موقع الباحث في القرآن الكريم
القائمة
توقيت المغرب :
الأحد 10 ذو القعدة 1445 هجرية الموافق ل19 ماي 2024


الآية [199] من سورة  

خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ


ركن التفسير

199 - (خذ العفو) اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها (وأمر بالعرف) بالمعروف (وأعرض عن الجاهلين) فلا تقابلهم بسفههم

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "خذ العفو" يعني خذ ما عفي لك من أموالهم وما أتوك به من شيء فخذه وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه الصدقات قاله السدي وقال الضحاك عن ابن عباس "خذ العفو" أنفق الفضل وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس "خذ العفو" قال الفضل وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قوله "خذ العفو" أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين ثم أمره بالغلظة عليهم واختار هذا القول ابن جرير وقال غير واحد عن مجاهد في قوله تعالى "خذ العفو" قال من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وقال هشام بن عروة عن أبيه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وفي رواية قال خذ ما عفي لك من أخلاقهم وفي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه عروة عن أخيه عبدالله بن الزبير قال: إنما أنزل خذ العفو من أخلاق الناس وفي رواية لغيره عن هشام عن أبيه عن ابن عمر وفي رواية عن هشام عن أبيه عن عائشة أنهما قالا مثل ذلك والله أعلم وفي رواية سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن هشام عن وهب بن كيسان عن أبي الزبير: خذ العفو قال من أخلاق الناس والله لآخذنه منهم ما صحبتهم وهذا أشهر الأقوال ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا حدثنا يونس حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن أبي قال: لما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما هذا يا جبريل؟ قال إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك" وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا عن أبي يزيد القراطيسي كتابة عن أصبغ بن الفرج عن سفيان عن أبي عن الشعبي نحوه وهذا مرسل على كل حال وقد روي له شواهد من وجوه أخر وقد روي مرفوعا عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أسندهما ابن مردويه وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا شعبة حدثنا معاذ بن رفاعة حدثني علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامة الباهلي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال فقال "يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك" وروى الترمذي نحوه من طريق عبيد الله بن زخر عن علي بن يزيد به وقال حسن قلت ولكن علي بن يزيد وشيخه القاسم أبو عبدالرحمن فيهما ضعف وقال البخاري قوله "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" العرف المعروف حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبدالله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبابا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه قال: سأستأذن لك عليه قال ابن عباس فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر فدخل عليه قال هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وإن هذا من الجاهلين والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل انفرد بإخراجه البخاري وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبدالأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن عبدالله بن نافع أن سالم بن عبدالله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس فقال: إن هذا منهي عنه فقالوا: نحن أعلم بهذا منك إنما يكره الجلجل الكبير فأما مثل هذا فلا بأس به فسكت سالم وقال "وأعرض عن الجاهلين" وقول البخاري العرف المعروف نص عليه عروة بن الزبير والسدي وقتادة وابن جرير وغير واحد وحكى ابن جرير أنه يقال أوليته معروفا وعارفا كل ذلك بمعنى المعروف قال وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف ويدخل في ذلك جميع الطاعات وبالإعراض عن الجاهلين وذلك وإن كان أمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته وهو للمسلمين حرب وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" قال هذه أخلاق أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ودله عليها وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال: خذ العفو وأمر بعرف كــما أمرت وأعرض عن الجاهليــــن ولن في الكلام لكل الأنام فمستحسن من ذوي الجاه لين وقال بعض العلماء: الناس رجلان فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه وإما مسيء فمره بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده كما قال تعالى "ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما تصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون" وقال تعالى "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" أي هذه الوصية".

﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ أشْبَعَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِن أفانِينِ قَوارِعِ المُشْرِكِينَ وعِظَتِهِمْ وإقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وبَعَثَتْهم عَلى التَّأمُّلِ والنَّظَرِ في دَلائِلِ وحْدانِيَّةِ اللَّهِ وصِدْقِ رَسُولِهِ ﷺ وهُدى دِينِهِ وكِتابِهِ وفَضْحِ ضَلالِ المُشْرِكِينَ وفَسادِ مُعْتَقَدِهِمْ والتَّشْوِيهِ بِشُرَكائِهِمْ، وقَدْ تَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِتَسْجِيلٍ بِمُكابَرَتِهِمْ، والتَّعْجِيبِ مِنهم كَيْفَ يَرْكَبُونَ رُءُوسَهم، وكَيْفَ يَنْأوْنَ بِجانِبِهِمْ، وكَيْفَ يُصِمُّونَ أسْماعَهم، ويُغْمِضُونَ أبْصارَهم عَمّا دُعُوا إلى سَماعِهِ وإلى النَّظَرِ فِيهِ، ونُظِرَتْ أحْوالُهم بِأحْوالِ الأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مِن قَبْلِهِمْ، (p-٢٢٦)وكَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ فَحَلَّ بِهِمْ ما حَلَّ مِن أصْنافِ العَذابِ، وأنْذَرَ هَؤُلاءِ بِأنْ يَحِلَّ بِهِمْ ما حَلَّ بِأُولَئِكَ، ثُمَّ أعْلَنَ بِاليَأْسِ مِنَ ارْعِوائِهِمْ، وبِانْتِظارِ ما سَيَحِلُّ بِهِمْ مِنَ العَذابِ بِأيْدِي المُؤْمِنِينَ، وبِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ وتَبْشِيرِهِمْ والثَّناءِ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الهُدى، فَكانَ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ عِبْرَةٌ لِلْمُتَبَصِّرِينَ، ومَسْلاةٌ لِلنَّبِيءِ ولِلْمُسْلِمِينَ، وتَنْوِيهٌ بِفَضْلِهِمْ. وإذْ قَدْ كانَ مِن شَأْنِ ذَلِكَ أنْ يُثِيرَ في أنْفُسِ المُسْلِمِينَ كَراهِيَةَ أهْلِ الشِّرْكِ، وتُحَفِّزَهم لِلِانْتِقامِ مِنهم ومُجافاتِهِمْ والإعْراضِ عَنْ دُعائِهِمْ إلى الخَيْرِ، لا جَرَمَ شَرَعَ في اسْتِئْنافِ غَرَضٍ جَدِيدٍ، يَكُونُ خِتامًا لِهَذا الخَوْضِ البَدِيعِ، وهو غَرَضُ أمْرِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ بِقِلَّةِ المُبالاةِ بِجَفاءِ المُشْرِكِينَ وصَلابَتِهِمْ، وبِأنْ يَسَعُوهم مِن عَفْوِهِمْ والدَّأْبِ عَلى مُحاوَلَةِ هَدْيِهِمْ والتَّبْلِيغِ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ ”﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾“ الآياتِ. والأخْذُ حَقِيقَتُهُ تَناوُلُ شَيْءٍ لِلِانْتِفاعِ بِهِ أوْ لِإضْرارِهِ، كَما يُقالُ: أخَذْتُ العَدُوَّ مِن تَلابِيبِهِ، ولِذَلِكَ يُقالُ في الأسِيرِ أخِيذٌ، ويُقالُ لِلْقَوْمِ إذا أُسِرُوا: أُخِذُوا، واسْتُعْمِلَ هُنا مَجازًا فاسْتُعِيرَ لِلتَّلَبُّسِ بِالوَصْفِ والفِعْلِ مِن بَيْنِ أفْعالٍ لَوْ شاءَ لَتَلَبَّسَ بِها، فَيُشَبِّهُ ذَلِكَ التَّلَبُّسَ واخْتِيارَهُ عَلى تَلَبُّسٍ آخَرَ بِأخْذِ شَيْءٍ مِن بَيْنِ عِدَّةِ أشْياءَ، فَمَعْنى خُذِ العَفْوَ: عامِلْ بِهِ واجْعَلْهُ وصْفًا ولا تَتَلَبَّسْ بِضِدِّهِ. وأحْسَبُ اسْتِعارَةَ الأخْذِ لِلْعَفْوِ مِن مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ، ولِذَلِكَ أُرَجِّحُ أنَّ البَيْتَ المَشْهُورَ وهو: خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِـي ولا تَنْطِقِي في سَوْرَتِي حِينَ أغْضَبُ هو لِأبِي الأسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، وأنَّهُ اتَّبَعَ اسْتِعْمالَ القُرْآنِ، وأنَّ نِسْبَتَهُ إلى أسْماءَ بْنِ خارِجَةَ الفَزازِيِّ أوْ إلى حاتِمٍ الطّائِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. والعَفْوُ الصَّفْحُ عَنْ ذَنْبِ المُذْنِبِ وعَدَمُ مُؤاخَذَتِهِ بِذَنْبِهِ وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] وقَوْلِهِ ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ﴾ [البقرة: ١٠٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ، والمُرادُ بِهِ هُنا ما يَعُمُّ العَفْوَ عَنِ المُشْرِكِينَ وعَدَمُ مُؤاخَذَتِهِمْ بِجَفائِهِمْ ومُساءَتِهِمُ الرَّسُولَ والمُؤْمِنِينَ. وقَدْ عَمَّتِ الآيَةُ صُوَرَ العَفْوِ كُلَّها: لِأنَّ التَّعْرِيفَ في العَفْوِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ فَهو مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْراقِ إذا لَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ مِن مَعْنى الحَقِيقَةِ والعَهْدِ، فَأمَرَ الرَّسُولَ ﷺ بِأنْ (p-٢٢٧)يَعْفُوَ ويَصْفَحَ وذَلِكَ بِعَدَمِ المُؤاخَذَةِ بِجَفائِهِمْ وسُوءِ خُلُقِهِمْ، فَلا يُعاقِبُهم ولا يُقابِلُهم بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ كَما قالَ - تَعالى - ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهم ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ فاعْفُ عَنْهم واسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، ولا يَخْرُجُ عَنْ هَذا العُمُومِ مِن أنْواعِ العَفْوِ أزْمانِهِ وأحْوالِهِ إلّا ما أخْرَجَتْهُ الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلَ العَفْوِ عَنِ القاتِلِ غِيلَةً، ومِثْلَ العَفْوِ عَنِ انْتِهاكِ حُرُماتِ اللَّهِ، والرَّسُولُ أعْلَمُ بِمِقْدارِ ما يَخُصُّ مِن هَذا العُمُومِ وقَدْ يُبَيِّنُهُ الكِتابُ والسُّنَّةُ، وأُلْحِقَ بِهِ ما يُقاسُ عَلى ذَلِكَ المُبَيَّنِ، وفي قَوْلِهِ ﴿وأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ ضابِطٌ عَظِيمٌ لِمِقْدارِ تَخْصِيصِ الأمْرِ بِالعَفْوِ. ثُمَّ العَفْوُ عَنِ المُشْرِكِينَ المَقْصُودُ هُنا أسْبَقُ أفْرادِ هَذا العُمُومِ إلى الذِّهْنِ مِن بَقِيَّتِها، ولَمْ يَفْهَمِ السَّلَفُ مِنَ الآيَةِ غَيْرَ العُمُومِ، فَفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ المَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وكانَ الحُرُّ بْنُ قَيْسٍ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وكانَ القُرّاءُ أصْحابَ مَجالِسِ عُمَرَ ومُشاوَرَتِهِ، فَقالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أخِيهِ: لَكَ وجْهٌ عِنْدَ هَذا الأمِيرِ فاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، فاسْتَأْذَنَ الحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قالَ: ”هِيهِ يا ابْنَ الخَطّابِ ما تُعْطِينا الجَزْلَ، ولا تَحْكُمُ بَيْنَنا بِالعَدْلِ“ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقالَ لَهُ الحُرُّ: ”يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ إنَّ اللَّهَ قالَ لِنَبِيِّهِ خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ وإنَّ هَذا مِنَ الجاهِلِينَ، واللَّهِ ما جاوَزَها عُمَرُ حِينَ تَلاها عَلَيْهِ وكانَ وقّافًا عِنْدَ كِتابِ اللَّهِ. وفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ:“ ما أنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ إلّا في أخْلاقِ النّاسِ ”ومَن قالَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَسَخَتْها آياتُ القِتالِ فَقَدْ وهِمَ: لِأنَّ العَفْوَ بابٌ آخَرَ، وأمّا القِتالُ فَلَهُ أسْبابُهُ، ولَعَلَّهُ أرادَ مِنَ النَّسْخِ ما يَشْمَلُ مَعْنى البَيانِ أوِ التَّخْصِيصِ في اصْطِلاحِ أُصُولِ الفِقْهِ. والعُرْفُ اسْمٌ مُرادِفٌ لِلْمَعْرُوفِ مِنَ الأعْمالِ وهو الفِعْلُ الَّذِي تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ أيْ لا تُنْكِرُهُ إذا خُلِّيَتْ وشَأْنَها بِدُونِ غَرَضٍ لَها في ضِدِّهِ، وقَدْ دَلَّ عَلى مُرادِفَتِهِ لِلْمَعْرُوفِ قَوْلُ النّابِغَةِ: فَلا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ ولا العُرْفُ ضائِعُ فَقابَلَ النُّكْرَ بِالعُرْفِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. (p-٢٢٨)والأمْرُ يَشْمَلُ النَّهْيَ عَنِ الضِّدِّ، فَإنَّ النَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ أمْرٌ بِالمَعْرُوفِ، والأمْرَ بِالمَعْرُوفِ نَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ، لِأنَّ الأمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فالِاجْتِزاءُ بِالأمْرِ بِالعُرْفِ عَنِ النَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ مِنَ الإيجازِ، وإنَّما اقْتَصَرَ عَلى الأمْرِ بِالعُرْفِ هُنا: لِأنَّهُ الأهَمُّ في دَعْوَةِ المُشْرِكِينَ لِأنَّهُ يَدْعُوهم إلى أُصُولِ المَعْرُوفِ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ، كَما ورَدَ في حَدِيثِ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ «حِينَ أرْسَلَهُ إلى أهْلِ اليَمَنِ» فانْهُ أمَرَهُ أنْ يَدْعُوَهم إلى شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ ثُمَّ قالَ: فَإنْ هم طاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأخْبِرْهم أنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَواتٍ ولَوْ كانَتْ دَعْوَةُ المُشْرِكِينَ مُبْتَدَأةً بِالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ لَنَفَرُوا ولَمَلَّ الدّاعِي لِأنَّ المَناكِيرَ غالِبَةٌ عَلَيْهِمْ ومُحْدِقَةٌ بِهِمْ. ويَدْخُلُ في الأمْرِ بِالعُرْفِ الِاتِّسامُ بِهِ والتَّخَلُّقُ بِخُلُقِهِ: لِأنَّ شَأْنَ الآمِرِ بِشَيْءٍ أنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمِثْلِهِ، وإلّا فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلِاسْتِخْفافِ، عَلى أنَّ الآمِرَ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ فَيَأْمُرُها كَما قالَ أبُو الأسْوَدِ: ؎يا أيُّها الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ ∗∗∗ هَلّا لِنَفْسِكَ كانَ ذا التَّعْلِيمُ عَلى أنَّ خِطابَ القُرْآنِ النّاسَ بِأنْ يَأْمُرُوا بِشَيْءٍ يُعْتَبَرُ أمْرًا لِلْمُخاطَبِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وهي المَسْألَةُ المُتَرْجَمَةُ في أُصُولِ الفِقْهِ بِأنَّ الأمْرَ بِالأمْرِ بِالشَّيْءِ هو أمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ. والتَّعْرِيفُ في العُرْفِ كالتَّعْرِيفِ في العَفْوِ يُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ. وحُذِفَ مَفْعُولُ الأمْرِ لِإفادَةِ عُمُومِ المَأْمُورِينَ واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ، أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأنْ يَأْمُرَ النّاسَ كُلَّهم بِكُلِّ خَيْرٍ وصَلاحٍ فَيَدْخُلُ في هَذا العُمُومِ المُشْرِكُونَ دُخُولًا أوَّلِيًّا لِأنَّهم سَبَبُ الأمْرِ بِهَذا العُمُومِ، أيْ لا يَصُدَّنَّكَ إعْراضُهم عَنْ إعادَةِ إرْشادِهِمْ، وهَذا كَقَوْلِهِ - تَعالى - فَأعْرِضْ عَنْهم وعِظْهم. والإعْراضُ: إدارَةُ الوَجْهِ عَنِ النَّظَرِ لِلشَّيْءِ، مُشْتَقٌّ مِنَ العارِضِ وهو الخَدُّ، فَإنَّ الَّذِي يَلْتَفِتُ لا يَنْظُرُ إلى الشَّيْءِ، وقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أعْرَضَ ونَأى بِجانِبِهِ﴾ [الإسراء: ٨٣] وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِعَدَمِ المُؤاخَذَةِ بِما يَسُوءُ مِن أحَدٍ، شَبَّهَ عَدَمَ المُؤاخَذَةِ عَلى العَمَلِ بِعَدَمِ الِالتِفاتِ إلَيْهِ في كَوْنِهِ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أثَرُ العَلَمِ بِهِ لِأنَّ شَأْنَ العِلْمِ بِهِ أنْ تَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ المُؤاخَذَةُ. و“ الجَهْلُ ”هُنا ضِدُّ الحِلْمِ والرُّشْدِ، وهو أشْهَرُ إطْلاقِ الجَهْلِ في كَلامِ العَرَبِ قَبْلَ الإسْلامِ، فالمُرادُ بِالجاهِلِينَ السُّفَهاءُ كُلُّهم لِأنَّ التَّعْرِيفَ فِيهِ لِلِاسْتِغْراقِ، وأعْظَمُ (p-٢٢٩)الجَهْلِ هو الإشْراكُ، إذِ اتِّخاذُ الحَجَرِ إلَهًا سَفاهَةٌ لا تَعْدِلُها سَفاهَةٌ، ثُمَّ يَشْمَلُ كُلَّ سَفِيهِ رَأْيٍ. وكَذَلِكَ، فَهِمَ مِنها الحُرُّ بْنُ قَيْسٍ في الخَبَرِ المُتَقَدِّمِ آنِفًا وأقَرَّهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ عَلى ذَلِكَ الفَهْمِ. وقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَكارِمَ الأخْلاقِ لِأنَّ فَضائِلَ الأخْلاقِ لا تَعْدُو أنْ تَكُونَ عَفْوًا عَنِ اعْتِداءٍ فَتَدْخُلُ في خُذِ العَفْوَ، أوْ إغْضاءً عَمّا لا يُلائِمُ فَتَدْخُلُ في وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ، أوْ فِعْلَ خَيْرٍ واتِّسامًا بِفَضِيلَةٍ فَتَدْخُلُ في ﴿وأْمُرْ بِالعُرْفِ﴾ كَما تَقَدَّمَ مِنَ الأمْرِ بِالأمْرِ بِالشَّيْءِ أمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ:“ في هَذِهِ الآيَةِ أمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمَكارِمِ الأخْلاقِ، ولَيْسَ في القُرْآنِ آيَةٌ أجْمَعُ لِمَكارِمِ الأخْلاقِ مِنها، وهي صالِحَةٌ لِأنْ يُبَيِّنَ بَعْضُها بَعْضًا، فَإنَّ الأمْرَ بِأخْذِ العَفْوِ يَتَقَيَّدُ بِوُجُوبِ الأمْرِ بِالعُرْفِ، وذَلِكَ في كُلِّ ما لا يَقْبَلُ العَفْوَ والمُسامَحَةَ مِنَ الحُقُوقِ، وكَذَلِكَ الأمْرُ بِالعُرْفِ يَتَقَيَّدُ بِأخْذِ العَفْوِ وذَلِكَ بِأنْ يَدْعُوَ النّاسَ إلى الخَيْرِ بِلِينٍ ورِفْقٍ " .


ركن الترجمة

Cultivate tolerance, enjoin justice, and avoid the fools.

Accepte ce qu'on t'offre de raisonnable, commande ce qui est convenable et éloigne-toi des ignorants.

ملاحظات :

يمكن أن تشثمل بعض الآيات على هفوات بسيطة مرتبطة أساسا بمواقع الهمزة أو بتشكيل الحروف .... والتصحيح مستمر على الدوام.... فالمرجو المساعدة في تبليغنا بهذه الهفوات فور اكتشافها و لكم الأجر.

االتراجم الموجودة في الموقع هي مأخوذة من الترجمات المتداولة وليس من عملنا الشخصي، وهي ليست إلا ترجمة لمعاني آيات القرآن رجوعا لبعض التفاسير الموجودة، وليست ترجمة حرفية أو مضبوطة، لأن القرآن لا يُترجم، فهو كلام الله، وهذه الترجمات للاستئناس فقط وموجه لغير المسلمين لكي تكون مجرد بداية للتعرف إلى القرآن، وليس أكثر من ذلك.

أنت الزائر رقم

موقع   الباحث في القرآن الكريم  من تطوير  

عليم للتقنيات الحديثة

Alim New Technologies) alim.new.tech@gmail.com ) - جميع الحقوق محفوظة © 2012

شارك الموقع عبر :