موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
السبت 9 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل18 ماي 2024


الآية [187] من سورة  

يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ


ركن التفسير

187 - (يسألونك) أي أهل مكة (عن الساعة) القيامة (أيان) متى (مرساها قل) لهم (إنما علمها) متى تكون (عند ربي لا يجليها) يظهرها (لوقتها) اللام بمعنى في (إلا هو ثقلت) عظمت (في السماوات والأرض) على أهلها لهولها (لا تأتيكم إلا بغتة) فجأة (يسألونك كأنك حفي) مبالغ في السؤال (عنها) حتى علمتها (قل إنما علمها عند الله) تأكيد (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن علمها عنده تعالى

يقول تعالى "يسألونك عن الساعة" كما قال تعالى "يسألك الناس عن الساعة" قيل نزلت في قريش وقيل في نفر من اليهود والأول أشبه لأن الآية مكية وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها كما قال تعالى "ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" وقال تعالى "يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد" وقوله "أيان مرساها" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس منتهاها أي متى محطها وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة "قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو" أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها إلى الله تعالى فإنه هو الذي يجليها لوقتها أي يعلم جلية أمرها ومتى يكون على التحديد لا يعلم ذلك إلا هو تعالى ولهذا قال "ثقلت في السماوات والأرض" قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله "ثقلت في السماوات والأرض" قال ثقل علمها على أهل السماوات والأرض أنهم لا يعلمون. قال معمر قال الحسن: إذا جاءت ثقلت على أهل السماوات والأرض يقول كبرت عليهم وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله "ثقلت في السماوات والأرض" قال ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة وقال ابن جريج "ثقلت في السماوات والأرض" قال إذا جاء انشقت السماء. وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال وكان ما قاله الله عز وجل فذلك ثقلها واختار ابن جرير رحمه الله أن المراد ثقل علم وقتها على أهل السماوات والأرض كما قال قتادة وهو كما قالاه كقوله "لا تأتيكم إلا بغتة" ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات والأرض والله أعلم. وقال السدي "ثقلت في السماوات والأرض" يقول خفيت في السماوات والأرض فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل "لا تأتيكم إلا بغتة" يبغتهم قيامها تأتيهم على غفلة. وقال قتادة في قوله تعالى "لا تأتيكم إلا بغتة" قضى الله أنها "لا تأتيكم إلا بغتة" قال وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه" وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب أنبأنا أبو الزناد عن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها" وقال مسلم في صحيحه حدثني زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به قال تقوم الساعة والرجل يحلب لقحته فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم الساعة والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم. وقوله "يسألونك كأنك حفي عنها" اختلف المفسرون في معناه فقيل معناه كما قال العوفي عن ابن عباس "يسألونك كأنك حفي عنها" يقول كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم قال ابن عباس لما سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم فأوحى الله إليه إنما علمها عنده استأثر به فلم يطلع الله عليها ملكا مقربا ولا رسولا وقال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة فقال الله عز وجل "يسألونك كأنك حفي عنها" وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وأبي مالك والسدي وهذا قول والصحيح عن مجاهد من رواية ابن أبي نجيح وغيره "يسألونك كأنك حفي عنها" قال استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها وكذا قال الضحاك عن ابن عباس "يسألونك كأنك حفي عنها" يقول كأنك عالم بها لست تعلمها "قل إنما علمها عند الله" وقال معمر عن بعضهم "كأنك حفي عنها" كأنك عالم بها وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم "كأنك حفي عنها" كأنك بها عالم وقد أخفي الله علمها على خلقه وقرأ "إن الله عنده علم الساعة" الآية وهذا القول أرجح في المقام من الأول والله أعلم ولهذا قال "قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون" ولهذا لما جاء جبريل عليه السلام في صورة أعرابي ليعلم الناس أمر دينهم فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد وسأله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم عن الإيمان. ثم عن الإحسان. ثم قال فمتى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" أي لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله عنده علم الساعة" الآية وفي رواية فسأله عن أشراط الساعة فبين له أشراط الساعة ثم قال "في خمس لا يعلمهن إلا الله" وقرأ هذه الآية وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب صدقت ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله يصدقه ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" وفي رواية قال "وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا صورته هذه" وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال يا محمد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "هاؤم" على نحو من صوته قال يا محمد متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويحك إن الساعة آتية فما أعددت لها" قال ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولكن أحب الله ورسوله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "المرء مع من أحب" فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "المرء مع من أحب" وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين ففيه أنه عليه السلام كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم وهو الاستعداد لوقوع ذلك والتهيؤ له قبل نزوله وإن لم يعرفوا تعيين وقته ولهذا قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول "إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم" يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة ثم قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" انفرد به مسلم وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا سعيد بن أبي هلال المصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال متى الساعة؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أز دشنوءة فقال "إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" قال أنس: ذلك الغلام من أترابي وقال حدثنا هارون بن عبدالله حدثنا عفان بن مسلم حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس قال: مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أترابي فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" ورواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه عن عمرو بن عاصم عن همام بن يحيى عن قتادة عن أنس أن رجلا من أهل البادية قال يا رسول الله متى الساعة؟ فذكر الحديث وفي آخره فمر غلام للمغيرة بن شعبة وذكره وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد بساعتكم في حديث عائشة رضي الله عنها وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر "تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة" رواه مسلم. وفي الصحيحين عن ابن عمر مثله قال ابن عمر: وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم أنبأنا العوام عن جبلة بن سحيم عن موثر بن عفارة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى فتذكروا أمر الساعة - قال - فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى موسى فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال عيسى: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله عز وجل وفيما عهد إلى ربي عز وجل أن الدجال خارج - قال - ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال فيهلكه الله عز وجل إذا رآني حتى إن الشجر والحجر يقول يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال فيهلكهم الله عز وجل ثم لا يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم قال فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطئون بلادهم لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه قال: ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو الله عز وجل عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم أي تنتن قال فينزل الله عز وجل المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر. قال الإمام أحمد: قال يزيد بن هارون ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم ثم رجع إلى حديث هشيم قال: ففيما عهد إلي ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادتها ليلا أو نهارا" ورواه ابن ماجه عن بندار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب بسنده نحوه فهؤلاء أكابر أولى العزم من المرسلين ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام فتكلم على أشراطها لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذا لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتل المسيح الدجال ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه فأخبر بما أعلمه الله تعالى به. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا عبدالله بن زياد بن لقيط قال: سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال "علمها عند ربي عز وجل لا يجليها لوقتها إلا هو ولكن سأخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها إن بين يديها فتنة وهرجا" قالوا يا رسول الله الفتنة قد عرفناها فما الهرج؟ قال "بلسان الحبشة القتل" قال "ويلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحدا" لم يروه أحد من أصحاب الكتب السته من هذا الوجه وقال وكيع: حدثنا ابن أبي خالد عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت "يسألونك عن الساعة أيان مرساها" الآية ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد به وهذا إسناد جيد قوي فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والعاقب والمقفي والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد رضي الله عنهما "بعثت أنا والساعة كهاتين" وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها ومع هذا كله قد أمره الله أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها فقال "قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون".

﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلّا هو ثَقُلَتْ في السَّماواتِ والأرْضِ لا تَأْتِيكم إلّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ يَذْكُرُ بِهِ شَيْءٌ مِن ضَلالِهِمْ ومُحاوَلَةِ تَعْجِيزِهِمُ النَّبِيءَ ﷺ بِتَعْيِينِ وقْتِ السّاعَةِ. ومُناسِبَةُ هَذا الِاسْتِئْنافِ هي التَّعَرُّضُ لِتَوَقُّعِ اقْتِرابِ أجَلِهِمْ في قَوْلِهِ ﴿وأنْ عَسى أنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أجَلُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٨٥] سَواءٌ أفُسِّرَ الأجَلُ بِأجَلِ إذْهابِ أهْلِ الشِّرْكِ مِنَ العَرَبِ في الدُّنْيا، وهو الِاسْتِئْصالُ، أمْ فُسِّرَ بِأجَلِهِمْ وأجَلِ بَقِيَّةِ النّاسِ وهو قِيامُ السّاعَةِ، فَإنَّ لِلْكَلامِ عَلى السّاعَةِ مُناسَبَةً لِكِلا الأجَلَيْنِ. وقَدْ عُرِفَ مِن شِنْشَنَةِ المُشْرِكِينَ إنْكارُهُمُ البَعْثَ وتَهَكُّمُهم بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامِ - مِن أجْلِ إخْبارِهِ عَنِ البَعْثِ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبإ: ٧]، وقَدْ جَعَلُوا يَسْألُونَ النَّبِيءَ ﷺ عَنِ السّاعَةِ ووَقْتِها تَعْجِيزًا لَهُ، لِتَوَهُّمِهِمْ أنَّهُ لَمّا أخْبَرَهم بِأمْرِها فَهو يَدَّعِي العِلْمَ بِوَقْتِها ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكم مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً ولا تَسْتَقْدِمُونَ﴾ [سبإ: ٢٩] (p-٢٠١)فالسّائِلُونَ هُمُ المُشْرِكُونَ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتادَةَ، والضَّمِيرُ يَعُودُ إلى الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وقَدْ حُكِيَ عَنْهم مِثْلُ هَذا السُّؤالِ في مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ كَقَوْلِهِ - تَعالى - في سُورَةِ النّازِعاتِ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها﴾ وقَوْلِهِ ﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ العَظِيمِ الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ [النبإ: ١] يَعْنِي البَعْثَ والسّاعَةَ، ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن قالَ: المَعْنِيُّ بِالسّائِلِينَ اليَهُودُ أرادُوا امْتِحانَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَألُوهُ عَنِ السّاعَةِ، وهَذا لا يَكُونُ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ لِأنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، قِيلَ كُلُّها وقِيلَ إنَّ آيَتَيْنِ مِنها نَزَلَتا بِالمَدِينَةِ، ولَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ الآيَةَ فِيما اخْتُلِفَ في مَكانِ نُزُولِهِ، والسُّوَرُ الَّتِي حُكِيَ فِيها مِثْلُ هَذا السُّؤالِ مَكِّيَّةٌ أيْضًا نازِلَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ. والسّاعَةُ مُعَرَّفَةٌ بِاللّامِ عَلَمٌ بِالغَلَبَةِ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ عَلى وقْتِ فَناءِ هَذا العالَمِ الدُّنْيَوِيِّ والدُّخُولِ في العالَمِ الأُخْرَوِيِّ، وتُسَمّى: يَوْمَ البَعْثِ، ويَوْمَ القِيامَةِ. وأيّانَ اسْمٌ يَدُلُّ عَلى السُّؤالِ عَنِ الزَّمانِ وهو جامِدٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ مُرَكَّبٌ مِن ”أيِّ“ الِاسْتِفْهامِيَّةِ و”آنَ“ وهو الوَقْتُ، ثُمَّ خُفِّفَتْ ”أيُّ“ وقُلِبَتْ هَمْزَةُ آنَ ياءً لِيَتَأتّى الإدْغامُ فَصارَتْ أيّانَ بِمَعْنى أيُّ زَمانٍ، ويَتَعَيَّنُ الزَّمانُ المَسْئُولُ عَنْهُ بِما بَعْدَ أيّانَ، ولِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ اسْمَ مَعْنًى لا اسْمَ ذاتٍ، إذْ لا يُخْبَرُ بِالزَّمانِ عَنِ الذّاتِ، وأمّا اسْتِعْمالُها اسْمَ شَرْطٍ لِعُمُومِ الأزْمِنَةِ فَذَلِكَ بِالنَّقْلِ مِن الِاسْتِفْهامِ إلى الشَّرْطِ كَما نُقِلَتْ مَتى مِن الِاسْتِفْهامِ إلى الشَّرْطِيَّةِ، وهي تَوْسِيعاتٌ في اللُّغَةِ تَصِيرُ مَعانِيَ مُتَجَدِّدَةً. وقَدْ ذَكَرُوا في اشْتِقاقِ أيّانَ احْتِمالاتٍ يَرْجِعُونَ بِها إلى مَعانِي أفْعالٍ، وكُلُّها غَيْرُ مَرَضِيَّةٍ، وما ارْتَأيْناهُ هُنا أحْسَنُ مِنها. فَقَوْلُهُ أيّانَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِصَدارَةِ الِاسْتِفْهامِ، ومَرْساها مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وهو في الأصْلِ مُضافٌ إلَيْهِ آنَ إذِ الأصْلُ: أيُّ آنٍ آنُ مَرْسى السّاعَةِ. وجُمْلَةُ ﴿أيّانَ مُرْساها﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَسْألُونَكَ، والتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ أيّانَ مُرْساها، وهو حِكايَةٌ لِقَوْلِهِمْ بِالمَعْنى، ولِذَلِكَ كانَتِ الجُمْلَةُ في مَعْنى البَدَلِ عَنْ جُمْلَةِ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ﴾ . والمَرْسى مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنَ الإرْساءِ وهو الإقْرارُ يُقالُ رَسا الجَبَلُ ثَبَتَ وأرْساهُ أثْبَتَهُ وأقَرَّهُ، والإرْساءُ الِاسْتِقْرارُ بَعْدَ السَّيْرِ كَما قالَ الأخْطَلُ:(p-٢٠٢) ؎وقالَ رائِدُهم أرْسُوا نُزاوِلُها ومَرْسى السَّفِينَةِ اسْتِقْرارُها بَعْدَ المَخْرِ قالَ - تَعالى - ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها﴾ [هود: ٤١]، وقَدْ أطْلَقَ الإرْساءَ هُنا اسْتِعارَةً لِلْوُقُوعِ تَشْبِيهًا لِوُقُوعِ الأمْرِ الَّذِي كانَ مُتَرَقَّبًا أوْ مُتَرَدَّدًا فِيهِ بِوُصُولِ السّائِرِ في البَرِّ أوِ البَحْرِ إلى المَكانِ الَّذِي يُرِيدُهُ. وقَدْ أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِجَوابِهِمْ جَوابَ جِدٍّ وإغْضاءٍ عَنْ سُوءِ قَصْدِهِمْ بِالسُّؤالِ التَّهَكُّمَ، إظْهارًا لِنَفِيَ الوَصْمَةِ عَنْ وصْفِ النُّبُوءَةِ مِن جَرّاءِ عَدَمِ العِلْمِ بِوَقْتِ السّاعَةِ، وتَعْلِيمًا لِلَّذِينَ يَتَرَقَّبُونَ أنْ يَحْصُلَ مِن جَوابِ الرَّسُولِ عَنْ سُؤالِ المُشْرِكِينَ عِلْمٌ لِلْجَمِيعِ بِتَعْيِينِ وقْتِ السّاعَةِ فَإذا أمْرُ السّاعَةِ مِمّا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إلى تَطَلُّبِهِ فَقَدْ ورَدَ في الصَّحِيحِ «أنَّ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ مَتى السّاعَةُ ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ: ماذا أعْدَدْتَ لَها ؟ فَقالَ: ما أعْدَدْتُ لَها كَبِيرَ عَمَلٍ إلّا أنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقالَ: أنْتَ مَعَ مَن أحْبَبْتَ» . وعِلْمُ السّاعَةِ هو عِلْمُ تَحْدِيدِ وقْتِها كَما يُنْبِئُ عَنْهُ السُّؤالُ، وقَوْلُهُ ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلّا هُوَ﴾، فَإضافَةُ عِلْمٍ إلى ضَمِيرِ السّاعَةِ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ بَيْنَهُما أيْ عِلْمُ وقْتِها، والإضافَةُ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ. وظَرْفِيَّةُ ”عِنْدَ“ مَجازِيَّةٌ اسْتُعْمِلَتْ في تَحْقِيقِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِوَقْتِها. والحَصْرُ حَقِيقِيٌّ: لِأنَّهُ الأصْلُ، ولِما دَلَّ عَلَيْهِ تَوْكِيدُهُ بَعْدُ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ﴾، والقَصْرُ الحَقِيقِيُّ يَشْتَمِلُ عَلى مَعْنى الإضافِيِّ وزِيادَةٍ لِأنَّ عِلْمَ السّاعَةِ بِالتَّحْدِيدِ مَقْصُورٌ عَلى اللَّهِ - تَعالى - . والتَّعْرِيفُ بِوَصْفِ الرَّبِّ وإضافَتِهِ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ إيماءٌ إلى الِاسْتِدْلالِ عَلى اسْتِئْثارِ اللَّهِ - تَعالى - بِعِلْمِ وقْتِ السّاعَةِ دُونَ الرَّسُولِ المَسْئُولِ فَفِيهِ إيماءٌ إلى خَطَأِهِمْ وإلى شُبْهَةِ خَطَأِهِمْ و”التَّجْلِيَةُ“ الكَشْفُ، والمُرادُ بِها ما يَشْمَلُ الكَشْفَ بِالإخْبارِ والتَّعْيِينِ، والكَشْفَ بِالإيقاعِ، وكِلاهُما مَنفِيُّ الإسْنادِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعالى -، فَهو الَّذِي يَعْلَمُ وقْتَها، وهو الَّذِي يُظْهِرُها إذا أرادَ، فَإذا أظْهَرَها فَقَدْ أجْلاها. واللّامُ في قَوْلِهِ ﴿لِوَقْتِها﴾ لِلتَّوْقِيتِ كالَّتِي في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء: ٧٨] ومَعْنى التَّوْقِيتِ، قَرِيبٌ مِن مَعْنى عِنْدَ، والتَّحْقِيقُ: أنَّ مَعْناهُ ناشِئٌ عَنْ مَعْنى لامِ الِاخْتِصاصِ. (p-٢٠٣)ومَعْنى اللّامِ يُناسِبُ أحَدَ مَعْنَيَيِ الإجْلاءِ، وهو الإظْهارُ، لِأنَّهُ الَّذِي إذا حَصَلَ تَمَّ كَشْفُ أمْرِها وتَحَقَّقَ النّاسُ أنَّ القادِرَ عَلى إجْلائِها كانَ عالِمًا بِوَقْتِ حُلُولِها. وفُصِلَتْ جُمْلَةُ ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلّا هُوَ﴾ لِأنَّها تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَها مَنزِلَةَ التَّأْكِيدِ والتَّقْرِيرِ. وقُدِّمَ المَجْرُورُ وهو ”﴿لِوَقْتِها﴾“ عَلى فاعِلِ ”﴿يُجَلِّيها﴾“ الواقِعِ اسْتِثْناءً مُفْرَغًا لِلِاهْتِمامِ بِهِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ تَجْلِيَةَ أمْرِها تَكُونُ عِنْدَ وقْتِ حُلُولِها لِأنَّها تَأْتِي بَغْتَةً. وجُمْلَةُ ﴿ثَقُلَتْ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مُعْتَرِضَةٌ لِقَصْدِ الإفادَةِ بِهَوْلِها، والإيماءِ إلى حِكْمَةِ إخْفائِها. وفِعْلُ ثَقُلَتْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الإخْبارِ بِشِدَّةِ أمْرِها كَقَوْلِهِ ﴿ويَذَرُونَ وراءَهم يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٧] . ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَعْجِيبًا بِصِيغَةِ فَعُلَ - بِضَمِّ العَيْنِ - فَتُقَدَّرُ الضَّمَّةُ ضَمَّةَ تَحْوِيلِ الفِعْلِ لِلتَّعْجِيبِ، وإنْ كانَتْ هي ضَمَّةٌ أصْلِيَّةٌ في الفِعْلِ، فَيَكُونُ مِن قَبِيلِ قَوْلِهِ ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ﴾ [الكهف: ٥] . والثِّقَلُ مُسْتَعارٌ لِلْمَشَقَّةِ كَما يُسْتَعارُ العِظَمُ والكِبَرُ، لِأنَّ شِدَّةَ وقْعِ الشَّيْءِ في النُّفُوسِ ومَشَقَّتِهِ عَلَيْها تُخَيِّلُ لِمَن حَلَّتْ بِهِ أنَّهُ حامِلٌ شَيْئًا ثَقِيلًا، ومِنهُ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: ٥] أيْ شَدِيدًا تَلَقِّيهِ وهو القُرْآنُ. ووَصْفُ السّاعَةِ بِالثِّقَلِ بِاعْتِبارِ ما هو مَظْرُوفٌ في وقْتِها مِنَ الحَوادِثِ، فَوَصْفُها بِذَلِكَ مَجازٌ عَقْلِيٌّ، والقَرِينَةُ واضِحَةٌ، وهي كَوْنُ الثِّقَلِ بِمَعْنى الشِّدَّةِ لا يَكُونُ وصْفًا لِلزَّمانِ، ولَكِنَّهُ وصْفٌ لِلْأحْداثِ، فَإذا أُسْنِدَ إلى الزَّمانِ، فَإسْنادُهُ إلَيْهِ إنَّما هو بِاعْتِبارِهِ ظَرْفًا لِلْأحْداثِ، كَقَوْلِهِ ﴿وقالَ هَذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ [هود: ٧٧] . وثِقَلُ السّاعَةِ أيْ شِدَّتُها هو عِظَمُ ما يَحْدُثُ فِيها مِنَ الحَوادِثِ المَهُولَةِ في السَّماواتِ والأرْضِ، مِن تَصادُمِ الكَواكِبِ، وانْخِرامِ سِيَرِها، ومِن زَلازِلِ الأرْضِ وفَيَضانِ البَراكِينِ، والبِحارِ، وجَفافِ المِياهِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يَنْشَأُ عَنِ اخْتِلالِ النِّظامِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ سَيْرُ العالَمِ، وذَلِكَ كُلُّهُ يُحْدِثُ شِدَّةً عَظِيمَةً عَلى كُلِّ ذِي إدْراكٍ مِنَ المَوْجُوداتِ. (p-٢٠٤)ومِن بَدِيعِ الإيجازِ تَعْدِيَةُ فِعْلِ ”ثَقُلَتْ“ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ الدّالِّ عَلى مَكانِ حُلُولِ الفِعْلِ، وحَذْفُ ما حَقُّهُ أنْ يَتَعَدّى إلَيْهِ وهو حَرْفُ ”إلى“ الَّذِي يَدُلُّ عَلى ما يَقَعُ عَلَيْهِ الفِعْلُ، لِيَعُمَّ كُلَّ ما تَحْوِيهِ السَّماواتُ والأرْضُ مِمّا يَقَعُ عَلَيْهِ الثِّقَلُ بِمَعْنى الشِّدَّةِ. وجُمْلَةُ ﴿لا تَأْتِيكم إلّا بَغْتَةً﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ جاءَتْ تَكْمِلَةً لِلْإخْبارِ عَنْ وقْتِ حُلُولِ السّاعَةِ، لِأنَّ الإتْيانَ بَغْتَةً يُحَقِّقُ مَضْمُونَ الإخْبارِ عَنْ وقْتِها بِأنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ إلّا لِلَّهِ وبِأنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُظْهِرِهِ لِأحَدٍ، فَدَلَّ قَوْلُهُ ﴿لا تَأْتِيكم إلّا بَغْتَةً﴾ عَلى أنَّ انْتِفاءَ إظْهارِ وقْتِها انْتِفاءٌ مُتَوَغِّلٌ في نَوْعِهِ بِحَيْثُ لا يَحْصُلُ العِلْمُ لِأحَدٍ بِحُلُولِها بِالكُنْهِ ولا بِالإجْمالِ، وأمّا ما ذُكِرَ لَها مِن أماراتٍ في حَدِيثِ سُؤالِ جِبْرِيلَ عَنْ أماراتِها فَلا يُنافِي إتْيانَها بَغْتَةً، لِأنَّ تِلْكَ الأماراتِ مُمْتَدَّةُ الأزْمانِ بِحَيْثُ لا يَحْصُلُ مَعَها تَهَيُّؤٌ لِلْعِلْمِ بِحُلُولِها. والبَغْتَةُ مَصْدَرٌ عَلى زِنَةِ المَرَّةِ مِنَ البَغْتِ وهو المُفاجَأةُ أيِ الحُصُولُ بِدُونِ تَهَيُّؤٍ لَهُ، وقَدْ مَضى القَوْلُ فِيها عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿حَتّى إذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٣١] في سُورَةِ الأنْعامِ. وجُمْلَةُ ﴿يَسْألُونَكَ كَأنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها﴾ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ﴾ ومُبَيِّنَةٌ لِكَيْفِيَّةِ سُؤالِهِمْ، فَلِذَيْنِكَ فُصِلَتْ. وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ السُّؤالِ لِعِلْمِهِ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى. وحَفِيٌّ فَعِيلٌ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى فاعِلٍ مُشْتَقًّا مِن حَفِيٍّ بِهِ مِثْلِ غَنِيٍّ فَهو غَنِيٌّ إذا أكْثَرَ السُّؤالَ عَنْ حالِهِ تَلَطُّفًا ويَكُونُ المَعْنى كَأنَّكَ أكْثَرْتَ السُّؤالَ عَنْ وقْتِها حَتّى عَلِمْتَهُ، فَيَكُونُ وصْفُ حَفِيٌّ كِنايَةً عَنِ العالِمِ بِالشَّيْءِ لِأنَّ كَثْرَةَ السُّؤالِ تَقْتَضِي حُصُولَ العِلْمِ بِالمَسْئُولِ عَنْهُ، وبِهَذا المَعْنى فُسِّرَ في الكَشّافِ فَهو مِنَ الكِنايَةِ بِالسُّؤالِ عَنْ طَلَبِ العِلْمِ لِأنَّ السُّؤالَ سَبَبُ العِلْمِ كَقَوْلٍ السَّمَوْألِ أوْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الحارِثِيِّ أوْ غَيْرِهِما: ؎سَلِي إنْ جَهِلْتِ النّاسَ عَنّا وعَنْهُمُ ∗∗∗ فَلَيْسَ سَواءً عالِمٌ وجَهُـولُ وقَوْلِ عامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ: ؎طُلِّقْتِ إنْ لَمْ تَسْألِي أيَّ فارِسٍ ∗∗∗ حَلِيلُكِ إذْ لاقى صُداءً وخَثْعَما (p-٢٠٥)وقَوْلِ أُنَيْفِ بْنِ زَبّانَ النَّبْهانِيِّ: ؎فَلَمّا التَقَيْنا بَيَّنَ السَّيْفُ بَيْنَنا ∗∗∗ لِسائِلَةٍ عَنّا حَفِيٌّ سُؤالُها ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مَن أحْفاهُ إذا ألَحَّ عَلَيْهِ في فِعْلٍ، فَيَكُونُ فَعِيلًا بِمَعْنى مُفْعِلٍ مِثْلِ حَكِيمٍ، أيْ كَأنَّكَ مُلِحٌّ في السُّؤالِ عَنْها، أيْ مُلِحٌّ عَلى اللَّهِ في سُؤالِ تَعْيِينِ وقْتِ السّاعَةِ كَقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿إنْ يَسْألْكُمُوها فَيُحْفِكم تَبْخَلُوا﴾ [محمد: ٣٧] . وقَوْلُهُ ”كَأنَّكَ حَفِيٌّ“ حالٌ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِ في قَوْلِهِ ”يَسْألُونَكَ“ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ ”يَسْألُونَكَ“ ومُتَعَلِّقِهِ. ويَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ ”عَنْها“ عَلى الوَجْهَيْنِ بِكُلٍّ مِن ”يَسْألُونَكَ“ و”﴿حَفِيٌّ﴾“ عَلى نَحْوٍ مَنِ التَّنازُعِ في التَّعْلِيقِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”﴿حَفِيٌّ﴾“ مُشْتَقًّا مِن حَفِيٍّ بِهِ كَرَضِيٍّ بِمَعْنى بالَغَ في الإكْرامِ فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا في صَرِيحِ مَعْناهُ، والتَّقْدِيرُ كَأنَّكَ حَفِيٌّ بِهِمْ أيْ مُكْرِمٌ لَهم ومُلاطِفٌ فَيَكُونُ تَهَكُّمًا بِالمُشْرِكِينَ، أيْ يُظْهِرُونَ لَكَ أنَّكَ كَذَلِكَ لِيَسْتَنْزِلُوكَ لِلْخَوْضِ مَعَهم في تَعْيِينِ وقْتِ السّاعَةِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كَأنَّكَ صَدِيقٌ لَهم، وقالَ قَتادَةُ: قالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ: إنَّ بَيْنَنا قُرابَةً فَأسِرَّ إلَيْنا مَتى السّاعَةُ فَقالَ اللَّهُ - تَعالى - ﴿يَسْألُونَكَ كَأنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها﴾ وعَلى هَذا الوَجْهِ يَتَعَلَّقُ عَنْها بِ ”يَسْألُونَكَ“ وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ ”﴿حَفِيٌّ﴾“ لِظُهُورِهِ. وبِهَذا تَعْلَمُ أنَّ تَأْخِيرَ عَنْها لِلْإيفاءِ بِهَذِهِ الِاعْتِباراتِ. وفِي الآيَةِ إشارَةٌ إلى أنَّ الرَّسُولَ ﷺ لا تَتَعَلَّقُ هِمَّتُهُ بِتَعْيِينِ وقْتِ السّاعَةِ، إذْ لا فائِدَةَ لَهُ في ذَلِكَ، ولِأنَّهُ لَوِ اهْتَمَّ بِذَلِكَ لَكانَ في اهْتِمامِهِ تَطَلُّبًا لِإبْطالِ الحِكْمَةِ في إخْفائِها، وفي هَذا إشارَةٌ إلى أنَّ انْتِفاءَ عِلْمِهِ بِوَقْتِها لا يُنافِي كَرامَتَهُ عَلى اللَّهِ - تَعالى - بِأنَّ اللَّهَ أعْطاهُ كَمالًا نَفْسِيًّا يَصْرِفُهُ عَنْ تَطَلُّبِ ذَلِكَ، ولَوْ تَطَلَّبَهُ لَأعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ، كَما صَرَفَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَنِ الِاسْتِمْرارِ عَلى كَراهَةِ المَوْتِ حِينَ حَلَّ أجَلُهُ كَيْلا يَنْزِعَ رُوحَهُ وهو كارِهٌ، وهَذِهِ سَرائِرُ عالِيَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ الصّالِحِينَ مِن عِبادِهِ. وأُكِّدَتْ جُمْلَةُ الجَوابِ الأوْلى بِقَوْلِهِ ﴿قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ﴾ تَأْكِيدًا لِمَعْناها (p-٢٠٦)لِيُعْلَمَ أنَّ ذَلِكَ الجَوابَ لا يُرْجى غَيْرُهُ وأنَّ الحَصْرَ المُشْتَمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي﴾ حَصْرٌ حَقِيقِيٌّ ثُمَّ عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ الجَوابِ اسْتِدْراكٌ عَنِ الحَصْرِ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ﴾ تَأْكِيدًا لِكَوْنِهِ حَصْرًا حَقِيقِيًّا، وإبْطالًا لِظَنِّ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أنَّ شَأْنَ الرُّسُلِ أنْ يَكُونُوا عالِمِينَ بِكُلِّ مَجْهُولٍ، ومِن ذَلِكَ وقْتُ السّاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى أوْقاتِهِمْ يَسْتَطِيعُونَ إعْلامَ النّاسِ فَيَسْتَدِلُّونَ بِعَدَمِ عِلْمِ السّاعَةِ عَلى عَدَمِ صِدْقٍ مُدَّعِي الرِّسالَةِ، وهَذا الِاعْتِقادُ ضَلالَةٌ مُلازِمَةٌ لِلْعُقُولِ الأفِنَةِ، فَإنَّها تَتَوَهَّمُ الحَقائِقَ عَلى غَيْرِ ما هي عَلَيْهِ، وتُوقِنُ بِما يُخَيَّلُ إلَيْها، وتَجْعَلُهُ أُصُولًا تَبْنِي عَلَيْها مَعارِفَها ومُعامَلاتِها، وتَجْعَلُها حُكْمًا في الأُمُورِ إثْباتًا ونَفْيًا، وهَذا فَرْطُ ضَلالَةٍ، وإنَّهُ لَضِغْثٌ عَلى إبّالَةٍ بِتَشْدِيدِ الباءِ وتَخْفِيفِها، وقَدْ حَكى التّارِيخُ القَدِيمُ شاهِدًا مِمّا قُلْناهُ وهو ما جاءَ في سِفْرِ دانْيالَ مِن كُتُبِ الأنْبِياءِ المُلْحَقَةِ بِالتَّوْراةِ أنَّ بُخْتُنَصَّرَ مَلِكَ بابِلَ رَأى رُؤْيا أزْعَجَتْهُ وتَطَلَّبَ تَعْبِيرَها، فَجَمَعَ العَرّافِينَ والمُنَجِّمِينَ والسَّحَرَةَ وأمَرَهم أنْ يُخْبِرُوهُ بِصُورَةِ ما رَآهُ في حُلْمِهِ مِن دُونِ أنْ يَحْكِيَهُ لَهم، فَلَمّا أجابُوهُ بِأنَّ هَذا لَيْسَ في طاقَةِ أحَدٍ مِنَ البَشَرِ ولا يَطَّلِعُ عَلى ما في ضَمِيرِ المَلِكِ إلّا الآلِهَةُ، غَضِبَ، واغْتاظَ، وأمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وأنَّهُ أحْضَرَ دانْيالَ النَّبِيءَ وكانَ مِن جُمْلَةِ أسْرى بَنِي إسْرائِيلَ في بابِلَ وهَدَّدَهُ بِالقَتْلِ إنْ لَمْ يُنْبِئْهُ بِصُورَةِ رُؤْياهُ، ثُمَّ بِتَعْبِيرِها، وأنَّ دانْيالَ اسْتَنْظَرَهُ مُدَّةً، وأنَّهُ التَجَأ إلى اللَّهِ بِالدُّعاءِ هو وأصْحابُهُ ”عِزْرِيا“ و”مِيشايِيلُ“ و”حَنَنْيا“ فَدَعَوُا اللَّهَ لِيُنْقِذَ دانْيالَ مِنَ القَتْلِ، وأنَّ اللَّهَ أوْحى إلى دانْيالَ بِصُورَةِ ما رَآهُ المَلِكُ فَأخْبَرَ دانْيالُ المَلِكَ بِذَلِكَ، ثُمَّ عَبَّرَ لَهُ، فَنالَ حُظْوَةً لَدَيْهِ. انْظُرِ الإصْحاحَ الثّانِي مِن سِفْرِ دانْيالَ.


ركن الترجمة

They ask you about the Hour: "When is its determined time?" Say: "Only my Lord has the knowledge. No one can reveal it except He. Oppressive will it be for the heavens and the earth. When it comes, it will come unawares." They ask you about it as if you were in the know. You tell them: "Only God has the knowledge." But most people do not know.

Ils t'interrogent sur l'Heure: «Quand arrivera-t-elle?» Dis: «Seul mon Seigneur en a connaissance. Lui seul la manifestera en son temps. Lourde elle sera dans les cieux et (sur) la terre et elle ne viendra à vous que soudainement.» Ils t'interrogent comme si tu en étais averti. Dis: «Seul Allah en a connaissance.» Mais beaucoup de gens ne savent pas.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :