْ بِ (اذْكُرْ) المُقَدَّرَيْنِ. والِاسْتِفْهامُ في (أتَأْتُونَ) إنْكارِيٌّ. وجُمْلَةُ (وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ) حالٌ زِيادَةٌ في التَّشْنِيعِ، أيْ: تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَنًا يُبْصِرُ بَعْضُكم بَعْضًا، فَإنَّ التَّجاهُرَ بِالمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ؛ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى اسْتِحْسانِها وذَلِكَ اسْتِخْفافٌ بِالنَّواهِيَ. وقَوْلُهُ (أيِنَّكم لَتَأْتُونَ) تَقَدَّمَ في الأعْرافِ (إنَّكم لَتَأْتُونَ)، فَهُنا جِيءَ بِالِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ وما في الأعْرافِ جاءَ الخَبَرُ المُسْتَعْمَلُ في الإنْكارِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ اخْتِلافُ الحِكايَةِ لِاخْتِلافِ المَحْكِيِّ بِأنْ يَكُونَ لُوطٌ قَدْ قالَ لَهُمُ المَقالَتَيْنِ في مَقامَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اخْتِلافُ الحِكايَةِ تَفَنُّنًا مَعَ اتِّحادِ المَعْنى. وكِلا الأُسْلُوبَيْنِ يَقَعُ في قَصَصِ القُرْآنِ؛ لِأنَّ في تَغْيِيرِ الأُسْلُوبِ تَجْدِيدًا لِنَشاطِ السّامِعِ. عَلى أنَّ ابْنَ كَثِيرٍ وأبا عَمْرٍو وابْنَ عامِرٍ وحَمْزَةَ وأبا بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ قَرَءُوا ما في سُورَةِ الأعْرافِ بِهَمْزَتَيْنِ فاسْتَوَتِ الآيَتانِ عَلى قِراءَةِ هَؤُلاءِ. وقَدْ تَقَدَّمَتْ وُجُوهُ ذَلِكَ في سُورَةِ الأعْرافِ. ووَقَعَ في الأعْرافِ ﴿أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ ما سَبَقَكم بِها مِن أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٨٠] ولَمْ يُذْكَرْ هُنا؛ لِأنَّ ما يَجْرِي في القِصَّةِ لا يَلْزَمُ ذِكْرُ جَمِيعِهِ. وكَذَلِكَ القَوْلُ في عَدَمِ ذِكْرِ (وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ) في سُورَةِ الأعْرافِ مَعَ ذِكْرِهِ هُنا. ونَظِيرُ بَقِيَّةِ الآيَةِ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأعْرافِ، إلّا أنَّ الواقِعَ هُنا (بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، فَوَصَفَهم بِالجَهالَةِ وهي اسْمٌ جامِعٌ لِأحْوالِ أُفْنِ الرَّأْيِ وقَساوَةِ القَلْبِ. وفِي الأعْرافِ وصَفَهم بِأنَّهم قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وذَلِكَ يُحْمَلُ عَلى اخْتِلافِ المَقالَتَيْنِ في مَقامَيْنِ. وفِي إقْحامِ لَفْظِ (قَوْمٍ) في الآيَتَيْنِ مِنَ الخُصُوصِيَّةِ ما تَقَدَّمَ آنِفًا في قَوْلِهِ في هَذِهِ السُّورَةِ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: ٥٢] . (p-٢٨٩)ورُجِّحَ في قَوْلِهِ (تَجْهَلُونَ) جانِبُ الخِطابِ عَلى جانِبِ الغَيْبَةِ فَلَمْ يَقُلْ: يَجْهَلُونَ، بِياءِ الغَيْبَةِ وكِلاهُما مُقْتَضى الظّاهِرِ؛ لِأنَّ الخِطابَ أقْوى دَلالَةً كَما قُرِئَ في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل: ٤٧] .