موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الأحد 25 شوال 1445 هجرية الموافق ل05 ماي 2024


الآية [80] من سورة  

إِنِّے وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلذِے فَطَرَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضَ حَنِيفاٗۖ وَمَآ أَنَا مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ


ركن التفسير

79 - قال (إني وجهت وجهي) قصدت بعبادتي (للذي فطر) خلق (السماوات والأرض) أي الله (حنيفا) مائلا إلى الدين القيم (وما أنا من المشركين) به

أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي "للذي فطر السموات والأرض" أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق "حنيفا" أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد ولهذا قال "وما أنا من المشركين" وقد اختلف المفسرون في هذا المقام هل هو مقام نظر أو مناظرة فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر واختاره ابن جرير مستدلا بقوله "لئن لم يهدني ربي" الآية. وقال محمد بن إسحاق قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين تخوفت عليه من نمرود بن كنعان لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه فأمر بقتل الغلمان عامئذ فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك وذكر أشياء من خوارق العادات كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة وهي القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشترى وزحل وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر ثم الزهرة فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال ومثل هذه لا تصلح للإلهية ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم ثم انتقل إلى الشمس كذلك فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما يقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع "قال يا قوم إني بريء مما تشركون" أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن فإن كانت آلهة فكيدون بها جميعا ثم لا تنظرون "إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين" أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه كما قال تعالى "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرا في هذا المقام وهو الذي قال الله في حقه "ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون" الآيات وقال تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقال تعالى "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "كل مولود يولد على الفطرة" وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قال الله إني خلقت عبادي حنفاء".وقال الله في كتابه العزيز "فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" وقال تعالى "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" ومعناه على أحد القولين كقوله "فطرت الله التي فطر الناس عليها" كما سيأتي بيانه فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ناظرا في هذا المقام بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى.

(p-٣١٧)﴿فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ ﴿فَلَمّا رَأى القَمَرَ بازِغًا قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ﴾ ﴿فَلَمّا رَأى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذا رَبِّي هَذا أكْبَرُ فَلَمّا أفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ ﴿إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأرْضَ حَنِيفًا وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ . ﴿فَلَمّا جَنَّ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأنعام: ٧٥] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿رَأى كَوْكَبًا﴾ فَإنَّ الكَوْكَبَ مِن مَلَكُوتِ السَّماواتِ، وقَوْلِهِ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ ﴿نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأنعام: ٧٥] . فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الخاصَّةُ الَّتِي اهْتَدى بِها إلى طَرِيقٍ عَجِيبٍ في إبْكاتٍ لِقَوْمِهِ مُلْجِئٌ إيّاهم لِلِاعْتِرافِ بِفَسادِ مُعْتَقَدِهِمْ، هي فَرْعٌ مِن تِلْكَ الإراءَةِ الَّتِي عَمَّتْ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ، لِأنَّ العَطْفَ بِالفاءِ يَسْتَدْعِي مَزِيدَ الِاتِّصالِ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِما في مَعْنى الفاءِ مِنَ التَّفْرِيعِ والتَّسَبُّبِ، ولِذَلِكَ نَعُدُّ جَعْلَ الزَّمَخْشَرِيَّ ﴿فَلَمّا جَنَّ﴾ عَطْفًا عَلى قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ، وجَعْلَهُ ما بَيْنَهُما اعْتِراضًا، غَيْرَ رَشِيقٍ. وقَوْلُهُ ﴿جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ أيْ أظْلَمَ اللَّيْلُ إظْلامًا عَلى إبْراهِيمَ، أيْ كانَ إبْراهِيمُ مَحُوطًا بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وهو يَقْتَضِي أنَّهُ كانَ تَحْتَ السَّماءِ ولَمْ يَكُنْ في بَيْتٍ. ويُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿قالَ يا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ أنَّهُ كانَ سائِرًا مَعَ فَرِيقٍ مِن قَوْمِهِ يُشاهِدُونَ الكَواكِبَ، وقَدْ كانَ قَوْمُ إبْراهِيمَ صابِئِينَ يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ ويُصَوِّرُونَ لَها أصْنامًا. وتِلْكَ دِيانَةُ الكِلْدانِيِّينَ قَوْمِ إبْراهِيمَ. (p-٣١٨)يُقالُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ، أيْ أخْفاهُ، وجَنانُ اللَّيْلِ بِفَتْحِ الجِيمِ، وجَنَّهُ: سَتْرُهُ الأشْياءَ المَرْئِيَّةَ بِظَلامِهِ الشَّدِيدِ. يُقالُ: جِنَّهُ اللَّيْلُ، وهو الأصْلُ. ويُقالُ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وهَذا يُقْصَدُ بِهِ المُبالَغَةُ في السَّتْرِ بِالظُّلْمَةِ حَتّى صارَتْ كَأنَّها غِطاءٌ، ومَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ في كَلامِهِمْ جَنَّ اللَّيْلُ قاصِرًا بِمَعْنى أظْلَمَ. وظاهِرُ قَوْلِهِ ﴿رَأى كَوْكَبًا﴾ أنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ رُؤْيَةُ الكَواكِبِ عَرَضًا مِن غَيْرِ قَصْدٍ لِلتَّأمُّلِ وإلّا فَإنَّ الأُفُقَ في اللَّيْلِ مَمْلُوءٌ كَواكِبَ، وأنَّ الكَوْكَبَ كانَ حِينَ رَآهُ واضِحًا في السَّماءِ مُشْرِقًا بِنُورِهِ، وذَلِكَ أنْوَرُ ما يَكُونُ في وسَطِ السَّماءِ. فالظّاهِرُ أنَّهُ رَأى كَوْكَبًا مِن بَيْنِها شَدِيدَ الضَّوْءِ. فَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ أنَّ الكَوْكَبَ هو الزُّهَرَةُ. وعَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ المُشْتَرِي. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَظَرَ الكَواكِبَ فَرَأى كَوْكَبًا فَيَكُونُ في الكَلامِ إيجازُ حَذْفٍ مِثْلُ ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣]، أيْ فَضَرَبَ فانْفَلَقَ. وجُمْلَةُ رَأى كَوْكَبًا جَوابُ لَمّا. والكَوْكَبُ: النَّجْمُ. وجُمْلَةُ ﴿قالَ هَذا رَبِّي﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا جَوابًا لِسُؤالٍ يَنْشَأُ عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿رَأى كَوْكَبًا﴾ وهو أنْ يَسْألَ سائِلٌ: فَماذا كانَ عِنْدَما رَآهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿قالَ هَذا رَبِّي﴾ جَوابًا لِذَلِكَ. واسْمُ الإشارَةِ هُنا لِقَصْدِ تَمْيِيزِ الكَوْكَبِ مِن بَيْنِ الكَواكِبِ ولَكِنَّ إجْراءَهُ عَلى نَظِيرَيْهِ في قَوْلِهِ حِينَ رَأى القَمَرَ وحِينَ رَأى الشَّمْسَ هَذا رَبِّي، هَذا رَبِّي يُعَيِّنُ أنْ يَكُونَ القَصْدُ الأصْلِيُّ مِنهُ هو الكِنايَةُ بِالإشارَةِ عَنْ كَوْنِ المُشارِ إلَيْهِ أمْرًا مَطْلُوبًا مَبْحُوثًا عَنْهُ فَإذا عُثِرَ عَلَيْهِ أُشِيرَ إلَيْهِ، وذَلِكَ كالإشارَةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتابِ اللَّهِ إلى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذا يَوْمُ البَعْثِ﴾ [الروم: ٥٦]، وقَوْلِهِ ﴿قالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ [يوسف: ٣٢] ولَمْ يُقَلْ فَهو الَّذِي لُمْتُنَّنِي. ولَعَلَّ مِنهُ قَوْلَهُ ﴿هَذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إلَيْنا﴾ [يوسف: ٦٥] إذْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلى ﴿بِضاعَتُنا رُدَّتْ إلَيْنا﴾ [يوسف: ٦٥] . وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ قالَ الأحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ ذَهَبْتُ لِأنْصُرَ هَذا الرَّجُلَ يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ ولَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأنَّ عَلِيًّا وشَأْنُهُ هو الجارِي في خَواطِرِ النّاسِ أيّامَ صِفِّينَ، وسَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] يَعْنِي كُفّارَ قُرَيْشٍ، وفي حَدِيثِ سُؤالِ القَبْرِ: «فَيُقالُ لَهُ ما عِلْمُكَ» (p-٣١٩)بِهَذا الرَّجُلِ (يَعْنِي الرَّسُولَ ﷺ)، وهَذا مِنَ الأغْراضِ الدّاعِيَةِ لِلتَّعْرِيفِ بِاسْمِ الإشارَةِ الَّتِي أهْمَلَها عُلَماءُ البَلاغَةِ فَيَصِحُّ هُنا أنْ يُجْعَلَ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنَيَيْهِ الصَّرِيحِ والكِنايَةِ. وتَعْرِيفُ الجُزْأيْنِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ: هَذا رَبٌّ. فَدَلَّ عَلى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أرادَ اسْتِدْراجَ قَوْمِهِ فابْتَدَأ بِإظْهارِ أنَّهُ لا يَرى تَعَدُّدَ الآلِهَةِ لِيَصِلَ بِهِمْ إلى التَّوْحِيدِ واسْتَبْقى واحِدًا مِن مَعْبُوداتِهِمْ فَفَرَضَ اسْتِحْقاقَهُ الإلَهِيَّةَ كَيْلا يَنْفِرُوا مِنَ الإصْغاءِ إلى اسْتِدْلالِهِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ قالَ إنَّهُ خاطَبَ بِذَلِكَ غَيْرَهُ، لِأنَّ القَوْلَ حَقِيقَتُهُ الكَلامُ، وإنَّما يُساقُ الكَلامُ إلى مُخاطَبٍ. ولِذَلِكَ كانَتْ حَقِيقَةُ القَوْلِ هي ظاهِرُ الآيَةِ مِن لَفْظِها ومِن تَرْتِيبِ نَظْمِها إذْ رَتَّبَ قَوْلَهُ ﴿فَلَمّا جَنَّ﴾ عَلى قَوْلِهِ ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأنعام: ٧٥] وقَوْلِهِ ﴿ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] ورَتَّبَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلى قَوْلِهِ ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ آزَرَ أتَتَّخِذُ أصْنامًا آلِهَةً﴾ [الأنعام: ٧٤] الآيَةَ، ولِقَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ هَذا رَبِّي﴾ وإنَّما يَقُولُهُ لِمُخاطَبٍ، ولِقَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ ﴿يا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾، ولِأنَّهُ اقْتَصَرَ عَلى إبْطالِ كَوْنِ الكَواكِبِ آلِهَةً واسْتَدَلَّ بِهِ عَلى بَراءَتِهِ مِمّا يُشْرِكُونَ مَعَ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن بُطْلانِ إلَهِيَّةِ الكَواكِبِ بُطْلانُ إلَهِيَّةِ أجْرامٍ أُخْرى لَوْلا أنَّ ذَلِكَ هو مُدَّعى قَوْمِهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ المُجادَلَةِ لِقَوْمِهِ وإرْخاءِ العِنانِ لَهم لِيَصِلُوا إلى تَلَقِّي الحُجَّةِ ولا يَنْفِرُوا مِن أوَّلِ وهْلَةٍ فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ جَمْعًا مِن قَوْمِهِ وأرادَ الِاسْتِدْلالَ عَلَيْهِمْ. وقَوْلُهُ ﴿هَذا رَبِّي﴾ أيْ خالِقِي ومُدَبِّرِي فَهو مُسْتَحِقٌّ عِبادَتِي. قالَهُ عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ جَرْيًا عَلى مُعْتَقَدِ قَوْمِهِ لِيَصِلَ بِهِمْ إلى نَقْضِ اعْتِقادِهِمْ فَأظْهَرَ أنَّهُ مُوافِقٌ لَهم لِيَهَشُّوا إلى ذَلِكَ ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِمْ بِالإبْطالِ إظْهارًا لِلْإنْصافِ وطَلَبِ الحَقِّ. ولا يَرِيبُكَ في هَذا أنَّ صُدُورَ ما ظاهِرُهُ كُفْرٌ عَلى لِسانِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّهُ لَمّا رَأى أنَّهُ ذَلِكَ طَرِيقٌ إلى إرْشادِ قَوْمِهِ وإنْقاذِهِمْ مِنَ الكُفْرِ، واجْتَهَدَ فَرَآهُ أرْجى لِلْقَبُولِ عِنْدَهم ساغَ لَهُ التَّصْرِيحُ بِهِ لِقَصْدِ الوُصُولِ إلى الحَقِّ وهو لا يَعْتَقِدُهُ، ولا يَزِيدُ قَوْلُهُ هَذا قَوْمَهُ كُفْرًا، كالَّذِي يُكْرَهُ عَلى أنْ يَقُولَ (p-٣٢٠)كَلِمَةَ الكُفْرِ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ فَإنَّهُ إذا جازَ ذَلِكَ لِحِفْظِ نَفْسٍ واحِدَةٍ وإنْقاذِها مِنَ الهَلاكِ كانَ جَوازُهُ لِإنْقاذِ فَرِيقٍ مِنَ النّاسِ مِنَ الهَلاكِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ أوْلى. وقَدْ يَكُونُ فِعْلُ ذَلِكَ بِإذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِالوَحْيِ. وعَلى هَذا فالآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ وأنَّهم عَلى دِينِ الصّابِئَةِ وقَدْ كانَ ذَلِكَ الدِّينُ شائِعًا في بُلْدانِ الكِلْدانِ الَّتِي نَشَأ فِيها إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وأنَّ الأصْنامَ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها أرادُوا بِها أنَّها صُوَرٌ لِلْكَواكِبِ وتَماثِيلُ لَها عَلى حَسَبِ تَخَيُّلاتِهِمْ وأساطِيرِهِمْ مِثْلَما كانَ عَلَيْهِ اليُونانُ القُدَماءُ، ويُحْتَمَلُ أنَّهم عَبَدُوا الكَواكِبَ وعَبَدُوا صُوَرًا أُخْرى عَلى أنَّها دُونَ الكَواكِبِ كَما كانَ اليُونانُ يُقَسِّمُونَ المَعْبُوداتِ إلى آلِهَةٍ وأنْصافِ آلِهَةٍ. عَلى أنَّ الصّابِئَةَ يَعْتَقِدُونَ أنَّ الكَواكِبَ رُوحانِيّاتٌ تَخْدِمُها. وأفَلَ النَّجْمُ أُفُولًا: غابَ، والأُفُولُ خاصٌّ بِغِيابِ النَّيِّراتِ السَّماوِيَّةِ، يُقالُ: أفَلَ النَّجْمُ وأفَلَتِ الشَّمْسُ، وهو المَغِيبُ الَّذِي يَكُونُ بِغُرُوبِ الكَوْكَبِ وراءَ الأُفُقِ بِسَبَبِ الدَّوْرَةِ اليَوْمِيَّةِ لِلْكُرَةِ الأرْضِيَّةِ، فَلا يُقالُ: أفَلَتِ الشَّمْسُ أوْ أفَلَ النَّجْمُ إذا احْتَجَبَ بِسَحابٍ. وقَوْلُهُ ”لا أُحِبُّ“ الحُبُّ فِيهِ بِمَعْنى الرِّضى والإرادَةِ، أيْ لا أرْضى بِالآفِلِ إلَهًا، أوْ لا أُرِيدُ الآفِلَ إلَهًا. وقَدْ عُلِمَ أنَّ مُتَعَلِّقَ المَحَبَّةِ هو إرادَتُهُ إلَهًا لَهُ بِقَوْلِهِ هَذا رَبِّي. وإطْلاقُ المُحِبَّةِ عَلى الإرادَةِ شائِعٌ في الكَلامِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ [التوبة: ١٠٨] . وقَدَّرَهُ في الكَشّافِ بِحَذْفِ مُضافٍ، أيْ لا أُحِبُّ عِبادَةَ الآفِلِينَ. وجاءَ بِـ الآفِلِينَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الذُّكُورِ العُقَلاءِ المُخْتَصِّ بِالعُقَلاءِ بِناءً عَلى اعْتِقادِ قَوْمِهِ أنَّ الكَواكِبَ عاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ في الأكْوانِ، ولا يَكُونُ المَوْجُودُ مَعْبُودًا إلّا وهو عالِمٌ. ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِالأُفُولِ عَلى عَدَمِ اسْتِحْقاقِ الإلَهِيَّةِ أنَّ الأُفُولَ مَغِيبٌ وابْتِعادٌ عَنِ النّاسِ، وشَأْنُ الإلَهِ أنْ يَكُونَ دائِمَ المُراقَبَةِ لِتَدْبِيرِ عِبادِهِ فَلَمّا أفَلَ النَّجْمُ كانَ في حالَةِ أُفُولِهِ مَحْجُوبًا عَنِ الِاطِّلاعِ عَلى النّاسِ، وقَدْ بَنى هَذا الِاسْتِدْلالَ عَلى ما هو شائِعٌ عِنْدَ القَوْمِ مِن كَوْنِ أُفُولِ النَّجْمِ مَغِيبًا عَنْ هَذا العالَمِ، يَعْنِي أنَّ ما يَغِيبُ لا يَسْتَحِقُّ أنْ يُتَّخَذَ إلَهًا (p-٣٢١)لِأنَّهُ لا يُغْنِي عَنْ عِبادِهِ فِيما يَحْتاجُونَهُ حِينَ مَغِيبِهِ. ولَيْسَ الِاسْتِدْلالُ مَنظُورًا فِيهِ إلى التَّغَيُّرِ لِأنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ المُلازَمَةَ بَيْنَ التَّغَيُّرِ وانْتِفاءِ صِفَةِ الإلَهِيَّةِ، ولِأنَّ الأُفُولَ لَيْسَ بِتَغَيُّرٍ في ذاتِ الكَوْكَبِ بَلْ هو عَرَضٌ لِلْأبْصارِ المُشاهِدَةِ لَهُ، أمّا الكَوْكَبُ فَهو باقٍ في فَلَكِهِ ونِظامِهِ يَغِيبُ ويَعُودُ إلى الظُّهُورِ وقَوْمُ إبْراهِيمَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَلا يَكُونُ ذَلِكَ مُقْنِعًا لَهم. ولِأجْلِ هَذا احْتَجَّ بِحالَةِ الأُفُولِ دُونَ حالَةِ البُزُوغِ فَإنَّ البُزُوغَ وإنْ كانَ طَرَأ بَعْدَ أُفُولٍ لَكِنَّ الأُفُولَ السّابِقَ غَيْرُ مُشاهَدٍ لَهم فَكانَ الأُفُولُ أخْصَرَ في الِاحْتِجاجِ مِن أنْ يَقُولَ إنَّ هَذا البازِغَ كانَ مِن قَبْلُ آفِلًا. وقَوْلُهُ ﴿فَلَمّا رَأى القَمَرَ بازِغًا﴾ إلخ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْها الكَلامُ. والتَّقْدِيرُ: فَطَلَعَ القَمَرُ فَلَمّا رَآهُ بازِغًا، فَحُذِفَتِ الجُمْلَةُ لِلْإيجازِ وهو يَقْتَضِي أنَّ القَمَرَ طَلَعَ بَعْدَ أُفُولِ الكَوْكَبِ، ولَعَلَّهُ اخْتارَ لِمُحاجَّةِ قَوْمِهِ الوَقْتَ الَّذِي يُغْرِبُ فِيهِ الكَوْكَبُ ويَطْلُعُ بِقُرْبِ ذَلِكَ، وأنَّهُ كانَ آخِرَ اللَّيْلِ لِيَعْقُبَهُما طُلُوعُ الشَّمْسِ. وأظْهَرَ اسْمَ القَمَرَ لِأنَّهُ حَذَفَ مُعادَ الضَّمِيرِ. والبازِغُ: الشّارِقُ في ابْتِداءِ شُرُوقِهِ، والبُزُوغُ ابْتِداءُ الشُّرُوقِ. وقَوْلُهُ هَذا رَبِّي أفادَ بِتَعْرِيفِ الجُزْأيْنِ أنَّهُ أكْثَرُ ضَوْءًا مِنَ الكَوْكَبِ فَإذا كانَ اسْتِحْقاقُ الإلَهِيَّةِ بِسَبَبِ النُّورِ فالَّذِي هو أشَدُّ نُورًا أوْلى بِها مِنَ الأضْعَفِ. واسْمُ الإشارَةِ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ الكِنائِيِّ خاصَّةً وهو كَوْنُ المُشارِ إلَيْهِ مَطْلُوبًا مَبْحُوثًا عَنْهُ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا. وقَوْلُهُ ﴿فَلَمّا أفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ﴾ قَصَدَ بِهِ تَنْبِيهَ قَوْمِهِ لِلنَّظَرِ في مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الحَقِّ وأنَّهُ واحِدٌ، وأنَّ الكَوْكَبَ والقَمَرَ كِلَيْهِما لا يَسْتَحِقّانِ ذَلِكَ مَعَ أنَّهُ عَرَّضَ في كَلامِهِ بِأنَّ لَهُ رَبًّا يَهْدِيهِ وهم لا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأنَّهم قائِلُونَ بِعِدَّةِ أرْبابٍ. وفي هَذا تَهْيِئَةٌ لِنُفُوسِ قَوْمِهِ لِما عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرَ الكَواكِبِ. ثُمَّ عَرَّضَ بِقَوْمِهِ أنَّهم ضالُّونَ وهَيَّأهم قَبْلَ المُصارَحَةِ لِلْعِلْمِ بِأنَّهم ضالُّونَ، لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿لَأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ﴾ يُدْخِلُ عَلى (p-٣٢٢)نُفُوسِهِمُ الشَّكَّ في مُعْتَقَدِهِمْ أنْ يَكُونَ ضَلالًا، ولِأجْلِ هَذا التَّعْرِيضِ لَمْ يَقُلْ: لَأكُونَنَّ ضالًّا، وقالَ ﴿لَأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضّالِّينَ﴾ لِيُشِيرَ إلى أنَّ في النّاسِ قَوْمًا ضالِّينَ، يَعْنِي قَوْمَهُ. وإنَّما تَرَيَّثَ إلى أُفُولِ القَمَرِ فاسْتَدَلَّ بِهِ عَلى انْتِفاءِ الهَيْئَةِ ولَمْ يَنْفِها عَنْهُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِ بازِغًا مَعَ أنَّ أُفُولَهُ مُحَقَّقٌ بِحَسْبِ المُعْتادِ لِأنَّهُ أرادَ أنْ يُقِيمَ الِاسْتِدْلالَ عَلى أساسِ المُشاهَدَةِ عَلى ما هو المَعْرُوفُ في العُقُولِ لِأنَّ المُشاهَدَةَ أقْوى. وقَوْلُهُ ﴿فَلَمّا رَأى الشَّمْسَ بازِغَةً﴾ أيْ في الصَّباحِ بَعْدَ أنْ أفَلَ القَمَرُ، وذَلِكَ في إحْدى اللَّيالِي الَّتِي يَغْرُبُ فِيها القَمَرُ قُبَيْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ كُلَّهُ وقَعَ في مَجْلِسٍ واحِدٍ. وقَوْلُهُ لِلشَّمْسِ هَذا رَبِّي باسِمِ إشارَةِ المُذَكَّرِ مَعَ أنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي مَجْرى المُؤَنَّثِ، لِأنَّهُ اعْتَبَرَها رَبًّا، فَرُوعِيَ في الإشارَةِ مَعْنى الخَبَرِ، فَكَأنَّهُ قالَ: هَذا الجِرْمُ الَّذِي تَدْعُونَهُ الشَّمْسَ تَبَيَّنَ أنَّهُ هو رَبِّي. وجُمْلَةُ ”هَذا أكْبَرُ“ جارِيَةٌ مَجْرى العِلَّةِ لِجُمْلَةِ ”هَذا رَبِّي“ المُقْتَضِيَةِ نَقْضَ رُبُوبِيَّةِ الكَوْكَبِ والقَمَرِ وحَصْرَ الرُّبُوبِيَّةِ في الشَّمْسِ ونَفْيَها عَنِ الكَوْكَبِ والقَمَرِ، ولِذَلِكَ حُذِفَ المُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ، أيْ هو أكْبَرُ مِنهُما، يَعْنِي أنَّ الأكْبَرَ الأكْثَرَ إضاءَةً أوْلى بِاسْتِحْقاقِ الإلَهِيَّةِ. وقَوْلُهُ ﴿قالَ يا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾، إقْناعٌ لَهم بِأنْ لا يُحاوِلُوا مُوافَقَتَهُ إيّاهم عَلى ضَلالِهِمْ لِأنَّهُ لَمّا انْتَفى اسْتِحْقاقُ الإلَهِيَّةِ عَنْ أعْظَمِ الكَواكِبِ الَّتِي عَبَدُوها فَقَدِ انْتَفى عَمّا دُونَها بِالأحْرى. والبَرِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ مِن بَرِئَ بِكَسْرِ الرّاءِ لا غَيْرَ يَبْرَأُ بِفَتْحِ الرّاءِ لا غَيْرَ بِمَعْنى تَفَصّى وتَنَزَّهَ ونَفى المُخالَطَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَجْرُورِ بِـ (مِن) . ومِنهُ ﴿أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٣] و﴿فَبَرَّأهُ اللَّهُ مِمّا قالُوا﴾ [الأحزاب: ٦٩] و﴿ما أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ [يوسف: ٥٣] . فَمَعْنى قَوْلِهِ بَرِيءٌ هُنا أنَّهُ لا صِلَةَ بَيْنِهِ وبَيْنَ ما يُشْرِكُونَ. والصِّلَةُ في هَذا المَقامِ هي العِبادَةُ إنْ كانَ ما يُشْرِكُونَ مُرادًا بِهِ الأصْنامُ، أوْ هي التَّلَبُّسُ والِاتِّباعُ إنْ كانَ ما يُشْرِكُونَ بِمَعْنى الشِّرْكِ. (p-٣٢٣)والأظْهَرُ أنَّ ما في قَوْلِهِ ما تُشْرِكُونَ مَوْصُولَةٌ وأنَّ العائِدَ مَحْذُوفٌ لِأجْلِ الفاصِلَةِ، أيْ ما تُشْرِكُونَ بِهِ، كَما سَيَأْتِي في قَوْلِهِ ﴿ولا أخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ [الأنعام: ٨٠] لِأنَّ الغالِبَ في فِعْلِ البَراءَةِ أنْ يَتَعَلَّقَ بِالذَّواتِ، ولِئَلّا يَتَكَرَّرَ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ . ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما مَصْدَرِيَّةً، أيْ مِن إشْراكِكم، أيْ لا أتَقَلَّدُهُ. وتَسْمِيَتُهُ عِبادَتَهُمُ الأصْنامَ إشْراكًا لِأنَّ قَوْمَهُ كانُوا يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ ويُشْرِكُونَ مَعَهُ في الإلَهِيَّةِ غَيْرَهُ كَما كانَ إشْراكُ العَرَبِ وهو ظاهِرُ آيِ القُرْآنِ حَيْثُ ورَدَ فِيها الِاحْتِجاجُ عَلَيْهِمْ بِخالِقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وهو المُناسِبُ لِضَرْبِ المَثَلِ لِمُشْرِكِي العَرَبِ بِشَأْنِ إبْراهِيمَ وقَوْمِهِ، ولِقَوْلِهِ الآتِي ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] . وجُمْلَةُ ﴿إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ﴾ بِمَنزِلَةِ بَدَلِ الِاشْتِمالِ مِن جُمْلَةِ ﴿إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾، لِأنَّ البَراءَةَ مِنَ الإشْراكِ تَشْتَمِلُ عَلى تَوْجِيهِ الوَجْهِ إلى اللَّهِ، وهو إفْرادُهُ بِالعِبادَةِ. والوَجْهُ في قَوْلِهِ وجْهِي حَقِيقَةٌ. ووَجَّهْتُ مُشْتَقٌّ مِنَ الجِهَةِ والوِجْهَةِ، أيْ صَرَفْتُهُ إلى جِهَةٍ، أيْ جَعَلْتُ كَذا جِهَةً لَهُ يَقْصِدُها. يُقالُ: وجَّهَهُ فَتَوَجَّهَ إلى كَذا إذا ذَهَبَ إلَيْهِ. ويُقالُ لِلْمَكانِ المَقْصُودِ وِجْهَةٌ بِكَسْرِ الواوِ، وكَأنَّهم صاغُوهُ عَلى زِنَةِ الهَيْئَةِ مِنَ الوَجْهِ لِأنَّ القاصِدَ إلى مَكانٍ يَقْصِدُهُ مِن نَحْوِ وجْهِهِ، وفَعَلُوهُ عَلى زِنَةِ الفِعْلَةِ بِكَسْرِ الفاءِ لِأنَّ قاصِدَ المَكانِ بِوَجْهِهِ تَحْصُلُ هَيْئَةٌ في وجْهِهِ وهي هَيْئَةُ العَزْمِ وتَحْدِيقِ النَّظَرِ. فَمَعْنى ﴿وجَّهْتُ وجْهِيَ﴾ صَرَفْتُهُ وأدَرْتُهُ. وهَذا تَمْثِيلٌ: شُبِّهَتْ حالَةُ إعْراضِهِ عَنِ الأصْنامِ وقَصْدِهِ إلى إفْرادِ اللَّهِ تَعالى بِالعِبادَةِ بِمَنِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ شَيْئًا وقَصَدَهُ وانْصَرَفَ عَنْ غَيْرِهِ. وأُتِيَ بِالمَوْصُولِ في قَوْلِهِ ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ لِيُومِئَ إلى عِلَّةِ تَوَجُّهِهِ إلى عِبادَتِهِ، لِأنَّ الكَواكِبَ مِن مَوْجُوداتِ السَّماءِ، والأصْنامَ مِن مَوْجُوداتِ الأرْضِ فَهي مَفْطُورَةٌ لِلَّهِ تَعالى. وفِعْلُ وجَّهَ يَتَعَدّى إلى المَكانِ المَقْصُودِ بِإلى، وقَدْ يَتَعَدّى بِاللّامِ إذا أُرِيدَ أنَّهُ انْصَرَفَ لِأجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيَحْسُنُ ذَلِكَ إذا كانَ الشَّيْءُ المَقْصُودُ مُراعًى إرْضاؤُهُ (p-٣٢٤)وطاعَتُهُ كَما تَقُولُ: تَوَجَّهْتُ لِلْحَبِيبِ، ولِذَلِكَ اخْتِيرَ تَعَدِّيهِ هُنا بِاللّامِ، لِأنَّ في هَذا التَّوَجُّهِ إرْضاءً وطاعَةً. وفَطَرَ: خَلَقَ، وأصْلُ الفَطْرِ الشَّقُّ. يُقالُ فُطِرَ فُطُورًا إذا شُقَّ قالَ تَعالى ﴿فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾ [الملك: ٣] أيِ اخْتِلالٍ، شَبَّهَ الخَلْقَ بِصِناعَةِ الجِلْدِ ونَحْوِهِ، فَإنَّ الصّانِعَ يَشُقُّ الشَّيْءَ قَبْلَ أنْ يَصْنَعَهُ، وهَذا كَما يُقالُ: الفَتْقُ والفَلْقُ، فَأُطْلِقَ الفَطْرُ عَلى إيجادِ الشَّيْءِ وإبْداعِهِ عَلى هَيْئَةٍ تُؤَهِّلُ لِلْفِعْلِ. و”حَنِيفًا“ حالٌ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ في وجَّهْتُ. وتَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ [البقرة: ١٣٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وجُمْلَةُ ﴿وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى الحالِ، نَفى عَنْ نَفْسِهِ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالمُشْرِكِينَ وفي عِدادِهِمْ. فَلَمّا تَبَرَّأ مِن أصْنامِهِمْ تَبَرَأ مِنَ القَوْمِ، وقَدْ جَمَعَهُما أيْضًا في سُورَةِ المُمْتَحَنَةِ إذْ قالَ ﴿إنّا بُرَآءُ مِنكم ومِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الممتحنة: ٤] . وأفادَتْ جُمْلَةُ ﴿وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ تَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ ﴿إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأرْضَ حَنِيفًا﴾، وإنَّما عُطِفَتْ لِأنَّها قُصِدَ مِنها التَّبَرُّؤُ مِن أنْ يَكُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ. وهَذا قَدْ جَرَيْنا فِيهِ عَلى أنَّ قَوْلَ إبْراهِيمَ لَمّا رَأى النَّيِّراتِ ”هَذا رَبِّي“ هو مُناظَرَةٌ لِقَوْمِهِ واسْتِدْراجٌ لَهم، وأنَّهُ كانَ مُوقِنًا بِنَفْيِ إلَهِيَّتِها، وهو المُناسِبُ لِصِفَةِ النُّبُوءَةِ أنْ يَكُونَ أُوحِيَ إلَيْهِ بِبُطْلانِ الإشْراكِ وبِالحُجَجِ الَّتِي احْتَجَّ بِها عَلى قَوْمِهِ. ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن قالَ: إنَّ كَلامَهُ ذَلِكَ كانَ نَظَرًا واسْتِدْلالًا في نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾، فَإنَّهُ يُشْعِرُ بِأنَّهُ في ضَلالٍ لِأنَّهُ طَلَبُ هِدايَةٍ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبالِ أيْ لِأجْلِ أداةِ الشَّرْطِ، ولَيْسَ هَذا بِمُتَعَيِّنٍ لِأنَّهُ قَدْ يَقُولُهُ لِتَنْبِيهِ قَوْمِهِ إلى أنَّ لَهم رَبًّا بِيَدِهِ الهِدايَةُ، كَما بَيَّنّاهُ في مَوْضِعِهِ، فَيَكُونُ كَلامُهُ مُسْتَعْمَلًا في التَّعْرِيضِ. عَلى أنَّهُ قَدْ يَكُونُ أيْضًا مُرادًا بِهِ الدَّوامُ عَلى الهِدايَةِ والزِّيادَةِ فِيها، عَلى أنَّهُ قَدْ يَكُونُ أرادَ الهِدايَةَ إلى إقامَةِ الحُجَّةِ حَتّى لا يَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ. (p-٣٢٥)فَإذا بَنَيْنا عَلى أنَّ ذَلِكَ كانَ اسْتِدْلالًا في نَفْسِهِ قَبْلَ الجَزْمِ بِالتَّوْحِيدِ فَإنَّ ذَلِكَ كانَ بِإلْهامٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأنعام: ٧٥] مَعْناهُ نُرِيهِ ما فِيها مِنَ الدَّلائِلِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ ووَحْدانِيَّتِهِ قَبْلَ أنْ نُوحِيَ إلَيْهِ ويَكُونُ قَوْلُهُ ﴿رَأى كَوْكَبًا﴾ بِمَعْنى نَظَرَ في السَّماءِ فَرَأى هَذا الكَوْكَبَ ولَمْ يَكُنْ نَظَرَ في ذَلِكَ مِن قَبْلُ، ويَكُونُ قَوْلُهُ ﴿قالَ هَذا رَبِّي﴾ قَوْلًا في نَفْسِهِ عَلى نَحْوِ ما يَتَحَدَّثُ بِهِ المُفَكِّرُ في نَفْسِهِ، وهو حَدِيثُ النَّفْسِ، كَقَوْلِ النّابِغَةِ في كَلْبِ صَيْدٍ: ؎قالَتْ لَهُ النَّفْسُ إنِّي لا أرى طَمَعًا وأنَّ مَوْلاكَ لَمْ يَسْلَمْ ولَـمْ يَصِـدِ وقَوْلِ العَجّاجِ في ثَوْرٍ وحْشِيٍّ: ؎ثُمَّ انْثَنى وقالَ في التَّفْكِـيرِ ∗∗∗ إنَّ الحَياةَ اليَوْمَ في الكُرُورِ وقَوْلِهِ هَذا رَبِّي وقَوْلِهِ ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ وقَوْلِهِ ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾ كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ في حَقائِقِهِ مِنَ الِاعْتِقادِ الحَقِيقِيِّ. وقَوْلُهُ ﴿قالَ يا قَوْمِ﴾ هو ابْتِداءُ خِطابِهِ لِقَوْمِهِ بَعْدَ أنْ ظَهَرَ الحَقُّ لَهُ فَأعْلَنَ بِمُخالَفَتِهِ قَوْمَهُ حِينَئِذٍ.


ركن الترجمة

I have truly turned my face towards Him who created the heavens and the earth: I have chosen one way and am not an idolater."

Je tourne mon visage exclusivement vers Celui qui a créé (à partir du néant) les cieux et la terre; et je ne suis point de ceux qui Lui donnent des associés.»

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :