موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
السبت 9 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل18 ماي 2024


الآية [174] من سورة  

وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ


ركن التفسير

174 - (وكذلك نفصل الآيات) نبينها مثل ما بينا الميثاق ليتدبروها (ولعلهم يرجعون) عن كفرهم

يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه قال تعالى "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله" وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" وفي رواية "على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا يونس بن الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال "ما بال أقوام يتناولون الذرية" فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين؟ فقال "إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها" قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" الآية وقد رواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري به وأخرجه النسائي في سننه من حديث هشيم بن يونس بن عبيد عن الحسن قال: حدثني الأسود بن سريع فذكره ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به قال: فيقول نعم فيقول قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي" أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به. "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير يعني ابن حازم عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلا قال "ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا - إلى قوله" المبطلون "وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه عن محمد بن عبدالرحيم صاعقة عن حسين بن محمد المروزي به ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره عن جرير بن حازم عن كلثوم بن جبير به وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير هكذا قال. وقد رواه عبدالوارث عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم عن جبير عن أبيه به وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن أبي هلال عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر وهو في أذى من الماء وقال أيضا: حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة حدثنا أبو مسعود عن جرير قال: مات ابن للضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام قال: فقال يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه وحل عنه عقده فإن ابني مجلس ومسئول ففعلت به الذي أمر فلما فرغت قلت يرحمك الله عما يسأل ابنك من يسأله إياه قال يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم قلت يا أبا القاسم وما هذا الميثاق الذي أقربه في صلب آدم. قال: حدثتي ابن عباس إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة من خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة فهذه الطرق كلها مما تقوي وقف هذا على ابن عباس والله أعلم. "حديث آخر" قال ابن جرير: حدثنا عبدالرحمن بن الوليد حدثنا أحمد بن أبي طيبة عن سفيان بن سعد عن الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم" قال أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم "ألست بربكم قالوا بلى" قالت الملائكة "شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" أحمد بن أبي طيبة هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد أخرج له النسائي في سننه وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه وقال ابن عدي: حدث بأحاديث كثيرة غرائب وقد روى هذا الحديث عبدالرحمن بن حمزة بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو. وكذا رواه ابن جرير عن منصور به وهذا أصح والله أعلم. "حديث آخر" قال الإمام أحمد: حدثنا روح هو ابن عبادة حدثنا مالك وحدثنا إسحاق حدثنا مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبدالحميد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" الآية فقال عمر بن الخطاب: سمعت صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال "إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار" وهكذا رواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة والترمذي في تفسيرهما عن إسحاق بن موسى عن معن وابن أبي حاتم عن يونس بن عبدالأعلى عن ابن وهب وابن جرير عن روح بن عبادة وسعيد بن عبدالحميد بن جعفر وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام مالك بن أنس به. قال الترمذي: وهذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع عمر كذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفي عن بقية عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبدالحميد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم" فذكره. وقال الحافظ الدارقطني وقد تابع عمر بن جعثم بن زيد بن سنان أبو فروة الرهاوي وقولهما أولى بالصواب من قول مالك والله أعلم قلت الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدا لما جهل حال نعيم ولم يعرفه فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات ومقطع كثيرا من الموصولات والله أعلم. "حديث آخر" قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية: حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه قال أي رب من هذا؟ قال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود قال رب وكم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب قد وهبت له من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته" ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين به وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه حدث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال "ثم عرضهم على آدم فقال يا آدم هؤلاء ذريتك وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم يا رب لم فعلت هذا بذريتي قال كي تشكر نعمتي وقال آدم يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا قال هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك" ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم. "حديث آخر" قال عبدالرحمن بن قتادة النضري عن أبيه عن هشام بن حكيم رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أتبدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار" رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عنه. "حديث أخر" روى جعفر بن الزبير وهو ضعيف عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال يا أصحاب اليمين فقالوا لبيك وسعديك قال ألست بربكم؟ قالوا بلى قال يا أصحاب الشمال قالوا لبيك وسعديك قال ألست بربكم؟ قالوا بلى ثم خلط بينهم فقال قائل له يا رب لم خلطت بينهم قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم" رواه ابن مردويه. "أثر آخر" قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم" الآيات قال فجمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فجعلهم في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" الآية قال فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا وإني سأرسل إليكم رسلا لينذروكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا له يومئذ بالطاعة ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال: يا رب لو سويت بين عبادك؟ قال إني أحببت أن أشكر ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة فهو الذي يقول تعالى "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم" الآية وهو الذي يقول "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله" الآية ومن ذلك قال "هذا نذير من النذر الأولى" ومن ذلك قال "وما وجدنا لأكثرهم من عهد" الآية رواه عبدالله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم من رواية ابن جعفر الرازي به وروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد من علماء السلف سياقات توافق هذه الأحاديث اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها وبالله المستعان. فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وفي حديث عبدالله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك قالوا ولهذا قال "وإذ أخذ ربك من بني آدم" ولم يقل من آدم "من ظهورهم" ولم يقل من ظهره "ذرياتهم" أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" وقال "ويجعلكم خلفاء الأرض" وقال "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين" ثم قال "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا وقالا والشهادة تارة تكون بالقول كقوله "قالوا شهدنا على أنفسنا" الآية وتارة تكون حالا كقوله تعالى "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر" أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك وكذا قوله تعالى "وإنه على ذلك لشهيد" كما أن السؤال تارة يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله "وآتاكم من كل ما سألتموه" قالوا ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه فإن قيل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ولهذا قال "أن تقولوا" أي لئلا تقولوا يوم القيامة "إنا كنا عن هذا" أي التوحيد "غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا" الآية.

﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمُ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى شَهِدْنا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ﴾ ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ ﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ هَذا كَلامٌ مَصْرُوفٌ إلى غَيْرِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَإنَّهم لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ واللَّهُ يَقُولُ ﴿أوْ تَقُولُوا إنَّما أشْرَكَ آباؤُنا مِن قَبْلُ﴾ فَهَذا انْتِقالٌ بِالكَلامِ إلى مُحاجَّةِ المُشْرِكِينَ مِنَ (p-١٦٦)العَرَبِ، وهو المَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ ابْتِداءً ونِهايَةً، فَكانَ هَذا الِانْتِقالُ بِمَنزِلَةِ رَدِّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ. جاءَ هَذا الِانْتِقالُ بِمُناسَبَةِ ذِكْرِ العَهْدِ الَّذِي أخَذَ اللَّهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ في وصِيَّةِ مُوسى، وهو مِيثاقُ الكِتابِ، وفي يَوْمِ رَفْعِ الطُّورِ، وهو عَهْدٌ حَصَلَ بِالخِطابِ التَّكْوِينِيِّ أيْ بِجَعْلِ مَعْناهُ في جِبِلَّةِ كُلِّ نَسَمَةٍ وفِطْرَتِها، فالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمَلِ السّابِقَةِ عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، والمَقْصُودُ بِهِ ابْتِداءً هُمُ المُشْرِكُونَ. وتَبَدُّلُ أُسْلُوبِ القِصَّةِ واضِحٌ إذِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ القِصَّةُ عَلى خِطابٍ في قَوْلِهِ ﴿أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، وإذْ صُرِّحَ فِيها بِمُعادِ ضَمِيرِ الغَيْبَةِ وهو قَوْلُهُ مِن بَنِي آدَمَ فَعُمُومُ المَوْعِظَةِ تابِعٌ لِعُمُومِ العِظَةِ. فَهَذا ابْتِداءٌ لِتَقْرِيعِ المُشْرِكِينَ عَلى الإشْراكِ، وما ذُكِرَ بَعْدَهُ إلى آخِرِ السُّورَةِ مُناسِبٌ لِأحْوالِ المُشْرِكِينَ. و(إذْ) اسْمٌ لِلزَّمَنِ الماضِي، وهو هُنا مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، فَهو مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ اذْكُرْ مَحْذُوفٍ. وفِعْلُ (أخَذَ) يَتَعَلَّقُ بِهِ مِن بَنِي آدَمَ وهو مُعَدًّى إلى ذُرِّيّاتِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أخَذَ رَبُّكَ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الذُّرِّيَّةِ، مِن كُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ بَنِي آدَمَ، فَيَحْصُلُ مِن ذَلِكَ أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ بَنِي آدَمَ أقَرَّ عَلى نَفْسِهِ بِالمَرْبُوبِيَّةِ لِلَّهِ - تَعالى - . و(مِن) في قَوْلِهِ (﴿مِن بَنِي آدَمَ﴾) وقَوْلِهِ (﴿مِن ظُهُورِهِمْ﴾) ابْتِدائِيَّةٌ فِيهِما. والذُّرِّيّاتُ جَمْعُ ذُرِّيَّةٍ والذُّرِّيَّةُ اسْمُ جَمْعٍ لِما يَتَوَلَّدُ مِنَ الإنْسانِ، وجَمْعُهُ هُنا لِلتَّنْصِيصِ عَلى العُمُومِ. وأخْذُ العَهْدِ عَلى الذُّرِّيَّةِ المُخْرَجِينَ مِن ظُهُورِ بَنِي آدَمَ يَقْتَضِي أخْذَ العَهْدِ عَلى الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ في ظَهْرِ آدَمَ بِدَلالَةِ الفَحْوى، وإلّا لَكانَ أبْناءُ آدَمَ الأدْنَوْنَ لَيْسُوا مَأْخُوذًا عَلَيْهِمُ العَهْدُ مَعَ أنَّهم أوْلى بِأخْذِ العَهْدِ عَلَيْهِمْ في ظَهْرِ آدَمَ. ومِمّا يُثْبِتُ هَذِهِ الدَّلالَةَ أخْبارٌ كَثِيرَةٌ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ وعَنْ جَمْعٍ مِن أصْحابِهِ، مُتَفاوِتَةٌ في القُوَّةِ غَيْرُ خالٍ واحِدٌ مِنها عَنْ مُتَكَلَّمٍ، غَيْرَ أنَّ كَثْرَتَها يُؤَيِّدُ بَعْضُها بَعْضًا، وأوْضَحُها ما رَوى مالِكٌ في المُوَطَّأِ في تَرْجَمَةِ (p-١٦٧)النَّهْيِ عَنِ القَوْلِ بِالقَدَرِ بِسَنَدِهِ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قالَ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُسْألُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ﴾ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ - تَعالى - خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ حَتّى اسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً فَقالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وبِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فاسْتَخْرَجَ مِنهُ ذُرِّيَّةً فَقالَ خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنّارِ وبِعَمَلِ أهْلِ النّارِ يَعْمَلُونَ» وساقَ الحَدِيثَ بِما لا حاجَةَ إلَيْهِ في غَرَضِنا ومَحْمَلُ هَذا الحَدِيثِ عَلى أنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَدْلُولِ الفَحْوى المَذْكُورِ، ولَيْسَ تَفْسِيرًا لِمَنطُوقِ الآيَةِ، وبِهِ صارَتِ الآيَةُ دالَّةً عَلى أمْرَيْنِ، أحَدُهُما صَرِيحٌ وهو ما أفادَهُ لَفْظُها، وثانِيهِما مَفْهُومٌ وهو فَحْوى الخِطابِ. وجاءَ في الآيَةِ أنَّ اللَّهَ أخَذَ عَلى الذُّرِّيّاتِ العَهْدَ بِالإقْرارِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ ولَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ في الحَدِيثِ، وذُكِرَ فِيهِ أنَّهُ مَيَّزَ بَيْنَ أهْلِ الجَنَّةِ وأهْلِ النّارِ مِنهم، ولَعَلَّ الحَدِيثَ اقْتِصارٌ عَلى بَيانِ ما سَألَ عَنْهُ السّائِلُ فَيَكُونُ تَفْسِيرُ الآيَةِ تَفْسِيرَ تَكْمِيلٍ لِما لَمْ يُذْكَرْ فِيها، أوْ كانَ في الحَدِيثِ اقْتِصارٌ مِن أحَدِ رُواتِهِ عَلى بَعْضِ ما سَمِعَهُ. والأخْذُ مَجازٌ في الإخْراجِ والِانْتِزاعِ قالَ اللَّهُ - تَعالى - ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أخَذَ اللَّهُ سَمْعَكم وأبْصارَكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٦] الآيَةَ. وقَوْلُهُ مِن ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِن بَنِي آدَمَ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، وقَدْ أُعِيدَ حَرْفُ الجَرِّ مَعَ البَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ﴾ [الأنعام: ٩٩] في سُورَةِ الأنْعامِ. والإشْهادُ عَلى الأنْفُسِ يُطْلَقُ عَلى ما يُساوِي الإقْرارَ أوِ الحَمْلَ عَلَيْهِ، وهو هُنا الحَمْلُ عَلى الإقْرارِ، واسْتُعِيرَ لِحالَةٍ مُغَيَّبَةٍ تَتَضَمَّنُ هَذا الإقْرارَ يَعْلَمُها اللَّهُ لِاسْتِقْرارِ مَعْنى هَذا الِاعْتِرافِ في فِطْرَتِهِمْ. والضَّمِيرُ في أشْهَدَهم عائِدٌ عَلى الذُّرِّيَّةِ بِاعْتِبارِ مَعْناهُ لِأنَّهُ اسْمٌ يَدُلُّ عَلى جَمْعٍ. والقَوْلُ في (﴿قالُوا بَلى﴾) مُسْتَعارٌ أيْضًا لِدَلالَةِ حالِهِمْ عَلى الِاعْتِرافِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ - تَعالى - . وجُمْلَةُ (﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾) مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ هو بَيانٌ لِجُمْلَةِ أشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ أيْ قَرَّرَهم بِهَذا القَوْلِ وهو مِن أمْرِ التَّكْوِينِ. والمَعْنى واحِدٌ لِأنَّ الذُّرِّيَّةَ لَمّا أُضِيفَ إلى ضَمِيرِ بَنِي آدَمَ كانَ عَلى مَعْنى التَّوْزِيعِ. (p-١٦٨)والِاسْتِفْهامُ في (﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾) تَقْرِيرِيٌّ، ومِثْلُهُ يُقالُ في تَقْرِيرِ مَن يُظَنُّ بِهِ الإنْكارُ أوْ يُنَزَّلُ مَنزِلَةَ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ يُقَرَّرُ عَلى النَّفْيِ اسْتِدْراجًا لَهُ حَتّى إذا كانَ عاقِدًا قَلْبَهُ عَلى النَّفْيِ ظَنَّ أنَّ المُقَرِّرَ يَطْلُبُهُ مِنهُ فَأقْدَمَ عَلى الجَوابِ بِالنَّفْيِ، فَأمّا إذا لَمْ يَكُنْ عاقِدًا قَلْبَهُ عَلَيْهِ فَإنَّهُ يُجِيبُ بِإبْطالِ النَّفْيِ فَيَتَحَقَّقُ أنَّهُ بَرِيءٌ مِن نَفْيِ ذَلِكَ، وعَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ ألَيْسَ هَذا بِالحَقِّ﴾ [الأحقاف: ٣٤] تَنْزِيلًا لَهم مَنزِلَةَ مَن يَظُنُّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِأنَّهم كانُوا يُنْكِرُونَهُ في الدُّنْيا، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٠] في سُورَةِ الأنْعامِ. والكَلامُ تَمْثِيلُ حالٍ مِن أحْوالِ الغَيْبِ، مِن تَسَلُّطِ أمْرِ التَّكْوِينِ الإلَهِيِّ عَلى ذَواتِ الكائِناتِ وأعْراضِها عِنْدَ إرادَةِ تَكْوِينِها، لا تَبْلُغُ النُّفُوسُ إلى تَصَوُّرِها بِالكُنْهِ، لِأنَّها وراءَ المُعْتادِ المَأْلُوفِ، فَيُرادُ تَقْرِيبُها بِهَذا التَّمْثِيلِ، وحاصِلُ المَعْنى: أنَّ اللَّهَ خَلَقَ في الإنْسانِ مِن وقْتِ تَكْوِينِهِ إدْراكَ أدِلَّةِ الوَحْدانِيَّةِ، وجَعَلَ في فِطْرَةِ حَرَكَةِ تَفْكِيرِ الإنْسانِ التَّطَلُّعَ إلى إدْراكِ ذَلِكَ وتَحْصِيلِ إدْراكِهِ إذا جَرَّدَ نَفْسَهُ مِنَ العَوارِضِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلى فِطْرَتِهِ فَتُفْسِدُها. وجُمْلَةُ قالُوا بَلى جَوابٌ عَنِ الِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِيِّ، وفُصِلَتْ لِأنَّها جاءَتْ عَلى طَرِيقَةِ المُحاوَرَةِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وأُطْلِقَ القَوْلُ إمّا حَقِيقَةً فَذَلِكَ قَوْلٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ، وإمّا مَجازًا عَلى دَلالَةِ حالِهِمْ عَلى أنَّهم مَرْبُوبُونَ لِلَّهِ - تَعالى - كَما أُطْلِقَ القَوْلُ عَلى مِثْلِهِ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] أيْ ظَهَرَتْ فِيهِما آثارُ أمْرِ التَّكْوِينِ. وقالَ أبُو النَّجْمِ: ؎قالَتْ لَهُ الطَّيْرُ تَقَدَّمْ راشِدًا إنَّكَ لا تَرْجِعُ إلّا حامِـدًا فَهُوَ مِنَ المَجازِ الَّذِي كَثُرَ في كَلامِ العَرَبِ. و(بَلى) حَرْفُ جَوابٍ لِكَلامٍ فِيهِ مَعْنى النَّفْيِ، فَيَقْتَضِي إبْطالَ النَّفْيِ وتَقْرِيرَ المَنفِيِّ، ولِذَلِكَ كانَ الجَوابُ بِها بَعْدَ النَّفْيِ أصْرَحَ مِنَ الجَوابِ بِحَرْفِ (نَعَمْ) لِأنَّ نَعَمْ تَحْتَمِلُ تَقْرِيرَ النَّفْيِ وتَقْرِيرَ المَنفِيِّ، وهَذا مَعْنى ما نُقِلَ عَنِابْنِ عَبّاسٍ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ قالَ: (p-١٦٩)لَوْ قالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا أيْ لَكانَ جَوابُهم مُحْتَمِلًا لِلْكُفْرِ، ولَمّا كانَ المَقامُ مَقامَ إقْرارٍ كانَ الِاحْتِمالُ فِيهِ تَفَصِّيًا مِنَ الِاعْتِرافِ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، ويَعْقُوبُ: ذُرِّيّاتِهِمْ، بِالجَمْعِ، وقَرَأ الباقُونَ ذُرِّيَّتَهم بِالإفْرادِ. وقَوْلُهم (شَهِدْنا) تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ (بَلى) والشَّهادَةُ هُنا أيْضًا بِمَعْنى الإقْرارِ. ووَقَعَ (أنْ تَقُولُوا) في مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِفِعْلِ الأخْذِ والإشْهادِ، فَهو عَلى تَقْدِيرِ لامِ التَّعْلِيلِ الجارَةِ، وحَذْفُها مَعَ (أنْ) جارٍ عَلى المُطَّرِدِ الشّائِعِ. والمَقْصُودُ التَّعْلِيلُ بِنَفْيِ أنْ يَقُولُوا إنّا كُنّا عَنْ هَذا غافِلِينَ لا بِإيقاعِ القَوْلِ، فَحُذِفَ حَرْفُ النَّفْيِ جَرْيًا عَلى شُيُوعِ حَذْفِهِ مَعَ القَوْلِ، أوْ هو تَعْلِيلٌ بِأنَّهم يَقُولُونَ ذَلِكَ، إنْ لَمْ يَقَعْ إشْهادُهم عَلى أنْفُسِهِمْ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ﴾ [الأنعام: ١٥٦] في سُورَةِ الأنْعامِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أنْ تَقُولُوا - بِتاءِ الخِطابِ - وقَدْ حُوِّلَ الأُسْلُوبُ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، ثُمَّ مِن خِطابِ الرَّسُولِ إلى خِطابِ قَوْمِهِ، تَصْرِيحًا بِأنَّ المَقْصُودَ مِن قِصَّةِ أخْذِ العَهْدِ تَذْكِيرُ المُشْرِكِينَ بِما أوْدَعَ اللَّهُ في الفِطْرَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وهَذا الأُسْلُوبُ هو مِن تَحْوِيلِ الخِطابِ عَنْ مُخاطَبٍ إلى غَيْرِهِ، ولَيْسَ مِنَ الِالتِفافِ لِاخْتِلافِ المُخاطَبِينَ. وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو، وحْدَهُ: بِياءِ الغَيْبَةِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى ذُرِّيّاتِ بَنِي آدَمَ. والإشارَةُ بِـ هَذا إلى مَضْمُونِ الِاسْتِفْهامِ وجَوابِهِ وهو الِاعْتِرافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ - تَعالى - عَلى تَقْدِيرِهِ بِالمَذْكُورِ. والمَعْنى: أنَّ ذَلِكَ لَمّا جُعِلَ في الفِطْرَةِ عِنْدَ التَّكْوِينِ كانَتْ عُقُولُ البَشَرِ مُنْساقَةً إلَيْهِ، فَلا يَغْفُلُ عَنْهُ أحَدٌ مِنهم فَيَعْتَذِرُ يَوْمَ القِيامَةِ، إذا سُئِلَ عَنِ الإشْراكِ، بِعُذْرِ الغَفْلَةِ، فَهَذا إبْطالٌ لِلِاعْتِذارِ بِالغَفْلَةِ، ولِذَلِكَ وقَعَ تَقْدِيرُ حَرْفِ نَفْيٍ أيْ أنْ لا تَقُولُوا إلَخْ. وعُطِفَ عَلَيْهِ الِاعْتِذارُ بِالجَهْلِ دُونَ الغَفْلَةِ بِأنْ يَقُولُوا: إنَّنا اتَّبَعْنا آباءَنا وما ظَنَنّا الإشْراكَ إلّا حَقًّا، فَلَمّا كانَ في أصْلِ الفِطْرَةِ العِلْمُ بِوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ بَطَلَ الِاعْتِذارُ (p-١٧٠)بِالجَهْلِ بِهِ، وكانَ الإشْراكُ إمّا عَنْ عَمْدٍ وإمّا عَنْ تَقْصِيرٍ وكَلاهُما لا يَنْهَضُ عُذْرًا، وكُلُّ هَذا إنَّما يَصْلُحُ لِخِطابِ المُشْرِكِينَ دُونَ بَنِي إسْرائِيلَ. ومَعْنى (وكُنّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ) كُنّا عَلى دِينِهِمْ تَبَعًا لَهم لِأنَّنا ذُرِّيَّةٌ لَهم، وشَأْنُ الذُّرِّيَّةِ الِاقْتِداءُ بِالآباءِ وإقامَةُ عَوائِدِهِمْ فَوَقَعَ إيجازٌ في الكَلامِ وأُقِيمَ التَّعْلِيلُ مَقامَ المُعَلَّلِ. و(مِن بَعْدِهِمْ) نَعْتٌ لِذُرِّيَّةٍ لِما تُؤْذِنُ بِهِ ذُرِّيَّةٌ مِنَ الخَلْفِيَّةِ والقِيامِ في مَقامِهِمْ. والِاسْتِفْهامُ في أفَتُهْلِكُنا إنْكارِيٌّ، والإهْلاكُ هُنا مُسْتَعارٌ لِلْعَذابِ، والمُبْطِلُونَ الآخِذُونَ بِالباطِلِ، وهو في هَذا المَقامِ الإشْراكُ. وفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الإيمانَ بِالإلَهِ الواحِدِ مُسْتَقِرٌّ في فِطْرَةِ العَقْلِ، لَوْ خُلِّيَ ونَفْسَهُ، وتَجَرَّدَ مِنَ الشُّبُهاتِ النّاشِئَةِ فِيهِ مِنَ التَّقْصِيرِ في النَّظَرِ، أوِ المُلْقاةِ إلَيْهِ مِن أهْلِ الضَّلالَةِ المُسْتَقِرَّةِ فِيهِمُ الضَّلالَةُ، بِقَصْدٍ أوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، ولِذَلِكَ قالَ الماتُرِيدِيُّ والمُعْتَزِلَةُ: إنَّ الإيمانَ بِالإلَهِ الواحِدِ واجِبٌ بِالعَقْلِ، ونُسِبَ إلى أبِي حَنِيفَةَ وإلى الماوَرْدِيِّ وبَعْضِ الشّافِعِيَّةِ مِن أهْلِ العِراقِ، وعَلَيْهِ انْبَتَّتْ مُؤاخَذَةُ أهْلِ الفَتْرَةِ عَلى الإشْراكِ، وقالَ الأشْعَرِيُّ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ واجِبَةٌ بِالشَّرْعِ لا بِالعَقْلِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] ولَعَلَّهُ أرْجَعَ مُؤاخَذَةَ أهْلِ الفَتْرَةِ عَلى الشِّرْكِ إلى التَّواتُرِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ بِالتَّوْحِيدِ. وجُمْلَةُ (﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ﴾) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القِصَّتَيْنِ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، وتُسَمّى واوَ الِاسْتِئْنافِ أيْ مِثْلُ هَذا التَّفْصِيلِ نُفَصِّلُ الآياتِ أيْ آياتِ القُرْآنِ، وتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٥] في سُورَةِ الأنْعامِ. وتَفْصِيلُها بَيانُها وتَجْرِيدُها مِنَ الِالتِباسِ. وجُمْلَةُ (﴿ولَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾) عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ﴾) فَهي في مَوْقِعِ الِاعْتِراضِ، وهَذا إنْشاءُ تَرَجِّي رُجُوعِ المُشْرِكِينَ إلى التَّوْحِيدِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في تَأْوِيلِ مَعْنى الرَّجاءِ بِالنِّسْبَةِ إلى صُدُورِهِ مِن جانِبِ اللَّهِ - تَعالى - عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] في سُورَةِ البَقَرَةِ. (p-١٧١)والرُّجُوعُ مُسْتَعارٌ لِلْإقْلاعِ عَنِ الشِّرْكِ، شُبِّهَ الإقْلاعُ عَنِ الحالَةِ الَّتِي هم مُتَلَبِّسُونَ بِها بِتَرْكِ مَن حَلَّ في غَيْرِ مَقَرِّهِ المَوْضِعَ الَّذِي هو بِهِ لِيَرْجِعَ إلى مَقَرِّهِ، وهَذا التَّشْبِيهُ يَقْتَضِي تَشْبِيهَ حالِ الإشْراكِ بِمَوْضِعِ الغُرْبَةِ لِأنَّ الشِّرْكَ لَيْسَ مِن مُقْتَضى الفِطْرَةِ فالتَّلَبُّسُ بِهِ خُرُوجٌ عَنْ أصْلِ الخِلْقَةِ كَخُرُوجِ المُسافِرِ عَنْ مَوْطِنِهِ، ويَقْتَضِي أيْضًا تَشْبِيهَ حالِ التَّوْحِيدِ بِمَحَلِّ المَرْءِ وحَيِّهِ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ، وقَدْ تَكَرَّرَ في القُرْآنِ إطْلاقُ الرُّجُوعِ عَلى إقْلاعِ المُشْرِكِينَ عَنِ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ وقَوْمِهِ إنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ إلّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ وجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦] أيْ يَرْجِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ، وهو تَعْرِيضٌ بِالعَرَبِ لِأنَّهُمُ المُشْرِكُونَ مِن عَقِبِ إبْراهِيمَ، وبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وآباءَهم حَتّى جاءَهُمُ الحَقُّ ورَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الزخرف: ٢٩] فَإنِّي اسْتَقْرَيْتُ مِنَ اصْطِلاحِ القُرْآنِ أنَّهُ يُشِيرُ بِهَؤُلاءِ إلى العَرَبِ.


ركن الترجمة

That is how We explain Our signs distinctly so that they may come back (to the right path).

Et c'est ainsi que Nous expliquons intelligemment les signes. Peut-être reviendront-ils!

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :