ركن التفسير
3 - (وهو الله) مستحق العبادة (في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) ما تسرون وما تجهرون به بينكم (ويعلم ما تكسبون) تعملون من خير وشر
وقوله تعالى "وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم" اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول القائلين تعالى عن قولهم علوا كبيرا بأنه في كل مكان حيث حملوا الآية على ذلك فالأصح من الأقوال أنه المدعو الله في السموات وفى الأرض أي يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض ويسمونه الله ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض وعلى هذا فيكون قوله "يعلم سركم وجهركم" خبرا أو حالا. "والقول الثاني" أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض من سر وجهر فيكون قوله يعلم متعلقا بقوله "في السموات وفي الأرض" تقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون والقول الثالث أن قوله "وهو الله في السموات" وقف تام ثم استأنف الخبر فقال "وفي الأرض يعلم سركم وجهركم" وهذا اختيار ابن جرير وقوله "ويعلم ما تكسبون" أي جميع أعمالكم خيرها وشرها.
﴿وهْوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكم وجَهْرَكم ويَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ﴾ . عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن طِينٍ﴾ [الأنعام: ٢] أيْ خَلَقَكم ولَمْ يُهْمِلْ مُراقَبَتَكم، فَهو يَعْلَمُ أحْوالَكم كُلَّها. فالضَّمِيرُ مُبْتَدَأٌ عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الأنعام: ١] ولَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ؛ إذْ لا يَقَعُ ضَمِيرُ الفَصْلِ بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ. وقَوْلُهُ: اللَّهُ خَبَرٌ عَنِ المُبْتَدَأِ. وإذْ كانَ المُبْتَدَأُ ضَمِيرًا عائِدًا إلى اسْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنِ المَقْصُودُ الإخْبارَ بِأنَّ هَذا الَّذِي خَلَقَ وقَضى هو اللَّهُ إذْ قَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِن مُعادِ الضَّمائِرِ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ مِنَ الإخْبارِ عَنْهُ بِأنَّهُ اللَّهُ مَعْنًى يُفِيدُهُ المَقامُ، وذَلِكَ هو أنْ يَكُونَ كالنَّتِيجَةِ لِلْأخْبارِ الماضِيَةِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ﴾ [الأنعام: ١] فَنَبَّهَ عَلى فَسادِ اعْتِقادِ الَّذِينَ أثْبَتُوا الإلَهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ وحَمِدُوا آلِهَتَهم بِأنَّهُ خالِقُ الأكْوانِ وخالِقُ الإنْسانِ ومُعِيدُهُ، ثُمَّ أعْلَنَ أنَّهُ المُنْفَرِدُ بِالإلَهِيَّةِ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ؛ إذْ لا خالِقَ غَيْرُهُ كَما تَقَرَّرَ آنِفًا. وإذْ هو عالِمُ السِّرِّ والجَهْرِ، وغَيْرُهُ لا إحْساسَ لَهُ فَضْلًا عَنِ العَقْلِ فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ عالِمًا. ولَمّا كانَ اسْمُ الجَلالَةِ مَعْرُوفًا عِنْدَهم لا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ صارَ قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ اللَّهُ﴾ في مَعْنى المَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفاتِ هو صاحِبُ هَذا الِاسْمِ لا غَيْرُهُ. وقَوْلُهُ: ﴿فِي السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِالكَوْنِ المُسْتَفادِ مِن جُمْلَةِ القَصْرِ، أوْ بِما (p-١٣٣)فِي ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الأنعام: ١] مِن مَعْنى الِانْفِرادِ بِالإلَهِيَّةِ، كَما يَقُولُ مَن يَذْكُرُ جَوّادًا ثُمَّ يَقُولُ: هو حاتِمٌ في العَرَبِ، وهَذا لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلى أنَّهُ لا يُشارِكُهُ أحَدٌ في صِفاتِهِ في الكائِناتِ كُلِّها. وقَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ سِرَّكم وجَهْرَكُمْ﴾ جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنى جُمْلَةِ ﴿وهُوَ اللَّهُ﴾؛ ولِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأنَّها تَتَنَزَّلُ مِنها مَنزِلَةَ التَّوْكِيدِ لِأنَّ انْفِرادَهُ بِالإلَهِيَّةِ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ مِمّا يَقْتَضِي عِلْمَهُ بِأحْوالِ بَعْضِ المَوْجُوداتِ الأرْضِيَّةِ. ولا يَجُوزُ تَعْلِيقُ ﴿فِي السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ بِالفِعْلِ في قَوْلِهِ: ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ﴾ لِأنَّ سِرَّ النّاسِ وجَهْرَهم وكَسْبَهم حاصِلٌ في الأرْضِ خاصَّةً دُونَ السَّماواتِ، فَمَن قَدَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ أخْطَأ خَطَأً خَفِيًّا. وذَكَرَ السِّرَّ لِأنَّ عِلْمَ السِّرِّ دَلِيلُ عُمُومِ العِلْمِ، وذَكَرَ الجَهْرَ لِاسْتِيعابِ نَوْعَيِ الأقْوالِ. والمُرادُ بِـ ﴿ما تَكْسِبُونَ﴾ جَمِيعُ الِاعْتِقاداتِ والأعْمالِ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ فَهو تَعْرِيضٌ بِالوَعْدِ والوَعِيدِ. والخِطابُ لِجَمِيعِ السّامِعِينَ؛ فَدَخَلَ فِيهِ الكافِرُونَ، وهُمُ المَقْصُودُ الأوَّلُ مِن هَذا الخِطابِ، لِأنَّهُ تَعْلِيمٌ وإيقاظٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ، وتَذْكِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلى المُؤْمِنِينَ.