موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
السبت 9 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل18 ماي 2024


الآية [166] من سورة  

فَلَمَّا عَتَوْا۟ عَن مَّا نُهُوا۟ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا۟ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ


ركن التفسير

166 - (فلما عتوا) تكبروا (عن) ترك (ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة) صاغرين فكانوها ، وهذا تفصيل لما قبله ، قال ابن عباس : ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة ، وقال عكرمة : لم تهلك لأنها كرهت ما فعلوه وقالت لم تعظون الخ ، وروى الحاكم عن ابن عباس : أنه رجع إليه وأعجبه

قال تعالى "فلما نسوا ما ذكروا به" أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة "أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا" أي ارتكبوا المعصية "بعذاب بئيس" فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين لأن الجزاء من جنس العمل فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيما فيذموا ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم هل كانوا من الهالكين أو من الناجين على قولين وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا" هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها أيلة فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعا في ساحل البحر فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها فمضى على ذلك ما شاء الله ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة وقالوا تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم؟ فلم يزدادوا إلا غيا وعتوا وجعلت طائفة أخرى تنهاهم فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب "لم تعظون قوما الله مهلكهم" وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى فقالوا "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" وكل قد كانوا ينهون فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم والذين قالوا معذرة إلى ربكم وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وروى العوفي عن ابن عباس عنه قريبا من هذا وقال حماد بن زيد عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال ما أدري أنجا الذين قالوا "لم تعظون قوما الله مهلكهم" أم لا؟ قال فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني حلة وقال عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج حدثني رجل عن عكرمة قال جئت ابن عباس يوما وهو يبكي وإذا المصحف في حجره فأعظمت أن أدنو منه ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك؟ قال فقال هؤلاء الورقات قال وإذا هو في سورة الأعراف قال تعرف أيلة؟ قلت نعم قال فإنه كان بها حي من اليهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضاء سمانا كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم فكانوا كذلك برهة من الدهر ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام فقالت ذلك طائفة منهم وقالت طائقة بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت فكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت وقال الأيمنون ويلكم الله ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله وقال الأيسرون "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا" قال الأيمنون "معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" أي ينتهون إن ينتهوا فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم فمضوا على الخطيئة وقال الأيمنون فقد فعلتم يا أعداء الله والله لنأتينكم الليلة في مدينتكم والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا فوضعوا سلما وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال أي عباد الله قردة والله تعادى تعاوى لها أذناب قال ففتحوا فدخلوا عليهم فعرفت القرود أنسابها من الإنس ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي فيقول ألم ننهكم عن كذا فتقول برأسها أي نعم ثم قرأ ابن عباس "فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس" قال فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها قال: قلت جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا "لم تعظون قوما الله مهلكهم" قال فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين وكذا روى مجاهد عنه وقال ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا أشهب بن عبدالعزيز عن مالك قال زعم ابن رومان أن قوله تعالى "تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم" قال كانت تأتيهم يوم السبت فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر فاتخذ لذلك رجل خيطا ووتدا فربط حوتا منها في الماء يوم السبت حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه فوجد الناس ريحه فأتوه فسألوه عن ذلك فجحدهم فلم يزالوا به حتى قال لهم فإنه جلد حوت وجدناه فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك ولا أدري لعله قال ربط حوتين فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه فوجدوا رائحة فجاءوا فسألوه فقال لهم لو شئتم صنعتم كما أصنع فقالوا له وما صنعت؟ فأخبرهم ففعلوا مثل ما فعل حتى كثر ذلك وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم فأصابهم من المسخ ما أصابهم فغدا عليهم جيرانهم ممن كانوا حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس فوجدوا المدينة مغلقة عليهم فنادوا فلم يجيبوهم فتسوروا عليهم فإذا هم قردة فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتمسح به وقد قدمنا في سورة البقرة من الآثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة. "القول الثاني" أن الساكتين كانوا من الهالكين قال محمد ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال ابتدعوا السبت فابتلوا فيه فحرمت عليهم فيه الحيتان فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل فإذا جاء السبت جاءت شرعا فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا فخزم أنفه ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه وتركه في الماء فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نهوه حتى ظهر ذلك في الأسواق ففعل علانية قال: فقالت طائفة للذين ينهونهم "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم" فقالوا نسخط أعمالهم "ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا - إلى قوله - قردة خاسئين" قال ابن عباس كانوا أثلاثا ثلث نهوا وثلث قالوا "لم تعظون قوما الله مهلكهم" وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم وهذا إسناد جيد عن ابن عباس ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين حالهم بعد ذلك والله أعلم وقوله تعالى "وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس" فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا وبئيس فيه قراءات كثيرة ومعناه في قول مجاهد الشديد وفي رواية أليم وقال قتادة موجع والكل متقارب والله أعلم وقوله "خاسئين" أي ذليلين حقيرين مهانين.

﴿وإذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهم أوْ مُعَذِّبُهم عَذابًا شَدِيدًا قالُوا مَعْذِرَةٌ إلى رَبِّكم ولَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ ﴿فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أنْجَيْنا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وأخَذْنا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَيِسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ ﴿فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ جُمْلَةُ ﴿وإذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنهُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿إذْ يَعْدُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٣] والتَّقْدِيرُ: واسْألْ بَنِي إسْرائِيلَ ﴿إذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنهُمْ﴾، فَإذْ فِيهِ اسْمُ زَمانٍ لِلْماضِي، ولَيْسَتْ ظَرْفًا، ولَها حُكْمُ (إذْ) أُخْتِها، المَعْطُوفَةِ هي عَلَيْها، فالتَّقْدِيرُ: واسْألْهم عَنْ وقْتِ قالَتْ أُمَّةٌ، أيْ عَنْ زَمَنِ قَوْلِ أُمَّةٍ مِنهم، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِمِن عائِدٌ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ اسْألْهم ولَيْسَ عائِدًا إلى القَرْيَةِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ تَوْبِيخُ بَنِي إسْرائِيلَ كُلِّهِمْ، فَإنْ كانَ هَذا القَوْلُ حَصَلَ في تِلْكَ القَرْيَةِ كَما ذَكَرُوهُ المُفَسِّرُونَ كانَ غَيْرَ مَنظُورٍ إلى حُصُولِهِ في تِلْكَ القَرْيَةِ، بَلْ مَنظُورًا إلَيْهِ بِأنَّهُ مَظْهَرٌ آخَرُ مِن مَظاهِرِ عِصْيانِهِمْ وعُتُوِّهِمْ وقِلَّةِ جَدْوى المَوْعِظَةِ (p-١٥١)فِيهِمْ، وأنَّ ذَلِكَ شَأْنٌ مَعْلُومٌ مِنهم عِنْدَ عُلَمائِهِمْ وصُلَحائِهِمْ، ولِذَلِكَ لَمّا عُطِفَتْ هَذِهِ القِصَّةُ أُعِيدَ مَعَها لَفْظُ اسْمِ الزَّمانِ فَقِيلَ ﴿وإذْ قالَتْ أُمَّةٌ﴾ ولَمْ يُقَلْ: وقالَتْ أُمَّةٌ. والأُمَّةُ الجَماعَةُ مِنَ النّاسِ المُشْتَرِكَةُ في هَذا القَوْلِ، قالَ المُفَسِّرُونَ: أنَّ أُمَّةً مِن بَنِي إسْرائِيلَ كانَتْ دائِبَةً عَلى القِيامِ بِالمَوْعِظَةِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وأمَةً كانَتْ قامَتْ بِذَلِكَ ثُمَّ أيِسَتْ مِنَ اتِّعاظِ المَوْعُوظِينَ وأيْقَنَتْ أنْ قَدْ حَقَّتْ عَلى المَوْعُوظِينَ المُصِمِّينَ آذانَهم كَلِمَةُ العَذابِ، وأُمَّةً كانَتْ سادِرَةً في غُلَوائِها، لا تَرْعَوِي عَنْ ضَلالَتِها، ولا تَرْقُبُ اللَّهَ في أعْمالِها. وقَدْ أجْمَلَتِ الآيَةُ ما كانَ مِنَ الأُمَّةِ القائِلَةِ إيجازًا في الكَلامِ، اعْتِمادًا عَلى القَرِينَةِ لِأنَّ قَوْلَهُمُ (﴿اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾) يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مُنْكِرِينَ عَلى المَوْعُوظِينَ. وأنَّهم ما عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهم إلّا بَعْدَ أنْ مارَسُوا أمْرَهم، وسَبَرُوا غَوْرَهم، ورَأوْا أنَّهم لا تُغْنِي مَعَهُمُ العِظاتُ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا بَعْدَ التَّقَدُّمِ لَهم بِالمَوْعِظَةِ. وبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ”﴿أنْجَيْنا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وأخَذْنا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَيِسٍ﴾“ إذْ جَعَلَ النّاسَ فَرِيقَيْنِ، فَعَلِمْنا أنَّ القائِلِينَ مِنَ الفَرِيقِ النّاجِي، لِأنَّهم لَيْسُوا بِظالِمِينَ. وعَلِمْنا أنَّهم يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الوَعْظِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَأعْرِضْ عَنْهم وعِظْهُمْ﴾ [النساء: ٦٣] في سُورَةِ النِّساءِ وعِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا ﴿مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٤٥] في هَذِهِ السُّورَةِ. واللّامُ في (﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾) لِلتَّعْلِيلِ، فالمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ مِن نَوْعِ العِلَلِ، والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ في مَعْنى النَّفْيِ، فَيَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ جَمِيعِ العِلَلِ الَّتِي مِن شَأْنِها أنْ يُوعَظَ لِتَحْصِيلِها. وذَلِكَ يُفْضِي إلى اليَأْسِ مِن حُصُولِ اتِّعاظِهِمْ، والمُخاطَبُ بِـ تَعِظُونَ أُمَّةً أُخْرى. ووَصْفُ القَوْمِ بِأنَّ اللَّهَ مُهْلِكُهم: مَبْنِيٌّ عَلى أنَّهم تَحَقَّقَتْ فِيهِمُ الحالُ الَّتِي أخْبَرَ اللَّهُ بِأنَّهُ يُهْلِكُ أوْ يُعَذِّبُ مَن تَحَقَّقَتْ فِيهِ، وقَدْ أيْقَنَ القائِلُونَ بِأنَّها قَدْ تَحَقَّقَتْ فِيهِمْ وأيْقَنَّ المَقُولُ لَهم بِذَلِكَ حَتّى جازَ أنْ يَصِفَهُمُ القائِلُونَ لِلْمُخاطَبِينَ بِهَذا الوَصْفِ الكاشِفِ لَهم بِأنَّهم مَوْصُوفُونَ بِالمَصِيرِ إلى أحَدِ الوَعِيدَيْنِ. واسْما الفاعِلِ في قَوْلِهِ مُهْلِكُهم أوْ مُعَذِّبُهم مُسْتَعْمَلانِ في مَعْنى الِاسْتِقْبالِ بِقَرِينَةِ المَقامِ، وبِقَرِينَةِ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الإهْلاكِ والعَذابِ، فَإنَّها تُؤْذِنُ بِأنَّ أحَدَ الأمْرَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنِ (p-١٥٢)الحُصُولِ؛ لِأنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ ولَكِنْ لا يَخْلُو حالُهم عَنْ أحَدِهِما. وفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا لِوُقُوعِها في سِياقِ المُحاوَرَةِ، كَما تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أيْ قالَ المُخاطَبُونَ بِـ (﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾) إلَخْ. والمَعْذِرَةُ - بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ الذّالِ - مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِفِعْلِ (اعْتَذَرَ) عَلى غَيْرِ قِياسٍ، ومَعْنى اعْتَذَرَ أظْهَرَ العُذْرَ - بِضَمِّ العَيْنِ وسُكُونِ الذّالِ - والعُذْرُ السَّبَبُ الَّذِي تَبْطُلُ بِهِ المُؤاخَذَةُ بِذَنْبٍ أوْ تَقْصِيرٍ، فَهو بِمَنزِلَةِ الحُجَّةِ الَّتِي يُبْدِيها المُؤاخَذُ بِذَنْبٍ لِيُظْهِرَ أنَّهُ بَرِيءٌ مِمّا نُسِبَ إلَيْهِ، أوْ مُتَأوِّلٌ فِيهِ، ويُقالُ: عَذَرَهُ إذا قَبِلَ عُذْرَهُ وتَحَقَّقَ بَراءَتَهُ، ويُعَدّى فِعْلُ الِاعْتِذارِ بِإلى لِما فِيهِ مِن مَعْنى الإنْهاءِ والإبْلاغِ. وارْتَفَعَ ”مَعْذِرَةٌ“ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ السّائِلَيْنِ لِمَ تَعِظُونَ والتَّقْدِيرُ مَوْعِظَتُنا مَعْذِرَةٌ مِنّا إلى اللَّهِ. وبِالرَّفْعِ قَرَأ الجُمْهُورُ، وقَرَأهُ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلى المَفْعُولِ لِأجْلِهِ أيْ وعَظْناهم لِأجْلِ المَعْذِرَةِ. وقَوْلُهُ ولَعَلَّهم يَتَّقُونَ عِلَّةٌ ثانِيَةٌ لِلِاسْتِمْرارِ عَلى المَوْعِظَةِ أيْ لِتَأْثِيرِ المَوْعِظَةِ فِيهِمْ بِتَكْرارِها. فالمَعْنى: أنَّ صُلَحاءَ القَوْمِ كانُوا فَرِيقَيْنِ، فَرِيقٌ مِنهم أيِسَ مِن نَجاحِ المَوْعِظَةِ وتَحَقَّقَ حُلُولَ الوَعِيدِ بِالقَوْمِ، لِتَوَغُّلِهِمْ في المَعاصِي، وفَرِيقٌ لَمْ يَنْقَطِعْ رَجاؤُهم مِن حُصُولِ أثَرِ المَوْعِظَةِ بِزِيادَةِ التَّكْرارِ، فَأنْكَرَ الفَرِيقُ الأوَّلُ عَلى الفَرِيقِ الثّانِي اسْتِمْرارَهم عَلى كُلْفَةِ المَوْعِظَةِ، واعْتَذَرَ الفَرِيقُ الثّانِي بِقَوْلِهِمْ ﴿مَعْذِرَةٌ إلى رَبِّكم ولَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ فالفَرِيقُ الأوَّلُ أخَذُوا بِالطَّرَفِ الرّاجِحِ المُوجِبِ لِلظَّنِّ، والفَرِيقُ الثّانِي أخَذُوا بِالطَّرَفِ المَرْجُوحِ جَمْعًا بَيْنَهُ وبَيْنَ الرّاجِحِ لِقَصْدِ الِاحْتِياطِ، لِيَكُونَ لَهم عُذْرًا عِنْدَ اللَّهِ إنْ سَألَهم ”لِماذا أقْلَعْتُمْ عَنِ المَوْعِظَةِ ؟“ ولِما عَسى أنْ يَحْصُلَ مِن تَقْوى المَوْعُوظِينَ بِزِيادَةِ المَوْعِظَةِ. فاسْتِعْمالُ حَرْفِ الرَّجاءِ في مَوْقِعِهِ؛ لِأنَّ الرَّجاءَ يُقالُ عَلى جِنْسِهِ بِالتَّشْكِيكِ فَمِنهُ قَوِيٌّ ومِنهُ ضَعِيفٌ. وضَمِيرُ نَسُوا عائِدٌ إلى (قَوْمًا) والنِّسْيانُ مُسْتَعْمَلٌ في الإعْراضِ المُفْضِي إلى النِّسْيانِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٤] في سُورَةِ الأنْعامِ. (p-١٥٣)و(الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) هُمُ الفَرِيقانِ المَذْكُورانِ في قَوْلِهِ آنِفًا ﴿وإذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾ إلى قَوْلِهِ ولَعَلَّهم يَتَّقُونَ، و(﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾) هُمُ القَوْمُ المَذْكُورُونَ في قَوْلِهِ (﴿قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾) إلَخْ. والظُّلْمُ هُنا بِمَعْنى العِصْيانِ، وهو ظُلْمُ النَّفْسِ وظُلْمُ حَقِّ اللَّهِ - تَعالى - في عَدَمِ الِامْتِثالِ لِأمْرِهِ. و”بِيسٍ“ قَرَأهُ نافِعٌ وأبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الباءِ المُوَحَّدَةِ مُشْبَعَةً بِياءٍ تَحْتِيَّةٍ ساكِنَةٍ وبِتَنْوِينِ السِّينِ عَلى أنَّ أصْلَهُ (بِئْسَ) بِسُكُونِ الهَمْزَةِ فَخُفِّفَتِ الهَمْزَةُ ياءً مِثْلَ قَوْلِهِمْ ذِيبٌ في ذِئْبٍ. وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ ”بِئْسٍ“ بِالهَمْزَةِ السّاكِنَةِ وإبْقاءِ التَّنْوِينِ عَلى أنَّ أصْلَهُ (بَئِيسٍ) . وقَرَأهُ الجُمْهُورُ (بَئِيسٍ) بِفَتْحِ المُوَحَّدَةِ وهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَها تَحْتِيَّةٌ ساكِنَةٌ وتَنْوِينِ السِّينِ عَلى أنَّهُ مِثالُ مُبالَغَةٍ مِن فِعْلِ (بَؤُسَ) بِفَتْحِ المُوَحَّدَةِ وضَمِّ الهَمْزَةِ إذا أصابَهُ البُؤْسُ، وهو الشِّدَّةُ مِنَ الضُّرِّ. أوْ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مِثْلُ عَذِيرٍ ونَكِيرٍ. وقَرَأهُ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ ”بَيْئَسٍ“ بِوَزْنِ صَيْقَلٍ، عَلى أنَّهُ اسْمٌ لِلْمَوْصُوفِ بِفِعْلِ البُؤْسِ، والمَعْنى، عَلى جَمِيعِ القِراءاتِ: أنَّهُ عَذابٌ شَدِيدُ الضُّرِّ. وقَوْلُهُ ﴿بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في نَظِيرِهِ قَرِيبًا. وقَدْ أُجْمِلَ هَذا العَذابُ هُنا، فَقِيلَ هو عَذابٌ غَيْرُ المَسْخِ المَذْكُورِ بَعْدَهُ وهو عَذابٌ أُصِيبَ بِهِ الَّذِينَ نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَيَكُونُ المَسْخُ عَذابًا ثانِيًا أُصِيبَ بِهِ فَرِيقٌ شاهَدُوا العَذابَ الَّذِي حَلَّ بِإخْوانِهِمْ، وهو عَذابٌ أشَدُّ، وقَعَ بَعْدَ العَذابِ البِيسِ، أيْ أنَّ اللَّهَ أعْذَرَ إلَيْهِمْ فابْتَدَأهم بِعَذابِ الشِّدَّةِ فَلَمّا لَمْ يَنْتَهُوا وعَتَوْا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَذابَ المَسْخِ. وقِيلَ العَذابُ البِئْسُ هو المَسْخُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ﴾ بَيانًا لِإجْمالِ العَذابِ البِئْسِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ ﴿فَلَمّا عَتَوْا﴾ بِمَنزِلَةِ التَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ فَلَمّا نَسُوا صِيغَ بِهَذا الأُسْلُوبِ لِتَهْوِيلِ النِّسْيانِ والعُتُوِّ، ويَكُونُ المَعْنى: أنَّ النِّسْيانَ، وهو الإعْراضُ، وقَعَ مُقارِنًا لِلْعُتُوِّ. وما ذُكِّرُوا بِهِ وما نُهُوا عَنْهُ ماصَدَقَهُما شَيْءٌ واحِدٌ، فَكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ (p-١٥٤)أنْ يُقالَ: فَلَمّا نَسُوا وعَتَوا عَمّا نُهُوا عَنْهُ وذُكِّرُوا بِهِ قُلْنا لَهم إلَخْ فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضى الظّاهِرِ إلى هَذا الأُسْلُوبِ مِنَ الإطْنابِ لِتَهْوِيلِ أمْرِ العَذابِ، وتَكْثِيرِ أشْكالِهِ، ومَقامُ التَّهْوِيلِ مِن مُقْتَضَياتِ الإطْنابِ وهَذا كَإعادَةِ التَّشْبِيهِ في قَوْلِ لَبِيدٍ: ؎فَتَنازَعا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلالُـهُ كَدُخانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرامُها ؎مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنابِتٍ عَرْفَـجِ ∗∗∗ كَدُخانِ نارٍ ساطِعٍ أسْنامُهَـا ولَكِنَّ أُسْلُوبَ الآيَةِ أبْلَغُ وأوْفَرُ فائِدَةً، وأبْعَدُ عَنِ التَّكْرِيرِ اللَّفْظِيِّ، فَما في بَيْتِ لَبِيدٍ كَلامٌ بَلِيغٌ، وما في الآيَةِ كَلامٌ مُعْجِزٌ. والعُتُوُّ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَعَقَرُوا النّاقَةَ وعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبِّهِمْ﴾ [الأعراف: ٧٧] في هَذِهِ السُّورَةِ. وقَوْلُهُ ﴿قُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكم في السَّبْتِ فَقُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ، ولِأجْلِ التَّشابُهِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ، وذِكْرِ العَدْوِ في السَّبْتِ فِيهِما، وذِكْرِهِ هُنا في الإخْبارِ عَنِ القَرْيَةِ، جَزَمَ المُفَسِّرُونَ بِأنَّ الَّذِينَ نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ وعَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ هم أهْلُ هَذِهِ القَرْيَةِ، وبِأنَّ الأُمَّةَ القائِلَةَ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا هي أُمَّةٌ مِن هَذِهِ القَرْيَةِ فَجَزَمُوا بِأنَّ القِصَّةَ واحِدَةٌ، وهَذا وإنْ كانَ لا يَنْبُو عَنْهُ المَقامُ كَما أنَّهُ لا يَمْنَعُ تَشابُهَ فَرِيقَيْنِ في العَذابِ، فَقَدْ بَيَّنْتُ أنَّ ذَلِكَ لا يُنافِي جَعْلَ القِصَّةِ في مَعْنى قِصَّتَيْنِ مِن جِهَةِ الِاعْتِبارِ.


ركن الترجمة

When they persisted in doing what they had been forbidden, We said to them: "Become (like) apes despised."

Puis, lorsqu'ils refusèrent (par orgueil) d'abandonner ce qui leur avait été interdit, Nous leur dîmes: «Soyez des singes abjects».

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :